الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
افتتاحية الطبعة الأولى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد أسعد الله البشرية بما ميزها به من العقل والتفكير، وكرمها أيما تكريم بإرسال الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- هداة ومصلحين ومرشدين الناس إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، وما فيه نجاتهم من الشرور في أولاهم وأخراهم، فهم رحمة الله المهداة، ونوره المبين، ورعايته التامة للخلق.
ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تتابع رسالاتهم عبر القرون تتابعًا يتفق ونمو المجتمع الإنساني العقلي والاجتماعي، واتساع مداركه وأفكاره، وتشابك مصالحه وأغراضه، وتطور حضارته ومتطلباته.
فكان لكل زمن تشريعه المناسب، ولما بلغ المجتمع الإنساني أشده، ووصل إلى درجة من النضج الفكري والحضاري تؤهله لتلقي التشريع تامًّا كاملًا أرسل الله -جل شأنه- محمدًا -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام- خاتم النبيين بالتشريع التام الكامل الذي حوى تنظيمًا شاملًا لكل العلاقات: علاقة الفرد بربه، وعلاقة الفرد بالفرد، وعلاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالجماعة،
وعلاقة كل هؤلاء بالدولة، وعلاقة الدولة بهم، وعلاقة الدول بعضها ببعض في تشريع تام كامل {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1، يعلم ما يصلح حالنا فيأمرنا به، وما يفسد حياتنا فيحرمه علينا.
ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يضع لنا تنظيمًا دقيقًا للعبادات، وأن يرسيَ لنا القواعد الكلية في المعاملات مبينة الحلال والحرام، وأن يترك لفقهاء الأمة الإسلامية المجتهدين النظر في كثير من الأمور الجزئية، ومن هنا كانت مرونة هذا التشريع وصلاحيته لكل زمان ومكان، وكان اختلاف الفقهاء في بعض المسائل، الكل رائده الوصول إلى الحق، والوصول إلى الحكم الشرعي، باذلًا في سبيل ذلك أقصى جُهْده وطاقته العلمية والفكرية، وما يهيئ لهما العمل السليم للوصول إلى حكم الله جل شأنه.
وحسبنا اليوم في دراستنا لفقه الكتاب والسُّنة أن نبين بدقة وجهة كل منهم في استنباطه الحكم الشرعي، ثم نقارن بين هذه الآراء، وأخيرًا نرجح ما نراه راجحًا، عمادنا في ذلك ما وضعه لنا سلفنا الصالح من معايير وقواعد للترجيح.
وقد وقع اختيارنا على أحد الموضوعات الهامة في الفقه الإسلامي؛ وهو: "أنواع الجنايات وحكم كل جناية"؛ لأن هذا الموضوع يمثل قسمًا هامًّا من الدراسات الفقهية والقانونية لم يظفر بمثل ما ظفر به غيره من الموضوعات من البحث في العصر الحديث، ويحتاج إلى مثابرة للدراسة ومتابعتها حتى ينكشف لفقهائنا المحدثين ما يحتوي عليه الفقه الإسلامي من رعاية لمصالح الأمة أفرادًا وجماعات، ودرء للمفاسد عنها صغيرها وكبيرها؛ وبذلك يتحقق -بمشيئة الله تعالى- ما يُرجى لهذه الدراسة من أهداف.
1 سورة فصلت الآية رقم "42".
ونجعل هذا الموضوع في تمهيد وبابين:
التمهيد: ويحتوي على تعريف للجناية، ثم بيان لميزات العقوبات في الفقه الإسلامي.
الباب الأول: ونبين فيه أنواع الجنايات على نفس الغير، والعقوبات المقررة لكل جناية.
الباب الثاني: ونبين فيه أنواع الجنايات على ما دون النفس، وعقوبة كل جناية.
وستكون دراستنا المقارنة -بإذن الله تعالى- شاملة للمذاهب الفقهية، كما سنقارن نتائج هذه الدراسة بالقانون الوضعي في مصر وغيرها.
وإننا لنستعين بالله تعالى في دراستنا راجين أن يهبنا من هداه وتوفيقه وعونه ما ينير لنا الطريق إلى ما نصبو إليه من أهداف، وأن يرينا الحق حقًّا فنتبعه والباطل باطلًا فنجتنبه، وأن يكتب التوفيق لأبنائنا الدارسين حتى يكونوا نواة صالحة وبذرة طيبة لوطنهم ولأمتهم وللإنسانية جميعًا.
والله ولي التوفيق.
حسن علي الشاذلي
مدرس الفقه المقارن
بكلية الشريعة والقانون
القاهرة في: 6 من شوال 1390هـ
5 من ديسمبر 1970م