الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَحْيَانِ عَلَى مَنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ أَوِ انْتَهَكَ مَحَارِمَ اللَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ كَمَا فِي حَدِيثِ:«إِذَنْ تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ ذَنْبُكَ» فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَإِنْ بَلَغَتْ ذُنُوبُهُ مَا بَلَغَتْ إِلَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا حَتَّى يَرُدَّ عليه السلام بِنَفْسِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ وَبُشْرَى عَظِيمَةٌ، وَتَكُونُ هَذِهِ فَائِدَةَ زِيَادَةٍ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ فِي أَحَدِ الْمَنْفِيِّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ قَبْلَ زِيَادَتِهَا، نَصَّ فِيهِ بَعْدَ زِيَادَتِهَا بِحَيْثُ انْتَفَى بِسَبَبِهَا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصَ.
هَذَا آخِرُ مَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ الْآنَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَإِنْ فَتَحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ أَلْحَقْنَاهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ مُخَرَّجًا فِي كِتَابِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ لِلْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِ:«إِلَّا وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي» فَصَرَّحَ فِيهِ بِلَفْظِ: " وَقَدْ "، فَحَمِدْتُ اللَّهَ كَثِيرًا وَقَوِيَ أَنَّ رِوَايَةَ إِسْقَاطِهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى إِضْمَارِهَا، وَأَنَّ حَذْفَهَا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي جَنَحْتُ إِلَيْهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَقَدْ عُدْتُ الْآنَ إِلَى تَرْجِيحِهِ لِوُجُودِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَهُوَ أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ، وَمُرَادُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ يَرُدُّ إِلَيْهِ رُوحَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَصِيرُ حَيًّا عَلَى الدَّوَامِ، حَتَّى لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ سَلَامَهُ لِوُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ، فَصَارَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي حَيَاتِهِ فِي قَبْرِهِ، وَوَاحِدًا مِنْ جُمْلَتِهَا لَا مُنَافِيًا لَهَا الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: لَوْ لَمْ نَكْتُبِ الْحَدِيثَ مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا مَا عَقَلْنَاهُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الطُّرُقَ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ تَارَةً فِي أَلْفَاظِ الْمَتْنِ، وَتَارَةً فِي الْإِسْنَادِ، فَيَسْتَبِينُ بِالطَّرِيقِ الْمَزِيدِ مَا خَفِيَ فِي الطَّرِيقِ النَّاقِصَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[كِتَابُ الْإِعْلَامِ بِحُكْمِ عِيسَى عليه السلام]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَبَعْدُ: فَقَدْ وَرَدَ عَلَيَّ سُؤَالٌ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَادِسَ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ صُورَتُهُ: الْمَسْئُولُ الْجَوَابُ عَمَّا يُذْكَرُ وَهُوَ أَنَّ عِيسَى عليه السلام حِينَ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، بِمَاذَا يَحْكُمُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا أَوْ بِشَرْعِهِ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ إِنَّهُ يَحْكُمُ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا، فَكَيْفَ طَرِيقُ حُكْمِهِ بِهِ أَبِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَرِّرَةِ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَبِأَيِّ
مَذْهَبٍ هُوَ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِالِاجْتِهَادِ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ تَصِلُ إِلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي يَسْتَنْبِطُ مِنْهَا الْأَحْكَامَ، أَبِالنَّقْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ بِالْوَحْيِ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِالنَّقْلِ فَكَيْفَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ صَحِيحَ السُّنَّةِ مِنْ سَقِيمِهَا أَبِحُكْمِ الْحُفَّاظِ عَلَيْهِ أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِالْوَحْيِ فَأَيُّ وَحْيٍ هُوَ؟ أَوَحْيُ إِلْهَامٍ أَوْ بِتَنْزِيلِ مَلَكٍ، فَإِذَا كَانَ بِالثَّانِي فَأَيُّ مَلَكٍ وَكَيْفَ حُكْمُهُ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَأَرَاضِيهِ وَمَا صَدَرَ فِيهَا مِنَ الْأَوْقَافِ؟ أَيُقِرُّ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْآنَ أَوْ يَحْكُمُ فِيهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ؟
وَأَقُولُ: قَدْ وَرَدَ عَلَيَّ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ مُدَّةٍ تُقَارِبُ شَهْرَيْنِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَاءَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ وَالِدِي فَسَأَلَنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا السُّؤَالُ، وَأَجَبْتُهُ عَنْهُ بِجَوَابٍ مُخْتَصَرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ قِصَّةُ اسْتِحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عثمان وَأَخْرَجْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ غَرِيبَيْنِ خَرَّجْتُهُمَا مِنْ تَارِيخِ ابن عساكر وَأَوْرِدْتُهُمَا فِي كِتَابِ تَارِيخِ الْخُلَفَاءِ فِي تَرْجَمَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، وَهَا أَنَا ذَاكِرٌ فِي هَذِهِ الْأَوْرَاقِ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى طَرِيقِ الْبَسْطِ ذَاكِرًا فِي كُلِّ كَلِمَةٍ أُورِدُهَا مُسْتَنَدِي فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ، فَقَوْلُ السَّائِلِ بِمَاذَا يَحْكُمُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا أَوْ بِشَرْعِهِ؟ جَوَابُهُ: أَنَّهُ يَحْكُمُ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا لَا بِشَرْعِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَوَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، فَمِنْ جُمْلَةِ نُصُوصِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الخطابي فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ عِنْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ أَنَّ عِيسَى يَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْخَنَازِيرِ وَبَيَانِ أَنَّ أَعْيَانَهَا نَجِسَةٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ عِيسَى عليه السلام إِنَّمَا يَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ عَلَى حُكْمِ شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّ نُزُولَهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِنُزُولِ عِيسَى أَنَّهُ يَنْزِلُ بِشَرْعٍ يَنْسَخُ شَرْعَنَا وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، بَلْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ حَكَمًا مُقْسِطًا يَحْكُمُ بِشَرْعِنَا وَيُحْيِي مِنْ أُمُورِ شَرْعِنَا مَا هَجَرَهُ النَّاسُ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أحمد، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سمرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى مِلَّتِهِ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ ثُمَّ وَإِنَّمَا هُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ» ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَلْبَثُ الدَّجَّالُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا بِمُحَمَّدٍ وَعَلَى مِلَّتِهِ إِمَامًا مَهْدِيًّا وَحَكَمًا عَدْلًا فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَؤُمُّهُمْ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَتَلَ اللَّهُ الدَّجَّالَ وَأَظْهَرَ الْمُؤْمِنِينَ» .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عِيسَى يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ يَوْمَئِذٍ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَهَذَا الذِّكْرُ فِي الِاعْتِدَالِ مِنْ خَوَاصِّ صَلَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرْتُهُ فِي كِتَابِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْخَصَائِصِ، وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" «يَهْبِطُ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ وَيُجَمِّعُ الْجُمَعَ» "، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْزِلُ بِشَرْعِنَا ; لِأَنَّ مَجْمُوعَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَلَاةِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَكُونَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَأَخْرَجَ ابن عساكر مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا» .
