الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْجَوَابُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا دَائِمَ الْحِقَبِ
…
ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَبْعُوثِ خَيْرِ نَبِي
سَمَاعُ مَوْتَى كَلَامِ الْخَلْقِ مُعْتَقَدٌ
…
جَاءَتْ بِهِ عِنْدَنَا الْآثَارُ فِي الْكُتُبِ
وَآيَةُ النَّفْيِ مَعْنَاهَا سَمَاعُ هُدًى
…
لَا يَقْبَلُونَ وَلَا يُصْغُوا إِلَى أَدَبِ
[شَدُّ الْأَثْوَابِ فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ:«خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أبو بكر فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أبو بكر أَعْلَمَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أبا بكر، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أبا بكر، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أبي بكر - وَفِي لَفْظٍ - لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا سُدَّتْ إِلَّا خَوْخَةَ أبي بكر " أَخْرَجَهُ ابن عساكر، وَفِي لَفْظٍ: " ثُمَّ هَبَطَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَمَا رُئِيَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ» أَخْرَجَهُ أحمد وَالدَّارِمِيُّ هَذَا حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ كَمَا سَأُشِيرُ إِلَى طُرُقِهِ.
قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ خَصِيصَةٌ لأبي بكر رضي الله عنه. وَقَالَ ابن شاهين فِي السُّنَّةِ: تَفَرَّدَ أبو بكر رضي الله عنه بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ. وَلِلْأَمْرِ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ تَبْلُغُ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ فِي خِرْقَةٍ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أبي بكر، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أبا بكر خَلِيلًا، وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أبي بكر» ".
وَأَخْرَجَ ابن سعد مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أيوب بن بشير الأنصاري، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَاسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ، فَلَمَّا قَضَى تَشَهُّدَهُ قَالَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ رَبِّهِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ رَبِّهِ، فَفَطِنَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوَّلَ النَّاسِ، فَعَرَفَ إِنَّمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ، فَبَكَى أبو بكر، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكَ يَا أبا بكر سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أبي بكر، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ امْرَءًا أَفْضَلَ عِنْدِي يَدًا فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أبي بكر» .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَّى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ فَخَرَجَ عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَلَمْ يَفْهَمْهَا إِلَّا أبو بكر فَبَكَى، فَقَالَ: نَفْدِيكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكَ، أَفْضَلُ النَّاسِ عِنْدِي فِي الصُّحْبَةِ وَذَاتِ الْيَدِ ابن أبي قحافة، انْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بَابِ أبي بكر، فَإِنِّي رَأَيْتُ عَلَيْهِ نُورًا» .
وَأَخْرَجَ عبد الله بن أحمد فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أبو بكر صَاحِبِي وَمُؤْنِسِي فِي الْغَارِ سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أبي بكر» .
وَأَخْرَجَ أبو يعلى بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: انْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الْمُلَاصِقَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بَيْتِ أبي بكر فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدِي فِي الصُّحْبَةِ مِنْهُ» .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سُدُّوا عَنِّي كُلَّ بَابٍ إِلَّا بَابَ أبي بكر» ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عائشة قَالَتْ:«أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أبي بكر» .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُؤْذُونِي فِي صَاحِبِي، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ صَاحِبًا لَاتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا أَلَا فَسُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ إِلَّا خَوْخَةَ ابن أبي قحافة» .
وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ يحيى بن سعيد أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ عَلَيَّ مَنًّا فِي
الصُّحْبَةِ وَذَاتِ يَدِهِ أبو بكر فَأَغْلِقُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّارِعَةَ كُلَّهَا فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أبي بكر، فَقَالَ نَاسٌ: أَغَلَقَ أَبْوَابَنَا وَتَرَكَ بَابَ خَلِيلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ بَلَغَنِي الَّذِي قُلْتُمْ فِي بَابِ أبي بكر، وَإِنِّي أَرَى عَلَى بَابِ أبي بكر نُورًا، وَأَرَى عَلَى أَبْوَابِكُمْ ظُلْمَةً» مُرْسَلٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو طَاهِرٍ الْمُخْلِصُ فِي فَوَائِدِهِ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ يحيى بن سعيد عَنْ أَنَسٍ بِهِ، وَزَادَ: فَكَانَتِ الْآخِرَةُ أَعْظَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُولَى " قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا أَعْلَمُ وَصَلَهُ عَنِ الليث غَيْرُ عبد الله بن صالح وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ الليث عَنْ يحيى بن سعيد بِدُونِ ذِكْرِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ عَنْ أبي الأحوص حكيم بن عمير العنسي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " عِنْدَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ سَدِّ [تِلْكَ] الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ أبي بكر " وَقَالَ: " لَيْسَ مِنْهَا بَابٌ إِلَّا وَعَلَيْهِ ظُلْمَةٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بَابِ أبي بكر فَإِنَّ عَلَيْهِ نُورًا» .
وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ أبي الحويرث قَالَ: " «لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَبْوَابِ تُسَدُّ إِلَّا بَابَ أبي بكر قَالَ عمر: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَفْتَحُ كُوَّةً أَنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا» .
وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ أبي البداح بن عاصم بن عدي، قَالَ:«قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُكَ فَتَحْتَ أَبْوَابَ رِجَالٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا بَالُكَ سَدَدْتَ أَبْوَابَ رِجَالٍ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عباس مَا فَتَحْتُ عَنْ أَمْرِي، وَلَا سَدَدْتُ عَنْ أَمْرِي» .
فَصْلٌ: وَأَخْرَجَ أحمد، وَالنَّسَائِيُّ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ:«كَانَ لِنَفِرٍّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْوَابٌ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَوْمًا: سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ علي فَتَكَلَّمَ أُنَاسٌ فِي ذَلِكَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَمَرْتُ بِسَدِّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ غَيْرَ بَابِ علي، فَقَالَ فِيهِ قَائِلُكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا سَدَدْتُ شَيْئًا وَلَا فَتَحْتُهُ وَلَكِنِّي أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فَاتَّبَعْتُهُ» .
وَأَخْرَجَ أحمد، وَالنَّسَائِيُّ، وأبو يعلى، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ:«أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَتَرْكِ بَابِ علي فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَدَدْتَ أَبْوَابَنَا كُلَّهَا إِلَّا بَابَ علي قَالَ: مَا أَنَا سَدَدْتُ أَبْوَابَكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَدَّهَا» .
وَأَخْرَجَ أحمد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَسُدَّتْ إِلَّا بَابَ علي» .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَزَادَ: «فَقَالَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ مَا أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ إِنْ
أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ» .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " «أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أبي بكر أَنْ سُدَّ بَابَكَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً فَسَدَّ بَابَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عمر، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى العباس بِمِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَنَا سَدَدْتُ أَبْوَابَكُمْ وَفَتَحْتُ بَابَ علي، وَلَكِنَّ اللَّهَ فَتَحَ بَابَ علي وَسَدَّ أَبْوَابَكُمْ» .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «انْطَلِقْ فَمُرْهُمْ فَلْيَسُدُّوا أَبْوَابَهُمْ فَانْطَلَقْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ فَفَعَلُوا إِلَّا حمزة فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ فَعَلُوا إِلَّا حمزة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْ لحمزة فَلْيُحَوِّلْ بَابَهُ، فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُحَوِّلَ بَابَكَ فَحَوَّلَهُ» .
وَأَخْرَجَ أحمد، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«سَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ غَيْرَ بَابِ علي، وَكَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَهُوَ جُنُبٌ وَهُوَ طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ» .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَدِّ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا غَيْرَ بَابِ علي فَقَالَ العباس: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْرَ مَا أَدْخُلُ أَنَا وَحْدِي، وَأَخْرُجُ قَالَ: مَا أَمَرْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَسُدَّهَا كُلَّهَا غَيْرَ بَابِ علي» ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ علي فَقَالَ: انْظُرْ إِلَى مَنْزِلِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ سَدَّ أَبْوَابَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَقَرَّ بَابَهُ» .
وَأَخْرَجَ أحمد مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أُعْطِيَ علي ثَلَاثَ خِصَالٍ: زَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنَتِهِ وَوَلَدَتْ لَهُ، وَسَدَّ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ» ، فَهَذِهِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ حَدِيثًا فِي الْأَمْرِ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ وَبَقِيَتْ أَحَادِيثُ أُخَرُ تَرَكْتُهَا كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ.
فَصْلٌ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَّهُ سَدَّ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ أبي بكر، وَبَيْنَ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ أَنَّهُ سَدَّ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ علي، فَإِنَّهُمَا قِصَّتَانِ إِحْدَاهُمَا غَيْرُ الْأُخْرَى، فَقِصَّةُ علي كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً وَهِيَ فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ، وَقَدْ كَانَ أَذِنَ لعلي أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ، وَقِصَّةُ أبي بكر مُتَأَخِّرَةٌ فِي مَرَضِ الْوَفَاةِ فِي سَدِّ طَاقَاةٍ كَانُوا يَسْتَقْرِبُونَ الدُّخُولَ مِنْهَا وَهِيَ الْخَوْخُ، كَذَا جَمَعَ القاضي إسماعيل المالكي فِي أَحْكَامِهِ، وَالْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِيهِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِهِ، وَعِبَارَةُ الْكَلَابَاذِيِّ لَا تُعَارِضُ بَيْنَ قِصَّةِ علي وَقِصَّةِ أبي بكر ; لِأَنَّ بَابَ أبي بكر كَانَ مِنْ جُمْلَةِ خَوْخَاتٍ يَطَّلِعُ مِنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَبْوَابُ الْبُيُوتِ خَارِجَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَدِّ تِلْكَ الْخَوْخِ فَلَمْ تَبْقَ تُطَّلَعُ مِنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَتُرِكَتْ خَوْخَةُ أبي بكر
فَقَطْ. وَأَمَّا بَابُ علي فَكَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ يَخْرُجُ مِنْهُ وَيَدْخُلُ مِنْهُ.
