المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد] - الحاوي للفتاوي - جـ ٢

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْمِنْحَةُ فِي السُّبْحَةِ]

- ‌[أَعْذَبُ الْمَنَاهِلِ فِي حَدِيثِ مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ]

- ‌[حُسْنُ التَّسْلِيكِ فِي حُكْمِ التَّشْبِيكِ]

- ‌[شَدُّ الْأَثْوَابِ فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ]

- ‌[الْعَجَاجَةُ الزَّرْنَبِيَّةُ فِي السُّلَالَةِ الزَّيْنَبِيَّةِ]

- ‌[آخِرُ الْعَجَاجَةِ الزَّرْنَبِيَّةِ فِي السُّلَالَةِ الزَّيْنَبِيَّةِ]

- ‌[الدُّرَّةُ التَّاجِيَّةُ عَلَى الْأَسْئِلَةِ النَّاجِيَةِ]

- ‌[رَفْعُ الْخِدْرِ عَنْ قَطْعِ السِّدْرِ]

- ‌[الْعُرْفُ الْوَرْدِيُّ فِي أَخْبَارِ الْمَهْدِيِّ]

- ‌[الْكَشْفُ عَنْ مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَلْفَ]

- ‌[الحديث المشهور على الألسنة أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْكُثُ فِي قَبْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ]

- ‌[ذِكْرُ مَا وَرَدَ أَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ]

- ‌[ذِكْرُ مَا وَرَدَ أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ]

- ‌[ذِكْرُ مُدَّةِ مُكْثِ النَّاسِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا]

- ‌[ذِكْرُ مُدَّةِ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ]

- ‌[كَشْفُ الرَّيْبِ عَنِ الْجَيْبِ]

- ‌[كِتَابُ الْبَعْثِ] [

- ‌هَلْ وَرَدَ أَنَّ الزَّامِرَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِزْمَارِهِ]

- ‌[حَدِيثُ أَوَّلُ مَا يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ]

- ‌[حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ حُورٌ عِينٌ]

- ‌[هَلْ وَرَدَ أَنَّ عَدَدَ دَرَجِ الْجَنَّةِ بِعَدَدِ آيِ الْقُرْآنِ]

- ‌[رَفْعُ الصَّوْتِ بِذَبْحِ الْمَوْتِ]

- ‌[إِتْحَافُ الْفِرْقَةِ بِرَفْوِ الْخِرْقَةِ]

- ‌[بُلُوغُ الْمَأْمُولِ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌ الْإِيمَانُ

- ‌[مَبْحَثُ الْإِلَهِيَّاتِ]

- ‌[إِتْمَامُ النِّعْمَةِ فِي اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ]

- ‌[تَنْزِيهُ الِاعْتِقَادِ عَنِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ]

- ‌[مَبْحَثُ النُّبُوَّاتِ]

- ‌[تَزْيِينُ الْآرَائِكِ فِي إِرْسَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَلَائِكِ]

- ‌[الجواب على قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبْعَثْ إِلَى الْمَلَائِكَةِ]

- ‌[ذِكْرُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي أَخَذْتُ مِنْهَا إِرْسَالَهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ]

- ‌[أَنْبَاءُ الْأَذْكِيَاءِ بِحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ]

- ‌[كِتَابُ الْإِعْلَامِ بِحُكْمِ عِيسَى عليه السلام]

- ‌[لُبْسُ الْيَلَبِ فِي الْجَوَابِ عَنْ إِيرَادِ حَلَبَ]

- ‌[مَبْحَثُ الْمَعَادِ]

- ‌[اللُّمْعَةُ فِي أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ السَّبْعَةِ]

- ‌[الِاحْتِفَالُ بِالْأَطْفَالِ]

- ‌[طُلُوعُ الثُّرَيَّا بِإِظْهَارِ مَا كَانَ خَفِيًّا]

- ‌[أَحْوَالُ الْبَعْثِ]

- ‌[تُحْفَةُ الْجُلَسَاءِ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ لِلنِّسَاءِ]

- ‌[مَسَالِكُ الْحُنَفَا فِي وَالِدَيِ الْمُصْطَفَى]

- ‌[الْفَتَاوَى الصوفية]

- ‌[الزهد]

- ‌[الْقَوْلُ الْأَشْبَهُ فِي حَدِيثِ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ]

- ‌[الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُودِ الْقُطْبِ وَالْأَوْتَادِ وَالنُّجَبَاءِ وَالْأَبْدَالِ]

- ‌[تَنْوِيرُ الْحَلَكِ فِي إِمْكَانِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ وَالْمَلَكِ]

- ‌[الْفَتَاوَى النَّحْوِيَّةُ وَمَا ضُمَّ إِلَيْهَا]

- ‌[مسائل متفرقة في النحو]

- ‌[فَجْرُ الثَّمْدِ فِي إِعْرَابِ أَكْمَلِ الْحَمْدِ]

- ‌[أَلْوِيَةُ النَّصْرِ فِي خِصِّيصَى بِالْقَصْرِ]

- ‌[الزَّنْدُ الْوَرِيُّ فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ السَّكَنْدَرِيِّ]

- ‌[رَفْعُ السِّنَةِ فِي نَصْبِ الزِّنَةِ]

- ‌[الْأَجْوِبَةُ الزَّكِيَّةُ عَنِ الْأَلْغَازِ السُّبْكِيَّةِ]

- ‌[الْأَسْئِلَةُ الْمِائَةُ]

- ‌[تَعْرِيفُ الْفِئَةِ بِأَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ الْمِائَةِ]

- ‌[الْأَسْئِلَةُ الْوَزِيرِيَّةُ وَأَجْوِبَتُهَا]

- ‌[الْأَوْجُ فِي خَبَرِ عَوْجٍ]

الفصل: ‌[تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد]

[تَنْزِيهُ الِاعْتِقَادِ عَنِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ]

