الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسا: أن يكون الضرب بقصد العدوان:
وكذلك لكي تكون الجريمة عمدا لا بد أن يكون الجاني قد قصد الضرب بسب عداوة أو غضب "أي عدوانا"، وهو ما يعبر عنه بأنه قتل بغير حق؛ لأن القتل بحق لا يكون عدوانا، وإنما استيفاء لحقه، وقد نص كتاب الله تعالى على ذلك في قوله جل شأنه:
فالقتل الذي يكون عمدا هو ما يكون فيه المقتول مظلوما، والقاتل ظالما، وإنما يكون ظالما له باعتدائه عليه دون وجه حق، وذلك بسبب عداوة أو غضب أو شهوة قتل أو حب للدماء أو استهتار بأرواح الناس، كل ذلك يعتبر قتلا عدوانا.
أما إن قصد التأديب والتهذيب، فإن الأمر يحتاج إلى تفصيل؛ نظرًا لأن هذا الضرب باعتبار مقصده مشروع.
الضرب بقصد التأديب أو اللعب:
إذا ضرب إنسان شخصا بقصد التأديب أو اللعب، فأدى فعله إلى القتل، فإن الحكم يختلف باختلاف الآلة المستعملة: هل هي موضوعة للقتل غالبا وعرفا، أو موضوعة للعب والتأديب؟ 2
1 سورة الإسراء الآية رقم 33، وراجع الآية رقم 68 من سورة لقمان.
2 ونعرض فيما يلي آراء الفقهاء في حكم ذلك: =
............................................................................................
= مذهب الحنفية:
يقول الإمام الكساني في بدائعه ج7 ص234:
"الرابع من شروط استيفاء القصاص: أن يكون القتل منه عمدا محضا ليس في شبهة العدم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام شرط العمد مطلقا بقوله: "العمد قود"، والعمد المطلق هو العمد من كل وجه، ولا كمال مع شبهة العدم، ولأن الشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقة، وعلى هذا يخرج القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل أنه لا يوجب القود؛ لأن الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل عادة؛ بل التأديب والتهذيب فتمكنت في القصد شبهة العدم
…
".
ومن هذا يتضح لنا أمران:
أولهما: أنه لا بد من توافر قصد القتل -كما وهو واضح من الشرط الثالث- وقد سبق أن قرر المذهب أن توافر قصد القتل يكن موجودا إذا استعمل الجاني في جنايته آلة تقتل قطعا أو غالبا؛ كالمحدد عند أبي حنيفة، والمحدد والمثقل عند الصاحبين.
ثانيهما: أنه إذا وجدت شبهة في كون القتل عمدا محضا؛ كما إذا ضربه ضربة أو ضربتين بآلة تقتل غالبا، فإنه لا تكون الجريمة عمدية موجبة للقصاص، حتى وإن قصد القتل؛ ولكنها تصبح جريمة "شبه عمد" فيها الدية مغلظة وليس فيها القود؛ لأن الشبهة قد وجدت هنا باستعمال آلة =
.......................................................................
= ليست موضوعة للقتل غالبا أوعرفا، وإنما هي آلة للتأديب والتهذيب، ومن هنا نقل المذهب وصف الجريمة من العمد إلى شبه العمد، حتى وإن صحب الضربة قصد القتل؛ لأن القصد أمر باطني يصعب التعرف على حقيقته، وأمامنا دليل ظاهر وهو استعمال آلة لا تقتل غالبا وعادة، فعارض الدليل الظاهر الدليل الباطن فنأخذ بالظاهر ونمنع القصاص؛ لتمكن الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، ومثلها القصاص.
وبهذا يتبين لنا أن المذهب يجعل معياره في جعل الجريمة عمدا أو شبه عمد بعد توافر قصد ضرب شخص معين يدور مع استعماله الآلة أو الفعل المستخدم في القتل، فإن كان يقتل غالبا كان عمدا، وإلا كان شبه عمد، سواء قصد القتل أو التأديب، أما إن لم يقصد ضرب هذا الشخص بأن قصد هدفا فأصاب آدميا أو قصد خالدا فأصاب عمرا، فإن أثر القصد هنا يظهر في تحويل الجريمة من عمد أو شبه عمد إلى خطأ فيه الدية على العاقلة كما سيأتي إيضاحه.
