المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[أنباء الأذكياء بحياة الأنبياء] - الحاوي للفتاوي - جـ ٢

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْمِنْحَةُ فِي السُّبْحَةِ]

- ‌[أَعْذَبُ الْمَنَاهِلِ فِي حَدِيثِ مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ]

- ‌[حُسْنُ التَّسْلِيكِ فِي حُكْمِ التَّشْبِيكِ]

- ‌[شَدُّ الْأَثْوَابِ فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ]

- ‌[الْعَجَاجَةُ الزَّرْنَبِيَّةُ فِي السُّلَالَةِ الزَّيْنَبِيَّةِ]

- ‌[آخِرُ الْعَجَاجَةِ الزَّرْنَبِيَّةِ فِي السُّلَالَةِ الزَّيْنَبِيَّةِ]

- ‌[الدُّرَّةُ التَّاجِيَّةُ عَلَى الْأَسْئِلَةِ النَّاجِيَةِ]

- ‌[رَفْعُ الْخِدْرِ عَنْ قَطْعِ السِّدْرِ]

- ‌[الْعُرْفُ الْوَرْدِيُّ فِي أَخْبَارِ الْمَهْدِيِّ]

- ‌[الْكَشْفُ عَنْ مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَلْفَ]

- ‌[الحديث المشهور على الألسنة أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْكُثُ فِي قَبْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ]

- ‌[ذِكْرُ مَا وَرَدَ أَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ]

- ‌[ذِكْرُ مَا وَرَدَ أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ]

- ‌[ذِكْرُ مُدَّةِ مُكْثِ النَّاسِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا]

- ‌[ذِكْرُ مُدَّةِ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ]

- ‌[كَشْفُ الرَّيْبِ عَنِ الْجَيْبِ]

- ‌[كِتَابُ الْبَعْثِ] [

- ‌هَلْ وَرَدَ أَنَّ الزَّامِرَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِزْمَارِهِ]

- ‌[حَدِيثُ أَوَّلُ مَا يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ]

- ‌[حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ حُورٌ عِينٌ]

- ‌[هَلْ وَرَدَ أَنَّ عَدَدَ دَرَجِ الْجَنَّةِ بِعَدَدِ آيِ الْقُرْآنِ]

- ‌[رَفْعُ الصَّوْتِ بِذَبْحِ الْمَوْتِ]

- ‌[إِتْحَافُ الْفِرْقَةِ بِرَفْوِ الْخِرْقَةِ]

- ‌[بُلُوغُ الْمَأْمُولِ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌ الْإِيمَانُ

- ‌[مَبْحَثُ الْإِلَهِيَّاتِ]

- ‌[إِتْمَامُ النِّعْمَةِ فِي اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ]

- ‌[تَنْزِيهُ الِاعْتِقَادِ عَنِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ]

- ‌[مَبْحَثُ النُّبُوَّاتِ]

- ‌[تَزْيِينُ الْآرَائِكِ فِي إِرْسَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَلَائِكِ]

- ‌[الجواب على قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبْعَثْ إِلَى الْمَلَائِكَةِ]

- ‌[ذِكْرُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي أَخَذْتُ مِنْهَا إِرْسَالَهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ]

- ‌[أَنْبَاءُ الْأَذْكِيَاءِ بِحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ]

- ‌[كِتَابُ الْإِعْلَامِ بِحُكْمِ عِيسَى عليه السلام]

- ‌[لُبْسُ الْيَلَبِ فِي الْجَوَابِ عَنْ إِيرَادِ حَلَبَ]

- ‌[مَبْحَثُ الْمَعَادِ]

- ‌[اللُّمْعَةُ فِي أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ السَّبْعَةِ]

- ‌[الِاحْتِفَالُ بِالْأَطْفَالِ]

- ‌[طُلُوعُ الثُّرَيَّا بِإِظْهَارِ مَا كَانَ خَفِيًّا]

- ‌[أَحْوَالُ الْبَعْثِ]

- ‌[تُحْفَةُ الْجُلَسَاءِ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ لِلنِّسَاءِ]