وَأَخْرَجَ ابن عساكر أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا والمهدي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فِي وَسَطِهَا؟» وَقَوْلُ السَّائِلِ: وَإِذَا قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَحْكُمُ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا فَكَيْفَ طَرِيقُ حُكْمِهِ بِهِ أَبِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْمُقَرَّرَةِ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ؟ هَذَا السُّؤَالُ عَجَبٌ مِنْ سَائِلِهِ وَأَشَدُّ عَجَبًا مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: بِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، فَهَلْ خَطَرَ بِبَالِ السَّائِلِ أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ الشَّرِيفَةِ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ وَالْمُجْتَهِدُونَ مِنَ الْأُمَّةِ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكُلٌّ لَهُ مَذْهَبٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَقَدْ كَانَ فِي السِّنِينَ الْخَوَالِي نَحْوُ عَشَرَةِ مَذَاهِبَ مُقَلِّدَةٌ أَرْبَابُهَا مُدَوَّنَةٌ كُتُبُهَا وَهِيَ: الْأَرْبَعَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَمَذْهَبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَذْهَبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَمَذْهَبُ إسحاق بن راهويه، وَمَذْهَبُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَمَذْهَبُ داوود، وَكَانَ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعٌ يُفْتُونَ بِقَوْلِهِمْ وَيَقْضُونَ، وَإِنَّمَا انْقَرَضُوا بَعْدَ الْخَمْسِمِائَةِ لِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ وَقُصُورِ الْهِمَمِ، فَالْمَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ خَصَّصَ السَّائِلُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ؟ ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِنَبِيٍّ أَنَّهُ يُقَلِّدُ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا، فَإِذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ لَا يُقَلِّدُ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ أَنَّهُ يُقَلِّدُ؟ فَإِنْ قُلْتَ: فَتَعَيَّنَ حِينَئِذٍ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِالِاجْتِهَادِ، قُلْتُ: لَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْكُمُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ اجْتِهَادًا، كَمَا لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ حَكَوْا خِلَافًا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ بِمَا يَفْهَمُهُ مِنَ الْقُرْآنِ يُسَمَّى اجْتِهَادًا لَمْ تَتَّجِهْ حِكَايَةُ الْخِلَافِ.
فَإِنْ قُلْتَ: بَيِّنْ لَنَا طَرِيقَ مَعْرِفَةِ عِيسَى بِأَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِي زَمَانِهِمْ بِجَمِيعِ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ، وَبِالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ أَنَّ عِيسَى عليه السلام بَشَّرَ أُمَّتَهُ بِمَجِيءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِجُمْلَةٍ مِنْ شَرِيعَتِهِ يَأْتِي بِهَا تُخَالِفُ شَرِيعَةَ عِيسَى، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِمُوسَى وَدَاوُدَ عليهما السلام، مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَرَّبَ مُوسَى نَجِيًّا قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أُمَّةً خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أُمَّةً أَنَاجِيلِهِمْ فِي صُدُورِهِمْ يَقْرَؤُونَهَا وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ يَقْرَؤُونَ كُتُبَهُمْ نَظَرًا وَلَا يَحْفَظُونَهَا فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أُمَّةً يَأْكُلُونَ صَدَقَاتِهِمْ فِي بُطُونِهِمْ وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ إِذَا أَخْرَجَ صَدَقَتَهُ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكَلَتْهَا، فَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ لَمْ تَأْكُلْهَا النَّارُ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أُمَّةً إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ.
