المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي: - الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون

[حسن علي الشاذلي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المقدمات

- ‌الإفتتاحية: افتتاحية الطبعة الثانية

- ‌افتتاحية الطبعة الأولى:

- ‌التمهيد:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الوضعي:

- ‌العقوبات:

- ‌الباب الأول: جناية القتل

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: القتل العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي

- ‌أولاً: أن يكوت الأعتداء واقعًا على آدمي حي

- ‌ثانيا: أن يكون المجني عليه معصوم الدم:

- ‌ثالثا: أن يكون هذا الآدمي معينا:

- ‌رابعًا: أن يكون قصد الجاني ضرب المجني عليه

- ‌خامسا: أن يكون الضرب بقصد العدوان:

- ‌سادسًا: أن يكون الجاني قد أوقع على المجني عليه فعلا قاتلا:

- ‌المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء:

- ‌المبحث الرابع: عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي:

- ‌المبحث الخامس: عقوبة القتل العمد في القانون:

- ‌الفصل الثاني: القتل شبه العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: آراء الفقهاء في القول بشبه العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان جريمة شبه العمد:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل شبه العمد

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد:

- ‌المطلب الثالث: عقوبة الضرب المفضي إلى الموت في القانون:

- ‌المطلب الرابع: المقارنة بين العقوبتين:

- ‌الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة خطأ:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل الخطأ

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: الدية:

- ‌النوع الثاني: الكفارة:

- ‌النوع الثالث: الحرمان من الميراث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي:

‌التمهيد:

‌الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي:

الجريمة والجرائم لغة: الذنب، تقول منه جرم وأجرم وأجترم وجرم أيضًا: كسب، وبابهما ضرب.

وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا} 1 أي: لا يحملنكم بغض قوم

أو لا يكسبنكم

وقوله تعالى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} 2 أي: عما اكتسبنا.

والإجرام مصدر أجرم، وهو اقتراف السيئة، قال تعالى:{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} 3 أي: عقوبة إجرامي، أو جزاء جرمي وكسبي.

فالجرم يستعمل بمعنى الذنب، ويستعمل بمعنى كسب الآثم.

والجرائم في الشرع: هي محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير، ولها عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية4.

والمحظورات الشرعية: هي عصيان أوامر الله تعالى ونواهيه، فعصيان النواهي جرائم إيجابية؛ لأنها فعل ما نهى الله تعالى عنه، كالقتل أو الزنا، وعصيان أوامره جرائم سلبية؛ لأنها امتناع عن أداء ما أوجبه الله سبحانه وتعالى، كترك الصلاة، ومنع الزكاة.

1 الآية 8 من سورة المائدة.

2 الآية 25 من سورة سبأ.

3 الآية 35 من سورة هود.

4 الأحكام السلطانية للماوردي ص219.

ص: 12

والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر به؛ لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة؛ ليكون ما حظر من محارمه -جل شأنه- ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم، وتتحقق الرحمة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي: في استنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، وكفهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة، وتحقيق مصالحهم الحقيقية في الدارين.

والجريمة بهذا المعنى إنما تكون إذا شرع الله تعالى للمحظور عقوبة، وما لم يشرع له عقوبة لا يكون جريمة.

إلا أن دائرة المحظورات التي شرعت لها عقوبة في الفقه الإسلامي أوسع بكثير من دائرة الجرائم في الفقه الوضعي.

وذلك لأن التشريع الإسلامي جاء بأمور ثلاثة: إصلاح العقائد، وإصلاح الأخلاق، وإصلاح علاقات الإنسان بربه -جل شأنه- وبالمجتمع الذي يعيش فيه أفرادًا جماعات، أحياء أو أمواتًا، وبالكائنات الأخرى، وفي كل مجال من هذه المجالات أحكام إما أوامر توجب عملًا من الأعمال أو نواهي توجب تركًا من التروك أو تحظر فعلًا من الأفعال، وهي في كل ذلك تشرع للناس ما يحقق مصالحهم بجلب النفع لهم، ودرء الضر عنهم، حتى يعيش المجتمع آمنًا مطمئنًا مستقرًّا لا يعكر صفوه شاذ أو ناد، أو متهور أو أناني.