- ‌[مَسَالِكُ الْحُنَفَا فِي وَالِدَيِ الْمُصْطَفَى]

- ‌[الْفَتَاوَى الصوفية]

- ‌[الزهد]

- ‌[الْقَوْلُ الْأَشْبَهُ فِي حَدِيثِ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ]

- ‌[الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُودِ الْقُطْبِ وَالْأَوْتَادِ وَالنُّجَبَاءِ وَالْأَبْدَالِ]

- ‌[تَنْوِيرُ الْحَلَكِ فِي إِمْكَانِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ وَالْمَلَكِ]

- ‌[الْفَتَاوَى النَّحْوِيَّةُ وَمَا ضُمَّ إِلَيْهَا]

- ‌[مسائل متفرقة في النحو]

- ‌[فَجْرُ الثَّمْدِ فِي إِعْرَابِ أَكْمَلِ الْحَمْدِ]

- ‌[أَلْوِيَةُ النَّصْرِ فِي خِصِّيصَى بِالْقَصْرِ]

- ‌[الزَّنْدُ الْوَرِيُّ فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ السَّكَنْدَرِيِّ]

- ‌[رَفْعُ السِّنَةِ فِي نَصْبِ الزِّنَةِ]

- ‌[الْأَجْوِبَةُ الزَّكِيَّةُ عَنِ الْأَلْغَازِ السُّبْكِيَّةِ]

- ‌[الْأَسْئِلَةُ الْمِائَةُ]

- ‌[تَعْرِيفُ الْفِئَةِ بِأَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ الْمِائَةِ]

- ‌[الْأَسْئِلَةُ الْوَزِيرِيَّةُ وَأَجْوِبَتُهَا]

- ‌[الْأَوْجُ فِي خَبَرِ عَوْجٍ]

الفصل: ‌[أنباء الأذكياء بحياة الأنبياء]

[أَنْبَاءُ الْأَذْكِيَاءِ بِحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ]

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَقَعَ السُّؤَالُ: قَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ فِي قَبْرِهِ وَوَرَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» ، فَظَاهَرُهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ [لَهُ] فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ حَسَنٌ يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ.

فَأَقُولُ: حَيَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَبْرِهِ هُوَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعْلُومَةٌ عِنْدَنَا عِلْمًا قَطْعِيًّا لِمَا قَامَ عِنْدَنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ وَتَوَاتَرَتْ [بِهِ] الْأَخْبَارُ، وَقَدْ أَلَّفَ الْبَيْهَقِيُّ جُزْءًا فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قُبُورِهِمْ، فَمِنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ مَرَّ بِمُوسَى عليه السلام وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرِ مُوسَى عليه السلام وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهِ» ، وَأَخْرَجَ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ يوسف بن عطية قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ يَقُولُ لحميد الطويل: هَلْ بَلَغَكَ أَنَّ أَحَدًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ إِلَّا الْأَنْبِيَاءَ؟ قَالَ: لَا، وَأَخْرَجَ أبو داود وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أوس بن أوس الثقفي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ الصَّلَاةَ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَيْكَ صَلَاتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ؟ يَعْنِي: بَلِيتَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَامَ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، والأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا بُلِّغْتُهُ» .

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عمار سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكًا أَعْطَاهُ أَسْمَاعَ الْخَلَائِقِ قَائِمٌ عَلَى قَبْرِي فَمَا مِنْ أَحَدٍ يُصَلِّي عَلَيَّ صَلَاةً إِلَّا بُلِّغْتُهَا» ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ، والأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِائَةً فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، قَضَى اللَّهُ لَهُ مِائَةَ حَاجَةٍ سَبْعِينَ مِنْ حَوَائِجِ الْآخِرَةِ وَثَلَاثِينَ مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا، ثُمَّ وَكَّلَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَلَكًا يُدْخِلُهُ عَلَيَّ فِي قَبْرِي كَمَا