مذهب المالكية:
جاء في تقرير المالكية لجريمة العمد أنه لا بد أن يكون قصد الضرب بسبب عداوة أو غضب -أي عدوانا- أما إن كان بقصد اللعب أو التأديب، فإنه لا يكون عدوانا فلا يكون عمدا، بشرط أن تكون الآلة موضوعة لذلك نحو السوط والعصا، أما إن كانت غير موضوعة لذلك كسيف ونحوه فإنه يكون عمدا.
وبهذا ترى أن المالكية يجعلون الجريمة التي تتم بما يقتل قطعا دون =
........................................................................
= قصد العدوان جريمة عمدية، أما التي تتم بآلة موضوعة للعب والتأديب، وأدى ضربه بها إلى الموت فإنه يكون خطأ؛ لأن المذهب يجعل للجريمة وصفين فقط العمد والخطأ، فإن لم تكن عمدا كانت خطأ.
مذهب الشافعية:
أما الشافعية فإن الفرق بين العمد وشبه العمد عندهم في نوع الآلة المستعملة في القتل مع توافر قصد الضرب، فإن كانت تقتل غالبا كانت الجناية عمدا -كما سبق إيضاحه تفصيلا- وإن كانت لا تقتل إلا نادرًا كالعصا الحفيفة كانت الجناية شبه عمد، ما لم يضعها في مقتل أو يوالي الضربات
…
ففي هذه الحالة تصبح عمدا موجبا للقصاص، وقد سبق أن بينا أن المذهب لا يشترط على الراجح توافر قصد القتل؛ بل يكتفى بقصد الضرب، وفي الضرب للتهذيب وجد قصد الضرب، ومقتضى الرأي المرجوح الذي يشترط توافر قصد القتل في الجريمة العمدية يكون التهذيب شبه عمد -ولا يكون عمدا- إذا تم بآلة تقتل غالبًا.
مذهب الحنابلة:
وجاء في تقرير الحنابلة لجريمة شبه العمد "أنه إن قصد التأديب لشخص فأسرف فيه بما لا يقتل غالبا، ولم يجرحه بها، فيقتل المعتدى عليه -قصد قتله أو لم يقصده- كانت الجريمة شبه عمد".
ويتضح من هذا أنه إن قصد التأديب بما يقتل غالبا فأدى هذا إلى قتل الشخص المؤدب كانت الجريمة عمدا. =
......................................................................
= مذهب الزيدية:
جاء في التاج المذهب ج4، ص306:"فأما تأديب الصبي من المعلم أو الولي أو ضم له غير معتاد، فمباشر غير مسبب، مضمون، يجب القود إن كان يقتل مثله، ولو لم يقصد المعلم أو الولي القتل".
أما إذا لم يكن مثله يقتل عادة فلا بد من توافر قصد القتل لتكون الجريمة عمدا، فإن لم يتوافر قصد القتل كما في هذه الصور، فإنه لا يكون عمدا موجبا القود؛ بل يكون خطأ تجب فيه الدية.
مذهب الإمامية:
أما الإمامية فإنهم قد جعلوا الضرب بما يقتل غالبا عمدا إن قصد إيقاع الفعل به، أما إن استعمل ما لا يقتل إلا نادرا كالضرب بالعصا الخفيفة فأدى ذلك إلى القتل فإنه لا يكون قتلا عمدا، إلا إذا وجد قصد القتل، أما إن لم يوجد قصد القتل بل وجد قصد الضرب فقط فإنه يكون قتلا شبه عمد فيه الدية.
مذهب الظاهرية:
وأما الظاهرية فقد سبق أن بينا "أنهم يجعلون الجريمة عمدا إذا تعمد المرء ضرب شخص مما قد يمات من مثله، وقد لا يمات".
وقد سبق أن أوضحنا أنهم لا يشترطون في القتل العمد غير قصد الضرب، وكون الآلة مما قد يمات من مثلها وقد لا يمات، وأن تكون الجناية بالمباشرة.
ومن هنا يتضح لنا أنهم يجعلون الجريمة عمدا موجبا للقود إذا توافرت هذه الشروط، سواء قصد الضرب للقتل أو للتأديب.
1-
أما إن كانت الآلة المستخدمة في التأديب والتهذيب أو اللعب تقتل قطعًا أو غالبًا، فإن الجناية تكون عمدا عند جمهور الفقهاء "الحنفية1 والمالكية وكذا الشافعية والحنابلة -على الرأي الراجح- وكذا الزيدية والإمامية والظاهرية والإباضية".