أما القوانين فإنها وإن كان أساس التجريم فيها خلقي، وهو قصد تحقيق مصالح الناس، إلا أنها تقتصر على استيعاب دائرة الفقه الإسلامي تصورًا شنيعًا؛ لأنها لا تقوم على أساس الدين، الذي يرقق النفس البشرية ويترقَى

ص: 13

بها ويصفيها من الأثرة والأنانية حتى يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه.

ولكنها تقوم على أساس الواقع، وما تعارف الناس عليه من عادات وتقاليد، حتى ولو كان ذلك في الحقيقة والواقع مثلبة من المثالب، ونقيصة من النقائص، يرفضها العقل السليم والنفس السوية، فالزنا لا تعاقب عليه القوانين، إلا إذا أكره أحد الطرفين الآخر، أو كان الزنا بغير رضاه رضاء تامًّا، مع أن أيًّا من مشرعي هذه القوانين يأبَى هذه الجريمة لأمه أو لأخته أو لابنته -حتى لو كانت برضا الطرفين- كما لا يرضاها لابنه ولأخيه ولأبيه، ومن هنا وتحت ظل هذه القوانين انحط المستوى الأخلاقي إلى أدنى دركاته، فسيطر الهوى والغرائز والشهوات على كل التصرفات، وأصبح الصالحون هم الذي يسيرون على نهج ما يمليه عليهم دينهم أو ترشدهم إليه أسرتهم من تعاليم اقتبسوها من دينهم الحنيف، فأصبح الناس في الواقع يتجاذبهم قانونان: قانون وضعي غير راضين عنه، وتشريع سماوي يمتزج بقلوبهم وعقولهم رضًا ومحبة، إيمانًا واعتقادًا، علمًا وعملًا، خلقًا وفلسفة، فهم دائمًا في شوق إلى العمل به، حتى وإن شاءت الظروف إلى تجافيه في بعض الأمور، فإن الضمير والقلب يظل مذكرًا صاحبه حتى يعود إليه.

أنواع الزواجر:

والزواجر ضربان: حد أو تعزير.

فأما الحدود:

-وهي العقوبات المقدرة بالشرع- فهي ضربان: أحدهما ما كان من حقوق الله تعالى، وثانيهما ما كان من حقوق الآدميين، وكل واحد منهما إما أن يكون قد وجب الحد فيه لترك مأمور به أو لفعل محظور.

ص: 14

أ- فأما ما وجب بترك ما أمر الشرع به، فإما أن يكون حقًّا لله تعالى أو حقًّا للآدمي.

فأما الأول -وهو ما كان حقًّا لله تعالى- فمثله تارك الصلاة، فإن تركها استنكارًا قتل كالمرتد، وإن تركها استثقالًا قتل عند بعض الفقهاء "الحنابلة وبعض أصحاب الحديث، وكذا الشافعية إذا لم يجد نصحه بعد استتابته، ويضرب عند أبي حنيفة في وقت كل صلاة حتى يؤديها" ومن تركها نسيانًا فليصلها إذا ذكرها.

فأما الثاني -وهو ما كان من حقوق الآدميين- فمثله الديون وغيرها، فيؤخذ الدين جبرًا عن المدين إذا أمكن ذلك، ويحبس بها إذا تعذر، إلا أن يكون المدين بها معسرًا فينظر إلى ميسرته.

ب- وأما ما وجب بارتكاب المحظورات فضربان:

أحدهما: ما كان من حقوق الله تعالى، وهي: حد الزنا، وحد السرقة، وحد المحاربة، وحد الخمر.

وثانيهما: ما كان من حقوق الآدميين، وهي: حد القذف والقصاص في الجنايات1.

1 ويرى الحنفية أن حد القذف قد اجتمع فيه الحقان "حق الله وحق العبد" وحق الله غالب.

وأن القصاص اجتمع فيه الحقان، وحق العبد هو الغالب، وسيأتي بيان تقسيمهم.

ص: 15

وأما التعزيز:

فهو عقوبة غير مقدرة شرعًا، أو هو التأديب على ذنوب لم تشرع فيها حدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله، فيوافق الحدود من وجه، وهو أنه تأديب استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة وجوه:

1-

أنه يتفاوت بتفاوت أحوال الناس، فذو الهيئة من أهل الصيانة تعزيره أخف من أهل البذاءة والسفاهة.