وَقَالَ الحافظ ابن حجر: قِصَّةُ علي فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ، وَأَمَّا سَدُّ الْخَوْخِ فَالْمُرَادُ بِهِ طَاقَاةٌ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ يَسْتَقْرِبُونَ الدُّخُولَ مِنْهَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِسَدِّهَا إِلَّا خَوْخَةَ أبي بكر، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِخْلَافِ أبي بكر لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَسْجِدِ كَثِيرًا دُونَ غَيْرِهِ. انْتَهَى.
قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ قِصَّةِ علي ذِكْرُ حمزة قِصَّتَهُ فَإِنَّ حمزة قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ.
فَصْلٌ: قَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بَلِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ مِنْ فَتْحِ بَابٍ شَارِعٍ إِلَى مَسْجِدٍ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ وَلَا لِعَمِّهِ العباس وَلَا لأبي بكر إِلَّا لعلي لِمَكَانِ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ، وَمِنْ فَتْحِ خَوْخَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ طَاقَةٍ أَوْ كُوَّةٍ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ وَلَا لعمر إِلَّا لأبي بكر خَاصَّةً لِمَكَانِ الْخِلَافَةِ، وَلِكَوْنِهِ أَفْضَلَ النَّاسِ يَدًا عِنْدَهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى التَّعْلِيلِ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُبْدَأِ بِهَا، وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ أَحَدٍ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ عمر اسْتَأْذَنَ فِي كُوَّةٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقَاسُ عَلَيْهِ؟ وَقَدْ مُنِعَ عمر، وَاسْتَأْذَنَ العباس فِي فَتْحِ بَابٍ صَغِيرٍ بِقَدْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَهُوَ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ مُنِعَ مِنْهُ عمر والعباس؟ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسُدَّ مَا سَدَّ وَلَمْ يَفْتَحْ مَا فَتَحَ إِلَّا بِأَمْرِهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَرَضِ الْوَفَاةِ، وَفِي آخِرِ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَهِدَ بِهِ إِلَى أُمَّتِهِ وَمَاتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ، وَتَقَلَّدَ ذَلِكَ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَلَا يَكْتُمَهُ، فَإِنْ تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الْإِمَامِ زِدْ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْعِهِ، فَلَا رَأْيَ لِأَحَدٍ فِي إِبَاحَتِهِ، بَلْ لَوْ وَقَفَ رَجُلٌ مِنْ آحَادِ النَّاسِ مَسْجِدًا وَشَرَطَ فِيهِ شَيْئًا اتُّبِعَ شَرْطُهُ، فَكَيْفَ بِمَسْجِدٍ وَقَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَصَّ فِيهِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَمْرٍ وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْوَحْيِ، وَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ عَهْدِهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مَسَاجِدَ لَا تَعْرِضُ فِي شُرُوطِ وَاقِفِيهَا لِمَنْعٍ وَلَا لِغَيْرِهِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ تَوَقُّفٍ وَنَظَرٍ، وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْمَسْجِدَ الشَّرِيفَ قَدْ زَالَتْ مَعَالِمُهُ وَجُدُرُهُ وَوُسِّعَ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُجْدِيهِ هَذَا شَيْئًا فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ وَأَحْكَامَهُ
الثَّابِتَةَ لَهُ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوِ اتَّسَعَ وَأُزِيلَتْ جُدُرُهُ وَأُعِيدَتْ عَادَتْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ مَنُوطٌ بِالْمَسْجِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا بِذَاكَ الْجِدَارِ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ بُنِيَ فِي زَمَنِ عمر وَوُسِّعَ فِي زَمَنِ عثمان وَغَيْرِهِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَهُ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْفَتْحِ فِي الْجِدَارِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْفَاتِحِ، قُلْنَا: إِنْ كَانَ مَعَ إِعَادَةِ حَائِطِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ كَمَا كَانَتْ بِحَيْثُ يُسَدُّ الْبَابُ وَالشَّبَابِيكُ الَّتِي فِي الْجِدَارِ فَلَا يُسْتَطْرَقُ مِنْهُ، وَلَا يُطَّلَعُ مِنْهَا فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ إِزَالَةِ حَائِطِ الْمَسْجِدِ وَبَقَاءِ الِاسْتِطْرَاقِ وَالِاطِّلَاعِ، فَمَعَاذَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذِهِ ذَرِيعَةٌ وَحِيلَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ، وَإِذَا مَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عمر مِنْ فَتْحِ كُوَّةٍ يَنْظُرُهُ مِنْهَا حِينَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَكَيْفَ يَهْدِمُ الْحَائِطَ جَمِيعَهُ؟ بَلْ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَأَقُولُ لَوْ أُعِيدَ حَائِطُ الْمَسْجِدِ وَبُنِيَ خَلْفَهُ جِدَارٌ أَطْوَلُ مِنْهُ وَفُتِحَ فِي أَعْلَاهُ كُوَّةٌ يُطَّلَعُ مِنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ; احْتِيَاطًا لِلْحَدِيثِ، وَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّبَابِيكَ تَصِيرُ مُعَدَّةً لِمَنْ يَجْلِسُ فِيهَا مُرْتَفِعًا، وَالْقَبْرُ الشَّرِيفُ تَحْتَهُ فَهَذَا أَشَدُّ وَأَشَدُّ، وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَحَرٍّ الِاحْتِيَاطُ لِدِينِهِ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ فِيهِ بَعْدَ نَصِّهِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ يُنْقَضُ وَفَتْوَى الْمُفْتِي بِمَا يُعَارِضُ تُرَدُّ، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى خِلَافِهِ بِالْحِيَلِ الْفَاسِدَةِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ: تَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» .
فَصْلٌ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ مُفْتِي عَصْرِنَا أَفْتَوْا بِجَوَازِ فَتْحِ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ وَالشُّبَّاكِ مِنْ دَارٍ بُنِيَتْ مُلَاصِقَةً لِلْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمُ اسْتِرْوَاحًا وَعَدَمَ وُقُوفٍ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ رُوجِعَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي مُسْتَنَدِهِ فِيمَا أَفْتَى بِهِ فَأَبْدَوْا شُبَهًا كُلُّهَا مَرْدُودَةٌ، وَلَوْلَا جَنَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَظَمَتُهُ الرَّاسِخَةُ فِي الْقَلْبِ، لَمْ أَتَكَلَّمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَكُنْتُ إِلَى السُّكُوتِ أَمْيَلَ لَكِنْ لَا أَرَى السُّكُوتَ يَسَعُنِي فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا عَهْدٌ عَهِدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ وَفَاتِهِ فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَهُ، وَلَا يُرَاعِيَ فِيهِ صَدِيقًا وَلَا حَبِيبًا، وَلَا بَعِيدًا وَلَا قَرِيبًا، وَأَنَا أَذْكُرُ شُبَهَ الْمُفْتِينَ وَأَرُدُّهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا نَقْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَهْلِ مَذْهَبِنَا وَنَقُولُ بِالْجَوَازِ اسْتِحْسَانًا حَيْثُ لَا ضَرَرَ، وَجَوَابُ هَذَا أَنَّهُ لَا اسْتِحْسَانَ مَعَ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ حَيْثُ رَأَى النَّاظِرُ ذَلِكَ، وَجَوَابُ هَذَا أَنَّ النَّصَّ مَنَعَ الْقِيَاسَ، وَدَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الْإِمَامِ. وَجَوَابُ هَذَا أَنَّهُ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَلْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ
يُغَيِّرَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْئًا بِرَأْيِهِ؟
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِزَمَنِهِ عليه السلام وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى تَخْصِيصِ النُّصُوصِ بِدَلِيلٍ.
ثَانِيهَا: أَنَّ الْقِصَّةَ أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ، وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا إِلَّا دُونَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْصُوصًا بِزَمَنٍ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَيِّنَهُ وَإِلَّا لَكَانَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، لَا سِيَّمَا وَهِيَ آخِرُ جِلْسَةٍ جَلَسَهَا لِلنَّاسِ.
رَابِعُهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَمَرُّوا إِلَى أَنِ انْقَرَضُوا وَهُمْ بَاقُونَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوهُ شَرْعًا مُؤَبَّدًا.
خَامِسُهَا: يُقَالُ لِهَذَا الَّذِي ادَّعَى التَّخْصِيصَ مَا وَجْهُ مَنْعِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِهِ وَالْإِذْنِ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَالصَّحَابَةُ أَشْرَفُ وَأَجَلُّ وَأَحَقُّ بِكُلِّ خَيْرٍ؟ وَهَلْ يَتَخَيَّلُ مُتَخَيِّلٌ أَنْ يُرَخِّصَ لِأَهْلِ الْقَرْنِ الْأَرْذَلِ مَا مُنِعَ [مِنْهُ] أَشْرَفُ الْأُمَّةِ وَخِيَارُهُمْ؟! مَعَاذَ اللَّهِ؟!
