الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخطيبى، والدليلى، والزليلى، وَالْمِكِّيثَى فِي أَلْفَاظٍ عِدَّةٍ، وَلَمْ يَرِدْ خِصِّيصٌ الْبَتَّةَ حَتَّى يُقَالَ فِي تَثْنِيَتِهِ خِصِّيصَانِ. وَقَدْ عَقَدَ ابن دريد فِي " الْجَمْهَرَةِ " بَابًا لِفِعِّيلٍ وَفِعِّيلَى، فَذَكَرَ مَا جَاءَ مِنْهُمَا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَيْسَ لِمُوَّلَّدٍ أَنْ يَبْنِي فِعِّيلَا إِلَّا مَا بَيَّنَتِ الْعَرَبُ وَتَكَلَّمَتْ بِهِ، وَلَوْ أُجِيزَ ذَلِكَ لَقُلِبَ أَكْثَرُ الْكَلَامِ، فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى مَا جَاءَ عَلَى فِعِّيلٍ مِمَّا لَا تَسْمَعُهُ إِلَّا أَنْ يَجِيءَ بِهِ شِعْرٌ فَصِيحٌ.
[الزَّنْدُ الْوَرِيُّ فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ السَّكَنْدَرِيِّ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.
مَسْأَلَةٌ: وَرَدَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ سُؤَالٌ صُورَتُهُ: رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» " قَالَ الشَّيْخُ محيي الدين النووي فِي شَرْحِهِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - أَيْ مِمَّنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي زَمَنِي وَبَعْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - فَكُلُّهُمْ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَوْلَى.
قُلْتُ: وَقَدْ أُشْكِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ تَنْزِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ عَلَى الْقَوَاعِدِ النَّحْوِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَنْ سَمِعَ بِنَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام مِمَّنْ شَمِلَتْهُ بِعْثَتُهُ الْعَامَّةُ ثُمَّ مَاتَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَفِي تَنْزِيلِ لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ قَلَقٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا الْإِشْكَالُ يَعْرِضُ كَثِيرًا فِي غَيْرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَيْضًا، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ، وَمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ إِلَّا أَسَاءَ إِلَيَّ، وَمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو إِلَّا شَكَرَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْغَرَضُ فِي الْجَمِيعِ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ بَعْدَ " إِلَّا " مُرَتَّبًا مَضْمُونُهُ عَلَى مَضْمُونِ مَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ، أَيْ: مَهْمَا جَاءَنِي زَيْدٌ أَكْرَمْتُهُ، وَمَهْمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ أَسَاءَ إِلَيَّ، وَمَهْمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو شَكَرَ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَتَطْبِيقُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا يُتَخَيَّلُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ
مُفَرَّغًا بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ " إِلَّا " فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، أَيْ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِي مُكْرِمًا لَهُ، وَمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُسِيئًا إِلَيَّ، وَمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ شَاكِرًا لِلنِّعْمَةِ. وَهَذَا مُشْكِلٌ ; فَإِنَّ الْحَالَ مُقَيِّدَةٌ لِعَامِلِهَا وَمُقَارِنَةٌ لَهُ، وَلَيْسَ الْإِكْرَامُ مُقَيَّدًا بِمَجِيءِ زَيْدٍ بِحَسْبِ الْمَقْصُودِ وَلَا مُقَارِنًا لَهُ فِي الزَّمَنِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَمْثِلَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: اجْعَلِ الْحَالَ مُقَدَّرَةً كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا، أَيْ مُرِيدًا الصَّيْدَ بِهِ، فَكَذَا فِي الْأَمْثِلَةِ، أَيْ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِي مُرِيدًا لِإِكْرَامِهِ، وَمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُرِيدًا الْإِسَاءَةَ إِلَيَّ، وَمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُرِيدًا الشُّكْرَ، وَعَلَى هَذَا تَتَأَتَّى الْمُقَارَنَةُ وَالتَّقْيِيدُ، وَلَا إِشْكَالَ.
قُلْتُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى مُمْكِنُ الِاسْتِقَامَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْغَرَضِ الْمَصُوغِ لِهَذَا الْكَلَامِ ; إِذِ الْمَقْصُودُ كَمَا سَبَقَ وُقُوعُ مَضْمُونِ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مُرَتَّبًا عَلَى مَضْمُونِ مَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْعَامِكَ عَلَى عَمْرٍو فِي حَالِ إِرَادَتِهِ لِلشُّكْرِ أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ مُرَتَّبًا عَلَى الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ ; لِجَوَازِ تَخَلُّفِ مُتَعَلِّقِ الْإِرَادَةِ الْحَادِثَةِ عَنْهَا، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي بَقِيَّةِ الْأَمْثِلَةِ، فَقَدْ ظَهَرَ امْتِنَاعٌ جَعْلِ مَا بَعْدَ إِلَّا حَالًا، لَا مِنْ قَبِيلِ الْحَالِ الْمُحَقَّقَةِ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، وَلَا مَسَاغَ لِغَيْرِ الْحَالِ فِيهِ فِيمَا يَظْهَرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ، فَتَقَرَّرَ الْإِشْكَالُ.