2-

وأن الحد لا يجوز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، وأما التعزيز فيجوز فيه ذلك إن تعلق بحق آدمي وعفا عنه، وأما إن تعلق بحق الله تعالى فقد اختلف في جوازه.

3-

وأن الحد إذا ترتب عليه تلف يكون التلف هدرًا، وأما التعزير فإنه يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف.

التعريف بحق الله تعالى وحق الآدمي:

ولما كانت العقوبات تدور حول الحفاظ على حقين: حق الله وحق العبد، فإنه يصبح من الضروري أن نبين رأي الفقهاء في التعريف بهما، وميزات العقوبة التي وضعها المشرع الحكيم جزاء لمن ينتهك حرمتها.

أ- حق الله تعالى:

المقصود بحق الله تعالى هو كل ما تعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بواحد معين من الناس، فالنفع في هذا الحق يعود على المجتمع كله والضرر من اقتراف المحظور فيه، أو الابتعاد عن المأمور به يعم الناس، وقد نسب هذا الحق إلى الله تعالى -مع أن الله غني عن العالمين- مع أن نفعه يعود على المجتمع تشريفًا لهذا النوع من الحق وتنبيهًا إلى أهميته وضرورة الحرص عليه، وبيانًا لشدة العقوبة على مكتسبه، حتى لا يتهاون الناس ولا يستخفون بآثاره، فيفسد حال المجتمع ويضطرب حال الأمن ويختل

ص: 16

استقرارهم وتسوء حياتهم.

وللفقهاء تقسيمات لهذا النوع من الحق عدها الحنفية ثمانية حقوق:

1-

عبادات خالصة: كالإيمان بالله تعالى وما يتفرع عنه من العبادات كالصلاة والصيام.

2-

عبادة فيها مؤنة: كصدقة الفطر، فإن من تحققت فيه الشروط اللازم توافرها لإخراج صدقة الفطر وجب عليه إخراجها عن نفسه وعمن يعوله ويتولى الإنفاق عليه، فجهة المؤنة فيها هي وجوبها على الإنسان بسب الغير -كالنفقة- وجهة العبادة فيها تسميتها صدقة وكونها طهرة للصائم، واشتراط النية في أدائها.

3-

مؤنة فيها عبادة: كالعشر، وهو ما يؤخذ مما تخرجه الأرض العشرية المملوكة لمسلم.

4-

عقوبات كاملة: كالحدود: حد الزنا، حد السرقة، حد شرب الخمر

5-

عقوبات قاصرة: كحرمان القاتل من الميراث، فإن هذا الحرمان حق الله تعالى؛ لأنه لا نفع فيه للمقتول، وأنه عقوبة للقاتل لكونه غرما لحقه بجنايته؛ حيث حرم من الميراث مع وجود علة الاستحقاق، وهي القرابة، وهي عقوبة قاصرة؛ لأن القاتل لم يلحقه ألم في بدنه ولا نقصان في ماله، بل امتنع ثبوت ملكه في تركة المقتول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من قتل قتيلًا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده، فليس لقاتل ميراث" رواه أحمد في مسنده.

6-

مؤنة ليس فيها عبادة: كالخراج، وهو ما يؤخذ من الأرض الخراجية من ضريبة تقدر حسب قدرة الأرض على الإنتاج.

ص: 17

7-

حقوق دائرة بين العبادة والعقوبة: كالكفارات مثل: كفارة القتل، أو كفارة الفطر في رمضان.

8-

حق قائم بذاته: وهو الحق الذي يثبت بذاته في شيء من الأشياء من غير أن يتعلق بذمة إنسان يؤديه بطريق الطاعة؛ كخمس الغنائم والمعادن والكنوز التي توجد في باطن الأرض.

ب- حق العبد:

أما حق العبد فيقصد به: ما تعلق به مصلحة خاصة لصحابه، وأمثلته كثيرة منها: الديون بأنواعها، والحقوق المكتسبة إثر بيع أو إجارة أو شركة، أورهن، أو حوالة، أو كفالة، والنفقات المستحقة لزوجة أو ولد أو قريب.

وحق العبد وإن كان خالصًا له إلا أن فيه حق الله تعالى؛ إذ إن نفس الإنسان وماله وكل شئونه فيها حق الله تعالى، فليس له التصرف في شيء من ذلك إلا في حدود ما رسته الشريعة الإسلامية.