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَنْعُ مَخْصُوصٌ بِجِدَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُدِمَ وَأُعِيدَ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْمُعَادَ مِلْكٌ لِلْمُعِيدِ فَيَفْتَحُ فِيهِ مَا شَاءَ وَلَا يَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يُوقِفَهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْدُودٌ بِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْقَوْلِ فُهِمَ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْجِدَارِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسْجِدِ، وَقَصْدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُسْتَطْرَقَ إِلَى مَسْجِدِهِ مِنْ بَابٍ فِي دَارٍ تُلَاصِقُهُ، وَلَا يُطَّلَعُ إِلَيْهِ مِنْ كُوَّةٍ فِي دَارٍ تُلَاصِقُهُ، فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بَقِيَ الْجِدَارُ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ أَوْ أُزِيلَ وَأُعِيدَ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْمُعَادَ يَقُومُ مَقَامَ الْجِدَارِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
الثَّانِي: أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِالْعِلِيَّةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ رَتَّبَ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمَ هُنَا عَلَى الْوَصْفِ حَيْثُ قَالَ:«انْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا» ، وَفِي لَفْظٍ:" الشَّوَارِعَ إِلَى الْمَسْجِدِ " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالشَّوَارِعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي سَدِّهَا كَوْنُهَا شَارِعَةً إِلَى الْمَسْجِدِ أَيْ طَرِيقًا إِلَيْهِ مِنْ دَارٍ فَسَدَّ كُلَّ بَابٍ يَشْرَعُ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ دَارٍ، سَوَاءٌ فُتِحَ فِي الْجِدَارِ النَّبَوِيِّ أَمْ فِي الْجِدَارِ الَّذِي أُعِيدَ مَكَانَهُ، أَمْ فِي جِدَارِ صَاحِبِ الدَّارِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْجِدَارَ النَّبَوِيَّ أُزِيلَ فِي عَهْدِ عمر، وعثمان وَبُنِيَ غَيْرُهُ، وَأَبْقَى الصَّحَابَةُ هَذَا الْحُكْمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ تَعَلُّقَ ذَلِكَ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْجِدَارِ، وَإِلَّا لَكَانُوا يَفْتَحُونَ لَهُمْ أَبْوَابًا وَكَوَّاتٍ وَيَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الْجِدَارَ النَّبَوِيَّ أُزِيلَ، وَهَذَا الْجِدَارُ مِلْكُ عمر أَوْ عثمان وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَوْرَعُ وَأَشَدُّ خَشْيَةً.
وَانْظُرْ إِلَى «قَوْلِ عمر رضي الله عنه: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " يَنْبَغِي أَنْ
يُزَادَ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا مَا زِدْتُ» أَخْرَجَهُ أحمد، وأبو يعلى، وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّوَقُّفِ مِنْ إِحْدَاثِ شَيْءٍ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ إِلَّا بِنَصٍّ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صلى الله عليه وسلم.
الرَّابِعُ: أَنَّ دَعْوَى أَنَّ الْجِدَارَ الْمُعَادَ مِلْكٌ لِلْمُعِيدِ يُقَالُ عَلَيْهِ أَوَّلًا هَدْمُ الْجِدَارِ الَّذِي قَبْلَهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ فَإِعَادَتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْهَادِمِ، فَإِذَا أَعَادَهُ كَانَ بَدَلَ مُتْلَفٍ لَا مِلْكًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ فَإِعَادَتُهُ وَاجِبَةٌ مِنْ مَالِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ أَوْ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا أُعِيدَ مِنْهُمَا كَانَ وَقْفًا كَمَا كَانَ لَا مِلْكًا، وَإِنْ أَعَادَهُ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى نِيَّةِ إِعَادَتِهِ لِلْمَسْجِدِ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْضًا أَوْ عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَكَيْفَ يَبْنِي عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا الْجِدَارَ الْمُعَادَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَمْحَضَ جِدَارًا لِلْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ أَوْ يَجْعَلَ جِدَارًا لِلدَّارِ الَّتِي تُبْنَى مُلَاصِقَةً، وَيَكْتَفِي بِهِ عَنْ إِعَادَةِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ أَوْ يُجْعَلُ جِدَارًا لَهَا، وَيُعَادُ جِدَارُ الْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ، فَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ إِهْمَالُ إِعَادَةِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوِ الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ نَاظِرِ الْحَرَمِ الشَّرِيفِ إِعَادَةُ جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَلَا يَتْرُكُهُ مَهْدُومًا، وَيَزِيدُ ذَلِكَ تَحْرِيمًا أَنْ يُبْنَى عَلَى أَرْضِ الْمَسْجِدِ، وَيُجْعَلَ جِدَارًا لِلدَّارِ، فَهَذَا فِيهِ أَخْذُ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ وَإِدْخَالُهَا فِي الدَّارِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ فَصْلُ الدَّارِ مِنْهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِدَارِ الْمَسْجِدِ فِي الدَّارِ.
السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «: " سُدُّوا الْأَبْوَابَ اللَّاصِقَةَ فِي الْمَسْجِدِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ الْحُكْمَ بِجِدَارِهِ بَلْ عَلَّقَهُ بِاللُّصُوقِ فِي الْمَسْجِدِ أَيْ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِهِ فَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ بَابٍ لَصِقَ بِهِ مِنْ أَيِّ جِدَارٍ كَانَ.
السَّابِعُ: أَنَّ الْحَدِيثَ الْآتِيَ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ بُنِيَ مَسْجِدِي هَذَا إِلَى صَنْعَاءَ كَانَ مَسْجِدِي» دَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ مَسْجِدًا وَالَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ، فَكَذَلِكَ يَسْتَوِي الْجِدَارُ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ وَالَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ.
الثَّامِنُ: لَوْ قُدِّرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ احْتِيَاجُ بَعْضِ حِيطَانِ الْكَعْبَةِ إِلَى هَدْمٍ وَإِصْلَاحٍ، فَهَدَمَهَا الْإِمَامُ وَأَعَادَهَا فَهَلْ يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ الْحَائِطَ الَّذِي أَعَادَهُ مِلْكٌ لَهُ يَفْتَحُ فِيهِ مَا شَاءَ وَيَتَصَرَّفُ
فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يُوقِفَهُ؟ فَإِنْ قِيلَ بِذَلِكَ فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَحَائِطُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَذَلِكَ، إِذِ الْحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ مُسْتَوِيَانِ فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، وَقِيَاسُ الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ عَلَى الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ أَشْبَهُ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، لِمَا لَهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ لَا سِيَّمَا مَعَ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ النُّصُوصِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ.
التَّاسِعُ: قَدْ ذَكَرَ الأقفهسي أَنَّ الملك الظاهر بيبرس هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ الْمَقْصُورَةَ حَوْلَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ زِيَادَةُ تَعْظِيمٍ وَحُرْمَةٍ لِلْحُجْرَةِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الأقفهسي هَذَا الْفِعْلَ لِكَوْنِهِ حَجَرَ طَائِفَةً مِنَ الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ عَنْ صَلَاةِ النَّاسِ فِيهَا، وَصَارَ هَذَا الْقَدْرَ مَأْوَى النِّسَاءِ بِأَطْفَالِهِنَّ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، وَنَقَلَ عَنْ قاضي القضاة عز الدين بن جماعة أَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ للملك الظاهر فَسَكَتَ وَمَا أَجَابَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُنْظَرُ فِيهِ انْتَهَى.
فَانْظُرْ إِلَى تَوَقُّفِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْقَدْرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِمَنْعٍ، بَلْ قُصِدَ التَّعْظِيمُ فِيهِ، وَالْحُرْمَةُ ظَاهِرٌ، فَكَيْفَ بِإِحْدَاثِ بَابٍ يَشْرَعُ أَوْ شَبَابِيكُ يَطَّلِعُ مِنْهَا أَوْ يَجْلِسُ فِيهَا الْجَالِسُ مُرْتَفِعًا مَعَ مُصَادَمَةِ ذَلِكَ لِلنُّصُوصِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِمَنْ قَالَ بِذَلِكَ اطِّرَادُ الْحُرْمَةِ فِي الْجِدَارِ الْمُعَادِ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّوَقُّفِ وَالْوَرَعِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَحَلِّ الْخَطِرِ.
الْعَاشِرُ: هَلْ يَظُنُّ ظَانٌّ أَوْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَصَّ الْمَنْعَ بِالْجِدَارِ بُخْلًا بِجِدَارِهِ أَوْ حِرْصًا عَلَيْهِ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَضْعُفَ الْجِدَارُ؟ كَلَّا وَاللَّهِ بَلْ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْعَ الِاسْتِطْرَاقِ وَالِاطِّلَاعِ إِلَى مَسْجِدِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْجِدَارِ بِخُصُوصِهِ حَسْبَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: هَلْ كَانَ الْمَنْعُ لعمر وَغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجِدَارُ حَتَّى لَوْ فَتَحُوا مِنْ جِدَارِهِمْ حَيْثُ لَا جِدَارَ لِلْمَسْجِدِ لَجَازَ لَهُمْ ذَلِكَ؟ الْأَحَادِيثُ تَقْتَضِي خِلَافَهُ كَمَا مَنْ مَرَّ عَلَيْهَا.