فَهَذِهِ أَحْكَامٌ فِي شَرْعِنَا مُخَالِفَةٌ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُوسَى فَعَلِمَهَا بِالْوَحْيِ لَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَا بِالتَّقْلِيدِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ أَيْضًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى فِي الزَّبُورِ: يَا دَاوُدُ إِنَّهُ سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكَ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ صَادِقًا نَبِيًّا لَا أَغْضَبُ عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَا يَعْصِينِي أَبَدًا، وَقَدْ غَفَرْتُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَأُمَّتُهُ مَرْحُومَةٌ أَعْطَيْتُهُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُ الْأَنْبِيَاءَ، وَافْتَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضَ الَّتِي افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ حَتَّى يَأْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُورُهُمْ مِثْلُ نُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنِّي افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَطَهَّرُوا لِي كُلَّ صَلَاةٍ كَمَا افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ كَمَا أَمَرْتُ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْحَجِّ كَمَا أَمَرْتُ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْجِهَادِ كَمَا أَمَرْتُ الرُّسُلَ قَبْلَهُمْ، يَا دَاوُدُ إِنِّي فَضَّلْتُ مُحَمَّدًا وَأُمَّتَهُ عَلَى
الْأُمَمِ كُلِّهِمْ، أَعْطَيْتُهُمْ خِصَالًا لَمْ أُعْطِهَا غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، لَا أُؤَاخِذُهُمْ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَكُلِّ ذَنْبٍ رَكِبُوهُ إِذَا اسْتَغْفَرُونِي مِنْهُ غَفَرْتُهُ، وَمَا قَدَّمُوا لِآخِرَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ طَيِّبَةً بِهِ أَنْفُسُهُمْ عَجَّلْتُهُ لَهُمْ، وَلَهُمْ عِنْدِي أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ، وَأَعْطَيْتُهُمْ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا إِذَا صَبَرُوا وَقَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ الصَّلَاةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْهُدَى إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ كعب الأحبار كَيْفَ تَجِدُ نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ كعب: نَجِدُهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَيُهَاجِرُ إِلَى طَابَةَ وَيَكُونُ مُلْكُهُ بِالشَّامِ، وَلَيْسَ بِفَاحِشٍ وَلَا بِسَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي كُلِّ سَرَّاءَ، وَيُكَبِّرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ نَجْدٍ، يُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ وَيَأْتَزِرُونَ فِي أَوْسَاطِهِمْ، يَصُفُّونَ فِي صَلَاتِهِمْ كَمَا يَصُفُّونَ فِي قِتَالِهِمْ، وَدَوِيُّهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ كَدَوِيِّ النَّحْلِ يُسْمَعُ مُنَادِيهِمْ فِي جَوِّ السَّمَاءِ.
وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صِفَتِي فِي الْإِنْجِيلِ أَحْمَدُ الْمُتَوَكِّلُ مَوْلِدُهُ مَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ إِلَى طِيبَةَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ يَجْزِي بِالْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ وَلَا يُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَأْتَزِرُونَ عَلَى أَنْصَافِهِمْ وَيُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ، أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، يَصُفُّونَ لِلصَّلَاةِ كَمَا يَصُفُّونَ لِلْقِتَالِ، قُرْبَانُهُمُ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيَّ دِمَاؤُهُمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ» ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ كعب الأحبار قَالَ: صِفَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الْآخِرِ، وَيُقَاتِلُونَ أَهْلَ الضَّلَالَةِ حَتَّى يُقَاتِلُوا الْأَعْوَرَ الدَّجَّالَ، هُمُ الْحَمَّادُونَ رُعَاةُ الشَّمْسِ، الْمُحَكِّمُونَ، إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَمْرًا قَالَ أَفْعَلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِذَا أَشْرَفَ أَحَدُهُمْ عَلَى شَرَفٍ كَبَّرَ اللَّهَ، وَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا حَمِدَ اللَّهَ، الصَّعِيدُ لَهُمْ طَهُورٌ وَالْأَرْضُ لَهُمْ مَسْجِدٌ حَيْثُ مَا كَانُوا، يَتَطَهَّرُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ، طُهُورُهُمْ بِالصَّعِيدِ كَطُهُورِهِمْ بِالْمَاءِ حَيْثُ لَا يَجِدُونَ الْمَاءَ، غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ.
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِنَا مُخَالِفَةٌ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، بَيَّنَهَا اللَّهُ لِأَنْبِيَائِهِ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ بِبَيَانٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَتَرَكْتُهَا خَوْفَ الْإِطَالَةِ، وَوَرَدَتِ الْآثَارُ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لِأَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبِهِمْ جَمِيعَ مَا هُوَ وَاقِعٌ فِي هَذِهِ
الْأُمَّةِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَفِتَنٍ وَأَخْبَارِ خُلَفَائِهَا وَمُلُوكِهَا، مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابن عساكر عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: مَثَلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَثَلُ الْقَطْرِ أَيْنَمَا يَقَعُ نَفَعَ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: كَيْفَ تَجِدُ نَعْتِي فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: خَلِيفَةُ قَرْنٍ مِنْ حَدِيدٍ أَمِيرٌ شَدِيدٌ لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِكَ خَلِيفَةٌ تَقْتُلُهُ أُمَّةٌ ظَالِمِينَ لَهُ ثُمَّ يَقَعُ الْبَلَاءُ بَعْدَهُ.
وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ دَعَا الْأُسْقُفَّ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِكُمْ؟ قَالَ: نَجِدُ صِفَتَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ محمد بن يزيد الثقفي قَالَ: اصْطَحَبَ قيس بن خرشة، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ حَتَّى إِذَا بَلَغَا صِفِّينَ وَقَفَ كعب ثُمَّ نَظَرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَيَهْرَاقَنَّ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ لَا يَهْرَاقُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، فَقَالَ قيس: مَا يُدْرِيكَ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ؟ فَقَالَ كعب: مَا مِنَ الْأَرْضِ شِبْرٌ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى مَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَخْرَجَ عبد الله بن أحمد فِي رِوَايَاتِ الزُّهْدِ عَنْ هشام بن خالد الربعي قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ تَبْكِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا وَقَدْ سَرَدْتُهَا فِي كِتَابِ الْمُعْجِزَاتِ، وَحَاصِلُهَا الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لِأَنْبِيَائِهِ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَحْكَامٍ وَمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ حَوَادِثَ وَفِتَنٍ، فَعَلِمَ الْأَنْبِيَاءُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَأْخُذُوهُ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ - هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ - وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيَّ فِي هَذَا الطَّرِيقِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مُضَمَّنًا فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَأَقُولُ: لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا اللَّازِمِ قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192] قَالَ: الْقُرْآنُ، وَفِي قَوْلِهِ:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] قَالَ: أَيْ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ: إِنَّهُ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى الْأَوَّلِينَ.