فإن تجاوزها فكان ظالما وحق عليه العقاب، وكذلك حق الله تعالى فيه مصلحة للعبد؛ لأنه شرع لتحقيق مصالحه من جلب نفع أو دفع ضرر بالنسبة للأفراد والجماعات.

ويضيف الحنفية قسمين آخرين للحقوق:

ج- ما اجتمع فيه الحقان "حق الله، وحق العبد" وكان حق الله هو الغالب مثل حد القذف1، فلم يجوزوا العفو عنه، كما هو الحال في حق العبد.

1 وقد سبق أن عد هذا الحق عند بعض الفقهاء من حقوق الله تعالى، إلا أن ما غلب فيه حق الله كان حقا لله، ما غلب فيه حق العبد كان حقا للعبد.

ص: 18

د- ما اجتمع فيه الحقان وكان حق العبد هو الغالب، مثل القصاص في الجنايات، ونظرا لما روعي فيه من المماثلة، قال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وماشرع فيه من جواز عفو ولي الدم عن الجاني.

الآثار التي تترتب على هذا التقسيم:

لا بد لكل تقسيم من فائدة وراءه وإلا لما كان هناك داعٍ إليه؛ ولذلك يلزمنا أن نوضح آثار هذا التقسيم، سواء من ناحية نوع العقوبة، أو الجزاء الذي وضع للجريمة في كل من الحقين، أو من ناحية مميزات كل من العقوبتين.

أ- أما نوع الجزاء الذي وضع لمن انتهك حقا لله تعالى فهو: الحد، أو التعزير، أو الكفارة، أو الحرمان من الميراث، والأولان عقوبة بدنية، والأخيران عقوبة مادية، إلا أن الكفارة قد تؤدَّى بالصوم.

ب- ميزات العقوبة في كلا الحقين:

أ- تتميز عقوبة حق الله تعالى بما يأتي:

1-

لا يجرى فيها عفو ولا صلح ولا إبراء؛ بل لا بد من تطبيق العقوب، ة وآية ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين شُفع إليه في المخزومية التي سرقت:"لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

2-

لا يجرى فيه التوارث، فلا يعاقب ورثة الجاني بما اقترفه؛ لقوله

ص: 19

تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1، وقوله جل شأنه:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 2.

3-

يفوض استيفاء العقوبة إلى الإمام أو نائبه؛ لأنه هو الذي نصب شرعًا لتنفيذ الأحكام ورعاية الأمة.

4-

يجرى فيها التداخل، فإذا قذف شخص جماعة بكلمة أو كلمات متفرقة لا يقام عليه إلا حد واحد، وهذا الحكم إنما يكون إذا تكررت جناية معينة واحدة.

5-

تتنصف العقوبة بالرق؛ لقوله تعالى في شأن الأرقاء: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 3.

ب- كما تتميز عقوبة حق العبد بما يأتي:

1-

يجرى فيها العفو والإبراء والصلح.

2-

يجرى فيها التوارث بالنسبة لورثة المجني عليه أو وليه.

3-

تتكرر العقوبة فيها بتكرار الجناية، فلو شج شخصًا وقطع آخر وقتل ثالثًا، أخذ بجميع ذلك.

4-

لا تتنصف العقوبة فيها بالرق.

5-

يفوض استيفاؤها إلى المجني عليه أو وليه4.

1 الآية 164 من سورة الأنعام.

2 الآية 38 من سورة المدثر، ويقول الله تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الآية 21 من سورة الطور.

3 الآية 25 من سورة النساء.

4 راجع لنا نظرية الحق في الفقه الإسلامي.

ص: 20

وإذا نظرنا إلى حقوق الله تعالى أو ما اجتمع فيه الحقان، وجدنا أنها تحيط بالعلاقات الثلاث التالية:

1-

دائرة العبادات: وهي تنظم علاقة الإنسان بربه، فالإيمان بالله تعالى، وفروع الإيمان من صلاة وصيام وحج، يندرج تحت هذه الدائرة.