الثَّانِيَ عَشَرَ: هَذَا الْمَنْعُ قَدْ أَسْنَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْوَحْيِ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِلَّتَهُ، فَإِنْ أُدْرِكَ لَهُ عِلَّةٌ وَهُوَ تَعْظِيمُ الْمَسْجِدِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي كُلِّ جِدَارٍ، وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ عِلَّةٌ اسْتَمَرَّ أَيْضًا، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ إِذَا لَمْ يُنَصَّ يَكُونُ عَنْ قِيَاسٍ وَمَا لَا تُدْرَكُ عِلَّتُهُ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ كَسَائِرِ الْأُمُورِ التَّوْقِيفِيَّةِ وَالتَّعَبُّدِيَّةِ، وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْعِلَّةُ اخْتِصَاصُهُ بِالْجِدَارِ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِعِلَّةٍ، وَإِنْ قَالَ: الْعِلَّةُ خَوْفُ إِضْعَافِهِ، قُلْنَا: هِيَ عِلَّةٌ سَاقِطَةٌ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا
يَلْتَزِمُونَ بِنَاءَهُ كُلَّمَا وَهِيَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلَّلُ بِتَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ فَيَعُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عِلَّتِهِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: قَدْ وَقَعَ فِي الْأَحَادِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ هَذَا عَهْدٌ عَهِدَ بِهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ عَلِمَ صلى الله عليه وسلم مَا هُوَ كَائِنٌ فِي أُمَّتِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَعَلِمَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَقَعُ فِي خِلَافَةِ عمر إِزَالَةُ تِلْكَ الْجُدُرِ الْمَوْجُودَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِسِنِينَ قَلِيلَةٍ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الَّذِي عَهِدَ بِهِ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْجُدُرِ لَبَيَّنَهُ لِعِلْمِهِ بِزَوَالِهَا عَنْ قَرِيبٍ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: قَدْ وَرَدَ عَنْ عائشة أَنَّهَا كَانَتْ تَمْنَعُ أَهْلَ الدُّورِ الْمُطِيفَةِ بِالْمَسْجِدِ مِنْ دَقِّ الْوَتَدِ فِي الْحَائِطِ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِزَالَةِ الْجُدُرِ الَّتِي كَانَتْ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُدُرَ الَّتِي أُعِيدَتْ لَهَا حُكْمُ الْجُدُرِ الْأُوَلِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ وَلَمْ يَقُلْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْجِدَارِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ أَنَّ دَارَ أبي بكر الَّتِي أُبْقِيَتْ فِيهَا الْخَوْخَةُ بَاعَهَا أبو بكر فِي أَمْرٍ احْتَاجَ إِلَيْهِ فَاشْتَرَتْهَا حفصة أم المؤمنين بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا وُسِّعَ الْمَسْجِدُ فِي زَمَنِ عثمان طَلَبَ مِنْهَا أَنْ تَبِيعَهَا لِيُوَسِّعَ بِهَا الْمَسْجِدَ فَامْتَنَعَتْ وَقَالَتْ: كَيْفَ بِطَرِيقِي فِي الْمَسْجِدِ؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ الِاخْتِصَاصَ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْجِدَارِ امْتِنَاعَ فَتْحِ الْأَبْوَابِ وَنَحْوِهَا وَلَوْ بَعْدَ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ النَّبَوِيِّ.
السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ ابن الصلاح سُئِلَ عَنْ رِبَاطٍ مَوْقُوفٍ عَلَى الصُّوفِيَّةِ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُفْتَحَ فِيهِ بَابٌ جَدِيدٌ مُضَافًا إِلَى بَابِهِ الْقَدِيمِ، فَأَجَابَ بِالْجَوَازِ بِشُرُوطٍ وَاسْتَدَلَّ بِفِعْلِ عثمان رضي الله عنه حَيْثُ فَتَحَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَبْوَابًا زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ، وَهَذَا مِنِ ابن الصلاح دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْجِدَارَ الْمُعَادَ لَهُ حُكْمُ الْجِدَارِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ عثمان رضي الله عنه إِنَّمَا فَتَحَ فِي جِدَارِهِ الَّذِي بَنَاهُ هُوَ بَعْدَ إِزَالَةِ الْجُدُرِ النَّبَوِيَّةِ وَالْجُدُرِ الْعُمَرِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُخْتَلِفًا لَمْ يَنْهَضْ لِابْنِ الصَّلَاحِ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ فِي الْفَرْقِ جِدَارُ الرِّبَاطِ جِدَارُ الْوَاقِفِ فَلَا يُفْتَحُ فِيهِ، وَالْجِدَارُ الَّذِي فَتَحَ فِيهِ عثمان لَيْسَ جِدَارَ الْوَاقِفِ بَلْ هُوَ جِدَارٌ وَمَلَكَهُ فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ، وَقَدْ نَقَلَ السبكي كَلَامَ ابن الصلاح هَذَا فِي فَتَاوِيهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ فَهُوَ تَقْرِيرٌ لِهَذَا الْفَهْمِ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: صَرَّحَ العبادي، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِأَنَّهُ لَوِ الْتَمَسَ مِنَ النَّاسِ آلَةً لِيَبْنِيَ بِهَا مَسْجِدًا فَأَعْطَوْهُ الْآلَةَ فَبَنَى بِهَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا بِنَفْسِ الْبِنَاءِ، وَلَا يَحْتَاجِ إِلَى إِنْشَاءِ وَقْفٍ، كَمَا لَوْ أَحْيَا مَوَاتًا بِنِيَّةٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا بِالنِّيَّةِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى وَقْفٍ، نَقَلَهُ الزركشي فِي التَّكْمِلَةِ عَنِ الجويني، وابن العماد فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ عَنِ العبادي، وَهَذَا يَدْفَعُ الْقَوْلَ بِأَنَّ حَائِطَ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ إِذَا أَعَادَهَا الْإِمَامُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِنْشَاءِ وَقْفٍ ; لِأَنَّهُ مَا نَوَى بِعِمَارَتِهَا إِلَّا إِعَادَةَ حَائِطِ الْمَسْجِدِ، وَالْقَرَائِنُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ مُتَضَافِرَةٌ مِنْهَا كَوْنُ الْبِنَاءِ عَلَى أَرْضِ الْمَسْجِدِ.
التَّاسِعَ عَشَرَ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا بَنَى مَسْجِدًا فِي مَوَاتٍ وَنَوَى بِهِ الْمَسْجِدَ صَارَ بِهِ مَسْجِدًا وَيُغْنِي الْفِعْلُ مَعَ النِّيَّةِ عَنِ الْقَوْلِ، قَالَ: وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الْآلَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ الْبِنَاءِ، وَهِيَ قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا لِلْمَسْجِدِ فَيَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ نَقَلَهُ الزركشي فِي التَّكْمِلَةِ، وَصَّدَرَ هَذَا الْكَلَامَ وَالِاسْتِثْنَاءَ الَّذِي فِي آخِرِهِ بِبُطْلَانِ الْقَوْلِ بِأَنَّ حَائِطَ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ إِذَا أَعَادَهَا الْإِمَامُ صَارَتْ مِلْكَهُ وَيَحْتَاجُ إِلَى وَقْفٍ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ عثمان رضي الله عنه أَنَّهُ حِينَ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ صَرَّحَ بِوَقْفٍ وَلَا ذَكَرَ لَفْظًا ذَكَرَهُ الزركشي فِي التَّكْمِلَةِ، قُلْتُ: وَكَذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَا عَنِ المهدي حِينَ وَسَّعَاهُ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ بَنَوْهُ بَعْدَ الْحَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِوَقْفٍ وَلَا ذَكَرُوا لَفْظًا وَلَا نَبَّهَهُمْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْبِنَاءَ الْمَحْدُودَ تَابِعٌ لِلْمَسْجِدِ الْقَدِيمِ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: قَالَ الزركشي: أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ لَوْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ حِينَ بَنَى مَسْجِدَهُ تَلَفَّظَ بِوَقْفِهِ، قُلْتُ: وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَنَاهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِالْوَحْيِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِوَقْفِهِ، فَإِنَّ قُوَّةَ الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ تُعْطِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ مَسْجِدِهِ وَتَسْتَمِرُّ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ كُلُّ مَنْ جَدَّدَهُ إِلَى تَصْرِيحٍ بِوَقْفِهِ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا نَقْلًا عَنِ الْإِمَامِ: لَا شَكَّ فِي انْقِطَاعِ
تَصَرُّفِ الْإِمَامِ عَنْ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ انْتَهَى.
وَهَذَا الْكَلَامُ صَرِيحٌ فِي مَنْعِهِ مِنْ أَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا عَلَى بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ وَيَضُمَّ إِلَيْهَا زِيَادَةً فِي الْبِنَاءِ مَوْصُولَةً بِهَا مُتَمَلِّكًا ذَلِكَ وَيَتَصَرَّفَ فِي الْمَجْمُوعِ بِفَتْحِ الشَّبَابِيكِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ إِعَادَةُ حَائِطِ الْمَسْجِدِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ بِمَا شَاءَ مَعَ وُجُودِ سَهْمِ الْمَصَالِحِ الَّذِي يَجِبِ عَلَيْهِ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ مِنْهُ وَإِعَادَتُهَا كَمَا كَانَتْ؟ هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ، وَمَا أَظُنُّ فَقِيهًا يَسْمَحُ بِهِ إِلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ نِيَّةِ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ، وَكَذَا مَعَ وُجُودِ رِيعٍ مُتَحَصِّلٍ مِنْ وَقْفِ الْمَسْجِدِ.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: قَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ مِلْكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَابِتٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِثُبُوتِ الْحَيَاةِ لَهُ، وَلِهَذَا أُنْفِقَ عَلَى زَوْجَاتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ مِنْ سَهْمِهِ الَّذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ، فَكَذَلِكَ يُبْنَى مِنْهُ مَا تَهَدَّمَ مِنْ مَسْجِدِهِ، وَيُعَادُ عَلَى وَضْعِهِ، وَشَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَصَرُّفٍ.
