الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: عقوبة القتل العمد في القانون:
جعل القانون عقوبة القتل العمد هي الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة "م 234/ 1ع". وإذا اقترن القتل العمد بظروف مشددة كانت عقوبته الإعدام، والظروف المشددة التي أخذ بها المشرع المصري ستة: سبق الإصرار والترصد، والقتل بالسم، واقتران القتل بجناية، وارتباطه بجنحة1، ووقوع القتل أثناء الحرب على الجرحى حتى من الأعداء.
ونظرا إلى أننا قد بينا آنفا رأي الفقه الإسلامي في عقوبة القتل العمد، وفي أثر الظروف المخففة للعقوبة والمشددة لها، وذكرنا بعض الجرائم التي قال الفقهاء: إن عقوبتها الحد لا القصاص، وأشرنا آنذاك إلى ما يقابلها في القانون، فلا داعي للإعادة هنا مرة أخرى، إلا أن ما نود الإشارة إليه هنا هو أن الفقه الإسلامي يرى أن موجب القتل العمد القصاص عينا، أو أحد أمرين القصاص أو الدية، كما سبق أن بينا بجانب العقوبات الأخرى كالكفارة -عند من يقول بها- والحرمان من الميراث.
أي: أن القتل العمد المحض المجرد عن أية ظروف أخرى إذا كان عدوانا يوجب القصاص في الفقه الإسلامي، إلا أن القصاص يمكن أن يسقط بعفو ولي الدم.. فإن عفا سقط القصاص إلى الدية إن أراد، بل له أيضا أن يعفو عن الدية.. ولكن العقوبات الأخرى تظل قائمة، ومن هنا يفترق الفقه الإسلامي عن القانون، فالقانون يرى في هذه الحالة أن العقوبة هي الأشغال
1 تراجع المواد: 230ع، 233، 234/ 2/ 25103 مكررة ع.
الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، بينما يرى الفقه الإسلامي أن عقوبته هي القصاص الذي يكون لصاحبه الحق في العفو عنه، على التفصيل الذي بيناه.
ولا شك أن رأي الفقه الإسلامي أنجع في علاج الجرائم من علاج القانون؛ وذلك لأن السجن عقوبة لا تلائم نوع الجناية التي ارتكبت، فإن الجناية أفظع وأشد، إنها قتل نفس بغير حق، فإذا أوجبنا فيها هذه العقوبة ما كان ذلك محققا لعدالة العقاب؛ وبالتالي لا يشفى غليل أهل المجني عليه، ومن هنا يتكاثر ارتكاب الجرائم ويتفشى.
وهذا ما عالجته الشريعة الإسلامية، فمن حيث عدالة العقاب أوجبت القصاص حتى يذوق الجاني نفس الكأس الذي أذاقه لغيره، ويتجرع المرارة التي جرعها لغيره، ولا شك أن هذا المسلك في العقوبة أكثر ردعا وزجرا؛ إذ به تتحقق الحياة لنفوس كثيرة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} .
ومن حيث شفاء غليل أهل المجني عليه جعل المشرع الحكيم لهم الحق في استيفاء القصاص أو العفو عنه إلى الدية أو مجانا، أما العقوبات الأخرى فإنها لا تتعلق على رضاهم، وهذا المسلك هو خير طريق لإزالة الأحقاد من النفوس، وجعل الجروح تندمل على خلايا صحيحة، فإنهم إن عفو عنه إلى الدية كان منة وفضلا يطوق عنق الجاني وأهله طيلة حياتهم، وإن عفوا عن الدية أيضا كانت المنة أكثر والفضل مضاعفا
…
وكأن الجاني في حقيقة الأمر قد ولد من جديد، وكأن أهله هم أهل المجني عليه..
إذن فالعقوبة في الشريعة الإسلامية قد روعي فيها جانب العدالة مع جانب الرحمة والرأفة، مع جانب تنمية العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية بين الناس جميعا في آن واحد.. فمن استوفى حقه كان غير ملام؛ لأن هذا المنطق هو منطق العدل، ومن عفا كان متفضلا مشكورا، والمتفضل له أجره في الدنيا والآخرة، وبهذا المسلك الخالد في وضع العقوبة تزول الرواسب التي تفسد العلاقة بين الجاني وأهله والمجني وأهله، وبذلك يتم أفضل لقاء وأعدل علاج..
إلا أنه مع هذا فإن الشريعة الإسلامية جعلت للدولة -ممثلة في الإمام- حقا آخر تباشره قِبَل القاتل الذي
عفا عنه ولي الدم.. وهذا الحق يجعله الفقه في صورتين؛ الأولى: صورة من كانوا خطرا على المجتمع، وهؤلاء للدولة أن توقع عليهم عقوبة القتل، عفا عنهم أولياء الدم أو لم يعفوا، والصورة الثانية: صورة القتل في الأحوال العادية، وقد بينا فيما سبق أن بعض الفقهاء يرى إيجاب عقوبة أخرى على القاتل، وهي التعزير -وسيأتي بحثه بمشيئة الله تعالى في نهاية هذا الباب- أو جلد مائة وحبس سنة كما قال المالكية.
وبهذا يتبين لنا أن الفقه الإسلامي قد عالج ما يترتب على العفو من آثار؛ إذ قد يكون مصدر العفو خوف ولي الدم من الجاني، أو أي اعتبار آخر يؤثر على إرادته، فإذا صدر العفو كان للدولة الحق في إيقاع العقوبة التي تراها ملائمة لكل قاتل حسب ظروفه.