الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَجْرُ الثَّمْدِ فِي إِعْرَابِ أَكْمَلِ الْحَمْدِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ محيي الدين الكافيجي فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَكْمَلَ الْحَمْدِ. هَلْ أَكْمَلَ مُتَعَيِّنُ النَّصْبِ أَوْ يَجُوزُ الْجَرُّ؟ فَإِنَّ ثَمَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ فَوَافَقَهُ الشَّيْخُ عَلَى جَوَازِهِ، بَلْ وَزَادَ تَرْجِيحَهُ، وَأَلَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُؤَلَّفًا قَالَ فِيهِ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّهُ وَصْفٌ سَبَبِيٌّ لِلَّهِ مُحَوَّلٌ، أَصْلُهُ " أَكْمَلَ حَمْدِهِ "، فَحُوِّلَ بِالْإِضَافَةِ وَإِنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ قَائِمِ الْأَبِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ قَبْلَ التَّحْوِيلِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ أَبُوهُ، فَحُوِّلَ إِلَى مَا تَرَى، فَاسْتَتَرَ الضَّمِيرُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ، وَأُضِيفَ إِلَى الْأَبِ، وَقَوْلُكَ: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ حَسَنِ الْوَجْهِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٌ وَجْهُهُ، وَعَلَّلَ تَرْجِيحَهُ بِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، وَالنَّصْبُ يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ. وَأَقُولُ: الْمُتَعَيِّنُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ النَّصْبُ، وَلَا يَجُوزُ الْجَرُّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَائِبٌ مَنَابَ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ لَهُ، تَقْدِيرُهُ: حَمْدًا أَكْمَلَ الْحَمْدِ. قَالَ النُّحَاةُ فِي بَابِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَمِنْهُمُ ابن مالك فِي " شَرْحِ الْكَافِيَةِ " وابن هشام فِي التَّوْضِيحِ: يَقُومُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ وَصْفُهُ مُضَافًا إِلَيْهِ، كَسِرْتُ أَحْسَنَ السَّيْرِ، وَمِثْلُ غَيْرِهِمَا بِقَوْلِكَ: ضَرَبْتُهُ أَشَدَّ الضَّرْبِ، وَمِثْلُهُ فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ " بِقَوْلِ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ:
نَظَرْتُ وَدُونِي مِنْ عِمَايَةَ مَنْكِبٌ
…
وَبَطْنُ رِدَاءٍ أَيُّ نَظْرَةِ نَاظِرِ
وَبِقَوْلِ الْآخَرِ: وَضَائِعٌ أَيْ جَرَى مَا أَرَدْتُ بِهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] فَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ كُلُّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَصْدَرِ وَالْمِثَالُ مِثْلُهَا. وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ دَفْعُ مَحْذُورَيْنِ وَارِدَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْإِضْمَارُ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ الشَّيْخُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ لَا إِضْمَارَ بَلْ يَكُونُ الْمَصْدَرُ مَحْذُوفًا، وَهَذَا قَائِمٌ مَقَامَهُ نِيَابَةً عَنْهُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَصْدَرَ الْمُقَدَّرَ نَكِرَةٌ، فَكَيْفَ يُوصَفُ بِالْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ وَلَا إِضْمَارَ، وَإِنَّمَا حُذِفَ أَصْلًا، وَأُقِيمَ مَقَامَهُ وَصْفُهُ مُضَافًا إِلَيْهِ لِلْبَيَانِ، وَكَانَ أَصْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كُمِّلَ - بِلَا إِضَافَةٍ هَذَا تَوْجِيهُ النَّصْبِ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْجَرِّ فَيَكَادُ يَكُونُ بَدِيهِيًّا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَإِنَّ أَكْمَلَ صِفَةٍ لِلْحَمْدِ قَطْعًا لَا لِلَّهِ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ أَوْصَافَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَمْ
يَرِدْ هَذَا الْوَصْفُ فِيهَا. وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إِطْلَاقِ " أَفْعَلِ " التَّفْضِيلِ فِي حَقِّ اللَّهِ إِلَّا مَا وَرَدَ مِثْلُ أَكْبَرُ وَأَحْسَنُ الْخَالِقِينَ لِمَا يُشْعِرُ بِالْمُشَارَكَةِ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَصْفُ الْحَمْدِ الْمُثْبَتِ لِلَّهِ بِالْأَكْمَلِيَّةِ وَالْبُلُوغِ نِهَايَةَ التَّمَامِ لَا وَصْفُ اللَّهِ بِذَلِكَ. وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ عَبَّرُوا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْحَمْدِ لَا لِلَّهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النووي فِي " الْمِنْهَاجِ ": أَحْمَدُهُ أَبْلَغَ حَمْدٍ وَأَكْمَلَهُ وَأَزْكَاهُ وَأَشْمَلَهُ -فَأَتَى بِالْجَمِيعِ صِفَاتٍ لِلْحَمْدِ وَمَصَادِرَ لَهُ. وَقَوْلُ الشَّيْخِ: أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ قَائِمِ الْأَبِ -مُخَالِفٌ لِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ; الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ فَاسِدٌ لَا يَقُولُ أَحَدٌ بِصِحَّتِهِ ; لِأَنَّ " الرَّجُلَ " مُعَرَّفَةٌ، " وَقَائِمِ الْأَبِ " نَكِرَةٌ، فَإِنَّ إِضَافَتَهُ لَفْظِيَّةٌ لَا تُفِيدُ التَّعْرِيفَ، فَلَا يَصِحُّ وَصْفُ الرَّجُلِ بِهِ، وَإِنَّمَا تُوصَفُ بِهِ النَّكِرَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا بِرَجُلٍ قَائِمِ الْأَبِ، وَحِينَئِذٍ تَسْتَحِيلُ الْمَسْأَلَةُ، وَكَذَا مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ حَسَنِ الْوَجْهِ.
الثَّانِي: مَا قَالَهُ مِنَ التَّحْوِيلِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَرْفُوعِ لَا يَجُوزُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ إِجْمَاعًا بَلْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَأُلْحِقَ بِهَا فِي ذَلِكَ اسْمُ الْمَفْعُولِ، نَصَّ عَلَيْهِ ابن مالك فِي كُتُبِهِ، وَقَالَ فِي " الْأَلْفِيَّةِ ": وَقَدْ يُضَافُ ذَا - أَيِ اسْمُ الْمَفْعُولِ- إِلَى اسْمٍ مُرْتَفِعٍ مَعْنًى كَمَحْمُودِ الْمَقَاصِدِ الْوَرِعِ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْكَافِيَةِ ": تَفَرَّدَ اسْمُ الْمَفْعُولِ بِجَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى مَا هُوَ مَرْفُوعٌ مَعْنًى، نَحْوُ: زَيْدٌ يَكْسُو الْعَبْدَ وَمَحْمُودُ الْمَقَاصِدِ. وَقَالَ أبو حيان فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ ": انْفَرَدَ اسْمُ الْمَفْعُولِ بِجَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى مَرْفُوعٍ بِخِلَافِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى فَاعِلِهِ، لَا تَقُولُ فِي: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ضَارِبٍ أَبُوهُ زَيْدًا بِرَجُلٍ ضَارِبٍ أَبِيهِ زَيْدًا. قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا أَيْضًا فِي اسْمِ الْمَفْعُولِ إِضَافَةٌ مِنْ مَنْصُوبٍ لَا مِنْ مَرْفُوعٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَصْلُهُ أَكْمَلَ حَمْدَهُ- يُؤَدِّي إِلَى اسْتِعْمَالِ " أَكْمَلَ " مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، وَمِنْ وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّ الْأَصْلَ: أَكْمَلَ حَمْدُهُ، وَأَنَّ الْحَمْدَ فَاعِلٌ، وَأَنَّهُ حُوِّلَ عَنِ الْفَاعِلِيَّةِ ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ، فَاسْتَتَرَ الضَّمِيرُ -غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ عَنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يَرْفَعُ الظَّاهِرَ أَصْلًا إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْكُحْلِ، وَهَذَا الْمِثَالُ لَيْسَ مِنْ ضَابِطِهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ بِلَا نِزَاعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.