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِي هُوَ أَخُو الْحُلُولِ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِهِ النَّصَارَى، إِلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوهُ بِعِيسَى عليه السلام أَوْ بِهِ وبمريم أُمِّهِ وَلَمْ يُعَدُّوهُ إِلَى أَحَدٍ، وَخَصُّوهُ بِاتِّحَادِ الْكَلِمَةِ دُونَ الذَّاتِ بِحَيْثُ إِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ سَلَكُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ إِلْزَامِهِمْ بِأَنْ يَقُولُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي مُوسَى عليه السلام وَفِي الذَّاتِ أَيْضًا، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا سَلَّمُوا بُطْلَانَ ذَلِكَ لَزِمَ إِبْطَالُ مَا قَالُوهُ، أَمَّا الْمُتَوَسِّمُونَ بِسِمَةِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَبْتَدِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذِهِ الْبِدْعَةَ وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ أَذْكَى فِطْرَةً وَأَصَحُّ لُبًّا مِنْ أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمُحَالُ، وَإِنَّمَا مَشَى ذَلِكَ عَلَى النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ أَبْلَدُ الْخَلْقِ أَذْهَانًا وَأَعْمَاهُمْ قُلُوبًا، غَيْرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ غُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَزَادُوا عَلَى النَّصَارَى فِي تَعْدِيَةِ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى قَصَرُوهُ عَلَى وَاحِدٍ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَدْ زَادُوا فِي الْكُفْرِ عَلَى النَّصَارَى، وَأَحْسَنُ مَا اعْتُذِرَ عَمَّنْ صَدَرَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَنَا الْحَقُّ، بِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالِ سُكْرٍ وَاسْتِغْرَاقِ غَيْبُوبَةِ عَقْلٍ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ غَابَ عَقْلُهُ وَأَلْغَى أَقْوَالُهُ فَلَا تُعَدُّ مَقَالَتُهُ هَذِهِ شَيْئًا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تُعَدَّ مَذْهَبًا يُنْقَلُ، وَمَا زَالَتِ الْعُلَمَاءُ وَمُحَقِّقُو الصُّوفِيَّةِ يُبَيِّنُونَ بُطْلَانَ الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَيُنَبِّهُونَ عَلَى فَسَادِهِ وَيُحَذِّرُونَ مِنْ ضَلَالِهِ، وَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ: قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ فِي بَابِ السَّمَاعِ: الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: سَمَاعُ مَنْ جَاوَزَ الْأَحْوَالَ وَالْمَقَامَاتِ، فَعَزَبَ عَنْ فَهْمِهِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى عَزَبَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَحْوَالِهَا وَمُعَامَلَاتِهَا وَكَانَ كَالْمَدْهُوشِ الْغَائِصِ فِي عَيْنِ الشُّهُودِ الَّذِي يُضَاهِي حَالُهُ حَالَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فِي مُشَاهَدَةِ جَمَالِ يُوسُفَ حَتَّى بُهِتْنَ وَسَقَطَ إِحْسَاسُهُنَّ، وَعَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَبِّرُ الصُّوفِيَّةُ بِأَنَّهُ فَنَى عَنْ نَفْسِهِ، وَمَهْمَا فَنَى عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ عَنْ غَيْرِهِ أَفْنَى، فَكَأَنَّهُ فَنَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا عَنِ الْوَاحِدِ الْمَشْهُودِ، وَفَنَى أَيْضًا عَنِ الشُّهُودِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِنِ الْتَفَتَ إِلَى الشُّهُودِ وَإِلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مُشَاهِدٌ فَقَدْ غَفَلَ عَنِ الْمَشْهُودِ، فَالْمُسْتَهْتِرُ بِالْمَرْئِيِّ لَا الْتِفَاتَ لَهُ فِي حَالِ اسْتِغْرَاقِهِ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَلَا إِلَى عَيْنِهِ الَّتِي بِهَا رُؤْيَتُهُ، وَلَا إِلَى قَلْبِهِ الَّذِي بِهِ لَذَّتُهُ ; فَالسَّكْرَانُ لَا خِبْرَةَ لَهُ مِنْ سُكْرِهِ، وَالْمُتَلَذِّذُ لَا خِبْرَةَ لَهُ مِنِ الْتِذَاذِهِ، إِنَّمَا خِبْرَتُهُ مِنَ الْمُلْتَذِّ بِهِ فَقَطْ، وَمِثَالُهُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، فَإِنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ مَهْمَا وَرَدَ

