الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَزِمَ الْخُلْفُ إِلَى آخِرِهِ، مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ إِذَا أُعِيدَ إِلَيْهَا مُقَيَّدَةً بِمَضْمُونِ مَا بَعْدَهَا لَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[رَفْعُ السِّنَةِ فِي نَصْبِ الزِّنَةِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ، وَلَا يُقَدَّرُ لِعَرْشِهِ زِنَةٌ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ أَفْصَحُ الْحَدِيثِ وَأَحْسَنُهُ. وَبَعْدُ سُئِلْتُ عَنْ وَجْهِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، زِنَةَ عَرْشِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَعَدَدَ خَلْقِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» . وَالْجَوَابُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعَ مَنْصُوبَاتٍ عَلَى تَقْدِيرِ الظَّرْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَدْرَ زِنَةِ عَرْشِهِ، وَكَذَا البواقي، فَلَمَّا حُذِفَ الظَّرْفُ قَامَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فِي إِعْرَابِهِ، فَهَذَا الْإِعْرَابُ هُوَ الْمُتَّجِهُ الْمُطَّرِدُ السَّالِمُ مِنَ الِانْتِقَاضِ، وَقَدْ ذَكَرَ السَّائِلُ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى حَذْفِ الْخَافِضِ؟
وَأَقُولُ: أَمَّا النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ فَقَدْ ذَكَرَهُ المظهري فِي " شَرْحِ الْمَصَابِيحِ " قَالَ: " عَدَدَ خَلْقِهِ " مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ أَعُدُّ تَسْبِيحَهُ وَتَحْمِيدَهُ بِعَدَدِ خَلْقِهِ وَبِمِقْدَارِ مَا تَرْضَاهُ خَالِصًا، وَبِثِقَلِ عَرْشِهِ وَمِقْدَارِهِ وَبِمِقْدَارِ كَلِمَاتِهِ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الأشرقي فِي شَرْحِهِ قَالَ:" عَدَدَ خَلْقِهِ " وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ سَبَّحْتُهُ تَسْبِيحًا يُسَاوِي خَلْقَهُ عِنْدَ التَّعْدَادِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ فِي الْمِقْدَارِ يُوجِبُ رِضَا نَفْسِهِ انْتَهَى. فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ " نَفْسِهِ " مَصْدَرٌ وَأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَصْدَرًا لِلتَّسْبِيحِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، بَلْ يَكُونُ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مِنَ الزِّنَةِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَزِنُهُ زِنَةَ عَرْشِهِ، وَلَا يَخْفَى فَسَادُ هَذَا التَّقْدِيرِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِنْشَاءُ وَزْنِ التَّسْبِيحِ، بَلِ الْمُرَادُ إِنْشَاءُ قَوْلِ التَّسْبِيحِ، وَالْمَعْنَى: أَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ قَوْلًا كَثِيرًا مِقْدَارَ زِنَةِ عَرْشِهِ فِي الْكَثْرَةِ وَالْعِظَمِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلِ الزِّنَةِ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَزِنُ التَّسْبِيحَ زِنَةَ عَرْشِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، ثُمَّ إِذَا قُدِّرَ فِي الْأُخْرَى أَعُدُّهُ عَدَدَ خَلْقِهِ- كَمَا أَفْصَحَ بِهِ المظهري - أَدَّى إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِنْشَاءُ عَدِّ التَّسْبِيحِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلِ الْمُرَادُ: أَقُولُهُ قَوْلًا عَدَدَ خَلْقِهِ، ثُمَّ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي رِضَا نَفْسِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُقَدَّرُ: أُرْضِيهِ رِضَا نَفْسِهِ قُلْنَا: حِينَئِذٍ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ التَّسْبِيحِ، وَهِيَ فِي " أَزِنُهُ "" وَأَعُدُّهُ " عَائِدٌ عَلَى التَّسْبِيحِ، فَيَخْتَلُّ التَّنَاسُقُ فِي الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي
" مِدَادَ كَلِمَاتِهِ " بِلَا مِرْيَةٍ، وَيَبْقَى عَلَى [كَلَامِ] المظهري تَعَقُّبَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَدَدًا لَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَمْ يَجِئْ بِالْفَكِّ ; لِأَنَّ مَصْدَرَ عَدَّ عَلَى فَعْلٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ يُدْغَمَ فَيُقَالُ: عَدَّ، بِالتَّشْدِيدِ، كَرَدَّ وَمَدَّ وَشَدَّ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84] وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ أَعُدُّ تَسْبِيحَهُ بِعَدَدِ خَلْقِهِ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءَ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، لَا يُقَالُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، يَضْرِبُ فِي مَوْضِعِ ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: وَبِمِقْدَارِ مَا يَرْضَاهُ، وَبِثِقَلِ عَرْشِهِ، وَمِقْدَارِهِ وَبِمِقْدَارِ كَلِمَاتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيُؤَوَّلُ إِلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ، فَإِنَّ النَّصْبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَنَزْعِ الْخَافِضِ مُتَقَارِبَانِ، فَإِنَّ الظَّرْفَ مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ الَّذِي هُوَ " فِي " غَيْرَ أَنَّهُ بَابٌ مُطَّرِدٌ، وَالنَّصْبُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ فِي غَيْرِ الظَّرْفِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَاتَّجَهَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ " قَدْرَ "، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الخطابي فِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ ". [فَقَالَ] قَوْلُهُ:" وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ "، أَيْ قَدْرَ مَا يُوَازِنُهَا فِي الْعَدَدِ وَالْكَثْرَةِ. وَقَالَ ابن الأثير فِي " النِّهَايَةِ ":" وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ " أَيْ مِثْلَ عَدَدِهَا، وَقِيلَ: قَدْرَ مَا يُوَازِنُهَا فِي الْكَثْرَةِ عِيَارَ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيبُ، انْتَهَى. فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ:" مِثْلَ " إِلَى الْمَصْدَرِ أَوِ الْوَصْفِ، وَبِقَوْلِهِ:" وَقِيلَ: قَدْرَ " إِلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أكمل الدين فِي " شَرْحِ الْمَشَارِقِ ": قَوْلُهُ: " عَدَدَ خَلْقِهِ " أَيْ عَدَدًا كَعَدَدِ خَلْقِهِ، " وَزِنَةَ عَرْشِهِ "، أَيْ بِمِقْدَارِ وَزْنِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ أَيْ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ إِعْرَابًا عَلَى حِدَةٍ: الْأُولَى مَصْدَرٌ، وَالثَّانِيَةُ ظَرْفٌ، وَالثَّالِثَةُ حَالٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَسَاوِيَ الْكُلِّ فِي الْإِعْرَابِ حَيْثُ أَمْكَنَ أَوْلَى، وَتَقْدِيرُ " قَدْرَ " فِي كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ، فَاتَّجَهَ نَصْبُ الْكُلِّ عَلَى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ " قَدْرَ ". فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِأَنَّ " قَدْرَ " انْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِ، قُلْتُ: ذَلِكَ لِعَدَمِ اطِّلَاعِكَ فِي أُمَّهَاتِ الْكُتُبِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْخَطِيبُ التِّبْرِيزِيُّ والمرزوقي كِلَاهُمَا فِي " شَرْحِ الْحَمَاسَةِ " فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَسَايَرْتُهُ مِقْدَارَ مِيلٍ وَلَيْتَنِي
. وَفِي قَوْلِهِ:
هَلِ الْوَجْدُ إِلَّا أَنَّ قَلْبِيَ لَوْ دَنَا
…
مِنَ الْجَمْرِ قَيْدَ الرُّمْحِ لَاحْتَرَقَ الْجَمْرُ
بِأَنَّ نَصْبَ " مِقْدَارَ " وَ " قَيْدَ " كِلَاهُمَا عَلَى الظَّرْفِ، وَقَيْدَ بِمَعْنَى قَدْرَ. قَالَ ابن شمعون فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ
…
فَسَمَا فَأَدْرَكَ خَمْسَةَ الْأَشْبَارِ
