الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ كَمَا يَقُولُ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي بَعْضِ الْخُطَبِ وَالذُّنُوبِ، فَرُبَّ ذَنْبٍ يُعَاقَبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَكَمَا نَقَلَ الشَّيْخُ محيي الدين القرشي الحنفي فِي تَذْكِرَتِهِ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرُ مَا يُسْلَبُ النَّاسَ
الْإِيمَانُ
عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَكْبَرُ أَسْبَابِ ذَلِكَ الظُّلْمُ، وَأَيُّ ظُلْمٍ أَعْظَمُ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى الْخَوْضِ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ عِلْمٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
[مَبْحَثُ الْإِلَهِيَّاتِ]
[الْإِيمَانِ]
الْفَتَاوَى الْأُصُولِيَّةِ الدِّينِيَّةِ
مَبْحَثُ الْإِلَهِيَّاتِ
مَسْأَلَةٌ: فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ، وَرُكْنِهِ، وَشَرْطِهِ، وَسَبَبِهِ، وَمَحَلِّهِ، وَهَلْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَشَرْطُهُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَقِيلَ هُوَ رُكْنٌ لَهُ، وَسَبَبُهُ النَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَمَحَلُّهُ الْقَلْبُ وَهُوَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ كَثِيرَةٌ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَدْرِ صَحِيحِهِ مِنْهَا جُمْلَةً، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] .
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ» أَخْرَجَهُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، مَرْفُوعًا والديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا.
[إِتْمَامُ النِّعْمَةِ فِي اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.
وَبَعْدُ: فَقَدْ وَقَعَ السُّؤَالُ هَلْ كَانَ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ أَوْ لَا؟ فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُطْلَقُ الْإِسْلَامُ عَلَى كُلِّ دِينٍ حَقٍّ أَوْ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ الشَّرِيفَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَرْجَحُهُمَا الثَّانِي، فَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مُنْكِرًا أَنْكَرَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَشْيَاءَ عَلَى كَوْنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ يُوصَفُونَ بِكَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبَيْنِ: الْأَوَّلُ: مِنْ إِنْكَارِهِ، فَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ بِنُصُوصِ الْعُلَمَاءِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يُقَالُ فِي حَقِّهِ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ: لَوْ سَكَتَ مَنْ لَا
يَعْرِفُ قَلَّ الِاخْتِلَافُ، وَمَنْ قَصُرَ بَاعُهُ وَضَاقَ نَظَرُهُ عَنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ فَمَا لَهُ لِلتَّكَلُّمِ فِيمَا لَا يَدْرِيهِ وَالدُّخُولِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَحَقُّ مِثْلِ هَذَا أَنْ يَلْزَمَ السُّكُوتَ، وَإِذَا سَمِعَ شَيْئًا لَمْ يَسْمَعْهُ قَطُّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ اسْتَفَادَ فَائِدَةً جَدِيدَةً فَيَعُدُّهَا نِعْمَةً مِنْ نَعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَدْعُو لِمَنْ أَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ وَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ تَرْجِيحَ الْقَوْلِ الثَّانِي فَهَذَا لَيْسَ مِنْ وَظِيفَتِهِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِينَ الْعَالِمِينَ بِوُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ وَمَسَالِكِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْحِجَاجِ وَالنَّظَرِ، وَإِنْكَارُهُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
الْعَجَبُ الثَّانِي: مِنِ اسْتِدْلَالِهِ، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا يَسُوغُ لِلْمُجْتَهِدِ الْعَالِمِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَمَّا غَيْرُهُ فَمَا لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْرِقَةِ:[شَرْطُ الْمُقَلِّدِ] أَنْ يَسْكُتَ وَيُسْكَتَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ قَاصِرٌ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الْحِجَاجِ، وَلَوْ كَانَ أَهْلًا لَهُ كَانَ مُسْتَتْبَعًا لَا تَابِعًا وَإِمَامًا لَا مَأْمُومًا. وَإِنْ خَاضَ الْمُقَلِّدُ فِي الْمُحَاجَّةِ فَذَلِكَ مِنْهُ فُضُولٌ، وَالْمُشْتَغِلُ بِهِ ضَارِبٌ فِي حَدِيدٍ بَارِدٍ وَطَالِبٍ لِإِصْلَاحٍ فَاسِدٍ، وَهَلْ يُصْلِحُ الْعَطَّارُ مَا أَفْسَدَ الدَّهْرُ؟ هَذِهِ عِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام: شَرْطُ الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ إِذَا أَفْتَى فَهُوَ نَاقِلٌ وَحَامِلُ فِقْهٍ لَيْسَ بِمُفْتٍ وَلَا فَقِيهٍ بَلْ هُوَ كَمَنْ يَنْقُلُ فَتْوَى عَنْ إِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ أَطَالَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَذَا الْمُنْكِرِ اسْتِدْلَالُهُ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ أَتْقَنَ عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الَّذِي لَا تُعْرَفُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ وَأَسَالِيبُهُ إِلَّا بِهِ، وَذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، بَلْ وَلَا أَتْقَنَ وَاحِدًا مِنَ الْعُلُومِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى يُتْقِنَهَا، وَالْعَجَبُ مِنْ تَصَدِّيهِ لِذِكْرِ أَدِلَّةٍ وَلَوْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَدِلَّةً مُعَارِضَةً لِمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ فِيهَا، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَبْسُطَ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِذِكْرِ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ وَالْأَجْوِبَةِ عَمَّا عَارَضَهَا:
فَأَقُولُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُطْلَقُ الْإِسْلَامُ عَلَى كُلِّ دِينٍ حَقٍّ وَلَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ - وَبِهَذَا أَجَابَ ابن الصلاح - وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِسْلَامَ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَوَصْفُ الْمُسْلِمِينَ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَمْ يُوصَفْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ، فَشَرُفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَنْ وُصِفَتْ بِالْوَصْفِ الَّذِي كَانَ يُوصَفُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ نَقْلًا وَدَلِيلًا لِمَا قَامَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّاطِعَةِ، وَقَدْ خُصَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ بِخَصَائِصَ لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ سِوَاهَا إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ [فَقَطْ] ، مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ فَإِنَّهُ خِصِّيصَةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ يَتَوَضَّأُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ فَقَطْ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ.
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ فِي الزَّبُورِ يَا دَاوُدُ إِنَّهُ سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكَ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَحْمَدُ إِلَى أَنْ قَالَ: أُمَّتُهُ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ أَعْطَيْتُهُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُ الْأَنْبِيَاءَ، وَافْتَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضَ الَّتِي افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ حَتَّى يَأْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُورُهُمْ مِثْلُ نُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنِّي افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَطَهَّرُوا لِي لِكُلِّ صَلَاةٍ كَمَا افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ كَمَا أَمَرْتُ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ بِالْحَجِّ كَمَا أَمَرْتُ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْجِهَادِ كَمَا أَمَرْتُ الرُّسُلَ قَبْلَهُمْ.
وَأَخْرَجَ الغرياني فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ كعب قَالَ: أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثَ خِصَالٍ لَمْ يُعْطَهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ كَانَ النَّبِيُّ يُقَالُ لَهُ بَلِّغْ وَلَا حَرَجَ وَأَنْتَ شَهِيدٌ عَلَى قَوْمِكَ وَادْعُ أُجِبْكَ، وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وَقَالَ:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وَقَالَ:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم، وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ كعب قَالَ: فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورَيْنِ وَلِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ نُورٌ، وَلِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ شَعْرَةٍ فِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ نُورٌ، وَلِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ نُورَانِ يَمْشِي بِهِمَا كَنُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخَصَائِصُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ كِفَايَةٌ.
ذِكْرُ الْأَدِلَّةِ لِلْقَوْلِ الرَّاجِحِ: الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] وَفِي هَذَا اخْتُلِفَ فِي ضَمِيرِ هُوَ هَلْ هُوَ لِإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِلَّهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ سَيُذْكَرَانِ، وَقَوْلُهُ:{سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِمْ كَالَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ وَلَا لِاقْتِرَانِهِ بِمَا قَبْلَهُ مَعْنًى وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ السَّلَفُ مِنَ الْآيَةِ: أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ جلال الدين ابن الملقن - مُشَافَهَةً - عَنْ أبي الفرح العزي، أَنْبَأَنَا يونس بن إبراهيم عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُقَيَّرِ، أَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ نَاصِرٍ إِجَازَةً عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ مَنْدَهْ، أَنَا أَبِي، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَزِيدَ الْقَرَاطِيسِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، أَنَا أصبغ سَمِعْتُ ابن زيد يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] قَالَ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ نَسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَهَا. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابن زيد، وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالتَّفْسِيرِ وَطَبَقَتِهِ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ.
وَأَخْرَجَ ابن المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عطاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] قَالَ اللَّهُ عز وجل: {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78]، وَأَخْرَجَ ابن المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] قَالَ اللَّهُ عز وجل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]، قَالَ: - يَعْنِي مِنْ قَبْلِ الْكُتُبِ كُلِّهَا وَمِنْ قَبْلِ الذِّكْرِ - فِي هَذَا قَالَ الْقُرْآنُ.
وَأَخْرَجَ عبد الرزاق وابن المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78]، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ فِي الْكُتُبِ وَفِي هَذَا، أَيْ: فِي كِتَابِكُمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابن المنذر عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]، قَالَ: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَفِي هَذَا قَالَ الْقُرْآنُ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] قَالَ: يَعْنِي فِي الذِّكْرِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَفِي هَذَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذِهِ نُصُوصُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ أَنَّ اللَّهَ سَمَّى هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ اخْتَصَّهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَسَيَأْتِي الْأَثَرُ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن زيد فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] قَالَ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] .
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] دَعَا بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ وَهُمَا نَبِيَّانِ، ثُمَّ دَعَا بِهِ لِأُمَّتِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَلِهَذَا قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِجْمَاعِ فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِالْأَمْرَيْنِ بِبَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ وَتَسْمِيَتِهِمْ مُسْلِمِينَ وَلِهَذَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابن زيد.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، قَالَ: كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَلَكِنْ سَأَلَاهُ الثَّبَاتَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي فِي قَوْلِهِ:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، قَالَ: يَعْنِيَانِ الْعَرَبَ، وَفِي قَوْلِهِ:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي العالية فِي قَوْلِهِ:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129]، قَالَ: يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ وَهُوَ كَائِنٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاخْتِصَاصِ بِهِمْ.
فَإِنْ قُلْتَ: لَا يَلْزَمُ.
قُلْتُ: ذَاكَ لِجَهْلِكَ بِقَوَاعِدِ الْمَعَانِي فَإِنَّ تَقْدِيمَ (لَكُمْ) يَسْتَلْزِمُهُ وَيُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَهُ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] أَنَّ تَقْدِيمَ هُمْ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَكَمَا قَالَ الأصفهاني فِي قَوْلِهِ:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] أَنَّ تَقْدِيمَ (هُمْ) يُفِيدُ أَنَّ غَيْرَهُمْ يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُمُ الْمُوَحِّدُونَ.
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ مِنْ وَصْفِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ أُمَمِهِمْ، أَخْرَجَ ابن المنذر عَنْ عكرمة وَابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] الْآيَةَ. قَالَ: يَحْكُمُ بِهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ كُلُّهُمْ يَحْكُمُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ لِيَهُودَ.
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: مَا أَخْرَجَهُ إسحاق بن راهويه فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مكحول قَالَ: «كَانَ لعمر عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَتَاهُ يَطْلُبُهُ، فَقَالَ عمر: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْبَشَرِ لَا أُفَارِقُكَ، فَقَالَ الْيَهُودُ: وَاللَّهِ مَا اصْطَفَى اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَى الْبَشَرِ، فَلَطَمَهُ عمر، فَأَتَى الْيَهُودِيُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ يَا يَهُودِيُّ آدَمُ صَفِيُّ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ، بَلْ يَا يَهُودِيُّ تَسَمَّى اللَّهُ بِاسْمَيْنِ سَمَّى اللَّهُ بِهِمَا أُمَّتِي هُوَ السَّلَامُ وَسَمَّى بِهَا أُمَّتِي الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ وَسَمَّى بِهَا أُمَّتِي الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَا يَهُودِيُّ طَلَبْتُمْ يَوْمَ ذُخْرٍ لَنَا، لَنَا الْيَوْمُ وَلَكُمْ غَدٌ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى، بَلْ يَا يَهُودِيُّ أَنْتُمُ الْأَوَّلُونَ وَنَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلْ إِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي» ، هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي اخْتِصَاصِ أُمَّتِهِ بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ خَصَائِصُ لَهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْأُمَمُ مُشَارِكَةً لَهَا فِي ذَلِكَ لَمْ يَحْسُنْ إِيرَادُهُ فِي مَعْرِضِ التَّفْضِيلِ إِذَا كَانَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ: وَنَحْنُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَسَائِرُ الْأُمَمِ.
الدَّلِيلُ السَّادِسُ: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، وابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] عَنِ الحارث الأشعري عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الدَّلِيلُ السَّابِعُ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] نَحْنُ نَحْكُمُ عَلَى الْيَهُودِ وَعَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ» ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَهِمَ اخْتِصَاصَ الْإِسْلَامِ بِدِينِهِ.
الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يَمْثُلُ لِأَهْلِ كُلِّ دِينٍ دِينُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَيُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ وَأَهْلَهُ وَيَعِدُهُمُ الْخَيْرَ حَتَّى يَجِيءَ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ: رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ» ، هَذَا مَوْقُوفٌ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ يَخْتَصُّ بِهَذَا الدِّينِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ دِينٍ حَقٍّ كَمَا تَرَى حَيْثُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ:" «هُوَ السَّلَامُ وَسَمَّى أُمَّتِي الْمُسْلِمِينَ» ".
الدَّلِيلُ التَّاسِعُ: مَا أَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَا أَنِّي بَاعِثٌ نَبِيًّا أُمِّيًّا مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ طِيبَةَ عَبْدِي الْمُتَوَكِّلُ الْمُصْطَفَى، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْإِسْلَامُ مِلَّتُهُ وَأَحْمَدُ اسْمُهُ.
فَهَذَا صَرِيحٌ فِي اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِمِلَّتِهِ، وَهَذَا الْأَثَرُ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الشِّفَا فِي كِتَابِهِ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ قَرَأَهُ وَسَمِعَهُ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي العالية قَالَ: بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَمِلَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ.
الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] هُوَ تَوْسِعَةُ الْإِسْلَامِ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَمِنَ الْكَفَّارَاتِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَمَا عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فِي أَنْ نَسْرِقَ أَوْ نَزْنِيَ؟ قَالَ: بَلَى، قِيلَ:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، قَالَ: الْإِصْرُ الَّذِي كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وُضِعَ عَنْكُمْ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ السَّهْلَةُ الْوَاسِعَةُ بِخِلَافِ [دِينِ] الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْإِصْرِ وَالضِّيقِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى إِسْلَامًا.
الدَّلِيلُ الْحَادِي عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ أحمد عَنْ أبي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» ، وَأَخْرَجَ ابن المنذر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، قَالَ: الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» ، وَالْحَنِيفِيَّةُ هِيَ الْإِسْلَامُ لِمَا أَخْرَجَ ابن المنذر عَنِ السدي قَالَ: الْحَنِيفُ الْمُسْلِمُ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَصْبَحْتُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَعَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
فَقَوْلُهُ: " حَنِيفًا مُسْلِمًا " تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: " وَعَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ "، فَعُلِمَ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ الْإِسْلَامِ بِمِلَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي بُعِثَ بِهَا مُوَافِقًا لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67] هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى تُسَمَّى الْيَهُودِيَّةَ، وَشَرِيعَةَ عِيسَى تُسَمَّى النَّصْرَانِيَّةَ، وَشَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ تُسَمَّى الْحَنِيفِيَّةَ وَبِهَا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَمْ يَدَّعُوا قَطُّ أَنَّ شَرِيعَتَهُمْ تُسَمَّى الْإِسْلَامَ وَلَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يُسَمَّى مُسْلِمًا.
الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135] هَذِهِ الْآيَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَالصَّرَاحَةِ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا اسْمَ الْإِسْلَامِ لَهُمْ قَطُّ.
الدَّلِيلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65] أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابن المنذر عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمُ الَّذِينَ حَاجُّوا فِي إِبْرَاهِيمَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَاتَ يَهُودِيًّا، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فَكَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ بَعْدَ التَّوْرَاةِ، وَكَانَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بَعْدَ الْإِنْجِيلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ إِبْرَاهِيمُ نَصْرَانِيًّا. وَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ إِنَّمَا أُنْزِلَتَا مِنْ
بَعْدِهِ، وَبَعْدُ كَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ تُسَمَّى يَهُودِيَّةً، وَشَرِيعَةَ الْإِنْجِيلِ تُسَمَّى نَصْرَانِيَّةً، وَلَا يُسَمَّى وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِسْلَامًا.
الدَّلِيلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران: 20] هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ خَاصٌّ بِهَذَا الدِّينِ، وَإِلَّا لَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ نَحْنُ مُسْلِمُونَ وَدِينُنَا إِسْلَامٌ.
الدَّلِيلُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي فِي حَقِّ وَرَقَةَ، وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَوْ كَانَ الدِّينُ الْحَقُّ مِنْ مِلَّةِ عِيسَى يُسَمَّى إِسْلَامًا وَصَاحِبُهُ مُسْلِمٌ لَقَالَ: وَكَانَ امْرَءًا أَسْلَمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
الدَّلِيلُ السَّابِعَ عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وأبو الشيخ ابن حبان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: تَسَمَّتِ الْيَهُودُ بِالْيَهُودِيَّةِ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا مُوسَى: " إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ "، وَتَسَمَّتِ النَّصَارَى بِالنَّصْرَانِيَّةِ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا عِيسَى:" مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ "، فَتَسَمَّوْا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ سُمُّوا بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمَا، وَلَمْ يُسَمَّوْا بِالْمُسْلِمِينَ قَطُّ، وَلَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا عَنْهُمْ، فَكَيْفَ يُدَّعَى لَهُمْ وَصْفٌ شَرِيفٌ لَمْ يَدَّعُوهُ هُمْ لِأَنْفُسِهِمْ؟
الدَّلِيلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ أبو داود وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاةً لَا يَكَادُ يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَكَانَتْ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ " الْحَدِيثَ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ دِينَ مُوسَى الْحَقُّ كَانَ يُسَمَّى يَهُودِيَّةً لَا إِسْلَامًا.
الدَّلِيلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» سَمَّى صلى الله عليه وسلم الْوَاحِدَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَلَمْ يُطْلِقْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ لَفْظَ الْإِسْلَامِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى.
الدَّلِيلُ الْعِشْرُونَ: إِطْبَاقُ أَلْسِنَةِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعِهِمْ، وَالْمُجْتَهِدِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ فُنُونِهِمْ، وَالْمُسْلِمِينَ بِأَسْرِهِمْ حَتَّى
النِّسَاءُ فِي قَعْرِ بُيُوتِهِنَّ، وَالْأَطْفَالُ، وَالْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسُ، وَسَائِرُ الْفِرَقِ حَتَّى الْحَيَوَانَاتُ، وَالْحَجَرُ، وَالشَّجَرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلَى تَسْمِيَةِ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ مُوسَى يَهُودِيًّا، وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ عِيسَى نَصْرَانِيًّا، وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا، لَا يَمْتَرِي فِي ذَلِكَ كَبِيرٌ، وَلَا صَغِيرٌ، وَلَا عَالِمٌ، وَلَا جَاهِلٌ، وَلَا مُسْلِمٌ، وَلَا كَافِرٌ، فَتَرَى هَذَا الْإِطْبَاقَ نَاشِئٌ عَنْ لَا شَيْءَ، وَمَبْنِيٌّ عَلَى فَسَادٍ؟ كَلَّا بَلْ هُوَ الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ.
ذِكْرُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا لِلْقَوْلِ الْآخَرِ: اسْتَنَدَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35] . وَالْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ مَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ كَانَ يُطْلَقُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالْبَيْتُ الْمَذْكُورُ بَيْتُ لُوطٍ عليه السلام، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْلِمٌ إِلَّا هُوَ وَبَنَاتُهُ، وَهُوَ نَبِيٌّ، فَصَحَّ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِالْأَصَالَةِ، وَأُطْلِقَ عَلَى بَنَاتِهِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُخْتَصَّ أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ بِخَصَائِصَ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا بَقِيَّةَ الْأُمَّةِ، كَمَا اخْتَصَّ السَّيِّدُ إبراهيم ابْنُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاشَ لَكَانَ نَبِيًّا، وَكَمَا اخْتُصَّتْ فاطمة بِأَنَّهُ لَا يُتَزَوَّجُ عَلَيْهَا، وَكَمَا اخْتُصَّتْ أَيْضًا بِأَنَّهَا تَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ، وَكَذَلِكَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اخْتُصُّوا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، والحسن، والحسين اخْتُصُّوا بِجَوَازِ الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْجَنَابَةِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَذَلِكَ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُوصَفَ أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا وُصِفَ بِهِ آبَاؤُهُمْ تَبَعًا لَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ عليه السلام:{قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} [البقرة: 133]- إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ يُوسُفَ وَهُوَ نَبِيٌّ قَطْعًا فَلَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى الْجَوَابَ فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْأَصَالَةِ وَأَدْرَجَ إِخْوَتَهُ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ وَإِنْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ فَلَا إِشْكَالَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ فَإِنَّهُ خَاطَبَهُمْ وَفِيهِمْ أَخُوهُ هَارُونُ وَيُوشَعُ، وَهُمَا نَبِيَّانِ فَأُدْرِجَ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ فِي الْوَصْفِ تَغْلِيبًا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِنْ كُنْتُمْ مُنْقَادِينَ لِي فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ أُورِدَتْ عَلَيَّ مَرَّةً
فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ فَأَجَبْتُ فِيهَا بِذَلِكَ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا اسْتَنَدَ إِلَيْهَا، نَعَمْ رَأَيْتُ ابْنَ الصَّلَاحِ اسْتَنَدَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] ، وَهَذَا مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ، وَيَعْقُوبَ لِبَنِيهِ، وَفِي بَنِي كُلٍّ أَنْبِيَاءُ فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ طَرْدُهُ فِي أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى، لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ تُسَمَّى الْإِسْلَامَ، وَبِهَا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَوْلَادُ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهَا فَصَحَّ أَنْ يُخَاطَبُوا بِذَلِكَ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَنْ مِلَّتُهُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَى ابن الصلاح فِي اخْتِيَارِهِ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وَقَالَ: فَمَا فَائِدَةُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يُسَمَّى مُسْلِمًا، وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ مَا رَجَّحْنَاهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَمِ وَإِنْ كَانَ مَا وَرَدَ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ فَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى نَبِيٍّ أَوْ وَلَدِ نَبِيٍّ تَبَعًا لَهُ أَوْ جَمَاعَةٍ فِيهِمْ نَبِيٌّ غَلَبَ لِشَرَفِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] فَإِنَّ الْحَوَارِيِّينَ [أَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ]، فِيهِمُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 13] نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَنْبِيَاءُ، وَيُرَشِّحُهُ ذِكْرُ الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي قَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] أَيِ الَّذِينَ انْقَادُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ لِأُولِي الْعَزْمِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَيَأْتُونَ بِالشَّرَائِعِ، انْتَهَى.