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ جَمِيعَ مَا بِأَيْدِي الْمُلُوكِ الْآنَ هُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ شَيْءٌ يُثْبِتُ أَنَّهُ مِلْكُهُمْ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، وَأَيُّ جِهَةٍ فَرَضَتْ فَعَنْهَا الْجَوَابُ الشَّافِي فَالْحَائِطُ الْمُعَادُ لَمْ يُبْنَ بِمَالِ نَفْسِهِ فَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ.
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: قَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى قُرَيْشٍ حَيْثُ تَصَرَّفُوا فِي الْكَعْبَةِ لَمَّا بَنَوْهَا، وَلَمْ يُعِيدُوهَا عَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَسَدُّوا أَحَدَ بَابَيْهَا، وَغَيَّرُوا مَوْضِعَ الْآخَرِ وَهَمَّ بِهَدْمِهَا، وَإِعَادَةِ الْبَابَيْنِ كَمَا كَانَا لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَصْلَحَةُ التَّآلُفِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَخَوْفُ ارْتِدَادِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ الْمُعَادَ لَهُ حُكْمُ مَا كَانَ قَبْلَ الْهَدْمِ، وَإِلَّا كَانَ يُقَالُ أَنَّ قُرَيْشًا إِنَّمَا تَصَرَّفَتْ فِي بِنَائِهَا الَّذِي بَنَتْهُ مِنْ مَالِهَا، وَأَنَّ بِنَاءَ إِبْرَاهِيمَ قَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ وَزَالَ رَسْمُهُ، وَلِهَذَا قَالَ السبكي فِيمَا سَيَأْتِي نَقْلُهُ عَنْهُ: أَنَّ هَمَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِ الْبَابِ الثَّانِي فِي الْكَعْبَةِ رَدٌّ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ وَبَيْنَ مَا بَنَاهُ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ، وَإِنَّمَا قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي بَنَاهَا آحَادُ النَّاسِ إِنْ سَلِمَ الْفَرْقُ وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ ابن الصلاح قِيَاسُ رِبَاطِ الصُّوفِيَّةِ فِي إِحْدَاثِ بَابٍ فِيهِ عَلَى الْكَعْبَةِ.
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: صَرَّحَ ابن العماد فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ مَسَاجِدُ مُتَلَاصِقَةً فَأَرَادَ النَّاظِرُ رَفْعَ الْجِدَارِ الَّتِي بَيْنَهَا وَجَعْلَهَا مَسْجِدًا وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَغْيِيرِ مَعَالِمِ الْوَقْفِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ جِدَارِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَالِاقْتِصَارُ
عَلَى جِدَارٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ لِلْمَدْرَسَةِ الَّتِي تُلَاصِقُهُ مُكْتَفِيًا بِهِ عَنْ جِدَارِ الْمَسْجِدِ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَدْرَسَةِ أَوِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ جِدَارٍ لِلْمَسْجِدِ مُتَمَيِّزٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ جِدَارِ غَيْرِهِ يَخْتَصُّ بِهِ وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ.
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: هَذِهِ الْمَدْرَسَةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَسْجِدًا كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَدَارِسِ وَالرُّبَطِ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ فِي الْجِدَارِ، إِذْ لَا يَتَمَيَّزُ حِينَئِذٍ جِدَارُ الْمَسْجِدِ الَّذِي حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ مِنْ جِدَارِ الْمَدْرَسَةِ الَّذِي لَا يُعْطَى حُكْمُ الْمَسْجِدِ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا تَحْرِيمُ مُكْثِ الْجُنُبِ وَصِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ وَالِاعْتِكَافُ وَتَحْرِيمُ الْبُصَاقِ وَحَمْلُ الْجُذُوعِ وَإِعَادَتُهُ إِذَا هُدِمَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ، أَوْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْجِدًا فَيُنْظَرُ إِلَى مَا أَوْرَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَنْعُ مَخْصُوصٌ بِالْقَدْرِ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي وُسِّعَ بِهَا فَلَا وَهَذَا مَرْدُودٌ بِنَصِّ الْعُلَمَاءِ، عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَيْنِ وَلَوْ وُسِّعَا مَعًا لَمْ تَخْتَلِفْ أَحْكَامُهُمَا الثَّابِتَةُ لَهُمَا، وَقَدْ وُسِّعَ فِي زَمَنِ عثمان وَغَيْرِهِ، وَاسْتَمَرَّ الصَّحَابَةُ عَلَى إِبْقَاءِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ.
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ بُنِيَ مَسْجِدِي هَذَا إِلَى صَنْعَاءَ كَانَ مَسْجِدِي» ، وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ مُدَّ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ لَكَانَ مِنْهُ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ وَالْأَثَرُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ أَحْكَامَ الْمَسْجِدِ ثَابِتَةٌ لَهُ، وَلَوْ هُدِمَ عَمَّا كَانَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَأُعِيدَ وَلَوْ وُسِّعَ وَامْتَدَّ، وَأَيْضًا فَالتَّوْسِعَةُ لَا تَمْنَعُ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِطْرَاقِ إِلَى الْقَدْرِ الْمَزِيدِ الِاسْتِطْرَاقُ إِلَى بَقِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ فَالْمَحْذُورُ بَاقٍ.
فَصْلٌ: وَقَدْ تَعَرَّضَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا لِلْمَسْأَلَةِ وَعُمُومِهَا فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَسُئِلَ الشَّيْخُ تقي الدين عَنْ بَابٍ فُتِحَ فِي سُورِ الْمَسْجِدِ هَلْ بَعْدَ فَتْحِهِ يَجُوزُ الِاسْتِطْرَاقُ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ مِثْلَ الْأَبْوَابِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمِثْلَ شُبَّاكِ الطَّيْبَرْسِيَّةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْجَامِعِ الْأَزْهَرِ أَمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؟ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْجِدَارُ عَرِيضًا بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى وَضْعِ الْقَدَمِ فِي وَسَطِهِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُتَكَلَّمُ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي جَوَازِ فَتْحِ الْبَابِ الْمَذْكُورِ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكَادُ الشَّافِعِيَّةُ يَرْتَابُونَ فِي عَدَمِ إِيجَازِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَحْتَرِزُونَ عَنْ تَغْيِيرِ الْوَقْفِ جِدًّا، وَلَمَّا فُتِحَ شُبَّاكُ الطَّيْبَرْسِيَّةِ فِي جِدَارِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ وَرَأَيْتُهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَلَمَّا فَتَحَ الشَّيْخُ علاء الدين فِي بَيْتِهِ فِي الْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ شُبَّاكًا
لَطِيفًا لِأَجْلِ الضَّوْءِ خَشِيَ الْإِنْكَارَ [عَلَيْهِ] فَقَالَ لِي: إِنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى كَلَامٍ لابن الرفعة فِي الْمَطْلَبِ شَرْحِ الْوَسِيطِ. وَرَأَيْتُ أَنَا ذَلِكَ الْكَلَامَ عِنْدَ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي تَعْلِيلِ الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْجَارِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ ; لِأَنَّهُ يَنْقُصُ الْوَقْفُ وَيُخَالِفُ غَرَضَ الْوَاقِفِ، فَقَالَ ابن الرفعة: قَوْلُهُ: وَيُخَالِفُ غَرَضَ الْوَاقِفِ يُفْهَمُ أَنَّ أَغْرَاضَ الْوَاقِفِينَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهَا يُنْظَرُ إِلَيْهَا ; وَلِهَذَا كَانَ شَيْخُنَا عماد الدين يَقُولُ: إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ تَغْيِيرَ بِنَاءِ الْوَقْفِ فِي صُورَتِهِ لِزِيَادَةِ رِيعِهِ جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْوَاقِفُ بِلَفْظِهِ ; لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ ذَكَرَهُ الْوَاقِفُ حَالَةَ الْوَقْفِ لَأَثْبَتَهُ فِي كِتَابِ وَقْفِهِ. قَالَ ابن الرفعة: وَقُلْتُ: ذَلِكَ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتِهِ. وَقَاضِي الْقُضَاةِ تقي الدين بن دقيق العيد، وَأَنَّ قاضي القضاة تاج الدين وَوَلَدَهُ قاضي القضاة صدر الدين عَمِلَا بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْوَقْفِ مِنْ تَغْيِيرِ بَابٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ لِي فِي جَوَابِ ذَلِكَ: كَانَ وَالِدِي يَعْنِي الشَّيْخَ مجد الدين يَقُولُ: كَانَ شَيْخِي المقدسي يَقُولُ بِذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ قَالَ الشيخ تقي الدين: وَنَاهِيكَ بالمقدسي أَوْ كَمَا قَالَ: فَأَشْعَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِرِضَاهُ فَاغْتَبَطَ ابن الرفعة بِمَا اسْتَشْعَرَهُ مِنْ رَضَى الشَّيْخِ تقي الدين وَكَانَ قُدْوَةَ زَمَانِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَكَانَ بِحَيْثُ يُكْتَفَى مِنْهُ بِأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، والمقدسي شَيْخُ وَالِدِهِ مَالِكِيٌّ فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ قُدْوَةٌ أَيْضًا، وَقَدْ قُلْتُ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: أَنَّ الَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْجَوَازِ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُغَيِّرُ مُسَمَّى الْوَقْفِ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يُزِيلَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهِ بِأَنْ يَنْقُلَ بَعْضَهُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، فَإِنِ اقْتَضَى زَوَالَ شَيْءٍ مِنَ الْعَيْنِ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا وُجِدَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ فَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْوَقْفِ، فَهَذَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ مَقْصُودِي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَإِنْ لَمْ أُصَرِّحْ بِهِ، وَفَتْحُ شُبَّاكِ الطَّيْبَرْسِيَّةِ لَا مَصْلَحَةَ لِجَامِعِ الْأَزْهَرِ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ فَتْحُ أَبْوَابٍ لِلْحَرَمِ لَا حَاجَةَ لِلْحَرَمِ بِهَا وَإِنَّمَا هِيَ لِمَصْلَحَةِ سَاكِنِيهَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ.