ص: 156

عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِالْعِلْمِ بِالشَّيْءِ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الشَّيْءِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ تَطْرَأُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَطْرَأُ أَيْضًا فِي حَقِّ خَالِقِيَّةِ الْخَالِقِ، وَلَكِنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَكُونُ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ وَلَا يَدُومُ، فَإِنْ دَامَ لَمْ تُطِقْهُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ، فَرُبَّمَا يَضْطَرِبُ تَحْتَ أَعْبَائِهِ اضْطِرَابًا تَهْلِكُ فِيهِ نَفْسُهُ، فَهَذِهِ دَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ فِي الْفَهْمِ وَالْوَجْدِ وَهِيَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ; لِأَنَّ السَّمَاعَ عَلَى الْأَحْوَالِ، وَهِيَ مُمْتَزِجَةٌ بِصِفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ نَوْعُ قُصُورٍ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ أَنْ يَفْنَى بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَحْوَالِهِ، أَعْنِي أَنَّهُ يَنْسَاهَا فَلَا يَبْقَى لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَيْهَا، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلنِّسْوَةِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْأَيْدِي وَالسَّكَاكِينِ، فَيَسْمَعُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَفِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ. وَهَذِهِ رُتْبَةُ مَنْ خَاضَ لُجَّةَ الْحَقَائِقِ، وَعَبَرَ سَاحِلَ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَاتَّحَدَ لِصَفَاءِ التَّوْحِيدِ وَتَحَقَّقَ بِمَحْضِ الْإِخْلَاصِ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا، بَلْ خَمَدَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بَشَرِيَّتُهُ، وَفَنَى الْتِفَاتُهُ إِلَى صِفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ رَأْسًا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ هُنَا نَشَأَ خَيَالُ مَنِ ادَّعَى الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ، وَقَالَ: أَنَا الْحَقُّ، وَحَوْلَهُ يُدَنْدِنُ كَلَامَ النَّصَارَى فِي دَعْوَى اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ، أَوْ تَدَرُّعِهَا بِهَا أَوْ حُلُولِهَا فِيهَا عَلَى مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُهُمْ، وَهُوَ غَلَطٌ مَحْضٌ. هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ الْغَزَالِيِّ، وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ الْمَحَبَّةِ: مَنْ قَوِيَتْ بَصِيرَتُهُ وَلَمْ تَضْعُفْ مِنَّتُهُ ; فَإِنَّهُ فِي حَالِ اعْتِدَالِ أَمْرِهِ لَا يَرَى إِلَّا اللَّهَ وَلَا يَعْرِفُ غَيْرَهَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْعَالُهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ فَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ، فَلَا وُجُودَ لَهَا بِالْحَقِيقَةِ دُونَهُ، وَإِنَّمَا الْوُجُودُ لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ الَّذِي بِهِ وُجُودُ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ: فَلَا يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَّا وَيَرَى فِيهِ الْفَاعِلَ، وَيَذْهَلُ عَنِ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ: سَمَاءٌ، وَأَرْضٌ، وَحَيَوَانٌ، وَشَجَرٌ، بَلْ يَنْظُرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَثَرُهُ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صُنْعُهُ، فَلَا يَكُونُ نَظَرُهُ مُجَاوِزًا لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَنْ نَظَرَ فِي شَعْرِ إِنْسَانٍ أَوْ خَطِّهِ أَوْ تَصْنِيفِهِ، وَرَأَى فِيهِ الشَّاعِرَ وَالْمُصَنِّفَ، وَرَأَى آثَارَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَثَرُهُ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حِبْرٌ وَعَفْصٌ وَزَاجٌ مَرْقُومٌ عَلَى بَيَاضٍ، فَلَا يَكُونُ قَدْ نَظَرَ إِلَى غَيْرِ الْمُصَنِّفِ، وَكَذَا الْعَالَمُ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَعَرَفَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَأَحَبَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ نَاظِرًا إِلَّا فِي اللَّهِ، وَلَا عَارِفًا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مُحِبًّا إِلَّا لِلَّهِ، وَكَانَ هُوَ الْمُوَحِّدَ الْحَقَّ الَّذِي لَا يَرَى إِلَّا اللَّهَ، بَلْ لَا يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ فَنَى فِي التَّوْحِيدِ وَإِنَّهُ فَنَى عَنْ نَفْسِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: كُنَّا بِنَا فَفَنِينَا [عَنَّا فَبَقِينَا] بِلَا نَحْنُ، فَهَذِهِ أُمُورٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ذَوِي الْأَبْصَارِ، أَشْكَلَتْ لِضَعْفِ الْأَفْهَامِ عَنْ دَرْكِهَا، وَقُصُورِ قُدْرَةِ الْعُلَمَاءِ بِهَا عَنْ إِيضَاحِهَا وَبَيَانِهَا بِعِبَارَةٍ مُفْهِمَةٍ مُوَصِّلَةٍ لِلْغَرَضِ إِلَى الْإِفْهَامِ،

ص: 157

أَوْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ بَيَانَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِمَّا لَا يَعْنِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ تَحَزَّبَ النَّاسُ إِلَى قَاصِرِينَ مَالُوا إِلَى التَّشْبِيهِ الظَّاهِرِ، وَإِلَى غَالِينَ مُسْرِفِينَ تَجَاوَزُوا إِلَى الِاتِّحَادِ وَقَالُوا بِالْحُلُولِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا الْحَقُّ، وَضَلَّ النَّصَارَى فِي عِيسَى عليه السلام فَقَالُوا: هُوَ الْإِلَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: تَدَرَّعَ النَّاسُوتُ بِاللَّاهُوتِ، وَقَالَ آخَرُونَ: اتَّحَدَ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ انْكَشَفَ لَهُمُ اسْتِحَالَةُ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَاسْتِحَالَةُ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ، وَاتَّضَحَ لَهُمْ وَجْهُ الصَّوَابِ فَهُمُ الْأَقَلُّونَ، انْتَهَىكَلَامُ الْغَزَالِيِّ، وَبَدَأْنَا بِالنَّقْلِ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ فَقِيهٌ أُصُولِيٌّ مُتَكَلِّمٌ صُوفِيٌّ، وَهُوَ أَجَلُّ مَنِ اعْتُمِدَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ ; لِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الْفُنُونِ فِيهِ.

وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ: أَصْلُ مَذْهَبِ النَّصَارَى أَنَّ الِاتِّحَادَ لَمْ يَقَعْ إِلَّا بِالْمَسِيحِ عليه السلام دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَاخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِيهِ، فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى بِهِ حُلُولُ الْكَلِمَةِ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَا يَحِلُّ الْعَرَضُ مَحَلَّهُ، وَذَهَبَتِ الرُّومُ إِلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ مَازَجَتْ جَسَدَ الْمَسِيحِ وَخَالَطَتْهُ مُخَالَطَةَ الْخَمْرِ اللَّبَنَ، وَهَذَا كُلُّهُ خَبْطٌ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنِ فَوْرَكٍ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالنِّظَامِيِّ فِي أُصُولِ الدِّينِ: قَالَتِ النَّصَارَى: إِنَّ عِيسَى عليه السلام لَاهُوتِيٌّ نَاسُوتِيٌّ، وَتَكَلَّمُوا فِي حُلُولِ الْكَلِمَةِ لمريم عليها السلام، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَلِمَةَ حَلَّتْ فِي مريم حُلُولَ الْمُمَازَجَةِ كَمَا يَحِلُّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ حُلُولَ الْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا حَلَّتْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُمَازَجَةٍ كَمَا أَنَّ شَخْصَ الْإِنْسَانِ يَتَبَيَّنُ فِي الْمِرْآةِ الصَّقِيلَةِ مِنْ غَيْرِ مُمَازَجَةٍ بَيْنَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَثَلَ اللَّاهُوتِ مَعَ النَّاسُوتِ مَثَلُ الْخَاتَمِ مَعَ الشَّمْعِ فِي أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ النَّقْشُ ثُمَّ لَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَثَرِ، وَالْأَوَّلُ طَرِيقَةُ الْيَعْقُوبِيَّةِ، وَالثَّانِي طَرِيقَةُ الْمَلْكِيَّةِ، وَالثَّالِثُ طَرِيقُ النَّسْطُورِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالِاتِّحَادِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي مَعْنَى الِاتِّحَادِ: الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ كُنْ حَلَّتْ جَسَدَ الْمَسِيحِ، وَقَالَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ: إِنَّ الِاتِّحَادَ اخْتِلَاطٌ وَامْتِزَاجٌ، وَزَعَمَتْ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ انْقَلَبَتْ لَحْمًا وَدَمًا بِالِاتِّحَادِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ: أَنَّهُ أَوْدَعَهَا بِإِظْهَارِ رُوحِ الْقُدُسِ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَكَيْنَا عَمَّنْ قَالَهُ: يَجْرِي هَذَا الِاتِّحَادُ مَجْرَى وُقُوعِ الْهَيْئَةِ فِي الْمِرْآةِ وَالنَّقْشِ مِنَ الْخَاتَمِ فِي الشَّمْعِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، وَيُقَالُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهُمْ: إِنَّ ظُهُورَ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْمِرْآةِ وَالشَّيْءِ الصَّقِيلِ لَيْسَ اخْتِلَاطَ

ص: 158

شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَلَا انْتِقَالَ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، بَلْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا قَابَلَ الشَّيْءَ الصَّقِيلَ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ رُؤْيَةً يَرَى بِهَا نَفْسَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّقِيلِ عَلَى شَيْءٍ، فَلَا، أَمَا تَرَى أَنَّهُ إِنْ لَمَسَ وَجْهَهُ فَوَجْهَ نَفْسِهِ لَمَسَ لَا وَجْهٌ ظَهَرَ فِيهِ ; فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمِرْآةِ شَيْءٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقَدِيمِ سبحانه وتعالى فِي مريم وَلَا فِي عِيسَى شَيْءٌ، وَيُبْطِلُ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَاهُوتِيٌّ وَنَاسُوتِيٌّ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْخَاتَمِ وَنَقْشِهِ مَعَ الشَّمْعِ فَلَيْسَ يَحْصُلُ مِنَ الْفَصِّ فِي الشَّمْعِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَكَّبُ الشَّمْعُ تَرْكِيبًا مِنْ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ كُلَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُتَمَاسَّيْنِ الْمُتَجَاوِرَيْنِ الْمُتَلَاصِقَيْنِ الْجِسْمَيْنِ الْمَحْدُودَيْنِ الَّذَيْنِ يَجُوزُ فِيهِمَا حُلُولُ الْحَوَادِثِ وَتَغَيُّرُ الْأَوْصَافِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكَلِمَةَ انْقَلَبَتْ لَحْمًا وَدَمًا، فَلَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَنْقَلِبَ الْقَدِيمُ مُحْدَثًا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ انْقِلَابُ الْمُحْدَثِ قَدِيمًا فَيَبْطُلُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مُحَالٌ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ، انْتَهَى.

وَقَالَ الإمام فخر الدين الرازي فِي كِتَابِ الْمُحَصَّلِ فِي أُصُولِ الدِّينِ: مَسْأَلَةُ الْبَارِي تَعَالَى لَا يَتَّحِدُ بِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ حَالَ الِاتِّحَادِ إِنْ بَقِيَا مَوْجُودَيْنِ فَهُمَا اثْنَانِ لَا وَاحِدٌ، وَإِنْ صَارَا مَعْدُومَيْنِ فَلَمْ يَتَّحِدَا بَلْ حَدَثٌ ثَالِثٌ، وَإِنَّ عُدِمَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ فَلَمْ يَتَّحِدْ ; لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَتَّحِدُ بِالْمَوْجُودِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَقَضَى الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ صَاحِبُ الْحَاوِي الْكَبِيرِ فِي مُنَاظَرَةٍ نَاظَرَهَا لِبَعْضِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ [الْقَائِلِ] بِالْحُلُولِ أَوِ الِاتِّحَادِ: لَيْسَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّرِيعَةِ بَلْ فِي الظَّاهِرِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَلَا يَنْفَعُ التَّنْزِيهُ مَعَ الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ، فَإِنَّ دَعْوَى التَّنْزِيهِ مَعَ ذَلِكَ إِلْحَادٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ تَوْحِيدٌ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَلَّ فِي الْبَشَرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ مريم، وَهُنَالِكَ حُلُولُهُ إِمَّا حُلُولُ عَرَضٍ فِي جَوْهَرٍ ; فَيَقُولُونَ بِأَنَّهُ عَرَضٌ، أَوْ حُلُولُ تَدَاخُلِ الْأَجْسَامِ، فَهُوَ جِسْمٌ، وَهُنَالِكَ إِنْ حَلَّ كُلُّهُ فَقَدِ انْحَصَرَ فِي الْقَالَبِ الْبَشَرِيِّ وَصَارَ ذَا نِهَايَةٍ وَبِدَايَةٍ أَوْ بَعْضَهُ فَقَدِ انْقَسَمَ وَتَبَعَّضَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ أَبَاطِيلُ وَتَضَالِيلُ.