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا تَجْعَلُ التَّفْرِيعَ بِاعْتِبَارِ ظَرْفِ الزَّمَانِ، أَيْ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ فِي حِينٍ مِنَ الْأَحْيَانِ إِلَّا فِي حِينٍ أَكْرَمْتُهُ، فَحَذَفَ الْحِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جِئْتُكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَيْ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قُلْتُ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ الظَّرْفَ فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى زَعْمِكَ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا يُحْذَفُ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ وَتَقُومُ الْجُمْلَةُ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُفْرَدًا كَمَا فِي جِئْتُكَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَمَا أَجَازَهُ أبو حيان فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ} [البقرة: 48] مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ " يَوْمًا يَوْمَ لَا تَجْزِي نَفْسٌ "، فَأَبْدَلَ يَوْمَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ مَرْدُودٌ ; قَالَ ابن هشام: لَا نَعْلَمُ هَذَا وَاقِعًا فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ إِنِ ادَّعَى عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَحَلِّهَا مِنَ الْجَرِّ فَشَاذٌّ، أَوْ أَنَّهَا أُنِيبَتْ عَنِ الْمُضَافِ فَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ مَفْعُولًا فِي مِثْلِ هَذَا
الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا مَعْنًى ; فَيَظْهَرُ مِمَّا أَبْطَلْنَا بِهِ وَجْهَيِ الْحَالِ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي حَالِ إِكْرَامِكَ لَهُ أَوْ حَالِ إِرَادَتِكَ لِإِكْرَامِهِ، وَإِنَّمَا حِينَئِذٍ الْمَقْصُودُ مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَالْكَلَامُ فِي تَنْزِيلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَالْإِشْكَالُ بِحَالِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الِاسْتِثْنَاءَ الْوَاقِعُ فِيهِ جُمَلٌ، فَإِنْ أَعَدْتَهُ إِلَى الْجَمِيعِ وَبَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُسْتَثْنَى هُوَ مِنْ قِبَلِ " إِلَّا " مِنْ فِعْلٍ أَوْ مَعْنَاهُ بِوَاسِطَةِ " إِلَّا " كَمَا يَرَاهُ الْبَصْرِيُّونَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ عَوَامِلَ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنْ أَعَدْتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ لَزِمَ الْخُلْفُ فِي الْخَبَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ: لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَكَمْ مِنْ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ يَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَلَا يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، بِأَنْ يُسْلِمَ وَيَمُوتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ رَاجِعًا إِلَى مَا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ عَلَى مَا فِيهِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى لَا تُعْرَضُ فِيهَا إِلَّا الِاسْتِثْنَاءُ، فَيَلْزَمُ الْخُلْفُ أَيْضًا، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ - هَذَا آخِرُ السُّؤَالِ.
الْجَوَابُ: قَالَ ابن مالك فِي " التَّسْهِيلِ " فِي تَقْرِيرِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي مِنْ أَفْرَادِهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَيَلِيهَا أَيْ إِلَّا فِي النَّفْيِ فِعْلٌ مُضَارِعٌ بِلَا شَرْطٍ وَمَاضٍ مَسْبُوقٌ بِفِعْلٍ أَوْ مَقْرُونٌ بِقَدْ. وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: مِثَالُ الْمُضَارِعِ مَا كَانَ زَيْدٌ إِلَّا يَفْعَلُ كَذَا، وَمَا خَرَجَ زَيْدٌ إِلَّا يَجُرُّ ثَوْبَهُ، وَمَا زَيْدٌ إِلَّا يَفْعَلُ كَذَا، وَمِثَالُ الْمَاضِي مَسْبُوقًا بِفِعْلٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا} [يس: 30] وَمَقْرُونًا بِقَدْ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَا الْمَجْدُ إِلَّا قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
…
تَنْدَى وَحُلْمٌ لَا يَزَالُ مُؤَثَّلًا
قَالَ: وَإِنَّمَا أَغْنَى اقْتِرَانُ الْمَاضِي بِقَدْ عَنْ تَقَدُّمِ فِعْلٍ ; لِأَنَّ " قَدْ " تُقَرِّبُهُ مِنَ الْحَالِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ شَبِيهًا بِالْمُضَارِعِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُضَارِعُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ شَرْطٍ ; لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالِاسْمِ، وَإِنَّمَا سَاغَ بِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ مَقْرُونًا بِالنَّفْيِ لِجَعْلِ الْكَلَامِ بِمَعْنَى: كُلَّمَا كَانَ كَذَا. فَكَانَ فِيهِ فِعْلَانِ كَمَا كَانَ مَعَ كُلَّمَا، فَلَوْ قُلْتَ: مَا زَيْدٌ إِلَّا قَائِمٌ -لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا ذُكِرَ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَا يَكُونُ إِلَّا اسْمًا أَوْ مُؤَوَّلًا بِاسْمٍ، وَالْمَاضِي الْمُجَرَّدُ مِنْ " قَدْ " بَعِيدٌ مِنْ شِبْهِ الِاسْمِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَلَّا فَعَلْتَ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، كَقَوْلِهِمْ: شَرًّا أَهَرَّ ذَا نَابٍ، أَيْ مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا فِعْلَكَ انْتَهَى. وَقَالَ أبو البقاء فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا} [يس: 30]
إِنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي " يَأْتِهِمْ " وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِرَسُولٍ عَلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَوْضِعِ، انْتَهَى.
فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ تَخْرِيجُ الْحَدِيثِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَرْجَحُ الْحَالِيَّةُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ وُقُوعَ مَا بَعْدَ " إِلَّا " وَصْفًا لِمَا قَبْلَهَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ قَالَ ابن مالك: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِبَصْرِيٍّ وَلَا لِكُوفِيٍّ، وَإِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، وَإِنَّ مَا أَوْهَمَ خِلَافَ ذَلِكَ فَمُؤَوَّلٌ عَلَى الْحَالِ. وَكَأَنَّ أَبَا الْبَقَاءِ تَابَعَ فِي ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيَّ.
الثَّانِي: أَنَّ الْحَالِيَّةَ تَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْأَمْثِلَةِ، وَالْوَصْفِيَّةَ لَا تَطَّرِدُ بَلْ تَخْتَصُّ بِمَا إِذَا كَانَ الِاسْمُ السَّابِقُ نَكِرَةً كَالْحَدِيثِ، أَمَّا نَحْوُ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ الْوَصْفِيَّةُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَعُلِمَ بِذَلِكَ تَرْجِيحُ الْحَالِيَّةِ، وَكَأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أبو البقاء، وَمَا أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ وَجَوَازِ تَخَلُّفِ مُتَعَلِّقِ الْإِرَادَةِ الْحَادِثَةِ عَنْهَا، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي التَّخْرِيجِ، وَلَوْ رُوعِيَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَصِحُّ لَنَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَكَمْ مِنْ قَاعِدَةٍ نَحْوِيَّةٍ قُدِّرَتْ وَلَمْ يُبَالِ بِمُخَالَفَتِهَا لِلْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّ مِنَ النَّحْوِ وَالْفِقْهِ مَعْقُولٌ مِنْ مَنْقُولٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جِنِّيٍّ، فَتَارَةً يُلَاحَظُ فِيهَا الْأَمْرُ الْعَقْلِيُّ، وَتَارَةً يُلَاحَظُ الْأَمْرُ النَّقْلِيُّ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنَ التَّرْتِيبِ وَمَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ، إِنَّمَا يَتَّجِهُ لَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ عَقْلِيًّا لَا يَتَخَلَّفُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ شَرْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، وَالَّذِي فِي الْأَمْثِلَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِعَقْلِيٍّ، بَلْ عَادِيٌّ خَاصٌّ، أَيْ بِحَسَبِ عَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ فِعْلُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُكْتَفَى بِهِ فِي الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ.
وَأَمْرٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ التَّرْتِيبِ تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَمَا ذُكِرَ فِي تَقْرِيرِ الْحَالِ تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَفْسِيرِ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرِ الْإِعْرَابِ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ تَوَافُقَهُمَا كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا لِسِيبَوَيْهِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّانِي فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْجُمَلَ السَّابِقَةَ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً، بَلْ جُمْلَةُ:" ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا يُؤْمِنُ " مُرْتَبِطَةٌ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهَا قَيْدٌ فِيهَا، وَ " ثُمَّ " هُنَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْفَاءِ، فَإِنَّهَا لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ لَا لِلتَّرَاخِي كَمَا فِي قَوْلِهِ: جَرَى فِي الْأَنَابِيبِ ثُمَّ اضْطَرَبَ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ يَهُودِيٍّ وَلَا نَصْرَانِيٍّ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِي إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. فَعُلِمَ أَنَّ جُمْلَةَ " يُؤْمِنُ " مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُولَى، وَفَاءُ الرَّبْطِ تُصَيِّرُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي حُكْمِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَرَّرَهُ النُّحَاةُ فِي بَابِ الْعَطْفِ فِي مَسْأَلَةِ: الَّذِي يَطِيرُ فَيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبَابُ، فَقَوْلُهُ: إِنْ أَعَدْتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى