الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ نَبِيٌّ حَتَّى يُصَلِّيَ خَلْفَ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ» . ثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، فَكَيْفَ يَتَّجِهُ لِهَذَا الْمُنْكِرِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَلَسْتُ أَعْجَبُ مِنْ إِنْكَارِ مَنْ لَا يَعْرِفُ، إِنَّمَا أَعْجَبُ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى تَسْطِيرِ ذَلِكَ فِي وَرَقٍ يُخَلَّدُ بَعْدَهُ وَيُسَطَّرُ فِي صَحِيفَتِهِ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا أبو أسامة، عَنْ هشام عَنِ ابن سيرين، قَالَ: المهدي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَؤُمُّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام.
[لُبْسُ الْيَلَبِ فِي الْجَوَابِ عَنْ إِيرَادِ حَلَبَ]
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَلَ كِتَابُ " الْإِعْلَامِ " إِلَى حَلَبَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَاقِفٌ، فَرَأَى قَوْلِي فِيهِ: إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَكَتَبَ عَلَى الْهَامِشِ بِخَطِّهِ مَا نَصُّهُ: بَلْ قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ الحافظ برهان الدين الحلبي فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ ": اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ صُوَرٍ، ذَكَرَهَا السهيلي فِي رَوْضِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ -: سَابِعُهَا وَحْيُ إِسْرَافِيلَ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيلُ، فَكَانَ يَتَرَاءَى لَهُ وَيَأْتِيهِ بِالْكَلِمَةِ وَالشَّيْءِ، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ جِبْرِيلُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَوَّلِ " الِاسْتِيعَابِ " وَسَاقَ سَنَدًا إِلَى الشَّعْبِيِّ: قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ ابن الملقن أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ جِبْرِيلَ ابْتَدَأَهُ بِالْوَحْيِ. انْتَهَى مَا كَتَبَهُ الْمُعْتَرِضُ.
وَأَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: مَا نَقَلَهُ الْمُعْتَرِضُ نَفْسُهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ عَنِ ابن الملقن أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ جِبْرِيلَ ابْتَدَأَهُ بِالْوَحْيِ، وَإِنَّمَا قَالَ ابن الملقن ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الثَّابِتُ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَثَرُ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مَعَ ثُبُوتِ خِلَافِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُعْتَرِضِ كَيْفَ اعْتَرَضَ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ، مَعَ نَقْلِهِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَشْهُورَ خِلَافُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّفِيرِ: الَّذِي هُوَ مُرْصَدٌ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِ جِبْرِيلَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَجِيءُ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، كَمَا أَنَّ كَاتِبَ السِّرِّ مُرْصَدٌ لِلتَّوْقِيعِ عَنِ السُّلْطَانِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يُوقِّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَلَا
يُسْلَبُ كَاتِبُ السِّرِّ الِاخْتِصَاصَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مَنْ وَقَّعَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَكَذَلِكَ لَا يُسْلَبُ جِبْرِيلُ الِاخْتِصَاصَ بِاسْمِ السَّفِيرِ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي وَقْتٍ مَا، وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ غَيْرِ إِسْرَافِيلَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَجَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَبَشَّرَهُ بِالْخُلَّةِ، فَعَجَبٌ مِنَ الْمُعْتَرِضِ كَيْفَ اقْتَصَرَ عَلَى إِسْرَافِيلَ دُونَ مَجِيءِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِبَارَةَ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا " وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ " بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَإِسْرَافِيلُ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حِكْمَتِهِ أَنَّهُ الْمُوَكَّلُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ قُرْبَ السَّاعَةِ، وَكَانَتْ بَعْثَتُهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ إِسْرَافِيلَ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَى نَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَحِينَئِذٍ فَالْمَبْعُوثُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَفِيرٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَفِيرًا إِلَّا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ، وَالْحُكْمُ الْمَنْفِيُّ عَنِ الْمَجْمُوعِ لَا يَلْزَمُ نَفْيُهُ عَنْ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ، فَلَا يَصِحُّ النَّقْضُ بِهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُوهِي أَثَرَ الشَّعْبِيِّ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، والحاكم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ، إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَلَكٌ قَدْ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى الْأَرْضِ قَطُّ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ؛ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتَهُمَا» .
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الْمَلَكُ هُوَ إِسْرَافِيلُ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَقَدْ هَبَطَ عَلَيَّ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ مَا هَبَطَ عَلَى نَبِيٍّ قَبْلِي، وَلَا يَهْبِطُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدِي، وَهُوَ إِسْرَافِيلُ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَبِّكَ إِلَيْكَ، أَمَرَنِي أُخْبِرُكَ إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعْ، فَلَوْ أَنِّي قَلْتُ نَبِيًّا مَلِكًا لَسَارَتِ الْجِبَالُ مَعِي ذَهَبًا» . وَهَاتَانِ الْقَضِيَّتَانِ بَعْدَ ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ بِسِنِينَ كَمَا يُعْرَفُ مِنْ سَائِرِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ، وَهُمَا ظَاهِرَانِ فِي أَنَّ إِسْرَافِيلَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ أَتَاهُ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ؟
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ أَقَمْنَا فِي " الْإِعْلَامِ " الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ عَقِبَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ورقة: جِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِهِ، وَقَوْلُ ابن سابط: فَوُكِّلَ جِبْرِيلُ بِالْكُتُبِ وَالْوَحْيِ إِلَى