وَقَالَ الْقَاضِي عياض فِي الشِّفَا مَا مَعْنَاهُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كُفْرِ أَصْحَابِ الْحُلُولِ وَمَنِ ادَّعَى حُلُولَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ فِي أَحَدِ الْأَشْخَاصِ كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالنَّصَارَى وَالْقَرَامِطَةِ. وَقَالَ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ: مَا عُرِفَ اللَّهُ مِنْ شَبَهِهِ وَجِسْمِهِ مِنَ الْيَهُودِ أَوْ أَجَازَ عَلَيْهِ الْحُلُولَ وَالِانْتِقَالَ وَالِامْتِزَاجَ مِنَ النَّصَارَى، وَنَقَلَهُ عَنْهُ النووي فِي

ص: 159

شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ القاضي ناصر الدين البيضاوي فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] هَذَا قَوْلُ اليعقوبية الْقَائِلِينَ بِالِاتِّحَادِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة: 74] أَيْ: أَلَا يَتُوبُونَ بِالِانْتِهَاءِ عَنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالْأَقْوَالِ الزَّائِغَةِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ عَنِ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ وَالتَّهْدِيدِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام فِي قَوَاعِدِهِ الْكُبْرَى: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِلَهَ يَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَجْسَادِ النَّاسِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا عَفَا عَنِ الْمُجَسِّمَةِ لِغَلَبَةِ التَّجْسِيمِ عَلَى النَّاسِ فَإِنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَوْجُودًا فِي غَيْرِ جِهَةٍ، بِخِلَافِ الْحُلُولِ فَإِنَّهُ لَا يَعُمُّ الِابْتِلَاءُ بِهِ وَلَا يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ عَاقِلٍ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ انْتَهَى.

قُلْتُ: مَقْصُودُ الشَّيْخِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي تَكْفِيرِهِمُ الْخِلَافُ الَّذِي جَرَى فِي الْمُجَسِّمَةِ بَلْ يَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ الْقَائِلِينَ بِالْحُلُولِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ جَرَى فِي الْمُجَسِّمَةِ خِلَافٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي أَوَّلِ الْحِلْيَةِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدِ اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ وَأَجَبْتُكَ إِلَى مَا ابْتَغَيْتَ مِنْ جَمْعِ كِتَابٍ يَتَضَمَّنُ أَسَامِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَئِمَّتِهِمْ وَتَرْتِيبِ طَبَقَاتِهِمْ مِنَ النُّسَّاكِ وَمَحَجَّتِهِمْ مِنْ قَرْنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ عَرَفَ الْأَدِلَّةَ وَالْحَقَائِقَ، وَبَاشَرَ الْأَحْوَالَ وَالطَّرَائِقَ، وَسَاكَنَ الرِّيَاضَ وَالْحَدَائِقَ، وَفَارَقَ الْعَوَارِضَ وَالْعَلَائِقَ، وَتَبَرَّأَ مِنَ الْمُتَنَطِّعِينَ وَالْمُتَعَمِّقِينَ، وَمِنْ أَهْلِ الدَّعَاوَى مِنَ الْمُتَسَوِّفِينَ، وَمِنَ الْكُسَالَى وَالْمُتَثَبِّطِينَ الْمُشَبَّهِينَ بِهِمْ فِي اللِّبَاسِ وَالْمَقَالِ وَالْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْفِعَالِ، وَذَلِكَ لَمَّا بَلَغَكَ مِنْ بِسْطِ لِسَانِنَا وَأَلْسِنَةِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْآثَارِ فِي كُلِّ الْقُطُرِ وَالْأَمْصَارِ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَقَةِ الْفُجَّارِ، وَالْمُبَاحِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ مَا حَلَّ بِالْكِذْبَةِ مِنَ الْوَقِيعَةِ وَالْإِنْكَارِ بِقَادِحٍ فِي مَنْقَبَةِ الْبَرَرَةِ الْأَخْيَارِ، وَوَاضِعٍ مِنْ دَرَجَةِ الصَّفْوَةِ الْأَبْرَارِ.

وَقَالَ صَاحِبُ [كِتَابِ] مِعْيَارِ الْمُرِيدِينَ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْشَأَ أَغْلَاطِ الْفِرَقِ الَّتِي غَلِطَتْ فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ جَهْلُهُمْ بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْعِلْمِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ عَابِدٍ جَاهِلٍ، فَمَنْ لَا يَكُونُ لَهُ سَابِقَةُ عِلْمٍ لَمْ يُنْتِجْ وَلَمْ