ص: 178

يُدْخِلُ عَلَيْكُمُ الْهَدَايَا، إِنَّ عِلْمِي بَعْدَ مَوْتِي كَعِلْمِي فِي الْحَيَاةِ» ، وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ:«يُخْبِرُنِي مَنْ صَلَّى عَلَيَّ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَأُثْبِتُهُ عِنْدِي فِي صَحِيفَةٍ بَيْضَاءَ» ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُتْرَكُونَ فِي قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ» ، وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي الْجَامِعِ قَالَ: قَالَ شَيْخٌ لَنَا: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: مَا مَكَثَ نَبِيٌّ فِي قَبْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ حَتَّى يُرْفَعَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَصِيرُونَ كَسَائِرِ الْأَحْيَاءِ يَكُونُونَ حَيْثُ يُنْزِلُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلِحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ شَوَاهِدُ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ فِي لُقِيِّهِ جَمَاعَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَكَلَّمَهُمْ وَكَلَّمُوهُ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِسْرَاءِ وَفِيهِ:«وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ» .

وَأَخْرَجَ حَدِيثَ: " «إِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ» "، وَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ رَدَّ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَرْوَاحَهُمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ النَّفْخَةَ الْأُولَى صَعِقُوا فِيمَنْ صَعِقَ ثُمَّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَوْتًا فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ إِلَّا فِي ذَهَابِ الِاسْتِشْعَارِ، انْتَهَى، وَأَخْرَجَ أبو يعلى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ لَئِنْ قَامَ عَلَى قَبْرِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَأُجِيبَنَّهُ» ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي لَيَالِيَ الْحَرَّةِ وَمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرِي وَمَا يَأْتِي وَقْتُ صَلَاةٍ إِلَّا سَمِعْتُ الْأَذَانَ مِنَ الْقَبْرِ.

وَأَخْرَجَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَّامَ الْحَرَّةِ حَتَّى عَادَ النَّاسُ، وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يُلَازِمُ الْمَسْجِدَ أَيَّامَ الْحَرَّةِ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ قَالَ: فَكُنْتُ إِذَا حَانَتِ الصَّلَاةُ أَسْمَعُ أَذَانًا يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ، وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي سَنَدِهِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مروان بن محمد عَنْ سعيد بن عبد العزيز قَالَ: لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْحَرَّةِ لَمْ يُؤَذَّنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا وَلَمْ يُقَمْ، وَلَمْ يَبْرَحْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَسْجِدَ وَكَانَ لَا يَعْرِفُ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِهَمْهَمَةٍ يَسْمَعُهَا مِنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْنَاهُ، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الشُّهَدَاءِ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]

ص: 179

وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَهُمْ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَمَا نَبِيٌّ إِلَّا وَقَدْ جَمَعَ مَعَ النُّبُوَّةِ وَصْفَ الشَّهَادَةِ، فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ.

وَأَخْرَجَ أحمد، وأبو يعلى، وَالطَّبَرَانِيُّ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَإِنْ أَحْلِفْ تِسْعًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُتِلَ قَتْلًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ نَبِيًّا وَاتَّخَذَهُ شَهِيدًا، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عائشة قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: «لَمْ أَزَلْ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ» ، فَثَبَتَ كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم حَيًّا فِي قَبْرِهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، إِمَّا مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَإِمَّا مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَمَا قُبِضُوا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، وَقَالَ القرطبي فِي التَّذْكِرَةِ فِي حَدِيثِ الصَّعْقَةِ نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ: الْمَوْتُ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشُّهَدَاءَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ وَمَوْتِهِمْ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الشُّهَدَاءِ فَالْأَنْبِيَاءُ أَحَقُّ بِذَلِكَ وَأَوْلَى، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اجْتَمَعَ بِالْأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِي السَّمَاءِ، وَرَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ وَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى كُلِّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ جُمْلَتِهِ الْقَطْعُ بِأَنَّ مَوْتَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَنْ غُيِّبُوا عَنَّا بِحَيْثُ لَا نُدْرِكُهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ أَحْيَاءً، وَذَلِكَ كَالْحَالِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ مَوْجُودُونَ أَحْيَاءً وَلَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ مِنْ نَوْعِنَا إِلَّا مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِكَرَامَتِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، انْتَهَى، وَسُئِلَ الْبَارِزِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ هُوَ حَيٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ؟ فَأَجَابَ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَجْوِبَةِ مَسَائِلِ الْجَاجِرْمِيِّينَ قَالَ: الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم حَيٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَأَنَّهُ يُسَرُّ بِطَاعَاتِ أُمَّتِهِ وَيَحْزَنُ بِمَعَاصِي الْعُصَاةِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ تَبْلُغُهُ صَلَاةُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَبْلُونَ وَلَا تَأْكُلُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَقَدْ مَاتَ مُوسَى فِي زَمَانِهِ وَأَخْبَرَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَآهُ فِي قَبْرِهِ مُصَلِّيًا، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ رَآهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَأَنَّهُ رَأَى آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ لَهُ

ص: 180

مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَإِذَا صَحَّ لَنَا هَذَا الْأَصْلُ قُلْنَا: نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم قَدْ صَارَ حَيًّا بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ شَيْخُ السُّنَّةِ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام بَعْدَمَا قُبِضُوا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، وَقَدْ رَأَى نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةً مِنْهُمْ وَأَمَّهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَأَخْبَرَ - وَخَبَرُهُ صِدْقٌ - أَنَّ صَلَاتَنَا مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ سَلَامَنَا يَبْلُغُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ: وَقَدْ أَفْرَدْنَا لِإِثْبَاتِ حَيَاتِهِمْ كِتَابًا قَالَ: وَهُوَ بَعْدَمَا قُبِضَ نَبِيُّ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ صلى الله عليه وسلم، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا عَلَى سُنَنِهِ وَأَمِتْنَا عَلَى مِلَّتِهِ وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، انْتَهَى جَوَابُ الْبَارِزِيِّ.

وَقَالَ الشَّيْخُ عفيف الدين اليافعي: الْأَوْلِيَاءُ تَرِدُ عَلَيْهِمْ أَحْوَالٌ يُشَاهِدُونَ فِيهَا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَنْظُرُونَ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءً غَيْرَ أَمْوَاتٍ كَمَا نَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُوسَى عليه السلام فِي قَبْرِهِ، قَالَ: وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا جَازَ لِلْأَنْبِيَاءِ مُعْجِزَةً جَازَ لِلْأَوْلِيَاءِ كَرَامَةً بِشَرْطِ عَدَمِ التَّحَدِّي، قَالَ: وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا جَاهِلٌ، وَنُصُوصُ الْعُلَمَاءِ فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَأَخْرَجَهُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وأبو داود فِي سُنَنِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ أبي عبد الرحمن المقري عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أبي صخر عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» . وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِبَدَنِهِ الشَّرِيفِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ تَأَمَّلْتُهُ فَفُتِحَ عَلَيَّ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ بِأَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ - وَهُوَ أَضْعَفُهَا - أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الرَّاوِيَ وَهِمَ فِي لَفْظَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ حَصَلَ بِسَبَبِهَا الْإِشْكَالُ، وَقَدِ ادَّعَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَلَكِنَّ الْأَصْلَ خِلَافُ ذَلِكَ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى.

الثَّانِي: وَهُوَ أَقْوَاهَا وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا ذُو بَاعٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ: " رَدَّ اللَّهُ " جُمْلَةٌ حَالِيَةٌ، وَقَاعِدَةُ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ إِذَا وَقَعَتْ فِعْلًا مَاضِيًا قُدِّرَتْ فِيهَا قَدْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] أَيْ: قَدْ حَصِرَتْ، وَكَذَا تُقَدَّرُ هُنَا وَالْجُمْلَةُ مَاضِيَةٌ سَابِقَةٌ عَلَى السَّلَامِ الْوَاقِعِ