2-

دائرة العقوبات: وهي تنظم علاقة الناس بعضهم ببعض، وما يجب عليهم من حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل، وكل من خالف ذلك استحق العقوبة، حتى يسير المجتمع آمنا مطمئنا محققا أهدافه، وكل من عكر صفو هذا الاطمئنان استحق عقوبة تردعه وتزجره عن مثل هذا العمل، ورعاية لهذه المصلحة كانت دائرة العقوبات كلها حقوق الله تعالى؛ أي: لا يجوز أن يسقطها بإبراء أو عفو أو صلح

كما بينا آنفا، وحتى ما اجتمع فيه الحقان، وكان حق العبد غالبا كالقصاص، نجد أنه إذا كان الشخص خطرا على الأمن، فإن حق الله تعالى يصبح هو الغالب، وننتزع هذا النوع من الحق ونجعله في دائرة حق الله تعالى، نحرم الجاني من التخفيف الذي جعله الشارع لمرتكب هذه الجناية، فيقتل الإمام الجاني القاتل حدا لا قصاصا، ولا يعتد بعفو المجني عليه أو ورثته، وسياتي تفصل ذلك.

3-

دائرة الموارد المالية للدولة ومصارفها: وهي تنظم علاقة المواطن بدولته من حيث كفايتها المادية؛ فزكاة الأموال بأنواعها الواجبة على المسلمين، والخراج سواء كان خراجا على الفرد -الجزية- أم خراجا على الأرض المنتجة الواجب على غير المسلمين، وصدقة الفطر وخمس الغنائم، وما في الأرض من معادن وكنوز

كل ذلك داخل في حق الله تعالى، وقد بين الله تعالى مصارف كل نوع منها، وذلك أيضا إنما وجب بهذه المثابة حفظا لأمن الدولة وصيانة لسيرها، وتعميرًا

ص: 21

لمرافقها وتدعيما لمستقبلها، فالمال عصب حياة الفرد، وكذلك عصب حياة الدولة؛ إذ به تمحو الجهل والفقر والمرض، وتنشئ الجيوش وتدعمها، وتبني المرافق العامة وتشيدها، وتدعم أجهزة الدولة بالأَكْفَاء الذين يديرون شئونها التنظيمية والقضائية والتشريعية والاجتماعية، كل ذلك لا يقوم إلا بموارد مالية ثابتة؛ ولذلك كانت هذه الموارد حقا لله تعالى.

ص: 22

الجناية:

الجناية لغة:

اسم لما يكتب من الشر، تسمية بالمصدر؛ إذ هي في الأصل مصدر جنَى يجني، ويسمى مكتسب الشر جانيا، والذي وقع الشر عليه مجنيا عليه.

والجناية شرعًا:

كل فعل محرم حل بالنفس أو غيرها.

فكل فعل محرم من الشرع "سواء كان في صورته الإيجابية كارتكاب ما نهى عنه الشرع، أو في صورته السلبية كعدم الإيتان بما وجب الإتيان به" يصدر عن الإنسان يسمى جناية، سواء وقع هذا الفعل على آدمي، أو على أرض، أو على دين، أو على غير ذلك مما يعاقب عليه الشرع.

إلا أن أكثر الفقهاء1 قد تعارفوا أن الجناية هي التعدي على

1 ويتضح هذا مما ورد في كثير من الكتب الفقهية.

فقد جاء في تبيين الحقائق على الكنز للحنفية "ج7 ص97": "الجانية في الشرع اسم لفعل محرم سواء كان في مال أو نفس، لكن في عرف الفقهاء يراد بإطلاق اسم الجناية الفعل في النفس والأطراف".

وجاء الشرح الكبير للدسوقي المالكي "ج2 ص242": "الجناية التي هي فعل الجاني الموجب للقصاص

".

وجاء في حاشية البرماوي الشافعي ص380: "الجنايات جمع جناية أعم من أن تكون قتلا أو قطعا أو جرحا، ولا تدخل فيه الحدود؛ لأنها لا تسمى جناية عرفا، ولذلك لم يدخلها المصنف".

وجاء في الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي الحنبلي "ج9، ص318": "الجنايات كل فعل عدوان على نفس أو مال؛ لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان، وسموا الجنايات على الأموال غصبا، ونهبًا، وسرقة، وخيانة، وإتلافًا"، ومثله ما جاء في كشاف القناع "ج3، ص332".

