الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أركان الجريمة خطأ:
على ضوء ما أوردناه آنفا في المبحث الأول يمكننا أن نستخلص الحقائق الآتية:
أولا: أننا نقصد بالجناية هنا الجناية على إنسان حي معصوم الدم بإزهاق روحه أو المساس بجسمه أو صحته، كما سبق أن قررنا هذا في أركان الجريمة عمدا وشبه عمد.
ثانيا: أن ما يميز الجريمة خطأ عن الجريمة عمدا أو شبه عمد هو عدم وجود قصد جنائي؛ لأن الجاني هنا لم يقصد بفعله قتل المجني عليه أو إيقاع الضرر به، وإنما حدث ذلك نتيجة خطأ في الفعل أو في القصد أو فيهما.. قد يكون نتيجة إهمال أو تقصير أو عدم حيطة وقلة حذر.
ثالثا: الفعل الذي أدى إلى وقوع الجناية:
إذا نظرنا إلى ما أورده الفقهاء آنفا من صور الخطأ نجد أن هذه الجناية قد تكون نتيجة عمل إرادي، أراده الفاعل وإن لم يرد نتيجته، أو عمل غير إرادي، صدر عن الإنسان أثناء فقد وعيه وإدراكه وإرادته فقدانا طبيعيا، فأدى هذا إلى قتل أو جرح أو إتلاف، والجناية التي تتم بفعل إرادي إما أن تتم بالمباشرة، بأن لم يتخلل بين الفعل الذي أدى إلى الإتلاف والإتلاف واسطة، أو بغير المباشرة، بأن تكون هناك واسطة بين الفعل والنتيجة. ونوضح ذلك فيما يلي:
أ- جناية تتم بعمل مباشر إرادي:
إن كانت الجناية بفعل إرادي مباشر، سواء كانت نتيجة خطأ في الفعل أو في القصد أو فيهما، فإنه لا يشترط عند جمهور الفقهاء أن يكون العمل في ذاته والنتيجة التي يريدها مشروعين، فلو رمى إنسانا معصوم الدم قاصدا قتله أو الاعتداء عليه، فأخطأ فأصاب إنسانا آخر بهذه الصفة كانت جنايته خطأ؛ لعدم قصد قتل هذا الشخص بالذات، وقد خالف في هذا الحكم المالكية وبعض الحنابلة؛ حيث يرون هذه الجريمة جريمة عمدية لوجود القصد الجنائي نحو آدمي حي معصوم الدم، ولا يهم بعد هذا كونه زيدا أو عمرا من الناس، فوجود القصد الجنائي في ذاته نحو معصوم أيا كان هذا المعصوم
كاف لجعل الجريمة عمدية. وقد سبق أن أوضحنا هذا الخلاف في أركان الجريمة عمدا1.
ب- جناية تتم بعمل مباشر غير إرادي:
وإن كانت الجناية ناتجة عن عمل مباشر غير إرادي؛ كما لو انقلب نائم على طفل فقتله، فإنها تكون خطأ عند جمهور الفقهاء؛ لوجود المباشرة وانعدام القصد، وخالف في هذا الحنفية وبعض الحنابلة، فجعلوا هذا النوع يجري مجرى الخطأ، وليس خطأ؛ وذلك لأن النائم لا يوصف فعله بالعمد ولا بالخطأ، إلا أنه يعتبر كالخطأ في الأحكام؛ لأن المقتول مات بثقل جسمه، فكأنه مات بفعله؛ حيث يضاف القتل إليه في الظاهر، فيأخذ حكم الخطأ، فيجب فيه ما يجب في الخطأ من الدية -كما أوضحنا فيما سبق- فالخلاف في التكييف لا في الحكم2.
مصدر هذا الخطأ ومنشأ المسئولية:
يمكننا أن نرد الخطأ الحادث في هذين النوعين من الجناية إلى عدم احتياط الجاني الاحتياط الكافي، وعدم حذره الحذر المطلوب عقلا، وقد يكون لرعونته وإهماله، سواء بدا هذا فيما صدر منه من أعمال إرادية، حيث لم يحط بالأبعاد التي يمكن أن يصيب بها طلقه الناري من مخلوقات أو أشياء غير الصيد الذي كان يقصده، وهذا أمر يختلف من شخص إلى شخص؛ ولكن الفقه الإسلامي لا يفرق في عقوبة القتل الخطأ بين شخص وشخص، أو ظهر هذا مما حدث منه من عمل مباشر غير إرادي؛ حيث
1 راجع الركن الثالث من أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي.
2 وما يصدر عن الصبي والمجنون من أفعال تؤدي إلى جريمة اعتبر خطأ عند جمهور الفقهاء، اعتمادا على ما صاحب إرادته من ضعف أو فقد بسبب صغر أو مرض، يتمشى مع هذا التكييف؛ حيث إن الإرادة هنا غير موجودة بسبب النوم وهو ظاهرة طبيعية، وقد أوضحنا فيما تقدم آراء الفقهاء تفصيلا، راجع جناية الصبي والمجنون.