ص: 181

مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَحَتَّى لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ، بَلْ مُجَرَّدُ حَرْفِ عَطْفٍ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْحَدِيثِ: مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي قَبْلَ ذَلِكَ فَأَرُدُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْإِشْكَالُ مِنْ ظَنِّ أَنَّ جُمْلَةَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَظَنِّ أَنَّ حَتَّى تَعْلِيلِيَّةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَيَّدَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّدَّ وَلَوْ أُخِذَ بِمَعْنَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَزِمَ تَكَرُّرُهُ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَكَرُّرُ الرَّدِّ يَسْتَلْزِمُ تَكْرَارَ الْمُفَارَقَةِ، وَتَكْرَارُ الْمُفَارَقَةِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَحْذُورَانِ: أَحَدُهُمَا تَأْلِيمُ الْجَسَدِ الشَّرِيفِ بِتَكْرَارِ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ أَوْ نَوْعٍ مَا مِنْ مُخَالَفَةِ التَّكْرِيمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَأْلِيمٌ، وَالْآخَرُ مُخَالَفَةُ سَائِرِ النَّاسِ الشُّهَدَاءَ وَغَيْرَهُمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَكَرَّرَ لَهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ وَعَوْدُهَا فِي الْبَرْزَخِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِالِاسْتِمْرَارِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى رُتْبَةٍ، وَمَحْذُورٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ، وَهَذَا التَّكْرَارُ يَسْتَلْزِمُ مَوْتَاتٍ كَثِيرَةً وَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَحْذُورٌ رَابِعٌ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ السَّابِقَةِ وَمَا خَالَفَ الْقُرْآنَ وَالْمُتَوَاتِرَ مِنَ السُّنَّةِ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلِ التَّأْوِيلُ كَانَ بَاطِلًا ; فَلِهَذَا وَجَبَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ أَنَّ لَفْظَ الرَّدِّ قَدْ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُفَارَقَةِ، بَلْ كَنَّى بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الصَّيْرُورَةِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ عليه السلام:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] إِنَّ لَفْظَ الْعَوْدِ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الصَّيْرُورَةِ لَا الْعَوْدُ بَعْدَ انْتِقَالٍ ; لِأَنَّ شُعَيْبًا عليه السلام لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ قَطُّ، وَحُسْنُ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْمُنَاسَبَةِ اللَّفْظِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ:" «حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» "، فَجَاءَ لَفْظُ الرَّدِّ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا، أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الرُّوحِ عَوْدَهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ لِلْبَدَنِ، وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَرْزَخِ مَشْغُولٌ بِأَحْوَالِ الْمَلَكُوتِ مُسْتَغْرِقٌ فِي مُشَاهَدَةِ رَبِّهِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فِي حَالَةِ الْوَحْيِ وَفِي أَوْقَاتٍ أُخَرَ، فَعَبَّرَ عَنْ إِفَاقَتِهِ مِنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ الِاسْتِغْرَاقِ بِرَدِّ الرُّوحِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِي اللَّفْظَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ وَهِيَ قَوْلُهُ:" «فَاسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» "، لَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِيقَاظَ مِنْ نَوْمٍ فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ لَمْ يَكُنْ مَنَامًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْإِفَاقَةُ مِمَّا خَامَرَهُ مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ، وَهَذَا الْجَوَابُ الْآنَ عِنْدِي أَقْوَى مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ لَفْظَةِ الرَّدِّ، وَقَدْ كُنْتُ رَجَّحْتُ الثَّانِيَ ثُمَّ قَوِيَ عِنْدِي هَذَا.

ص: 182

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّ الرَّدَّ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِمْرَارَ ; لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو مِنْ مُصَلٍّ عَلَيْهِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ الرُّوحِ فِي بَدَنِهِ.