وَأَخْرَجَ عَنْ مبشر بن عبيد القرشي فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} [الشعراء: 197] قَالَ: يَقُولُ
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْقُرْآنُ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ اللَّهِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا بِعَيْنِهِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مُضَمَّنٌ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَهِيَ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَخْذًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَشْهَدُ بِذَلِكَ وَصْفُهُ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ بِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ، فَلَوْلَا أَنَّ مَا فِيهِ مَوْجُودٌ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْوَصْفُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى الْكُتُبِ فِيمَا أَخْبَرَنَا أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ كِتَابِهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ فَصَدِّقُوا، وَإِلَّا فَكَذِّبُوا.
وَأَخْرَجَ عَنِ ابن زيد فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ تَوْرَاةٍ أَوْ إِنْجِيلٍ أَوْ زَبُورٍ فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ عَلَى ذَلِكَ، كُلُّ شَيْءٍ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ مُصَدِّقٌ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا حَدَّثَ عَنْهَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18] . أَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18] قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ كُلُّ هَذَا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى» .
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هَذِهِ السُّورَةُ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى مِثْلَ مَا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَخْرَجَ عبد الرزاق عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الأعلى: 18] قَالَ: مَا قَصَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الحسن: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الأعلى: 18] قَالَ: فِي كُتُبِ اللَّهِ كُلِّهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36](أَنْ لَا تَزِرُ) الْآيَاتِ. فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ عِيسَى صلى الله عليه وسلم يُمْكِنُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْقُرْآنِ فَيَفْهَمَ مِنْهُ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى مُرَاجَعَةِ الْأَحَادِيثِ كَمَا فَهِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ قَدِ انْطَوَى عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفَهِمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفَهْمِهِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ، ثُمَّ شَرَحَهَا لِأُمَّتِهِ فِي السُّنَّةِ، وَأَفْهَامُ الْأُمَّةِ تَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِ مَا أَدْرَكَهُ صَاحِبُ النُّبُوَّةِ، وَعِيسَى صلى الله عليه وسلم نَبِيٌّ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَفْهَمَ مِنَ الْقُرْآنِ كَفَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَشَاهِدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَهِمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْقُرْآنِ - قَوْلُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه: جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي " الْأَوْسَطِ " مِنْ حَدِيثِ عائشة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: جَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الْأُمَّةُ شَرْحٌ لِلسُّنَّةِ، وَجَمِيعُ السُّنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: لَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ فِي الدِّينِ نَازِلَةٌ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فِيهَا.
وَقَالَ ابن برجان: مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِيهِ أَصْلُهُ، قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ، وَعَمِهَ مَنْ عَمِهَ، وَكَذَا كُلُّ مَا حَكَمَ أَوْ قَضَى بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ حَتَّى إِنِّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا وَسِتِّينَ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11] فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً، وَعَقَّبَهَا بِالتَّغَابُنِ لِيُظْهِرَ التَّغَابُنَ فِي فَقْدِهِ.
وَقَالَ المرسي فِي تَفْسِيرِهِ: جَمَعَ الْقُرْآنُ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ بِحَيْثُ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا حَقِيقَةً إِلَّا الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَلَا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ رَوَتْ عَنْهُ مُعْظَمَ ذَلِكَ سَادَاتُ الصَّحَابَةِ وَأَعْلَامُهُمْ، مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَمِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى قَالَ: لَوْ ضَاعَ لِي عِقَالُ بَعِيرٍ لَوَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«سَيَكُونُ فِتَنٌ، قِيلَ: وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ لَوْ أَغْفَلَ شَيْئًا لَأَغْفَلَ الذَّرَّةَ وَالْخَرْدَلَةَ وَالْبَعُوضَةَ» . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي " كِتَابِ الْعَظَمَةِ ".
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَعَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ فِيهِ خَبَرَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: أُنْزِلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ كُلُّ عِلْمٍ، وَبُيِّنَ لَنَا فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ عِلْمَنَا يَقْصُرُ عَمَّا بُيِّنَ لَنَا
فِي الْقُرْآنِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِحَدِيثٍ أَنْبَأْتُكُمْ بِتَصْدِيقِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا وَجَدْتُ مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ - رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
فَعُرِفَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ مُنْطَوِيَةٌ تَحْتَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْهَضُ لِإِدْرَاكِهَا مِنْهُ إِلَّا صَاحِبُ النُّبُوَّةِ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْعِبَادَةُ فِي الْقُرْآنِ لِلْعَامَّةِ، وَالْإِشَارَةُ لِلْخَاصَّةِ، وَاللَّطَائِفُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَالْحَقَائِقُ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَعِيسَى عليه السلام نَبِيٌّ رَسُولٌ، فَيَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ وَيَحْكُمُ بِهِ وَإِنْ خَالَفَ الْإِنْجِيلَ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ يَحْكُمُ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَهَذَانِ طَرِيقَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمِلٌ فِي مَعْرِفَةِ عِيسَى صلى الله عليه وسلم بِأَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَمَأْخَذُهُمَا قَوِيٌّ فِي غَايَةِ الِاتِّجَاهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ السبكي وَغَيْرُهُ، أَنَّ عِيسَى عليه السلام مَعَ بَقَائِهِ عَلَى نُبُوَّتِهِ - مَعْدُودٌ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَدَاخِلٌ فِي زُمْرَةِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَيٌّ مُؤْمِنًا بِهِ وَمُصَدِّقًا، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُ بِهِ مَرَّاتٍ فِي غَيْرِ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ مِنْ جُمْلَتِهَا بِمَكَّةَ، رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي " الْكَامِلِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ:«بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ رَأَيْنَا بُرْدًا وَيَدًا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا الْبُرْدُ الَّذِي رَأَيْنَا وَالْيَدُ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ سَلَّمَ عَلَيَّ» .