فَصْلٌ: قَالَ قَائِلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] الْآيَةَ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ اسْتِوَاءُ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ، وَلَيْسَ الْإِسْلَامُ اسْمًا لِلتَّوْحِيدِ فَقَطْ بَلْ لِمَجْمُوعِ الشَّرِيعَةِ بِفُرُوعِهَا وَأَعْمَالِهَا، فَالْمُسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْمَالِ، أَوْ يَزْعُمَ اسْتِوَاءَ الشَّرَائِعِ فِي الْفُرُوعِ، وَكِلَاهُمَا جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ الِاسْتِوَاءُ لَمْ يَصْلُحِ الِاسْتِدْلَالُ ; لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِي أَمْرٍ لَفْظِيٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ تُسَمَّى تِلْكَ الشَّرَائِعُ إِسْلَامًا أَوْ لَا تُسَمَّى؟ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اتِّفَاقِهَا فِي الْفُرُوعِ وَاخْتِلَافِهَا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى قَاعِدَةِ أَنَّ
الْإِطْلَاقَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْوُرُودِ، وَالَّذِي وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ وَالْأَثَرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ إِسْلَامٌ وَإِنْ كَانَ حَقًّا، كَمَا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ قُرْآنٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الضَّمِّ وَالْجَمْعِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَوَاخِرِ آيِ الْقُرْآنِ سَجْعٌ بَلْ فَوَاصِلُ وُقُوفًا مَعَ مَا وَرَدَ، كَمَا قَالَ النووي: أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عز وجل وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا جَلِيلًا، وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ كُلُّ ذَلِكَ وُقُوفًا مَعَ الْوُرُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابن زيد أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وابن زيد أَحَدُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ الْعَالِمِينَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّفْسِيرِ، أَفَتَرَاهُ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ؟
كَلَّا لَمْ يَغْفُلْ عَنْهَا، بَلْ عَلِمَ تَأْوِيلَهَا وَاطَّلَعَ عَلَى مَدْرَكِ الْجَوَابِ عَنْهَا، فَنَفَى وَهُوَ آمِنٌ مِنْ إِيرَادِهَا عَلَيْهِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ بِكِتَابِ اللَّهِ، حَيْثُ نَصَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِأُمَّتِهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِيِّ مُبَيِّنًا بِهِ تَمْيِيزَ أُمَّتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَهِمَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّ الْآيَ الْأُخَرَ لَا تُعَارِضُهَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مُسْلِمُونَ لَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ لَهُ: وَأُمَّةُ مُوسَى أَيْضًا مُسْلِمُونَ فَلَا مَزِيَّةَ لِأُمَّتِكَ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ الْعَجَبِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَضَلِّعٍ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ: الْمُجْمَلُ وَالْمُبْهَمُ، وَالْمُحْتَمَلُ، وَكُلٌّ مِنَ الثَّلَاثَةِ مُحْتَاجٌ إِلَى السُّنَّةِ تُبَيِّنُهُ وَتُعَيِّنُهُ وَتُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:" إِنَّهُ سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ، فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ ". وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَرْسَلَهُ إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَخَاصِمْهُمْ وَلَا تُحَاجِجْهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ ذُو وُجُوهٍ، وَلَكِنْ خَاصِمْهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْهُمْ فِي بُيُوتِنَا نَزَلَ، قَالَ: صَدَقْتَ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ تَقُولُ وَيَقُولُونَ، وَلَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَنِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَحَاجَّهُمْ بِالسُّنَنِ فَلَمْ تَبْقَ بِأَيْدِيهِمْ حُجَّةٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ: مُبَيِّنَةٌ لَهُ وَمُفَسِّرَةٌ، وَقَالَ الإمام فخر الدين: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى قِسْمَيْنِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ ; لِيَكُونَ فِيهِ مَجَالٌ لِكُلِّ ذِي مَذْهَبٌ فَيَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ طَمَعًا أَنْ يَجِدَ كُلٌّ فِيهِ مَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَهُ وَيَنْصُرُ مَقَالَتَهُ فَيَجْتَهِدُونَ فِي التَّأَمُّلِ فِيهِ، فَإِذَا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَخَلَّصُ الْمُبْطِلُ مِنْ بَاطِلِهِ وَيَتَّصِلُ إِلَى الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَمَا كَانَ مُطَابِقًا إِلَّا لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ وَكَانَ
بِصَرِيحِهِ مُبْطِلًا لِكُلِّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَنْفِرُ أَرْبَابُ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَبُولِهِ وَعَنِ النَّظَرِ فِيهِ، قَالَ: وَأَيْضًا إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُتَشَابِهِ افْتَقَرَ إِلَى الْعِلْمِ بِطَرِيقِ التَّأْوِيلَاتِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَافْتَقَرَ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ، وَالنَّحْوِ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ مَزِيدُ مَشَقَّةٍ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَزِيَادَةُ الْمَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ وَكَانَ يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِ الْحَقِّ مِنْهُ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ، هَذَا كَلَامُ الإمام فخر الدين.
قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَحِلُّ لِمَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ وَاحِدًا مِنَ الْعُلُومِ الْمُشْتَرَطَةِ التَّكَلُّمُ فِي الْقُرْآنِ وَعِدَّتُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَنْ يَتَجَرَّأَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ أَوْ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ جَاهِلًا بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ شُرُوطِهِ؟ وَمِثْلُ هَذَا هُوَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَدْ كَفَرَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ يَعْمِدُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِآيَاتٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُعَارِضِهَا وَعَنِ النَّظَرِ فِيهَا هَلْ هِيَ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَاهِرِهَا أَوْ لَا؟ وَقَدْ أَوْجَبَ أَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَدِلِّ بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْمُعَارِضِ وَجَوَابِهِ وَعَنِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ هَلْ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ؟ وَهَذَا نَطْحٌ مَعَ النَّاطِحِينَ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَلَا مُرَاعَاةٍ لِشَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ، فَلَوِ اسْتَحْيَا هَذَا الرَّجُلُ مِنَ اللَّهِ لَوَقَفَ عِنْدَ مَرْتَبَتِهِ وَهِيَ التَّقْلِيدُ وَتَرْكُ الِاسْتِدْلَالِ لِأَهْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْمُجْتَهِدُونَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُجَاهِدٌ، وأبو العالية، والضحاك، وَغَيْرُهُمْ: أُولُو الْأَمْرِ هُمْ أُولُو الْفِقْهِ، وَأُولُو الْخَبَرِ، وَلَفْظُ مُجَاهِدٍ: هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبي العالية فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَلَا يُسَمَّى فَقِيهًا وَلَا عَالِمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ، وَامْتِنَاعُ إِطْلَاقِ
الْفَقِيهِ وَالْعَالِمِ عَلَى الْمُقَلِّدِ كَامْتِنَاعِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ خُصُوصِيَّةً مِنَ اللَّهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يُفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
فَصْلٌ: ثُمَّ ظَهَرَ لِي دَلِيلٌ (حَادٍ وَعِشْرُونَ) وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أحمد وَغَيْرُهُ عَنْ عبد الله بن ثابت قَالَ: «جَاءَ عمر إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ قُرَيْظَةَ فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عمر: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ لَضَلَلْتُمْ إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ» . هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لَا تُسَمَّى إِسْلَامًا ; لِأَنَّ عمر لَمَّا رَأَى غَضَبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِتَابَتِهِ جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ بَادَرَ إِلَى قَوْلِهِ: " رَضِينَا بِالْإِسْلَامِ دِينًا " لِيُبْرِئَ نَفْسَهُ مِنَ الرِّضَا بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَاتِّبَاعِهَا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ سُرِّيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ عمر وَهُوَ اقْتِصَارُهُ عَلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ.
دَلِيلٌ ثَانٍ وَعِشْرُونَ: وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ وَقَدْ سَأَلَهُ مَا الْإِسْلَامُ؟ فَقَالَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ» ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ:«وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ» ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا الْمَجْمُوعُ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ اللَّامَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لِلْعَهْدِ وَهِيَ الْخَمْسُ، وَلَمْ تُكْتَبِ الْخَمْسُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عطاء، وَالْحَجُّ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ مِنْ خَصَائِصِهَا أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَثَرِ وَهْبٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا، وَالْأُمَمُ السَّابِقَةُ لَمْ تَعْمَلْهَا فَلَا يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ.
تَحْقِيقٌ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا تَحْرِيرُ الْمَعْنَى فِي التَّخْصِيصِ بِالتَّسْمِيَةِ؟ قُلْتُ: فِيهِ مَعَانٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] : تَوْسِعَةُ الْإِسْلَامِ وَوَضْعُ الْإِصْرِ الَّذِي كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَشَرِيعَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا سُهُولَةَ فِيهَا بَلْ هِيَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ
وَالثِّقَلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ لَا تُسَمَّى إِسْلَامًا.
الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى فَوَاضِلِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ يُكْتَبْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَثَرِ وهب:" أَعْطَيْتُهُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُ الْأَنْبِيَاءَ، وَافْتَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضَ الَّتِي افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ "، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مُسْلِمِينَ كَمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَلَمْ يُسَمَّ غَيْرُهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ أبو يعلى مِنْ حَدِيثِ علي مَرْفُوعًا:" «الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» " وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَا ابْتُلِيَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فَقَامَ بِهِ كُلَّهُ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] قِيلَ مَا الْكَلِمَاتُ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا، عَشْرٌ فِي قَوْلِهِ:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة: 112] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ:{قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 1]، وَ {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج: 1] ، وَعَشْرٌ فِي الْأَحْزَابِ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَأَتَمَّهُنَّ كُلَّهُنَّ فَكَتَبَ لَهُ بَرَاءَةً، قَالَ تَعَالَى:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سِهَامُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثُونَ سَهْمًا لَمْ يُتِمَّهَا أَحَدٌ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ عليهما السلام، فَعَرَفَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ السِّهَامِ، وَلَمْ تُشْرَعْ كُلُّهَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلِهَذَا أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ.
الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ مَدَارُ مَعْنَاهُ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ وَلَمْ تُذْعِنْ أُمَّةٌ لِنَبِيِّهَا كَمَا أَذْعَنَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، فَلِذَلِكَ سُمُّوا مُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تُذْعِنُ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالشَّرَائِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ الرَّاغِبِ فَسُمُّوا مُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الْأُمَمُ كَثِيرَةَ الِاسْتِعْصَاءِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ، مِنْهَا: حَدِيثُ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» ، وَقَدْ قَالَ المقداد يَوْمَ بَدْرٍ: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ بَنُو
إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ وَاللَّهِ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَفِي لَفْظٍ: لَوْ خُضْتَ بِنَا الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، فَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَنْ سُمُّوا مُسْلِمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْإِسْلَامُ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَحْوُهُ، فَمُرَادُهُمْ بِهِ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَحْدَهُمْ دُونَ أُمَمِهِمْ ; لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» .
فَصْلٌ: لَمَّا فَرَغْتُ مِنْ تَأْلِيفِ هَذِهِ الْكُرَّاسَةِ وَاضْطَجَعْتُ عَلَى الْفِرَاشِ لِلنَّوْمِ وَرَدَ عَلَيَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 52 - 53] فَكَأَنَّمَا أُلْقِيَ عَلَيَّ جَبَلٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ظَاهِرُهَا الدَّلَالَةُ لِلْقَوْلِ بِعَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ، وَقَدْ فَكَّرْتُ فِيهَا سَاعَةً وَلَمْ يَتَّجِهْ لِي شَيْءٌ، فَلَجَأْتُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَوْتُ أَنْ يَفْتَحَ بِالْجَوَابِ عَنْهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ وَقْتَ السَّحَرِ إِذَا بِالْجَوَابِ قَدْ فُتِحَ، فَظَهَرَ لِي عَنْهَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَصْفَ فِي قَوْلِهِ: " مُسْلِمِينَ " اسْمُ فَاعِلٍ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ لَا الْحَالُ وَلَا الْمَاضِي الَّذِي هُوَ مَجَازٌ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ الْأَصْلُ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهِ عَازِمِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِهِ إِذَا جَاءَ لِمَا كُنَّا نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا مِنْ نَعْتِهِ وَوَصْفِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] فَالْوَصْفَانِ مُرَادٌ بِهِمَا الِاسْتِقْبَالُ أَيْ سَتَمُوتُ وَسَيَمُوتُونَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْحَالَ قَطْعًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَكَذَلِكَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ نَاوِينَ أَنْ سَنُسْلِمُ إِذَا جَاءَ، وَيُرَشِّحُ هَذَا الْجَوَابَ أَنَّ السِّيَاقَ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ قَصْدَهُمُ الْإِخْبَارُ بِحَقِيقَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى قَصْدِ الْإِسْلَامِ بِهِ إِذَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِهِ وَظَهَرَ لَهُمْ مِنْ دُنُوِّ زَمَانِهِ وَاقْتِرَابِ بِعْثَتِهِ، وَلَيْسَ قَصْدُهُمُ الثَّنَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي حَدِّ ذَاتِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا بِصِفَةِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ الْمَقَامُ كَمَا لَا يَخْفَى.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْآيَةِ: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ بِهِ مُسْلِمِينَ، فَوَصْفُ الْإِسْلَامِ سَبَبُهُ الْقُرْآنُ لَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَيُرَشِّحُ ذَلِكَ ذِكْرُ الصِّلَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى حَيْثُ قَالَ:" هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ مُرَادَةٌ فِي الثَّانِيَةِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا حُذِفَتْ كَرَاهَةً لِتَكْرَارِهَا فِي الْآيَةِ
مَرَّتَيْنِ، حَيْثُ ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِ:{قَالُوا آمَنَّا بِهِ} [القصص: 53] وَكُرِهَ إِعَادَتُهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي الْآيَةِ، وَحُذِفَتْ إِزَالَةً لِتَعَلُّقِ التَّكْرَارِ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الأشعري مِنْ أَنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا فَهُوَ يُسَمَّى عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا وَلَوْ فِي حَالَةِ كَفْرٍ سَبَقَتْ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ عِنْدَنَا لِعَدَمِ عِلْمِنَا بِالْخَوَاتِمِ وَالْمُسْتَقْبَلَاتِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ لَمَّا خُتِمَ لَهُمْ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا الْوَصْفِ بِالْخَاتِمَةِ، وَإِذَا كَانَ الْكَافِرُ الْمُشْرِكُ يُوصَفُ فِي حَالِ شِرْكِهِ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ عِنْدَ الأشعري لِمَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ، فَلَأَنْ يُوصَفُ بِالْإِسْلَامِ [مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ حَقٍّ لِمَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ] عِنْدَ الْخَاتِمَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَهَذَا مَعْنًى دَقِيقٌ اسْتَفَدْنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُتْقِنِ الْعُلُومَ كُلَّهَا وَيَطَّلِعَ عَلَى مَذَاهِبِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَمَدَارِكِهَا وَقَوَاعِدِهَا لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِدْلَالٌ وَلَا اسْتِنْبَاطٌ، وَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ:
لَا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ
…
لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَا
فَصْلٌ: حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَهَا بِالْإِسْلَامِ أَوِ الْإِيمَانِ خِطَابًا وَغَيْبَةً، كَقَوْلِهِ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] ، {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] . وَحَيْثُ ذَكَرَ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ لَمْ يَصِفْهُمْ قَطُّ بِإِسْلَامٍ لَا إِنْ ذَمَّهُمْ وَلَا إِنْ مَدَحَهُمْ بَلْ [قَالَ] : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} [البقرة: 62]، وَقَالَ:{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ} [الجمعة: 6] . وَقَالَ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] وَقَالَ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82] الْآيَاتِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ ذَكَرَتْ مَدْحًا لِمُؤْمِنِي النَّصَارَى وَلَمْ يُسَمِّهِمْ مُسْلِمِينَ بَلْ قَالَ: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82]، وَقَالَ فِي غَيْرِ آيَةٍ عِنْدَ مَدْحِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ وَمِنَ الْيَهُودِ:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121] ،
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 199] ، فَأَكْثَرُ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَدْحِ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هَذَا فِي كِتَابِنَا، وَأَمَّا كُتُبُهُمْ فَوَصَفَ فِيهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَمْ يَصِفْهُمْ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ الْبَتَّةَ، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ خيثمة قَالَ: مَا تَقْرَءُونَ فِي الْقُرْآنِ: " {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] " فَإِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ.