وَفِي فَتَاوَى ابن الصلاح رِبَاطٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الصُّوفِيَّةِ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُفْتَحَ فِيهِ بَابٌ جَدِيدٌ مُضَافًا إِلَى بَابِهِ الْقَدِيمِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ بِمَنْعٍ وَلَا إِطْلَاقٍ؟ أَجَابَ: إِنِ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ تَغْيِيرَ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَنْ هَيْئَةٍ كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْوَقْفِ إِلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مُجَانِسَةٍ لَهَا مِثْلَ أَنْ يُفْتَحَ الْبَابُ إِلَى أَرْضٍ وُقِفَتْ بُسْتَانًا مَثَلًا فَيَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ مَحَلِّ الِاسْتِطْرَاقِ مِنْهُ، وَجَعْلَ ذَلِكَ الْقَدْرِ طَرِيقًا بَعْدَ أَنْ كَانَ أَرْضَ غَرْسٍ وَزِرَاعَةٍ فَهَذَا
وَشِبْهُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مُجَرَّدَ فَتْحِ بَابٍ جَدِيدٍ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْمَصْلَحَةِ لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ الصَّحِيحَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْوِيغِهِ الْحَدِيثَ: " «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكَ بِالْكُفْرِ لَجَعَلْتُ لِلْكَعْبَةِ بَابَيْنِ» وَلَا فَرْقَ، وَالْأَثَرُ فِعْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ إِجْمَاعٌ.
قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ لَكِنْ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِالْكَعْبَةِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْبَابَيْنِ كَانَا فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ فَفَتْحُ الثَّانِي رَدٌّ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ، وَأَمَّا فِعْلُ عثمان فَكَانَ لِمَصْلَحَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَلْزَمُ طَرْدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ هَدْمٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ جِئْنَا نَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ ابن الصلاح: لَا بُدَّ أَنْ يُصَانَ ذَلِكَ عَنْ هَدْمِ شَيْءٍ لِأَجْلِ الْفَتْحِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْمَكَانِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْقُوفِ، فَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُ الْوَقْفِ فِيهِ بِبَيْعٍ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ الْفَتْحُ بِانْتِزَاعِ حِجَارَتِهِ بِأَنْ تُجْعَلَ فِي طَرَفٍ آخَرَ مِنَ الْمَكَانِ، فَلَا بَأْسَ - هَذَا كَلَامُ ابن الصلاح، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَتْحُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فِي بَابٍ جَدِيدٍ فِي الْحَرَمِ إِذَا ضَاقَتْ أَبْوَابُهُ مِنِ ازْدِحَامِ الْحَجِيجِ وَنَحْوِهِمْ، فَيُفْتَحُ فِيهِ بَابٌ آخَرُ وَأَكْثَرُ لِيَتَّسِعُوا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ أَنَّهُ جَائِزٌ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، أَمَّا غَيْرُهُ لِغَرَضٍ خَاصٍّ مِنْ جِيرَانِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَلَا.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي وَهُوَ جَوَازُ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَا نَقْلَ عِنْدِي فِي مِثْلِهِ، وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّهُ حَيْثُ جَازَ الْفَتْحُ جَازَ الِاسْتِطْرَاقُ وَلَا إِشْكَالَ، وَحَيْثُ لَمْ يَجُزِ الْفَتْحُ فَقَدْ خَطَرَ لِي فِي نَظَرِي فِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْكَعْبَةِ الَّذِي هُوَ الْيَوْمَ، وَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَتْهُ قُرَيْشٌ بَدَلًا عَنِ الْبَابِ التَّحْتَانِيِّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَقَدْ دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ، وَخَطَرَ لِي فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّ دَخُولَ الْكَعْبَةِ مَشْرُوعٌ سُنَّةً وَرُبَّمَا كَانَ وَاجِبًا، فَلَا يُتْرَكُ لِفِعْلِ قُرَيْشٍ وَلَمْ يَكُنْ تَغْيِيرُ ذَلِكَ الْبَابِ مُمْكِنًا لِمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِكَ " فَاجْتَمَعَ فِي بَابِ الْكَعْبَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا جَوَازُ إِبْقَائِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي الْحَاجَةُ إِلَى دُخُولِ الْكَعْبَةِ إِقَامَةً لِلشَّرْعِ الْمَسْنُونِ وَالْوَاجِبِ وَهَكَذَا الْآنَ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِ تَغْيِيرِهِمَا مَعًا، وَيَكْفِي تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَلِيلًا لِجَوَازِ إِبْقَاءِ ذَلِكَ الْبَابِ وَالدُّخُولِ مِنْهُ رَدْعٌ يَكُونُ فُتِحَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدُخُولُهُ مِنْهُ شَرْعٌ مُسْتَقِلٌّ، وَيَكُونُ أَيْضًا فِي أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَقَدْ أُفْرِدَ عَنْهُ بِبِنَاءٍ لَطِيفٍ فِيهِ فَتْحَتَانِ شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ فِي جِرْيَةٍ مُتَلَاصِقَتَانِ لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ وَالدُّخُولُ فِيهِ مِنْ إِحْدَى الْفَتْحَتَيْنِ، أَوْ مِنْ فَوْقِ جِدَارِهِ اللَّطِيفِ مَا أَظُنُّ أَحَدًا يَمْنَعُ مِنْهُ وَلَا أَدْرِي هَلْ دَخَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَا، وَلَكِنْ جَاءَ فِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ لعائشة:
" صَلِّي فِيهِ " وَالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا يَكْفِي فِي مَشْرُوعِيَّةِ إِبْقَائِهِ وَالدُّخُولِ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْفَتْحَتَيْنِ، وَمِنَ التَّسَوُّرِ عَلَى جِدَارِهِ، وَكَيْفَ كَانَ فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الدُّخُولِ فِيهِ [جَازَ] الدُّخُولُ مِنْهُ كَالدُّخُولِ فِي الْكَعْبَةِ لِاجْتِمَاعِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ كَانَ الْجَوَازُ لِأَجْلِ جَوَازِ الْإِبْقَاءِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَلِلتَّقْرِيرِ؟ وَأَمَّا الْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ لِلْحَرَمِ مِنْ أَمَاكِنَ لِأَصْحَابِهَا فَلَا حَاجَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا لِلْحَرَمِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ فَتْحُهَا وَلَا يَجُوزُ إِبْقَاؤُهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّخُولِ إِلَى الْحَرَمِ مِنْهَا، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ فَيَظْهَرُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا مَعْنًى فَإِنَّ شَيْخَنَا ابن الرفعة لَمَّا زُيِّنَتِ الْقَاهِرَةُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ زِينَةً عَظِيمَةً أَفْتَى بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا قَالَ: لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُعْمَلُ لِيُنْظَرَ إِلَيْهَا فَهُوَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهَا
[فَفِي] تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا حَمْلٌ عَلَى تَرْكِهَا، وَهَكَذَا إِذَا تَوَاطَأَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى سَدِّهِ الْوَاجِبِ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْوَاجِبِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ حَرَامٌ، بَلْ أَقُولُ أَنَّ الدُّخُولَ مِنْهُ دِعَايَةٌ إِلَى الْحَرَامِ وَدَوَامِهِ فَيَكُونُ حَرَامًا، وَالثَّانِي أَنَّ الْوَقْفَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَنَا، وَإِنَّمَا جَازَ لَنَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِإِذْنٍ مِنَ الْوَاقِفِ شَرْطًا أَوْ عُرْفًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ، فَوَافَقَ الْجَامِعَ وَالْحَرَمَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا، وَقْفُهُ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَصَرَّفَ فِيهِ إِلَّا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَالدُّخُولُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمَفْتُوحِ لَمْ يَقْتَضِهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ فَلَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لَنَا، وَأَيْضًا فَمَنْ مَلَكَ مَكَانًا مَلَكَ تَحْتَهُ إِلَى تَحْتِ تُخُومِ الْأَرْضِ، وَفَوْقَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَالْهَوَاءِ الَّذِي فَوْقَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ فَالدَّاخِلُ مِنَ الْبَابِ مُتَصَرِّفٌ فِي هَوَاءِ غَيْرِهِ بِمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ مُلَاحَظَةِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعَتَبَةُ عَرِيضَةً، بِحَيْثُ يَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا أَوْ لَا، نَعَمْ إِنْ كَانَتْ عَرِيضَةً يَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْهَوَاءِ وَالْقَرَارِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ.
وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ الْمَنْعُ إِنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ الْجِدَارِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا زَالَ الْجِدَارُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْمَكَانِ كَمَا لَوِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ، وَاعْتِبَارُ مِلْكِ الْهَوَاءِ بِحَيْثُ يُقَالُ لَيْسَ لَهُمَا الْعُبُورُ إِذَا انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ لَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَلَا الْعُرْفُ وَهُوَ مُسْتَنْكَرٌ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يُتَخَيَّلُ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا إِعَانَةٌ عَلَى ظُلْمٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِعَانَةً عَلَى ظُلْمٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يُفِيدُ الِامْتِنَاعُ مِنَ الدُّخُولِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا كَانَ الْمُمْتَنِعُ مُطَاعًا، فَيَكُونُ امْتِنَاعُهُ سَبَبًا لِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ فَيَجِبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا مَنْعَ، لَا سِيَّمَا قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّغْيِيرِ سَاكِنًا فِي جِوَارِ الْحَرَمِ فِي مَكَانٍ قَدْ فُتِحَ مِنْهُ بَابٌ كَذَلِكَ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَدِّهِ
فَيُحْتَمَلُ جَوَازُ دُخُولِهِ مِنْهُ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ إِذَا احْتَاجَ بِأَنْ يَكُونَ فِي اللَّيْلِ وَنَحْوِهِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَا مَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ فَإِنَّا نَقْطَعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِجَوَازِ دُخُولِهِ قِيَاسًا عَلَى الْكَعْبَةِ لِلْحَاجَةِ، وَأَمَّا السَّكَنُ فِيهِ فَلَا يَمْتَنِعُ - هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ السبكي فِي فَتَاوِيهِ.
وَقَالَ الزركشي فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ: بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابَ الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ وَأَدْخَلَ فِيهِ حَدِيثَ أبي سعيد «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ وَقَالَ: " لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أبي بكر» ، وَظَاهِرُ الْخَبَرِ الْمَنْعُ وَخُصُوصِيَّةُ الصِّدِّيقِ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ هَذِهِ عِبَارَتُهُ، وَأَوْرَدَ ابن العماد فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ كَلَامَ السبكي بِحُرُوفِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى حَدِيثِ الْأَمْرِ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ إِشْكَالًا وَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ فَقَالَ: يَلْزَمُ عَلَى الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ - يَعْنِي الَّتِي أَمَرَ بِسَدِّهَا - إِنْ كَانَتْ مِنْ أَصْلِ الْوَقْفِ الَّتِي وُضِعَ الْمَسْجِدُ عَلَيْهَا لَزِمَ عَلَيْهِ جَوَازُ تَغْيِيرِ مَعَالِمِ الْوَقْفِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الْهَيْئَةِ الَّتِي وُضِعَ عَلَيْهَا أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً لَزِمَ عَلَيْهِ جَوَازُ فَتْحِ بَابٍ فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَكُوَّةٍ يَدْخُلُ مِنْهَا الضَّوْءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةٌ حَتَّى يَجُوزُ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ أَنْ يَفْتَحَ مِنْ دَارِهِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَسْجِدِ بَابًا إِلَى الْمَسْجِدِ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَاقِفِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي وَقَفَ الْمَسْجِدَ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ انْتِقَالِ الْوَقْفِ وَزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ عِبَارَتُهُ.
قُلْتُ: الْإِشْكَالُ سَاقِطٌ فَإِنَّ الْفَتْحَ أَوَّلًا كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَوَحْيٍ، فَكَانَ جَائِزًا ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالسَّدِّ بِوَحْيٍ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ، وَقَدْ فُهِمَ مِنْ كَلَامِ السبكي السَّابِقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَتْحُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُغَيِّرُ مُسَمَّى الْوَقْفِ، وَأَنْ لَا يُزِيلَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْوَقْفِ أَوْ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا شَرْطٌ رَابِعٌ مِنْ فَتَاوَى ابن الصلاح، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ نَصٌّ عَلَى مَنْعِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ جَازَ الْفَتْحُ وَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ فُقِدَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ شَرْطَانِ:
الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: فَإِنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ لِلْمَسْجِدِ بَلْ لِلْمَدْرَسَةِ الْمُجَاوِرَةِ، كَمَا قَالَهُ السبكي فِي الطَّيْبَرْسِيَّةِ مَعَ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، وَفِي الْبُيُوتِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالرَّابِعُ فَإِنَّ الْوَاقِفَ وَهُوَ صَاحِبُ الشَّرْعِ صلى الله عليه وسلم نَصَّ عَلَى مَنْعِهِ، وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى الْوَحْيِ الشَّرِيفِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ وَلَوْ قِيلَ بِالْجَوَازِ فِي بَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ بَنَى السُّلْطَانُ
سِقَايَةً لِلشُّرْبِ فِي رَحَبَةِ الْجَامِعِ الطُّولُونِيِّ وَفَتَحَ لَهُ شُبَّاكًا فِي الْجِدَارِ الْمُحَوِّطِ عَلَى الرَّحَبَةِ لِيُسَهِّلَ شُرْبَ الْمَارِّينَ مِنْهَا، وَهَذَا الْفَتْحُ جَائِزٌ هُنَا لِوُجُودِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَعَدَمِ نَصٍّ مِنَ الْوَاقِفِ عَلَى مَنْعِهِ، وَلَوْ أَرَادَ السُّلْطَانُ الْآنَ الزِّيَادَةَ فِي عِدَّةِ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لَجَازَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يُسْتَحَبُّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا وُجُودُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَالثَّانِي الرَّدُّ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَسَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِشْرُونَ بَابًا.
فَائِدَةٌ نَخْتِمُ بِهَا الْكِتَابَ: قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فَرْعٌ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ آخِرِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ قَالَ: «بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سِتِّينَ ذِرَاعًا أَوْ يَزِيدُ،» قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: جَعَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ طُولَ الْمَسْجِدِ مِائَةً وَسِتِّينَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ فِي مُقَدِّمَه مِائَتَيْنِ وَفِي مُؤَخَّرِهِ ثَمَانِينَ، زَادَ فِيهِ المهدي مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ فَقَطْ مِائَةً وَخَمْسِينَ، وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّةً، كَمَا كَانَتْ فِي زَمَنِ عمر، وَزَادَ فِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَجَعَلَ طُولَهُ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهُ دُونَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ، هَذَا مَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: بَرَكَتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي فِيهِ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدُ السهل وسهيل - غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ - وَكَانَا فِي حِجْرِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، فَابْتَاعَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَأَمَرَ أبا بكر أَنْ يُعْطِيَهُمَا ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّخْلِ الَّذِي فِي الْحَدِيقَةِ وَبِالْغَرْقَدِ الَّذِي فِيهِ أَنْ يُقْطَعَ، وَأَمَرَ بِاللَّبِنِ فَضُرِبَ، وَكَانَ فِي الْمِرْبَدِ قُبُورُ جَاهِلِيَّةٍ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُبِشَتْ، وَأَمَرَ الْعِظَامَ أَنْ تُغَيَّبَ، وَكَانَ فِي الْمِرْبَدِ مَاءٌ مُسْتَحَلٌّ فَسَيَّرُوهُ حَتَّى ذَهَبَ وَأَسَّسُوا الْمَسْجِدَ فَجَعَلُوا طُولَهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ إِلَى مُؤَخَّرِهِ مِائَةَ ذِرَاعٍ، وَفِي هَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ مِثْلَ ذَلِكَ فَهُوَ مُرَبَّعٌ، وَيُقَالُ: كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْمِائَةِ وَجَعَلُوا الْأَسَاسَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ عَلَى الْأَرْضِ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ بَنَوْهُ بِاللَّبِنِ وَبَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَجَعَلَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ
…
فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
وَجَعَلَ يَقُولُ:
هَذَا الْحَمَّالُ لَا حَمَّالُ خَيْبَرْ
…
هَذَا أَبْرَرُ بِنَا وَأَطْهَرْ
وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ: بَابًا فِي مُؤَخَّرِهِ، وَبَابًا يُقَالُ لَهُ بَابُ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْبَابُ الَّذِي يُدْعَى بَابَ عَاتِكَةَ، وَالْبَابَ الثَّالِثَ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْبَابُ الَّذِي يَلِي آلَ عُثْمَانَ، وَجَعَلَ طُولَ الْجِدَارِ بُسُطِهِ وَعُمُدِهِ الْجُذُوعَ وَسَقْفَهُ جَرِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَسْقُفُهُ؟ فَقَالَ: عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى خُشَيْبَاتٌ وَتَمَامُ الشَّأْنِ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ، وَبَنَى بُيُوتًا إِلَى جَنْبِهِ بِاللَّبِنِ وَسَقَّفَهَا بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَالْجَرِيدِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْبِنَاءِ بَنَى بعائشة فِي الْبَيْتِ الَّذِي بَابُهُ شَارِعٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَ سودة فِي الْبَيْتِ الْآخَرِ، الَّذِي يَلِيهِ إِلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِي آلَ عُثْمَانَ، وَأَخْرَجَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ مجمع بن يزيد قَالَ:«بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ مَرَّتَيْنِ، بَنَاهُ حِينَ قَدِمَ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ فِي مِائَةٍ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ بَنَاهُ وَزَادَ فِيهِ مِثْلَهُ فِي الدَّوْرِ وَضَرْبِ الْحُجُرَاتِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ» ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا بَنَاهُ بِالْجَرِيدِ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ بِاللَّبِنِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ.