وَأَخْرَجَ ابن عساكر مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:«كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَوْلَ الْكَعْبَةِ، إِذْ رَأَيْتُهُ صَافَحَ شَيْئًا لَا نَرَاهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ صَافَحْتَ شَيْئًا وَلَا نَرَاهُ! قَالَ: ذَاكَ أَخِي عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، انْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى طَوَافَهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ» . فَحِينَئِذٍ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْكَامَهُ الْمُتَعَلِّقَةَ بِشَرِيعَتِهِ الْمُخَالِفَةَ لِشَرِيعَةِ الْإِنْجِيلِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي أُمَّتِهِ وَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِشَرِيعَتِهِ، فَأَخَذَهَا عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ.
وَقَدْ رَوَى ابن عساكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنَّ ابْنَ مَرْيَمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَلَا رَسُولٌ، إِلَّا أَنَّهُ خَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي» .
وَقَدْ رَأَيْتُ فِي عِبَارَةِ السبكي فِي تَصْنِيفٍ لَهُ مَا نَصُّهُ: إِنَّمَا يَحْكُمُ عِيسَى بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَتَرَجَّحُ أَنَّ أَخْذَهُ لِلسُّنَّةِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِطَرِيقِ الْمُشَافَهَةِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ هُوَ والخضر وَإِلْيَاسُ.
قَالَ الذهبي فِي " تَجْرِيدِ الصَّحَابَةِ ": عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام نَبِيٌّ وَصَحَابِيٌّ؛ فَإِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَهُوَ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا. انْتَهَى.
وَقَوْلُ السَّائِلِ: وَكَيْفَ حُكْمُهُ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، أَيُقِرُّ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْآنَ؟ كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْعَجَبِ؛ فَإِنَّ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ جَارِيَةٌ الْآنَ عَلَى غَيْرِ الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا يُقِرُّ نَبِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَوَارِيثِ: إِنَّهُ لَا يُورَّثُ بَيْتُ الْمَالِ إِلَّا عِنْدَ انْتِظَامِهِ، وَانْتِظَامُهُ أَنْ يَكُونَ كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَهُوَ قَبْلَ الْأَرْبَعِمِائَةِ: لِبَيْتِ الْمَالِ سِنِينٌ كَثِيرَةٌ مَا اسْتَقَامَ، فَكَيْفَ قُرْبَ التِّسْعِمِائَةِ وَلَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً، وَقَدْ أَلَّفْتُ كِتَابًا فِي آدَابِ الْمُلُوكِ، مَنْ طَالَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ عَلِمَ أَنَّ غَالِبَ أُمُورِ بَيْتِ الْمَالِ جَارِيَةٌ الْآنَ عَلَى غَيْرِ الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ المهدي يَأْتِي قَبْلَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا بَعْدَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَأْتِي عِيسَى فَيُقِرُّ صُنْعَ المهدي، وَمِمَّا يَعْدِلُ فِيهِ المهدي أَنَّهُ يُقَسِّمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيْئَهُمُ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وُلَاةُ الْأَتْرَاكِ وَأَكَلُوهُ وَاسْتَبَدُّوا بِهِ دُونَهُمْ.
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وأبو نعيم، والحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ سمرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ يَمْلَأَ اللَّهُ أَيْدِيَكُمْ مِنَ الْعَجَمِ، فَيَأْكُلُونَ فَيْئَكُمْ» .
وَوَرَدَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وحذيفة، وابن عمرو، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أم سلمة قَالَتْ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي المهدي أَنَّهُ يُقَسِّمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيْئَهُمْ، وَيَعْمَلُ فِيهِمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم، وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ إِلَى الْأَرْضِ، يَمْكُثُ سَبْعَ سِنِينَ» .
وَأَخْرَجَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وأبو يعلى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُبَشِّرُكُمْ بالمهدي، يُبْعَثُ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنَ النَّاسِ وَزَلَازِلَ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ، يُقَسِّمُ الْمَالَ صِحَاحًا. قِيلَ: مَا صِحَاحًا؟ قَالَ: بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَمْلَأُ قُلُوبَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ غِنًى، وَيَسَعُهُمْ عَدْلُهُ، حَتَّى يَأْمُرَ مُنَادِيًا فَيُنَادِيَ: مِنْ لَهُ فِي مَالٍ حَاجَةٌ، فَمَا يَقُومُ مِنَ النَّاسِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ كَذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ» .
وَقَوْلُ السَّائِلِ: وَمَا صَدَرَ فِيهَا مِنَ الْأَوْقَافِ؟ جَوَابُهُ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا وَقْفًا عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْقُرَّاءِ، وَذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَقَارِبِهِ، وَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَرْضَى، وَالزَّمْنَى، وَالْمُنْقَطِعِينَ، وَالْمَدَارِسِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالْحَرَمَيْنِ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، فَهُوَ وَقْفٌ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ، فَيُقِرُّهُ، وَمَا كَانَ مُوقَفًا عَلَى نِسَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَوْلَادِهِمْ فَهُوَ وَقْفٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، فَيُبْطِلُهُ.