فَصْلٌ: رَأَيْتُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيِّ مَا يَشْهَدُ لِمَا قَدَّمْتُهُ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] مَا نَصُّهُ: لَمَّا قَالَ الْفَرِيقَانِ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَى دِينِهِمَا رَدَّ عَلَيْهِمَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَيْضًا نَازِلٌ بَعْدَهُ؟ قِيلَ: الْقُرْآنُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَمَا أَخْبَرَتْ كُتُبُهُمْ بِمَا ادَّعَوْا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ مُسْلِمًا كَوْنُهُ مُوَافِقًا لَهُمْ فِي الْأُصُولِ، فَهُوَ أَيْضًا مُوَافِقٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى فِي الْأُصُولِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَوَافِقُونَ فِي الْأُصُولِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُقَرِّرًا لَا شَارِعًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّقَيُّدَ بِالْقُرْآنِ مَا جَاءَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ، فَتِلَاوَتُهُ مَشْرُوعَةٌ فِي صَلَاتِنَا، وَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي صَلَاتِهِمْ.
قِيلَ: أُرِيدَ الْفُرُوعُ، وَيَكُونُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَارِعًا لَا مُقَرِّرًا ; لِأَنَّ اللَّهَ نَسَخَ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى وَعِيسَى ثُمَّ نَسَخَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم شَرِيعَتَهُمْ فَكَانَ صَاحِبَ شَرِيعَةٍ لِذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ مُوَافِقًا فِي الْأَكْثَرِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْأَقَلِّ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الْمُوَافَقَةِ، انْتَهَى كَلَامُ المرسي وَهُوَ سُؤَالٌ حَسَنٌ وَجَوَابٌ نَفِيسٌ.
فَصْلٌ: دَلِيلٌ ثَالِثٌ وَعِشْرُونَ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: نَزَلَتْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَقِيَ عَلَى تَعْظِيمِ بَعْضِ شَرِيعَتِهِ كَالسَّبْتِ وَتَرْكِ لُحُومِ الْإِبِلِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَافَّةً، وَلَا يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ; لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي التَّمَسُّكِ بِبَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمْ نَسْخَهُ، وَكَافَّةُ مَنْ وَصَفَ السِّلْمَ كَأَنَّهُ قِيلَ
ادْخُلُوا فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا - هَذِهِ عِبَارَةُ المرسي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ - وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ تَمَسَّكُوا بِبَعْضِ أُمُورِ التَّوْرَاةِ وَالشَّرَائِعِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِيهِمْ يَقُولُ: ادْخُلُوا فِي شَرَائِعِ دِينِ مُحَمَّدٍ وَلَا تَدَعُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لَا تُسَمَّى إِسْلَامًا.
تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ السبكي فِي عِبَارَتِهِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْجِنِّ عِدَّةَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَكْثِيرِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ وَالْآيَتَيْنِ قَدْ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، فَإِذَا كَثُرَتْ قَدْ تَتَرَقَّى إِلَى حَدٍّ يَقْطَعُ بِإِرَادَتِهَا ظَاهِرًا وَنَفْيِ الِاحْتِمَالِ وَالتَّأْوِيلِ عَنْهَا، انْتَهَى.
أَقُولُ: وَلِذَلِكَ أَوْرَدْنَا هُنَا ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ دَلِيلًا ; لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ مِنْهَا عَلَى انْفِرَادِهِ قَدْ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ وَتَطَرُّقُ الِاحْتِمَالِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرَتْ هَذِهِ الْكَثْرَةَ تَرَقَّتْ إِلَى حَدٍّ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إِرَادَةُ ظَاهِرِهَا وَنَفْيُ الِاحْتِمَالِ وَالتَّأْوِيلِ عَنْهَا، وَعَبَّرْتُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ دُونَ الْقَطْعِ لِأَجْلِ مَا عَارَضَهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَوْلُ الْآخَرُ، وَهَذَا مَقَامٌ لَا يُنْظَرُ فِيهِ وَيُحْكَمُ بِالتَّرْجِيحِ إِلَّا لِمُجْتَهِدٍ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
آخِرُ الْكِتَابِ: قَالَ مُؤَلِّفُهُ شَيْخُنَا نَفَعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَتِهِ: أَلَّفْتُهُ فِي شَوَّالَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
يَا مُفَرَّدًا بِاجْتِهَادٍ فِي الْأَوَانِ وَيَا
…
بَحْرَ الْوَفَا وَالصَّفَا وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ
مَا حَدُّ تَوْحِيدِنَا لِلَّهِ خَالِقِنَا
…
سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ أَيْنٍ وَعَنْ مَثَلِ
الْجَوَابُ: رُوِّينَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ المزني أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ هَذَا بَلْ أَنْهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، فَلَقَدْ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سُئِلَ مالك عَنِ الْكَلَامِ وَالتَّوْحِيدِ فَقَالَ مالك: مُحَالٌ أَنْ نَظُنَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَلَّمَ أُمَّتَهُ الِاسْتِنْجَاءَ وَلَمْ يُعَلِّمْهُمُ التَّوْحِيدَ، وَالتَّوْحِيدُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَمَا عَصَمَ بِهِ الدَّمَ وَالْمَالَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، هَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَبِهِ أَجَبْتُ.