وَقَالَ الأقفهسي فِي تَارِيخِ الْمَدِينَةِ: قِيلَ كَانَ عَرْضُ الْجِدَارِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبِنَةً ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَثُرُوا بَنَوْهُ لَبِنَةً وَنِصْفًا، ثُمَّ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ لَزِدْنَا، فَقَالَ: نَعَمْ فَزَادُوا فِيهِ، وَبَنَوْا جِدَارَهُ لَبِنَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَطْحٌ فَشَكَوُا الْحَرَّ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُقِيمَ لَهُ سَوَارٍ مِنْ جُذُوعٍ، ثُمَّ طُرِحَتْ عَلَيْهَا الْعَوَارِضُ وَالْحُصُرُ وَالْإِذْخِرُ، فَأَصَابَتْهُمُ الْأَمْطَارُ فَجَعَلَ يَكِفُ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ بِالْمَسْجِدِ فَطُيِّنَ، فَقَالَ: عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى، وَالْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا زَادَ فِيهِ عمر جَعَلَ طُولَهُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَبَدَّلَ أَسَاطِينَهُ بِأُخَرَ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَسَقَّفَهُ بِجَرِيدٍ، وَجَعَلَ طُولَ السَّقْفِ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَفَرَشَهُ بِالْحَصَى، وَلَمَّا زَادَ فِيهِ عثمان - وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ - جَعَلَ طُولَهُ مِائَةً وَسِتِّينَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّةً. وَلَمَّا زَادَ فِيهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَذَلِكَ بِأَمْرِ الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ - وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ - جَعَلَ طُولَهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ الْأَرْبَعَةِ مَنَارَةً لِلْأَذَانِ، وَجَعَلَ لَهُ عِشْرِينَ بَابًا وَبَنَى عَلَى الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ حَائِطًا، وَلَمْ يُلْصِقْهُ بِجِدَارِ الْحُجْرَةِ وَلَا بِالسَّقْفِ، وَطُولَهُ مِقْدَارَ نِصْفِ قَامَةٍ بِالْآجُرِّ، فَلَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هَدَمَ الْمَنَارَةَ الَّتِي هِيَ قِبَلَ الْمَسْجِدِ مِنَ الْغَرْبِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مُطِلَّةً عَلَى دَارِ مروان فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَأَطَلَّ عَلَى سليمان، وَهُوَ فِي الدَّارِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا، ثُمَّ زَادَ فِيهِ المهدي سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَلَمْ يَزِدْ بَعْدَهُ أَحَدٌ شَيْئًا، ثُمَّ عَمَّرَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي صَحْنِهِ قُبَّةً لِحِفْظِ حَوَاصِلِ الْحَرَمِ وَذَخَائِرِهِ، ثُمَّ احْتَرَقَ الْمَسْجِدُ الشَّرِيفُ بِالنَّارِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنَ الْحَرَّةِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ فَأَرْسَلَ الصُّنَّاعَ وَالْآلَاتِ مَعَ حُجَّاجِ الْعِرَاقِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَسَقَّفُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْحُجْرَةَ الشَّرِيفَةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ وَالشَّرْقِيِّ إِلَى بَابِ جِبْرِيلَ، وَسَقَّفُوا الرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قُتِلَ الْخَلِيفَةُ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَاسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى بَغْدَادَ، فَوَصَلَتِ الْآلَاتُ مِنْ صَاحِبِ الْيَمَنِ الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول، فَعَمِلَ إِلَى بَابِ السَّلَامِ، ثُمَّ عَمِلَ مِنْ بَابِ السَّلَامِ إِلَى بَابِ الرَّحْمَةِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ مِصْرَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ الْمُعِزِّي، ثُمَّ انْتَقَلَ الْمُلْكُ آخِرَ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الملك الظاهر بيبرس الصالحي، فَعَمِلَ فِي أَيَّامِهِ بَاقِيَ الْمَسْجِدِ وَجُعِلَتِ الْأَبْوَابُ أَرْبَعَةً، ثُمَّ لَمَّا حَجَّ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ أَرَادَ أَنْ يُدِيرَ عَلَى الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ داربزينا مِنْ خَشَبٍ، فَقَاسَ مَا حَوْلَهَا بِيَدِهِ، وَأَرْسَلَهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَعَمِلَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ وَطُولَهُ نَحْوَ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ فِي أَيَّامِ الملك المنصور قلاوون عُمِلَتِ الْقُبَّةُ عَلَى الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ فِي أَيَّامِ الملك العادل كتبغا زِيدَ فِي الداربزين الَّذِي عَلَى الْحُجْرَةِ حَتَّى وُصِلَ بِسَقْفِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ، ثُمَّ فِي أَيَّامِ الملك الناصر محمد بن قلاوون فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِمِائَةٍ جُدِّدَ سَقْفُ الرِّوَاقِ الَّذِي فِيهِ الرَّوْضَةُ الشَّرِيفَةُ، ثُمَّ جُدِّدَ السَّقْفُ الشَّرْقِيُّ وَالْغَرْبِيُّ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِعِمَارَةِ الْمَنَارَةِ الرَّابِعَةِ مَكَانَ الَّتِي هَدَمَهَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَعُمِّرَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِنْشَاءِ الرِّوَاقَيْنِ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، ثُمَّ فِي أَيَّامِ الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون جُدِّدَتِ الْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ أُحْكِمَتْ فِي أَيَّامِ الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِأَنْ سَمَّرَ عَلَيْهَا أَلْوَاحًا مِنْ
خَشَبٍ وَمِنْ فَوْقِهَا أَلْوَاحُ الرَّصَاصِ، ثُمَّ فِي أَيَّامِ سُلْطَانِ الْعَصْرِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ قايتباي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عَمَّرَ قُبَّةً أُخْرَى وَأَشْيَاءَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ نُزُولُ صَاعِقَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتِ الْمَسْجِدَ بِأَسْرِهِ، وَذَلِكَ فِي لَيْلَةِ ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ الصُّنَّاعَ وَالْآلَاتِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَعَلَيْهِمُ الخواجا شمس الدين بن الزمن، فَهَدَمَ الْحَائِطَ الْقِبْلِيَّةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بِجِوَارِ الْمَسْجِدِ مَدْرَسَةً بَاسْمِ السُّلْطَانِ وَيَجْعَلَ الْحَائِطَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَدْرَسَةِ، وَيَفْتَحَ فِيهِ بَابًا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَشَبَابِيكَ مُطِلَّةً عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ مَرْسُومًا مِنَ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ فَبَلَغَهُ مَنْعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: اسْتَفْتُوا الْعُلَمَاءَ، فَأَفْتَاهُ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاعَةٌ بِالْجَوَازِ، وَامْتَنَعَ آخَرُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَجَاءَنِي الْمُسْتَفْتِي يَوْمَ الْأَحَدِ رَابِعَ عَشَرِيَّ رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ فَجَمَعْتُ الْأَحَادِيثَ الْمُصَدَّرَ بِهَا، وَأَرْسَلْتُهَا لقاضي القضاة الشافعي، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَرَى اخْتِصَاصَهَا بِالْجِدَارِ النَّبَوِيِّ وَقَدْ أُزِيلَ، وَهَذَا الْجِدَارُ مِلْكُ السُّلْطَانِ يَفْتَحُ فِيهِ مَا شَاءَ، وَلَا يَصِيرُ وَقْفًا إِلَّا بِوَقْفِهِ، فَذَكَرْتُ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا، وَأَلْحَقْتُهَا بِالْأَحَادِيثِ مَعَ مَا ذُكِرَ مَعَهَا وَأَفْرَدْتُهَا تَأْلِيفًا، وَرَأَيْتُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرِيَّ رَجَبٍ فِي الْمَنَامِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي هِمَّةٍ وَأَنَا وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَرْسَلَنِي لَا أَدْرِي إِلَى عمر أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا أَدْرِي هَلْ أَرْسَلَنِي إِلَيْهِ لِأَدْعُوَهُ أَوْ لِأُبَلِّغَهُ رِسَالَةً، وَلَمْ أَضْبُطْ مِنَ الْمَنَامِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا أَرْجُو أَنْ لَا يُتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ، ثُمَّ بَرَزَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ بِالْفَتْحِ حَسْبَمَا أَفْتَاهُ مَنْ أَفْتَاهُ، وَسَافَرَ الْقَاصِدُ بِذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ وَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلَانِ مِنْ كِبَارِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ يُخْبِرَانِي أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَتِمُّ فَفِي رَمَضَانَ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ رُجِعَ عَنْهُ، وَعَدَلُوا إِلَى الْفَتْحِ مِنَ الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ، وَأَفْتَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ لِأَنَّ دَارَ أبي بكر رضي الله عنه كَانَتْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَكَانَ لَهُ بَابٌ مَفْتُوحٌ فَيُفْتَحُ نَظِيرُهُ فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ.
فَأَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَقَرَّرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أبا بكر رضي الله عنه لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي فَتْحِ الْبَابِ بَلْ أُمِرَ بِسَدِّ بَابِهِ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لَهُ فِي خَوْخَةٍ صَغِيرَةٍ وَهِيَ الْمُرَادَةُ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، فَلَا يَجُوزُ الْآنَ فَتْحُ بَابٍ كَبِيرٍ قَطْعًا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْمَعْنَى الِاسْتِطْرَاقُ فَيَسْتَوِيَ الْبَابُ وَالْخَوْخَةُ فِي الْجَوَازِ، لِأَنَّ النَّصَّ مِنَ الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّفْرِقَةِ حَيْثُ أَمَرَ بِسَدِّ بَابِهِ وَأَبْقَى خَوْخَتَهُ يَمْنَعُ مِنَ التَّسْوِيَةِ وَالْإِلْحَاقِ، وَأَمَّا جَوَازُ فَتْحِ الْخَوْخَةِ الْآنَ فَأَقُولُ: لَوْ بَقِيَتْ دَارُ أبي بكر وَاتَّفَقَ هَدْمُهَا وَإِعَادَتُهَا أُعِيدَتْ بِتِلْكَ الْخَوْخَةِ، كَمَا كَانَتْ بِلَا مِرْيَةٍ، وَكَانَ يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُعَادَ مِثْلُ تِلْكَ الْخَوْخَةِ قَدْرًا