يَجُوزُ نَصْبُ خَمْسَةَ الْأَشْبَارِ نَصْبَ الظَّرْفِ بِسَمَا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: سَمَا مِقْدَارَ خَمْسَةِ الْأَشْبَارِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ فِي حَدِيثِ " «أَنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ» " -: إِنَّ " رَمْيَةً " نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ " قَدْرَ " أَيْ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ. وَقَالَ الطيبي فِي " شَرْحِ الْمِشْكَاةِ " فِي حَدِيثِ " «فَضْلِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُسْتَاكُ لَهَا عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يُسْتَاكُ لَهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا» ": قَوْلُهُ: " سَبْعِينَ " مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ ظَرْفٌ، أَيْ تَفْضُلُ مِقْدَارَ سَبْعِينَ. وَقَالَ أبو البقاء فِي حَدِيثِ:" «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا» ": هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَدْرَ شِبْرٍ. وَقَالَ الطيبي فِي حَدِيثِ: " «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا» ": شِبْرًا وَذِرَاعًا وَبَاعًا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ مِقْدَارَ شِبْرٍ، وَقَالَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ:" «مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ» ": الْمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ، وَشِبْرًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا [مُطْلَقًا] أَيْ: ظَلَمَ شِبْرًا وَمَفْعُولًا فِيهِ، أَيْ مِقْدَارَ شِبْرٍ. وَقَالَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ:" «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزبير حُضْرَ فَرَسِهِ» ": نُصِبَ " حُضْرَ " عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ قَدْرَ مَا يَعْدُو عَدْوَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَنْصُوصَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ ; قَالَ ابن مالك فِي " التَّسْهِيلِ ": الصَّالِحُ لِلظَّرْفِيَّةِ الْقِيَاسِيَّةِ مَا دَلَّ عَلَى مِقْدَارٍ، وَقَالَ فِي " الْأَلْفِيَّةِ ":
وَقَدْ يَنُوبُ عَنْ مَكَانِ مَصْدَرٍ
…
وَذَاكَ فِي ظَرْفِ الزَّمَانِ يَكْثُرُ
وَقَالَ ابن هشام فِي " التَّوْضِيحِ ": يَنُوبُ الْمَصْدَرُ عَنِ الظَّرْفِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا لِمِقْدَارٍ، نَحْوَ: انْتَظَرْتُكَ حَلْبَ نَاقَةٍ. وَقَالَ أبو حيان فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ ": قَالَ الصفار فِي " شَرْحِ الْكِتَابِ ": اعْلَمْ أَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ جَازَ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْفِعْلِ، تَقُولُ أَتَيْتُكَ رَيْثَ قَامَ زَيْدٌ، أَيْ قَدْرَ بُطْءِ قِيَامِهِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ إِلَى الظَّرْفِ جَازَ فِيهَا مَا جَازَ فِي الظَّرْفِ، ثُمَّ إِنَّ نَصْبَ " زِنَةَ " بِخُصُوصِهَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ سِيبَوَيْهِ وَأَئِمَّةِ النَّحْوِ، قَالَ ابن مالك فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ ": مِنَ الْجَارِي مَجْرَى ظَرْفِ الزَّمَانِ بِاطِّرَادٍ مَصَادِرُ قَامَتْ مَقَامَ مُضَافٍ إِلَيْهَا تَقْدِيرًا، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هُوَ قُرْبَ الدَّارِ، وَوَزْنَ الْجَبَلِ وَزِنَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِالِاطِّرَادِ أَنْ لَا تَخْتَصَّ ظَرْفِيَّتُهُ بِعَامِلٍ مَا كَاخْتِصَاصِ ظَرْفِيَّةِ الْمُشْتَقِّ مِنَ اسْمِ الْوَاقِعِ فِيهِ انْتَهَى. وَقَالَ أبو حيان فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ ": وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الْمُنْتَصِبِ ظَرْفًا صَدَدَكَ، وَصَفِيَّكَ، وَوَزْنَ الْجَبَلِ، وَزِنَةَ الْجَبَلِ، وَأَقْطَارَ الْبِلَادِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا يَنْصِبُهَا الْفِعْلُ اللَّازِمُ لِإِبْهَامِهَا انْتَهَى. وَقَالَ فِي " الِارْتِشَافِ ": فَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَ " وَزْنَ الْجَبَلِ "" وَزِنَةَ الْجَبَلِ "، فَمَعْنَى " وَزْنَ الْجَبَلِ " نَاحِيَةُ تَوَازُنِهِ، أَيْ تَقَابُلِهِ قَرِيبَةً كَانَتْ مِنْهُ أَوْ بَعِيدَةً، وَزِنَةَ الْجَبَلِ حِذَاؤُهُ، أَيْ: مُتَّصِلَةٌ بِهِ، وَكِلَاهُمَا مُبْهَمٌ يَصِلُ إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ وَيَنْتَصِبُ ظَرْفًا انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ التوربشتي شَارِحُ
الْمَصَابِيحِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: زِنَةَ عَرْشِهِ مَا يُوَازِنُهُ فِي الْقَدْرِ، يُقَالُ: هُوَ زِنَةَ الْجَبَلِ أَيْ حِذَاؤُهُ فِي الثِّقَلِ وَالْوِزَانَةِ انْتَهَى. وَهَذَا مِنْهُ إِيمَاءٌ إِلَى تَخْرِيجِ الْحَدِيثِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَقَدْ خَرَّجُوا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ ; رُوِيَ أَنَّ معاوية اسْتَعْمَلَ ابْنَ أَخِيهِ عمرو بن عتبة بن أبي سفيان عَلَى صَدَقَاتِ كَلْبٍ، فَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ ابن العداء الكلبي:
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَنَدًا
…
فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
قَالَ ابن الأثير فِي " النِّهَايَةِ ": نَصَبَ عِقَالًا عَلَى الظَّرْفِ أَرَادَ مُدَّةَ عِقَالٍ وَالْعِقَالُ صَدَقَةُ عَامٍ. وَقَالَ ابن يعيش فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ ": مِنَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الظَّرْفِ قَوْلُهُمْ سِيرَ عَلَيْهِ تَرْوِيحَتَيْنِ، وَانْتُظِرَ بِهِ نَحْوَ جَزُورَيْنِ، وَالْمُرَادُ مُدَّةَ ذَلِكَ، وَالتَّرْوِيحَتَيْنِ تَثْنِيَةُ التَّرْوِيحَةِ، وَاحِدَةُ التَّرَاوِيحِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ أبو البقاء فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ» " أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ الظَّرْفِ، أَيْ مُدَّةَ نَشَاطِهِ، فَحَذَفَهُ وَأَقَامَ الْمَصْدَرَ مَقَامَهُ. وَقَالَ الأشرقي فِي " شَرْحِ الْمَصَابِيحِ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَشَاطَهُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي نَشِطَ لَهَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِي نَصْبِهِ عَلَى الصِّفَةِ لِلْمَصْدَرِ؟
قُلْتُ: هَذَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ، وَأَقُولُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ " سُبْحَانَ " أَوْ لِمُقَدَّرٍ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْصُوفِهِ بِقَوْلِهِ وَبِحَمْدِهِ، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ أَوْ مَمْنُوعٌ، مَعَ أَنَّ عِنْدِي فِي جَوَازِ وَصْفِ سُبْحَانَ وَقْفَةً، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ إِلَّا عَلَمًا لِلتَّسْبِيحِ مَنْصُوبًا وَلَمْ يُتَصَرَّفْ فِيهِ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ التَّقْدِيرَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَسْبِيحًا زِنَةَ عَرْشِهِ فَفِيهِ وَقْفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ ; الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَقْدِيرُ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يُصَرَّحُ بِهِ فِي اللَّفْظِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى تَقْدِيرِ مَصْدَرٍ آخَرَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمَذْكُورَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، فَإِذَا قُدِّرَ مَصْدَرٌ آخَرُ لَزِمَ مِنْهُ تَقْدِيرٌ لِثَلَاثَةٍ: فِعْلِ الْمَصْدَرِ الظَّاهِرِ، وَالْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ، وَفِعْلٍ آخَرَ لَهُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ لَا يَنْصِبُ مَصْدَرَيْنِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ ; لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لَيْسَ نَفْسَ الزِّنَةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ مِثْلَ زِنَةِ عَرْشِهِ، وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى تَقْدِيرِ مِثْلَ، فَالْمُرَادُ الْمِثْلِيَّةُ فِي الْمِقْدَارِ، فَرَجَعَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ خُصُوصًا أَنَّ قَوْلَهُ:" رِضَا نَفْسِهِ " لَا يَصِحُّ فِيهِ تَقْدِيرُ الْمِثْلِيَّةِ ; وَلِهَذَا قَالَ الأشرقي: يُسَاوِي خَلْقَهُ عِنْدَ التَّعْدَادِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ فِي الْمِقْدَارِ، وَيُوجِبُ رِضَا نَفْسِهِ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الْمُسَاوَاةِ، وَتَقْدِيرُ " قَدْرَ " صَحِيحٌ فِيهِ، أَيْ قَدْرًا يَبْلُغُ رِضَا نَفْسِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: بَقِيَ وَجْهُ إِبْطَالِ الْحَالِ. قُلْتُ: إِذَا قُدِّرَ " أُسَبِّحُ " أَوْ " أَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ مُوَازِنًا لِعَرْشِهِ " فَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ نَافَرَهُ كَوْنُ " زِنَةَ عَرْشِهِ " وَمَا بَعْدَهُ جَارِيًا عَلَى سُبْحَانَ لَا عَلَى قَائِلِهِ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ نَافَرَهُ أَنَّ الْمَفْعُولَ هُنَا مُطْلَقٌ، وَالْمَعْهُودُ مَجِيءُ الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى وَلَا يَطَّرِدُ التَّقْدِيرُ بِالْمُشْتَقِّ فِي " مِدَادَ كَلِمَاتِهِ " كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَبَطَلَ الْحَالُ. وَبَقِيَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ فِي إِعْرَابِهِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا أَنْ يُجْعَلَ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ يَبْلُغُ زِنَةَ عَرْشِهِ أَوْ بَالِغًا زِنَةَ عَرْشِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مِقْدَارًا، وَ " سُبْحَانَ اللَّهِ " مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَ " زِنَةَ عَرْشِهِ " مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُجْرِي الْقَوْلَ مَجْرَى ظَنَّ بِلَا شَرْطٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِكَانَ مُقَدَّرَةً هِيَ وَاسْمَهَا ضَمِيرًا رَاجِعًا إِلَى التَّسْبِيحِ، وَتُقَدَّرُ إِمَّا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَوِ اسْمِ الْفَاعِلِ. الرَّابِعُ: وَهُوَ خَاصٌّ بِرِضَا نَفْسِهِ أَنْ يُجْعَلَ مَفْعُولًا لَهُ عَلَى جَعْلِ الرِّضَا بِمَعْنَى الْإِرْضَاءِ، كَقَوْلِكَ: سَبَّحْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَكُلُّهَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَالْعُمْدَةُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ آخِرُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
مَسْأَلَةٌ: وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ حَدِيثِ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، إِلَّا مَرِيضٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ مُسَافِرٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ كَلَامٍ تَامٍّ مُوجَبٍ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ " إِلَّا " وَاجِبَ النَّصْبِ، فَمَا وَجْهُ رَفْعِهِ؟ وَخَاضَ النَّاسُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْوَاقِعَةَ بَعْدَ " إِلَّا " مَنْصُوبَةٌ، وَلَكِنْ كُتِبَتْ بِلَا أَلِفٍ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ. قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِسْرَاءِ " «وَأَرَى مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ» " -: وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ " مَالِكٌ " بِالرَّفْعِ، وَهَذَا قَدْ يُنْكَرُ وَيُقَالُ: هَذَا لَحْنٌ لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَكِنْ عِنْدِي جَوَابٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ " مَالِكٌ " مَنْصُوبَةٌ، وَلَكِنْ أُسْقِطَتِ الْأَلِفُ فِي الْكِتَابَةِ، وَهَذَا يَفْعَلُهُ الْمُحَدِّثُونَ كَثِيرًا، فَيَكْتُبُونَ: سَمِعْتُ أَنَسًا بِغَيْرِ أَلْفٍ وَيَقْرَءُونَهُ بِالنَّصْبِ، فَكَذَلِكَ " مَالِكٌ " كَتَبُوهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَيَقْرَءُونَهُ بِالنَّصْبِ، فَهَذَا -إِنْ شَاءَ اللَّهُ -مِنْ أَحْسَنِ مَا يُقَالُ فِيهِ، هَذَا كَلَامُ النووي. وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ الْحَجِّ:" «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنً» " - هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ " قَرْنً " بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ، وَهُوَ مَصْرُوفٌ ; لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجَبَلٍ، وَيُقْرَأُ مُنَوَّنًا، وَإِنَّمَا حَذَفُوا الْأَلِفَ مِنْهُ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