ص: 23

الإنسان بما يوجب قصاصا أو مالا أو كفارة، وأما ما عدا ذلك من الجنايات فإنها تسمى حدودًا أو تعازير، وقد سبق بيان أنواعها.

وتعارف هؤلاء الفقهاء على إطلاق "الجناية" على الاعتداء على النفس لم يمنع من استعمال بعضهم لفظ "الجناية" في كل ما فيه تعد، ولو على حق من حقوق الله تعالى هو عبادة خالصة، كجناية المحرم -بضم الميم وكسر الراء- على إحرامه باقترافه ما حرم عليه من أفعال؛ كلبس مخيط، أو وضع طيب، أو حلق شعر

فقد عنون فقهاء الحنفية لهذا النوع من الأفعال بـ"الجنايات" مع إطلاقهم نفس الاسم على ما كان اعتداء على النفس، وقد شعر بعض فقهائهم بهذا التشابه في المسميات فأجاب الكمال بن الهمام على هذا بقوله:"الجناية فعل محرم، والمراد هنا -أي: في الحج- خاص منه، وما تكون حرمته بسبب الإحرام أو الحرم"، ويقول البابرتي في العناية:"الجناية اسم لفعل محرم شرعًا، سواء حل بمال أو نفس، ولكنهم -أعني الفقهاء- خصوها بالفعل في النفوس والأطراف، فأما الفعل في المال فسموه غصبا، والمراد هاهنا -أي: في الحج- فعل ليس للمحرم أن يفعله".

والذي دعاء هؤلاء الفقهاء إلى التمييز بين بعض الجرائم وبعضها وإطلاق اسم الجنايات على ما كان على النفس

، وأما غيرها فقد عنونوا له بالحدود أو التعازير هو الخصائص المتغايرة بين العقوبتين؛ إذ الحدود لا يجرى فيها

ص: 24

عفو ولا صلح ولا تورث -إلى آخر ما ذكرنا آنفا- وعكس ذلك القصاص؛ لأن حق العبد فيه غالب، كما يجرى هذا التغاير حتى في إثبات الجريمة، أو في تأثير التوبة فيها.

ولقد أدرك بعض الفقهاء هذا اللبس؛ فبعضهم أدرج تحت "الجرائم" كل أنواع المحظورات المعاقب عليها، ثم قسمها، وخص ما كان على النفس "بالقود في الجنايات" كالماوردي وأبي يعلى1 أو "الجراح" كالشافعية والحنابلة والإباضية في مقابل "الحدود" و"التعزيرات"2.

إلا أنك تدرك أن إطلاق الجراح أو الدماء عليها هو فضلا عن كونه لا يشمل ما كان من الجنايات بغير جرح وبغير إسالة دماء، كالقتل بالكهرباء أو السم أو الخنق أو المثقل، فهو أيضا لا يتلاءم مع ما يقابله من الجنايات وهو الحدود، لأن الحد هو العقوبة، والتعزير هو العقوبة، وأما الجرح أو الجناية فهو ذات الفعل غير المشروع.

فإما أن يتفق المنهج في الكل من ناحية التسمية بنوع الفعل المحظور الذي ارتكب، أو من ناحية نوع العقوبة، حدا أو قصاصًا أو تعزيرًا، مع أن بعض الفقهاء قد صرح بأن القصاص حد من الحدود.

والذي أرجحه في هذا المقام هو أن يظل الاصطلاح الشرعي للجناية على عمومه، فيندرج تحته كل أنواع الجنايات، سواء أوجبت قصاصا أو مالا أو كفارة، أو أوجبت حدا أو تعزيرا، ويمكن أن يبوب لكل جناية بما وقع الاعتداء عليه، فإن كانت على آدمي قلنا:"الجناية على الآدمي"، وإن كانت على العرض قلنا:"الجناية على العرض"، وإن كانت على المال قلنا:"الجناية على المال"، وهكذا حتى ما كان منها في دائرة العبادات مثل جناية المحرم قلنا:"الجناية على الإحرام"، وهذه التسمية هي التي أسلكها بمشيئة الله تعالى في هذا المؤلَّف.

1 الأحكام السلطانية للماوردي ص219، والأحكام السلطانية لأبي علي ص272.

2 يراجع: المغني لابن قدامة ج10 ص308، ومغني المحتاج على متن المنهاج ج4 ص1.

ص: 25