ثُمَّ ظَهَرَ لِي طَرِيقٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنَّ عِيسَى عليه السلام إِذَا نَزَلَ يَجْتَمِعُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَرْضِ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، وَمُسْتَنَدِي فِي هَذَا الطَّرِيقِ أُمُورٌ:
الْأَوَّلُ: مَا أَخْرَجَهُ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ لَئِنْ قَامَ عَلَى قَبْرِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لِأُجِيبَنَّهُ» .
وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيُهْبِطَنَّ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، وَإِمَامًا مُقْسِطًا، فَلَيَسْلُكَنَّ فَجَّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَلَيَقِفَنَّ عَلَى قَبْرِي فَلَيُسَلِّمَنَّ عَلَيَّ، وَلَأَرُدَنَّ عَلَيْهِ» .
الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ كَانَ يَرَى الْأَنْبِيَاءَ وَيَجْتَمِعُ بِهِمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ رَأَى عِيسَى فِي الطَّوَافِ، وَصَحَّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى مُوسَى وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» ، وَصَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ يُصَلُّونَ» ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَزَلَ عِيسَى عليه السلام إِلَى الْأَرْضِ يَرَى الْأَنْبِيَاءَ وَيَجْتَمِعُ بِهِمْ وَمِنْ جُمْلَتِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْخُذُ عَنْهُ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ جَمَاعَةَ أَئِمَّةِ الشَّرِيعَةِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مِنْ كَرَامَةِ الْوَلِيِّ أَنْ يَرَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَجْتَمِعُ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ، وَيَأْخُذُ عَنْهُ مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ مَعَارِفَ وَمَوَاهِبَ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ: الْغَزَالِيُّ، والبارزي، والتاج ابن السبكي، والعفيف اليافعي، وَمِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ القرطبي، وابن أبي جمرة، وابن الحاج فِي " الْمَدْخَلِ ".
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ فَقِيهٍ، فَرَوَى ذَلِكَ الْفَقِيهُ حَدِيثًا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ، فَقَالَ الْفَقِيهُ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِكَ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَقُلْ هَذَا الْحَدِيثَ، وَكُشِفَ لِلْفَقِيهِ فَرَآهُ، وَقَالَ الشيخ أبو الحسن الشاذلي: لَوْ حُجِبْتُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا عَدَدْتُ نَفْسِي مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعِيسَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِذَلِكَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، وَيَأْخُذَ عَنْهُ مَا أَرَادَ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى اجْتِهَادٍ، وَلَا تَقْلِيدٍ لِحُفَّاظِ الْحَدِيثِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَمَّا أَكْثَرَ الْحَدِيثَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَالَ: لَئِنْ نَزَلَ عِيسَىابْنُ مَرْيَمَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ لَأُحَدِّثَنَّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيُصَدِّقُنِي. فَقَوْلُهُ: فَيُصَدِّقُنِي
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى عليه السلام عَالِمٌ بِجَمِيعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَأْخُذَهَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ، حَتَّى إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ الَّذِي سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ يُصَدِّقُهُ فِيمَا رَوَاهُ وَيُزَكِّيهِ، هَذَا آخِرُ الْجَوَابِ، ثُمَّ إِنَّ مَوْلَانَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَخَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَابْنَ عَمِّ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ الْإِمَامَ، الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ، أَعَزَّهُ اللَّهُ وَأَعَزَّ بِهِ الدِّينَ، وَهُوَ الْآمِرُ بِالْكِتَابَةِ أَوَّلًا - أَعَادَ الْأَمْرَ ثَانِيًا، هَلْ ثَبَتَ أَنَّ عِيسَى عليه السلام بَعْدَ نُزُولِهِ يَأْتِيهِ وَحْيٌ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، رَوَى مُسْلِمٌ، وأحمد، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، مِنْ حَدِيثِ النواس بن سمعان قَالَ:«ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ - إِلَى أَنْ قَالَ -: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، فَيَتْبَعُهُ فَيُدْرِكُهُ، فَيَقْتُلُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ الشَّرْقِيِّ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَىابْنِ مَرْيَمَ» أَنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا مِنْ عِبَادِي لَا يَدَانِ لَكَ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّرْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ الْحَدِيثَ.
فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بَعْدَ النُّزُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَائِيَ إِلَيْهِ بِالْوَحْيِ جِبْرِيلُ عليه السلام، بَلْ هُوَ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ وَلَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَظِيفَتُهُ، وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ وَرَقَةُ لخديجة: جِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُسُلِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي " كِتَابِ الْعَظَمَةِ "، عَنِ ابن سابط قَالَ: فِي أُمِّ الْكِتَابِ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوُكِّلَ بِهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَوُكِّلَ جِبْرِيلُ بِالْكُتُبِ وَالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَوُكِّلَ أَيْضًا بِالْهَلَكَاتِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا، وَوَكَّلَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَوُكِّلَ مِيكَائِيلُ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَوُكِّلَ مَلَكُ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَارَضُوا بَيْنَ حِفْظِهِمْ وَبَيْنَ مَا كَانَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَيَجِدُونَهُ سَوَاءً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ جِبْرِيلُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينَ اللَّهِ إِلَى رُسُلِهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: جِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَمِيكَائِيلُ يَتَلَقَّى الْكُتُبَ، وَإِسْرَافِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاجِبِ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عبد العزيز بن عمير قَالَ: اسْمُ جِبْرِيلَ فِي الْمَلَائِكَةِ خَادِمُ رَبِّهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ كعب قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ أَمْرًا جَاءَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ حَتَّى يُصَفِّقَ جَبْهَةَ إِسْرَافِيلَ، فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا الْأَمْرُ مَكْتُوبٌ فَيُنَادِي جِبْرِيلَ فَيُلَبِّيهِ، فَيَقُولُ: أُمِرْتَ بِكَذَا أُمِرْتَ بِكَذَا، فَيَهْبِطُ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيُوحِي إِلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أبي بكر الهذلي قَالَ: إِذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْأَمْرِ تَدَلَّتِ الْأَلْوَاحُ عَلَى إِسْرَافِيلَ بِمَا فِيهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا إِسْرَافِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلَ فَيُجِيبُهُ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أبي سنان قَالَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ بِشَيْءٍ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ، فَيَجِيءُ اللَّوْحُ حَتَّى يَقْرَعَ جَبْهَةَ إِسْرَافِيلَ، فَيَنْظُرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ دَفَعَهُ إِلَى مِيكَائِيلَ، وَإِنْ كَانَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَفَعَهُ إِلَى جِبْرِيلَ، فَأَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّوْحُ، يُدْعَى بِهِ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ، فَيَقُولُ إِسْرَافِيلُ، فَيُدْعَى إِسْرَافِيلُ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَغَكَ اللَّوْحُ؟ فَإِذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ اللَّوْحُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانِي مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ، ثُمَّ كَذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُعِيَ إِسْرَافِيلُ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُ، فَيُقَالُ: مَا صَنَعْتَ فِيمَا أَدَّى إِلَيْكَ اللَّوْحُ؟ فَيَقُولُ: بَلَّغْتُ جِبْرِيلَ، فَيُدْعَى جِبْرِيلُ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُ، فَيُقَالُ: مَا صَنَعْتَ فِيمَا بَلَّغَكَ إِسْرَافِيلُ؟ فَيَقُولُ: بَلَّغْتُ الرُّسُلَ فَيُؤْتَى بِالرُّسُلِ، فَيُقَالُ: مَا صَنَعْتُمْ فِيمَا أَدَّى إِلَيْكُمْ جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُونَ: بَلَّغْنَا النَّاسَ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] .
وَأَخْرَجَ ابن المبارك فِي " الزُّهْدِ "، عَنِ ابن أبي جبلة بِسَنَدِهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِسْرَافِيلُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: هَلْ بَلَّغْتَ عَهْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ رَبِّ قَدْ بَلَّغْتُ جِبْرِيلَ، فَيُدْعَى جِبْرِيلُ، فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَكَ إِسْرَافِيلُ عَهْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُخَلَّى عَنْ إِسْرَافِيلَ، فَيَقُولُ لِجِبْرِيلَ: مَا صَنَعْتَ فِي عَهْدِي؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ بَلَّغْتُ الرُّسُلَ. فَيُدْعَى الرُّسُلُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ جِبْرِيلُ عَهْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُخَلَّى عَنْ جِبْرِيلَ - الْحَدِيثَ.
فَعُرِفَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآثَارِ اخْتِصَاصُ جِبْرِيلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَعُرِفَ بِهَا أَيْضًا أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَلَقَّى الْوَحْيَ عَنِ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ إِسْرَافِيلَ، وَقَدْ كُنَّا سُئِلْنَا عَنْ ذَلِكَ مُنْذُ أَيَّامٍ.
خَاتِمَةٌ: اشْتَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ أَنَّ جِبْرِيلَ لَا يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا شَيْءٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي " الْكَبِيرِ "، «عَنْ ميمونة
بنت سعد قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَرْقُدُ الْجُنُبُ؟ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَرْقُدَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُتَوَفَّى فَلَا يَحْضُرُهُ جِبْرِيلُ» .
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَحْضُرُ مَوْتَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ.
ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى حَدِيثٍ آخَرَ فِيهِ نُزُولُ جِبْرِيلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي " كِتَابِ الْفِتَنِ "، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَصْفِ الدَّجَّالِ قَالَ:«فَيَمُرُّ بِمَكَّةَ، فَإِذَا هُوَ بِخَلْقٍ عَظِيمٍ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا مِيكَائِيلُ بَعَثَنِي اللَّهُ لِأَمْنَعَهُ مِنْ حَرَمِهِ، وَيَمُرُّ بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا هُوَ بِخَلْقٍ عَظِيمٍ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا جِبْرِيلُ بَعَثَنِي اللَّهُ لِأَمْنَعَهُ مِنْ حَرَمِهِ» . ثُمَّ رَأَيْتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4]- الْآيَةَ - عَنِ الضحاك أَنَّ الرُّوحَ هَنَا جِبْرِيلُ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَقَدْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ لَا يُوحَى إِلَيْهِ وَحْيًا حَقِيقِيًّا، بَلْ وَحْيَ إِلْهَامٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ سَاقِطٌ مُهْمَلٌ؛ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: مُنَابَذَتُهُ لِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَلَفْظُهُ:«فَبَيْنَاهُ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا عِيسَى، إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، حَوِّلْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ» . وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ وَحْيٌ حَقِيقِيٌّ لَا وَحْيَ إِلْهَامٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ هَذَا الزَّاعِمُ مِنْ تَعَذُّرِ الْوَحْيِ الْحَقِيقِيِّ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عِيسَى نَبِيٌّ، فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ نُزُولِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، فَإِنْ تَخَيَّلَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ عِيسَى قَدْ ذَهَبَ وَصْفُ النُّبُوَّةِ عَنْهُ وَانْسَلَخَ مِنْهُ فَهَذَا قَوْلٌ يُقَارِبُ الْكُفْرَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَذْهَبُ عَنْهُ وَصْفُ النُّبُوَّةِ أَبَدًا وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ تَخَيَّلَ اخْتِصَاصَ الْوَحْيِ لِلنَّبِيِّ بِزَمَنٍ دُونَ زَمَنٍ فَهُوَ [قَوْلٌ] لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَيُبْطِلُهُ ثُبُوتُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ أَلَمَّ السبكي بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ: مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ إِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ فِي زَمَانِهِ لَيُؤْمِنُ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَيُوصِي أُمَّتَهُ بِذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَعْظِيمِ قَدْرِهِ الْعَلِيِّ مَا لَا يَخْفَى، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيئِهِ فِي زَمَانِهِمْ يَكُونُ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ، وَتَكُونُ نُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ زَمَنِ آدَمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَكُونُ الْأَنْبِيَاءُ وَأُمَمُهُمْ كُلُّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً لَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّاسُ مِنْ زَمَانِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بَلْ يَتَنَاوَلُ مَنْ قَبْلَهُمْ أَيْضًا - إِلَى أَنْ قَالَ: فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوِ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فِي زَمَنِ آدَمَ، وَنُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى
أُمَمِهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ، فَنُبُوَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَرِسَالَتُهُ إِلَيْهِمْ مَعْنًى حَاصِلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ، فَلَوْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ لَزِمَهُمُ اتِّبَاعُهُ بِلَا شَكٍّ؛ وَلِهَذَا يَأْتِي عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ، لَا كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَأْتِيَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، نَعَمْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا قُلْنَاهُ أَنَّ اتِّبَاعَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ، لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي زَمَانِهِ أَوْ فِي زَمَانِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَآدَمَ - كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ إِلَى أُمَمِهِمْ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَبِيٌّ عَلَيْهِمْ وَرَسُولٌ إِلَى جَمِيعِهِمْ، فَنُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَأَعْظَمُ، هَذَا كَلَامُ السبكي [بِحُرُوفِهِ] ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ كَوْنِهِ يَنْزِلُ مُتَّبِعًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كَوْنِهِ بَاقِيًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ زَاعِمٌ: الْوَحْيُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ مُؤَوَّلٌ بِوَحْيِ الْإِلْهَامِ. قُلْتُ: قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِدَلِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِدَلِيلٍ فَلَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا فَهُوَ لَعِبٌ بِالْحَدِيثِ.
قَالَ زَاعِمٌ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ " «لَا وَحْيَ بَعْدِي» " قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ.
قَالَ زَاعِمٌ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ " «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» " قُلْنَا: يَا مِسْكِينُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ بَعْثُ نَبِيٍّ بِشَرْعٍ يَنْسَخُ شَرْعَهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ يُقَالُ لِهَذَا الزَّاعِمِ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، فَيَلْزَمُكَ عَلَيْهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا نَفْيُ نُزُولِ عِيسَى، أَوْ نَفْيُ النُّبُوَّةِ عَنْهُ وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ؟ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ كِتَابَتِي لِهَذَا الْجَوَابِ وَقَفْتُ عَلَى سُؤَالٍ رُفِعَ إِلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابن حجر، صُورَتُهُ: مَا قَوْلُكُمْ فِي قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَكَمًا» . فَهَلْ يَنْزِلُ عِيسَى عليه السلام حَافِظًا لِكِتَابِ اللَّهِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، أَوْ يَتَلَقَّى الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عَنْ عُلَمَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيَجْتَهِدُ فِيهَا؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ: لَمْ يُنْقَلْ لَنَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَرِيحٌ، وَالَّذِي يَلِيقُ بِمَقَامِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ يَتَلَقَّى ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَحْكُمُ فِي أُمَّتِهِ بِمَا تَلَقَّاهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ خَلِيفَةٌ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) : وَيُشْبِهُ هَذَا مَا بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمُنْكِرِينَ أَنَّهُ أَنْكَرَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ عِيسَى عليه السلام إِذَا نَزَلَ يُصَلِّي خَلْفَ المهدي صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَأَنَّهُ صَنَّفَ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ كِتَابًا، وَقَالَ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَلُّ مَقَامًا مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ غَيْرِ نَبِيٍّ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، فَإِنَّ صَلَاةَ عِيسَى خَلْفَ المهدي ثَابِتَةٌ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ بِأَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يُخْلَفُ خَبَرُهُ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، والحاكم فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " وَصَحَّحَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ:«فَيَنْزِلُ عِيسَى عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَيَقُولُ لَهُ أَمِيرُ النَّاسِ، تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَصَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أُمَرَاءُ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ بِنَا، فَيَتَقَدَّمُ فَيُصَلِّي بِهِمْ، فَإِذَا انْصَرَفَ أَخَذَ عِيسَى حَرْبَتَهُ نَحْوَ الدَّجَّالِ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ» . وَفِي " مُسْنَدِ أحمد "، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ» . . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى، فَتُقَامُ الصَّلَاةُ، فَيُقَالُ لَهُ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ، فَيَقُولُ: لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ»
…
الْحَدِيثَ.
وَفِي " مُسْنَدِ أبي يعلى " عَنْ جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيَقُولُ إِمَامُهُمْ: تَقَدَّمْ، فَيَقُولُ: أَنْتَ أَحَقُّ، بَعْضُكُمْ أُمَرَاءُ عَلَى بَعْضٍ، أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ» .
وَرَوَى أبو داود وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَنَا عَنِ الدَّجَّالِ» - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الصُّبْحَ، فَرَجَعَ ذَلِكَ الْإِمَامُ يَمْشِي الْقَهْقَرَى لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى يُصَلِّي، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ عِيسَى: أَقِيمُوا الْبَابَ، فَيُفْتَحُ وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ» .
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ جابر، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَمِينٌ، تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ» . وَقَوْلُ هَذَا الْمُنْكِرِ: إِنَّ النَّبِيَّ أَجَلُّ مَقَامًا مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ غَيْرِ نَبِيٍّ - جَوَابُهُ: أَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم أَجَلُّ الْأَنْبِيَاءِ مَقَامًا وَأَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً، وَقَدْ صَلَّى خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَرَّةً، وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أُخْرَى،