السَّادِسُ: قَدْ يُقَالُ: أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْأَمْرِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ حَيًّا فِي قَبْرِهِ، فَأَخْبَرَ بِهِ ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ بِذَلِكَ، فَلَا مُنَافَاةَ لِتَأْخِيرِ الْخَبَرِ الثَّانِي عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، هَذَا مَا أَفْتَحَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَلَمْ أَرَ شَيْئًا مِنْهَا مَنْقُولًا لِأَحَدٍ، ثُمَّ بَعْدَ كِتَابَتِي لِذَلِكَ رَاجَعْتُ كِتَابَ الْفَجْرِ الْمُنِيرِ فِيمَا فُضِّلَ بِهِ الْبَشِيرُ النَّذِيرُ لِلشَّيْخِ تاج الدين بن الفاكهاني المالكي فَوَجَدْتُهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: رُوِّينَا فِي التِّرْمِذِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ عَلَى الدَّوَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مُحَالٌ عَادَةً أَنْ يَخْلُوَ الْوُجُودُ كُلُّهُ مِنْ وَاحِدٍ مُسَلِّمٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ عليه السلام: " «إِلَّا رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ رُوحِي» " لَا يَلْتَئِمُ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا عَلَى الدَّوَامِ بَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَتَعَدَّدَ حَيَاتُهُ وَوَفَاتُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ، إِذِ الْوُجُودُ لَا يَخْلُو مِنْ مُسَلِّمٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ يَتَعَدَّدُ السَّلَامُ عَلَيْهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ كَثِيرًا، فَالْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالرُّوحِ هُنَا النُّطْقُ مَجَازًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ عليه السلام: إِلَّا رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ نُطْقِي وَهُوَ حَيٌّ عَلَى الدَّوَامِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَيَاتِهِ نُطْقُهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ النُّطْقَ عِنْدَ سَلَامِ كُلِّ مُسَلِّمٍ، وَعَلَاقَةُ الْمَجَازِ أَنَّ النُّطْقَ مِنْ لَازِمِهِ وُجُودُ الرُّوحِ كَمَا أَنَّ الرُّوحَ مِنْ لَازِمِهِ وُجُودُ النُّطْقِ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ، فَعَبَّرَ عليه السلام بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ عَوْدَ الرُّوحِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] هَذَا لَفْظُ كَلَامِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنَ الْجَوَابِ لَيْسَ وَاحِدًا مِنَ السِّتَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، فَهُوَ إِنْ سَلِمَ - جَوَابٌ سَابِعٌ - وَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا فِي الْبَرْزَخِ يُمْنَعُ عَنْهُ النُّطْقُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ عَلَيْهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا بَلْ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ يَشْهَدَانِ بِخِلَافِهِ، أَمَّا النَّقْلُ فَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ عَنْ حَالِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَالِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام فِي الْبَرْزَخِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ كَيْفَ شَاءُوا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ شَيْءٍ، بَلْ وَسَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ الشُّهَدَاءُ وَغَيْرُهُمْ يَنْطِقُونَ فِي الْبَرْزَخِ بِمَا شَاءُوا غَيْرَ مَمْنُوعِينَ مِنْ شَيْءٍ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ أَحَدًا يُمْنَعُ مِنَ النُّطْقِ فِي الْبَرْزَخِ إِلَّا مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا عَنْ قيس بن قبيصة قَالَ: قَالَ