لم تحتط الأم أو الحاضنة مثلا في نومها بعيدا عن الطفل، أو تضع الطفل في مكان فيه من حدوث مثل هذا، كل هذا تترتب عليه مسئولية الفاعل، ومن ثم لزمته العقوبة.
ج- جناية تتم بعمل إرادي غير مباشر:
وقد تقع الجريمة خطأ بعمل إرادي غير مباشر، وهو "القتل بسبب" كما لو أحدث شيئا في ملك الغير أو في الطريق، فأدى إلى إتلاف نفس أو غيرها، فإن الجاني لم يباشر الجناية بنفسه، وإنما حدثت بسبب ما فعله وكانت نتيجة له.
ولقد وضع الفقهاء شروطا لمسئولية الفاعل عما فعله، وهي كما بيناها آنفا:
1-
أن يكون متعديا في فعله؛ أي: باشره في مكان لا يصح له أن يباشره فيه.
2-
أن يستمر هذا التعدي إلى أن يحدث التلف.
3-
وأن يكون فعله مما لم يتعود الناس فعله في مثل هذا المكان.
4-
وألا تنقطع الصلة بين السبب والنتيجة، أو ألا يحدث ما يقطع اتصال السبب بالنتيجة، كأن لم يبادر إلى إنقاذ نفسه، وقد كان في إمكانه ذلك، أو أن يتعدى عليه شخص فيقتله بعد وقوعه في الحفر حيا، أو يدفعه شخص في الحفرة
…
، فهنا تنقطع الرابطة بين السبب والنتيجة، ويضاف الإتلاف إلى السبب المباشر، فيعتبر هو قاتلا لنفسه في المثال الأول، ويعتبر المباشر هو القاتل في المثالين الأخيرين.
مصدر هذا الخطأ ومنشأ المسئولية:
واضح من أمثلة "القتل بسبب خطأ" أن الفاعل أو الجاني يقوم بعمل غير مشروع، فيترتب على هذا العمل آثار غير مقصودة، فحفر بئر في ملك الغير بغير إذنه عمل غير مباح؛ لأن كل إنسان مسلط على ماله، وله وحده الحق في الانتفاع به دون غيره من الناس إلا بإذنه، وكذا لو وضع حجرا في الطريق، كان أيضا عمله غير مشروع؛ لأن حق العامة في سلامة الطريق يمنع أن يحدث فيه مثل هذا العمل، فإذا أحدث شيئا لا يحل له أن يحدثه كان مسئولا عن كل النتائج التي تترتب على فعله.
ولقد اشترط الفقهاء لضمان الفاعل في القتل بسبب أن يكون الفعل مما يمكن التحرز عنه، فإن كان مما لا يتحرز عنه يسقط الضمان، وقد صرح بهذا القيد فقهاء الحنفية عندما تعرضوا للجناية التي يرتكبها السائق الدابة أو الراكب لها، والتي يمكن أن تطبق على حوادث السيارات وغيرها من المواصلات الحديثة التي حلت محل الدواب؛ حيث نصوا على أن الراكب لدابة في الطريق ضامن لما أصابت خطأ بيدها أو رجلها أو رأسها، أو كدمت أو خبطت، وكذا إذا صدمت، ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها، والأصل في ذلك أن المرور في طريق المسلمين مباح؛ ولكنه مقيد بشرط السلامة؛ لأنه يتصرف في حقه من وجه وفي حق غيره من وجه؛ لكونه مشتركا بين كل الناس.
أما أنه يتصرف في حقه، فلأن الإنسان لا بد له من طريق يمشي فيه لترتيب مهماته، فالحجر عن ذلك حرج، والحرج مدفوع، وأما أنه يتصرف في حق غيره، فلأن غيره فيه كهو في الاحتياج، فبالنظر إلى حقه يستدعي الإباحة مطلقا، وبالنظر إلى حق غيره يستدعي الحجر مطلقا، فقلنا بإباحة مقيدة بشرط السلامة عملا بالوجهين، ويعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه، ولا يتقيد بها فيما لا يمكن التحرز عنه؛ لما فيه من المنع عن التصرف وسد بابه، وهو مفتوح، والاحتراز عن الإبطاء وما يضاهيه ممكن، فإنه ليس من ضرورات التيسيير، فقيدناه بشرط السلامة عنه.
والنفحة بالرجل والذنب ليست مما يمكنه الاحتراز عنه مع السير على الدابة فلم يتقيد به.
فإن أوقفها في الطريق ضمن النفحة أيضا؛ لأنه يمكنه التحرز عن الإيقاف، وإن لم يمكنه عن النفحة، فصار متعديا في الإيقاف، وشغل الطريق به فمضمنه1، ولقد خصص الفقهاء باب الجناية البهيمة والجناية عليها، ووضعوا قاعدة للضمان وعدمه، وهي كون الفاعل متعديا في فعله، وكون الفعل مما لا يمكن التحرز عنه.
1 فتح القدير ج8، ص345، 346.