"أما من اشترط من الفقهاء ضرورة توافر قصد القتل، فإنه يرى أن هذه الجريمة شبه عمد"، وهو رأي لبعض فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة، وقد سبق إيضاحه.
2-
أما إن كانت الآلة المستخدمة في التأديب والتهذيب لا تقتل إلا نادرًا فإن فقهاء "الحنفية والشافعية والحنابلة والإمامية" يجعلونها "شبه عمد" تجب فيه الدية ولا يجب فيه القصاص.
أما المالكية والزيدية، فقد جعلوا هذه الجناية خطأ فيها الدية على العاقلة؛ وذلك لأن هذين المذهبين يجعلان الجريمة إما عمدا أو خطأ ولا ثالث لهما -كما سبق أن نوهنا- وسيأتي مناقشة ذلك تفصيلا في جناية شبه العمد.
وأما الظاهرية -وهم من المنكرين لجريمة شبه العمد أيضا- فإنهم يجعلون هذه الجناية عمدا.
والظاهر هو الرأي الأول الذي يجعل هذه الجريمة "شبه عمد"؛ لأنه قد اقترن قصد الفعل بعدم قصد القتل بقرينة استعمال الآلة التي لا تقتل إلا نادرا، أي اقترن العمد بالخطأ، وهذا ينفي كونها عمدا خالصا، كما ينفي كونها خطأ محضا، فكانت في مرتبة وسطى، وهي شبه العمد؛ حفظا لأرواح الناس من الإهدار، ورعاية لأسرة المقتول وورثته، وتأديبا للجاني.
1 مع مراعاة رأي أبي حنيفة في اشتراطه في القتل العمد الموجب للقصاص: أن يكون بما يقتل قطعا، وإلا كان شبه عمد، وقد تقدم.
وللحنفية تفصيل فيما يؤدي إليه ضرب التأديب، فقد نصوا على أنه لو ضرب امرأته للنشوز فماتت منه، يضمن؛ لأن المأذون فيه هو التأديب لا القتل، ولما اتصل به الموت تبين أنه وقع قتلا.
ولو ضرب الأب أو الوصي الصبي للتأديب، فمات، ضمن، عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأن التأديب اسم لفعل يبقى المؤدب حيا بعده، فإذا سرى تبين أنه قتل، وليس بتأديب، وهما غير مأذونين في القتل. ويرى الصاحبان "أبو يوسف ومحمد" عدم الضمان؛ لأن الأب والوصي مأذونان في تأديب الصبي وتهذيبه، والمتولد من الفعل المأذون فيه لا يكون مضمونا كما لو عزر الإمام إنسانا فمات.
ولو ضربه المعلم أو الأستاذ فمات، فإن كان الضرب بغير أمر الأب أو الوصي يضمن؛ لأنه متعدٍّ في الضرب، والمتولد منه يكون مضمونا عليه، وإن كان بإذنه لا يضمن للضرورة؛ لأن المعلم إذا علم أنه يلزمه الضمان بالسراية، وليس في وسعه التحرز عنها يمتنع عن التعليم، فكان في التضمين سد باب التعليم، وبالناس حاجة إلى ذلك، فسقط اعتبار السراية في حقه لهذه الضرورة، ولم توجد في الأب؛ لأن لزوم الضمان لا يمنعه عن التأديب لفرط شفقته على ولده، فلا يسقط اعتبار السراية من غير ضرورة.
والذي أرجحه هو الضمان في جميع الحالات؛ وذلك لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" عام في كل من قتل بمثل ذلك من الأدوات التي لا تؤدي إلى القتل قطعا أو غالبا.
كما أن إيجاب الضمان هنا "أي في التأديب والتهذيب" يجعل المنوط به هذه الولاية في حذر بالغ من أن يؤدي فعله إلى عكس المطلوب، وهو ما لا يقصده المشرع من إباحة ذلك، وأما القول بأن الضمان سيغلق باب التأديب والتهذيب، فإنه يرده أن هذا النوع من الرعاية يجب ألا يصل إلى درجة الضرب، وإذا وصل مع أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"وخيركم لا يضرب"، فيجب أن يكون المقصود به التنبيه لا الإضرار، وحسبنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا نوع ضرب الزوج الناشز إن لم ينفع الوعظ والهجر بقوله:"فاضربوهن ضربا غير مبرح"، قال ابن عباس: أي بعود السواك ونحوه؛ لذلك أرى وجوب الضمان في كل هذه الحالات.