ص: 183

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْكَلَامِ مَعَ الْمَوْتَى، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَوْتَى؟ قَالَ: نَعَمْ وَيَتَزَاوَرُونَ» ، وَقَالَ الشيخ تقي الدين السبكي: حَيَاةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ فِي الْقَبْرِ كَحَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَشْهَدُ لَهُ صَلَاةُ مُوسَى فِي قَبْرِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَسْتَدْعِي جَسَدًا حَيًّا، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كُلُّهَا صِفَاتُ الْأَجْسَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا حَيَاةً حَقِيقَةً أَنْ تَكُونَ الْأَبْدَانُ مَعَهَا كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَأَمَّا الْإِدْرَاكَاتُ كَالْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْمَوْتَى، انْتَهَى، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ عَنِ النُّطْقِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَوْعُ حَصْرٍ وَتَعْذِيبٍ، وَلِهَذَا عُذِّبَ بِهِ تَارِكُ الْوَصِيَّةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْحَقُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَصْرٌ أَصْلًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَمَا قَالَ لفاطمة رضي الله عنها فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ:«لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ» وَإِذَا كَانَ الشُّهَدَاءُ وَسَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى مِنَ الْمُعَذَّبِينَ لَا يُحْصَرُونَ بِالْمَنْعِ مِنَ النُّطْقِ فَكَيْفَ بِهِ صلى الله عليه وسلم، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْ كَلَامِ الشيخ تاج الدين جَوَابٌ آخَرُ وَيُقَرَّرُ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالرُّوحِ النُّطْقَ وَبِالرَّدِّ الِاسْتِمْرَارَ مِنْ غَيْرِ مُفَارَقَةٍ عَلَى حَدِّ مَا قَرَّرْتُهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَيَكُونُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا مَجَازَانِ: مَجَازٌ فِي لَفْظِ الرَّدِّ، وَمَجَازٌ فِي لَفْظِ الرُّوحِ، فَالْأَوَّلُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَالثَّانِي مَجَازٌ مُرْسَلٌ، وَعَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ فِيهِ مَجَازٌ وَاحِدٌ فِي الرَّدِّ فَقَطْ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرُّوحُ كِنَايَةً عَنِ السَّمْعِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ يَرُدُّ عَلَيْهِ سَمْعَهُ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمُسَلِّمَ وَإِنْ بَعُدَ قُطْرُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى وَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَمْعَهُ الْمُعْتَادَ، وَقَدْ كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا حَالَةً يَسْمَعُ فِيهَا سَمْعًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ بِحَيْثُ كَانَ يَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ كَمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُعْجِزَاتِ، وَهَذَا قَدْ يَنْفَكُّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيَعُودُ لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَحَالَتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَرْزَخِ كَحَالَتِهِ فِي الدُّنْيَا سَوَاءٌ.

وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ سَمْعُهُ الْمُعْتَادُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِرَدِّهِ إِفَاقَتَهُ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ الْمَلَكُوتِيِّ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ فَيَرُدُّهُ اللَّهُ تِلْكَ السَّاعَةَ إِلَى خِطَابِ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ عَادَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِرَدِّ الرُّوحِ: التَّفَرُّغُ مِنَ الشَّغْلِ وَفَرَاغُ الْبَالِ مِمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ فِي الْبَرْزَخِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَعْمَالِ أُمَّتِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَالدُّعَاءِ بِكَشْفِ الْبَلَاءِ

ص: 184

عَنْهُمْ، وَالتَّرَدُّدِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِحُلُولِ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَحُضُورِ جِنَازَةِ مَنْ مَاتَ مِنْ صَالِحِ أُمَّتِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ جُمْلَةِ أَشْغَالِهِ فِي الْبَرْزَخِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ، فَلَمَّا كَانَ السَّلَامُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ اخْتَصَّ الْمُسَلِّمَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْرَغَ لَهُ مِنْ أَشْغَالِهِ الْمُهِمَّةِ لَحْظَةً يَرُدُّ عَلَيْهِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهُ وَمُجَازَاةً، فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَجْوِبَةٍ كُلُّهَا مِنِ اسْتِنْبَاطِي، وَقَدْ قَالَ الْجَاحِظُ: إِذَا نَكَحَ الْفِكْرُ الْحِفْظَ وَلَّدَ الْعَجَائِبَ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ حَادِي عَشَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ رُوحَ الْحَيَاةِ، بَلِ الِارْتِيَاحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] فَإِنَّهُ قُرِئَ فَرُوحٌ - بِضَمِّ الرَّاءِ - وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَحْصُلُ لَهُ بِسَلَامِ الْمُسَلِّمِ عَلَيْهِ ارْتِيَاحٌ وَفَرَحٌ وَهَشَاشَةٌ لِحُبِّهِ ذَلِكَ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ ثَانِي عَشَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الرَّحْمَةُ الْحَادِثَةُ مِنْ ثَوَابِ الصَّلَاةِ، قَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: تَكَرَّرَ ذِكْرُ الرُّوحِ فِي الْحَدِيثِ كَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَوَرَدَتْ فِيهِ عَلَى مَعَانٍ، وَالْغَالِبُ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْجَسَدُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ وَالرَّحْمَةِ وَعَلَى جِبْرِيلَ، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] بِالضَّمِّ، وَقَالَ: الرُّوحُ الرَّحْمَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الصَّلَاةَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَبْرِهِ كَمَا يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ بِالْهَدَايَا، وَالْمُرَادُ ثَوَابُ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَإِنْعَامَاتُهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ ثَالِثَ عَشَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْمَلَكُ الَّذِي وُكِّلَ بِقَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم يُبَلِّغُهُ السَّلَامَ، وَالرُّوحُ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ جِبْرِيلَ أَيْضًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: أَشْرَافُ الْمَلَائِكَةِ تُسَمَّى أَرْوَاحًا، انْتَهَى. وَمَعْنَى " «رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ رُوحِي» " أَيْ: بَعَثَ إِلَيَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِتَبْلِيغِي السَّلَامَ، هَذَا غَايَةُ مَا ظَهَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