ص: 160

يَصِحَّ لَهُ سُلُوكٌ، وَقَدْ قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: اجْتَنِبْ صُحْبَةَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ الْجَبَابِرَةِ الْغَافِلِينَ وَالْقُرَّاءِ الْمُدَاهِنِينَ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْجَاهِلِينَ، فَافْهَمْ وَلَا تَغْلَطْ فَإِنَّ الدِّينَ وَاضِحٌ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ لَفْظُ الِاتِّحَادِ إِشَارَةً مِنْهُمْ إِلَى حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ الِاتِّحَادَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوْحِيدِ، وَالتَّوْحِيدُ مَعْرِفَةُ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ فَاشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَا يَفْهَمُ إِشَارَاتِهِمْ فَحَمَلُوهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمِلِهِ فَغَلِطُوا وَهَلَكُوا بِذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ اتِّحَادِ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الِاتِّحَادَ بَيْنَ مَرْبُوبَيْنِ مُحَالٌ، فَإِنَّ رَجُلَيْنِ مَثَلًا لَا يَصِيرُ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ لِتَبَايُنِهِمَا فِي ذَاتَيْهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَالتَّبَايُنُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ سبحانه وتعالى أَعْظَمُ، فَإِذَنْ أَصْلُ الِاتِّحَادِ بَاطِلٌ مُحَالٌ مَرْدُودٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَعُرْفًا بِإِجْمَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ وَإِنَّمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ غُلَاةٌ لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَسُوءِ حَظِّهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَشَابَهُوا بِهَذَا الْقَوْلِ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا فِي عِيسَى عليه السلام اتَّحَدَ نَاسُوتُهُ بِلَاهُوتِهُ، وَأَمَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِنَايَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا اتِّحَادًا وَلَا حُلُولًا، وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ لَفْظُ الِاتِّحَادِ فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَحْوَ أَنْفُسِهِمْ وَإِثْبَاتَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، قَالَ: وَقَدْ يُذْكَرُ الِاتِّحَادُ بِمَعْنَى فَنَاءِ الْمُخَالِفَاتِ وَبَقَاءِ الْمُوَافِقَاتِ، وَفَنَاءِ حُظُوظِ النَّفْسِ مِنَ الدُّنْيَا وَبَقَاءِ الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَفَنَاءِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ، وَبَقَاءِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، وَفَنَاءِ الشَّكِّ وَبَقَاءِ الْيَقِينِ، وَفَنَاءِ الْغَفْلَةِ وَبَقَاءِ الذِّكْرِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: سُبْحَانِي مَا أَعْظَمَ شَانِي، فَهُوَ فِي مَعْرِضِ الْحِكَايَةِ عَنِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ أَنَا الْحَقُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَلَا يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ الْعَارِفِينَ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَظْنُونٍ بِعَاقِلٍ، فَضْلًا عَنِ الْمُتَمَيِّزِينَ بِخُصُوصِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْيَقِينِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، وَلَا يُظَنُّ بِالْعُقَلَاءِ الْمُتَمَيِّزِينَ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِالْعِلْمِ الرَّاجِحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ الشَّرْعِ الْغَلَطُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ كَمَا غَلِطَ النَّصَارَى فِي ظَنِّهِمْ ذَلِكَ فِي حَقِّ عِيسَى عليه السلام، وَإِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ وَاقِعَاتِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ فَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ. هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ مِعْيَارِ الْمُرِيدِينَ بِلَفْظِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ الِاتِّحَادِ مُشْتَرَكٌ فَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ أَخُو الْحُلُولِ وَهُوَ كُفْرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ اصْطِلَاحًا - اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الصُّوفِيَّةُ - وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، إِذْ لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ لَفْظٍ فِي مَعْنًى صَحِيحٍ لَا مَحْذُورَ فِيهِ شَرْعًا، وَلَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِلَفْظِ الِاتِّحَادِ وَأَنْتَ تَقُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِي زَيْدٍ اتِّحَادٌ، وَكَمِ اسْتَعْمَلَ

ص: 161

الْمُحَدِّثُونَ وَالْفُقَهَاءُ وَالنُّحَاةُ وَغَيْرُهُمْ لَفْظَ الِاتِّحَادِ فِي مَعَانٍ حِدِيثِيَّةٍ وَفِقْهِيَّةٍ وَنَحْوِيَّةٍ، كَقَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ: اتِّحَادُ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: اتَّحَدَ نَوْعُ الْمَاشِيَةِ، وَقَوْلُ النُّحَاةِ: اتَّحَدَ الْعَامِلُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، وَحَيْثُ وَقَعَ لَفْظُ الِاتِّحَادِ مِنْ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى الْفَنَاءِ الَّذِي هُوَ مَحْوُ النَّفْسِ وَإِثْبَاتُ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَذْمُومُ الَّذِي يَقْشَعِرُّ لَهُ الْجِلْدُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ سَيِّدِي علي بن وفا فَقَالَ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهُ:

يَظُنُّوا بِي حُلُولًا وَاتِّحَادَا

وَقَلْبِي مِنْ سِوَى التَّوْحِيدِ خَالِي

فَتَبَرَّأَ مِنَ الِاتِّحَادِ بِمَعْنَى الْحُلُولِ وَقَالَ مِنْ أَبْيَاتٍ أُخَرَ:

وَعِلْمُكَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرِي

هُوَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِاتِّحَادِ

فَذَكَرَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُونَهُ بِالِاتِّحَادِ إِذَا أَطْلَقُوهُ هُوَ تَسْلِيمُ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ، وَتَرْكُ الْإِرَادَةِ مَعَهُ، وَالِاخْتِيَارُ وَالْجَرْيُ عَلَى مَوَاقِعِ أَقْدَارِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ، وَتَرْكُ نِسْبَةِ شَيْءٍ مَا إِلَى غَيْرِهِ.

وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ نَهْجِ الرَّشَادِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ: حَدَّثَنِي الشَّيْخُ كمال الدين المراغي عَنِ الشَّيْخِ تقي الدين بن دقيق العيد أَنَّهُ قَالَ لَهُ مَرَّةً: الْكُفَّارُ إِنَّمَا انْتَشَرُوا فِي بِلَادِكُمْ لِانْتِشَارِ الْفَلْسَفَةِ هُنَاكَ، وَقِلَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِالشَّرِيعَةِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فِي بِلَادِكُمْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَقَالَ: هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ فَسَادَهُ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ قَالَ: اجْتَمَعْتُ بِالشَّيْخِ أبي العباس المرسي تِلْمِيذِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أبي الحسن الشاذلي وَفَاوَضْتُهُ فِي هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَوَجَدْتُهُ شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالنَّهْيَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَقَالَ: أَتَكُونُ الصَّنْعَةُ هِيَ الصَّانِعَ؟ انْتَهَى، قُلْتُ: وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الشاذلي هِيَ أَحْسَنَ طُرُقِ التَّصَوُّفِ، وَهِيَ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ نَظِيرُ طَرِيقَةِ الْجُنَيْدِ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن السبكي فِي كِتَابِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَإِنَّ طَرِيقَ الشَّيْخِ الجنيد وَصَحْبِهِ طَرِيقٌ مُقَوَّمٌ، وَكَانَ وَالِدُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تقي الدين السبكي يُلَازِمُ مَجْلِسَ الشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَوَعْظَهُ، وَنَقَلَ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى غَيْرَةَ الْإِيمَانِ

ص: 162

الْجَلِيِّ فَائِدَةً حَسَنَةً فِي حَدِيثِ: " «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» " فَقَالَ: إِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ تَجَلِّيَاتٌ فَرَأَى فِي بَعْضِهَا سَائِرَ أُمَّتِهِ الْآتِينَ مِنْ بَعْدِهِ فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُمْ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَارْتَضَى السبكي مِنْهُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَقَالَ: إِنَّ الشَّيْخَ تاج الدين كَانَ مُتَكَلِّمَ الصُّوفِيَّةِ فِي عَصْرِهِ عَلَى طَرِيقِ الشَّاذِلِيَّةِ، انْتَهَى.

قُلْتُ: وَهُوَ تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أبي العباس المرسي، وَالشَّيْخُ أبو العباس تِلْمِيذُ الشاذلي، وَقَدْ طَالَعْتُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ أَرَ فِيهِ حَرْفًا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا صَرِيحًا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ سَيِّدِي علي بن وفا:

تَمَسَّكْ بِحُبِّ الشَّاذِلِيَّةِ تَلْقَ مَا

تَرُومُ وَحَقِّقْ ذَا الرَّجَاءِ وَحَصِّلْ

وَلَا تَعْدُوَنْ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ

شُمُوسُ هُدًى فِي أَعْيُنِ الْمُتَأَمِّلْ

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ نَهْجِ الرَّشَادِ: وَمَا زَالَ عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ يُنْكِرُونَ حَالَ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ أَعْلَمَ وَأَقْدَرَ وَأَحْكَمَ مِنْ بَعْضٍ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّيْخُ سعد الدين التفتازاني فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: وَأَمَّا الْمُنْتَمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَمِنْهُمْ بَعْضُ غُلَاةِ الشِّيعَةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ظُهُورُ الرُّوحَانِيِّ فِي الْجُسْمَانِيِّ كَجِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَكَبَعْضِ الْجِنِّ أَوِ الشَّيَاطِينِ فِي صُورَةِ الْأَنَاسِيِّ قَالُوا: فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صُورَةِ بَعْضِ الْكَامِلِينَ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ عَلِيٌّ وَأَوْلَاهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، قَالَ: وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ السَّالِكَ إِذَا أَمْعَنَ فِي السُّلُوكِ وَخَاضَ مُعْظَمَ لُجَّةِ الْوُصُولِ فَرُبَّمَا يَحِلُّ اللَّهُ فِيهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَالنَّارِ فِي الْجَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَايَزُ أَوْ يَتَّحِدُ بِهِ بِحَيْثُ لَا اثْنَيْنِيَّةَ وَلَا تَغَايُرَ، وَصَحَّ أَنْ يَقُولَ هُوَ أَنَا وَأَنَا هُوَ، قَالَ: وَفَسَادُ الرَّأْيَيْنِ غَنِيٌّ عَنِ الْبَيَانِ، قَالَ: وَهَاهُنَا مَذْهَبَانِ آخَرَانِ يُوهِمَانِ الْحُلُولَ أَوِ الِاتِّحَادَ وَلَيْسَا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّالِكَ إِذَا انْتَهَى سُلُوكُهُ إِلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ يَسْتَغْرِقُ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ وَالْعِرْفَانِ بِحَيْثُ تَضْمَحِلُّ ذَاتُهُ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى، وَصِفَاتُهُ فِي صِفَاتِهِ، وَتَغِيبُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَلَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْفَنَاءَ فِي التَّوْحِيدِ، وَحِينَئِذٍ رُبَّمَا تَصْدُرُ عَنْهُ عِبَارَاتٌ تُشْعِرُ بِالْحُلُولِ أَوِ الِاتِّحَادِ لِقُصُورِ الْعِبَارَةِ عَنْ بَيَانِ تِلْكَ الْحَالِ وَبُعْدِ الْكَشْفِ عَنْهَا بِالْمَقَالِ، وَنَحْنُ عَلَى سَاحِلِ التَّمَنِّي نَغْتَرِفُ مِنْ بَحْرِ التَّوْحِيدِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَنَعْتَرِفُ بِأَنَّ طَرِيقَ الْفَنَاءِ فِيهِ الْعِيَانُ دُونَ الْبُرْهَانِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَذْهَبِ الثَّانِي وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ [وَقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَإِنَّهُ أَيْضًا خَارِجٌ عَنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ

ص: 163

وَالشَّرْعِ، وَإِنَّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، وَقَدْ سُقْتُ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ فِيهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي ذَمِّ الْقَوْلِ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَإِنَّهُ بِهِ أَجْدَرُ، وَذَكَرَ السَّيِّدُ الجرجاني فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ سُقْتُ أَيْضًا عِبَارَتَهُ فِي الْكِتَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ شمس الدين بن القيم فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَنَاءِ فَنَاءُ خَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ وَأَئِمَّةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى، شَائِمًا بَرْقَ الْفَنَا عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَاهُ، سَالِكًا سَبِيلَ الْجَمْعِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَانِيًا بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ مِنْهُ عَنْ مُرَادِهِ هُوَ مِنْ مَحْبُوبِهِ، فَضْلًا عَنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، قَدِ اتَّخَذَ مُرَادَهُ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ أَعْنِي الْمُرَادَ الدِّينِيَّ الْأَمْرِيَّ لَا الْمُرَادَ الْكَوْنِيَّ الْقَدَرِيَّ، فَصَارَ الْمَرَادَانِ وَاحِدًا قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ اتِّحَادٌ صَحِيحٌ إِلَّا هَذَا، وَالِاتِّحَادُ فِي الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، فَيَكُونُ الْمُرَادَانِ وَالْمَعْلُومَانِ وَالْمَذْكُورَانِ وَاحِدًا مَعَ تَبَايُنِ الْإِرَادَتَيْنِ وَالْعِلْمَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ، فَغَايَةُ الْمَحَبَّةِ اتِّحَادُ مُرَادِ الْمُحِبِّ بِمُرَادِ الْمَحْبُوبِ، وَفَنَاءُ إِرَادَةِ الْمُحِبِّ فِي مُرَادِ الْمَحْبُوبِ، فَهَذَا الِاتِّحَادُ وَالْفَنَاءُ هُوَ اتِّحَادُ خَوَاصِّ الْمُحِبِّينَ وَفَنَاؤُهُمْ، قَدْ فَنَوْا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالطَّلَبِ مِنْهُ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ، وَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا الْفَنَاءِ لَا يُحِبُّ إِلَّا فِي اللَّهِ، وَلَا يُبْغِضُ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يُوَالِي إِلَّا فِيهِ، وَلَا يُعَادِي إِلَّا فِيهِ، وَلَا يُعْطِي إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَرْجُو إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَعِينُ إِلَّا بِهِ، فَيَكُونُ دِينُهُ كُلُّهُ ظَاهِرًا لِلَّهِ، وَيَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَلَا يُوَادُّ مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ بَلْ:

يُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمُ

جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا

وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ فَنَاؤُهَا عَنْ هَوَى نَفْسِهِ وَحُظُوظِهَا بِمَرَاضِي رَبِّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِهِ، وَالْجَامِعُ لِهَذَا كُلِّهِ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَعَمَلًا وَحَالًا وَقَصْدًا، وَحَقِيقَةُ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ هُوَ الْفَنَاءُ وَالْبَقَاءُ، فَفَنَى عَنْ تَأَلُّهِ مَا سِوَاهُ عِلْمًا وَإِفْرَادًا وَتَعَمُّدًا، وَبَقِيَ تَأَلُّهُهُ وَحْدَهُ، فَهَذَا الْفَنَاءُ وَهَذَا الْبَقَاءُ هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُونَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَخُلِقَتْ لِأَجْلِهِ الْخَلِيقَةُ، وَشُرِعَتْ لَهُ الشَّرَائِعُ وَقَامَتْ عَلَيْهِ سُوقُ الْجَنَّةِ وَأُسِّسَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، إِلَى أَنْ

ص: 164

قَالَ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْإِرَادَةِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِنْ كَانَ مُشَمِّرًا لِلْفَنَاءِ الْعَالِي وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مُرَادٌ يُزَاحِمُ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ الشَّرْعِيَّ النَّبَوِيَّ الْقُرْآنِيَّ، بَلْ يَتَّحِدُ الْمُرَادَانِ فَيَصِيرُ عَيْنُ مُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى هُوَ عَيْنَ مُرَادِ الْعَبْدِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ وَفِيهَا يَكُونُ الِاتِّحَادُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي الْمُرَادِ لَا فِي الْمُرِيدِ وَلَا فِي الْإِرَادَةِ، قَالَ: فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفُرْقَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي طَالَمَا زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ السَّالِكِينَ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْوَاحِدِينَ، انْتَهَى.

وَقَدْ تَكَرَّرَ كَلَامُ ابن القيم فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي تَضْلِيلِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَقَدْ سُقْتُ مِنْهُ أَشْيَاءَ فِي كِتَابِي الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فَلْيُنْظَرْ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِنَّ الْعَبْدَ لَهُ فِي فِعْلِهِ نَوْعُ اخْتِيَارٍ هَلْ هُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] .

الْجَوَابُ: لَا مُعَارَضَةَ فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ الَّذِي بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْإِبْدَاعِ خَاصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَمَّا الِاخْتِيَارُ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ لِلْعَبْدِ، فَالْمُرَادُ بِهِ قَصْدُهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَمَيْلُهُ إِلَيْهِ وَرِضَاهُ بِهِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا لَا عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ وَالْإِلْجَاءِ إِلَيْهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً بِهَا يَمِيلُ وَيَفْعَلُ، فَالْخَلْقُ مِنَ اللَّهِ وَالْمَيْلُ وَالْفِعْلُ مِنَ الْعَبْدِ صَادِرَانِ عَنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ فَهُمَا أَثَرُ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ، فَالِاخْتِيَارُ الْمَنْسُوبُ لِلْعَبْدِ الْمُفَسَّرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَثَرُ الِاخْتِيَارِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَافْتَرَقَا، وَلَا إِنْكَارَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ لِلْآيَةِ، وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ أَهْلِ الْقَدَرِ وَالْجَبْرِ مَعًا، قَالَ الأصبهاني فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] : اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ بِالِاخْتِيَارِ فَلَهُ اعْتِبَارَانِ إِنْ نَظَرْتَ إِلَى وُجُودِهِ وَحُدُوثِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ التَّخْصِيصِ فَانْسُبْ ذَلِكَ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى تَمَيُّزِهِ عَنِ الْقَسْرِيِّ الضَّرُورِيِّ فَانْسُبْهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِلَى الْعَبْدِ وَهِيَ النِّسْبَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا شَرْعًا بِالْكَسْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وَقَوْلِهِ:{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] وَهِيَ الْمُحَقِّقَةُ أَيْضًا إِذَا عَرَضْتَ فِي ذِهْنِكَ الْحَرَكَتَيْنِ الِاضْطِرَارِيَّةَ كَالرَّعْشَةِ

ص: 165