تَنْبِيهٌ: وَقَعَ فِي كَلَامِ الشيخ تاج الدين أَمْرَانِ يَحْتَاجَانِ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَزَا الْحَدِيثَ إِلَى التِّرْمِذِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إِلَّا أبو داود فَقَطْ كَمَا ذَكَرَهُ الحافظ جمال الدين المزي فِي الْأَطْرَافِ، الثَّانِي: أَنَّهُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ " رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ " وَهُوَ كَذَلِكَ فِي سُنَنِ أبي داود، وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ [رُوحِي] وَهِيَ أَلْطَفُ وَأَنْسَبُ، فَإِنَّ بَيْنَ التَّعْدِيَتَيْنِ فَرْقًا لَطِيفًا، فَإِنَّ " رَدَّ " يَتَعَدَّى بِعَلَى فِي الْإِهَانَةِ، وَبِإِلَى فِي الْإِكْرَامِ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: رَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَطَّأَهُ، وَيَقُولُ رَدَّهُ

ص: 185

إِلَى مَنْزِلِهِ وَرَدَّ إِلَيْهِ جَوَابًا أَيْ: رَجَعَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: مِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149]، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33] ، {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} [الأنعام: 71] وَمِنَ الثَّانِي: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} [القصص: 13]، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36] ، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة: 94] ، {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] .

فَصْلٌ: قَالَ الرَّاغِبُ: مِنْ مَعَانِي الرَّدِّ التَّفْوِيضُ، يُقَالُ: رَدَدْتُ الْحُكْمَ فِي كَذَا إِلَى فُلَانٍ أَيْ: فَوَّضْتُهُ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83] انْتَهَى، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا جَوَابٌ رَابِعَ عَشَرَ عَنِ الْحَدِيثِ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ فَوَّضَ اللَّهُ إِلَيَّ رَدَّ السَّلَامِ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الرَّحْمَةُ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، فَكَانَ الْمُسَلِّمُ بِسَلَامِهِ تَعَرَّضَ لِطَلَبِ صَلَاةٍ مِنَ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، فَفَوَّضَ اللَّهُ أَمْرَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَدْعُوَ بِهَا لِلْمُسَلِّمِ فَتَحْصُلُ إِجَابَتُهُ قَطْعًا، فَتَكُونُ الرَّحْمَةُ الْحَاصِلَةُ لِلْمُسَلِّمِ إِنَّمَا هِيَ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِ، وَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الشَّفَاعَةِ فِي قَبُولِ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ فِي رُوحِي لِمُجَرَّدِ الْمُلَابَسَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ:«فَيَرُدُّهَا هَذَا إِلَى هَذَا وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مُحَمَّدٍ» ، وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ:«لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ السَّاعَةِ فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِيسَى» .

وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: إِلَّا فَوَّضَ اللَّهُ إِلَيَّ أَمَرَ الرَّحْمَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْمُسَلِّمِ بِسَبَبِي، فَأَتَوَلَّى الدُّعَاءَ بِهَا بِنَفْسِي بِأَنْ أَنْطِقَ بِلَفْظِ السَّلَامِ عَلَى وَجْهِ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ سَلَامِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ خَامِسَ عَشَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الرَّحْمَةُ الَّتِي فِي قَلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ وَالرَّأْفَةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَغْضَبُ فِي بَعْضِ

ص: 186