الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نِقَابُ المرأةِ في الحَجِّ:
يَربِطُ كثيرٌ مِن الكُتَّابِ بين مسألتينِ مُنفكَّتَيْنِ:
الأُولَى: تحريمُ النقابِ على المُحْرِمةِ.
الثانية: تغطيةُ وجهِها عند الرجالِ الأجانبِ في الحجِّ.
ويجبُ أن يُعلَمَ أنَّ اللهَ حرَّم حالَ الإحرامِ على الرجلِ لباساً، وعلى المرأةِ لباساً، أمَّا الرجُلُ: فحرَّم عليه اللباسَ المفصَّلَ على جسمِه أو عضوٍ مِن أعضائِه؛ كالثيابِ، والسراويلِ، والخُفَّيْنِ، والجَوْرَبَيْنِ، وشِبْهِها، وأمَّا المرأةُ: فحرَّم عليها مِن اللباسِ نوعَيْنِ: النِّقابَ، والقُفَّازَ، وتحريمُ لباسٍ معيَّنٍ لا يعني كشفَ العضوِ؛ فالحكمُ يتعلَّقُ باللباسِ لا بما تحتَه؛ فالرجلُ يغطِّي كلَّ الأعضاءِ التي نُهِيَ عن استعمالِ لباسٍ مخصَّصٍ لها، فيغطِّي قَدَمَه؛ ولكنْ لا يَلبَسُ الخُفَّ، ويغطِّي جسدَه كلَّه أعلاه وأسفَلَه إلا رأسَه؛ لكنْ لا يلبَسُ القميصَ والسِّرْوالَ والفانيلةَ، ولا يُقال له: اكشِفْ كلَّ عضوٍ مِن جسدِكَ حرَّم اللهُ عليكَ أن تلبَسَ عليه شيئاً مفصَّلاً.
فتلك مسألتانِ منفصلتانِ، فلو غطَّتِ المرأةُ كفَّيْها بثوبٍ، لم تَأثَمْ، ولو لَبِسَتْ قُفَّازاً، أثِمَت، فالحكمُ لِلِّباسِ
لا للعُضْو، ويبقى حكمُ سترِ أعضاءِ الرجلِ والمرأةِ بغيرِ أنواعِ اللباسِ المنهِيِّ عنها بحسبِ حكمِها قبلَ الإحرامِ؛ فما وجَبَ سَتْرُه، يجبُ سترُه عند قيامِ موجِبِه، وما يُستحَبُّ سترُه، فيبقى على حكمِه لا يُغَيِّرُ منه الإحرامُ شيئاً، ولم يثبُتْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عن تغطيةِ المرأةِ لوجهِها؛ وإنما النهيُ كان عن النقابِ بعينِه.
والقولُ بأنَّ: تحريمَ النقابِ على المرأةِ المُحْرِمةِ في الحجِّ؛ يعني: وجوبَ كشفِها لوجهِها، يلزَمُ مِنه أنَّ الرجلَ يجبُ عليه أن يكشِفَ ما تحتَ اللباسِ الذي نهاه اللهُ عن لبسِه، فحديثُهما واحدٌ، وفي سياقٍ واحدٍ؛ ففي «الصحيحَيْنِ» ، عن عبد الله بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: قامَ رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله، ماذا تأمُرُنا أن نلبَسَ مِن الثيابِ في الإحرامِ؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(لَا تَلْبَسُوا القَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا العَمَائِمَ، وَلَا البَرَانِسَ؛ إِلَّا أنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئاً مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ)(1).
(1) أخرجه البخاري (134)، ومسلم (1177).
ولذا؛ فإنَّ فقهاءَ الصحابةِ يفرِّقون بين تخصيصِ النقابِ بالنهيِ؛ كونَه مفصَّلاً على الوجهِ، وبين تغطيةِ العضوِ وهو الوَجهُ؛ فقد صَحَّ عن عطاءٍ، عن أبي الشَّعْثاءِ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أنَّه قال:«تُدْلِى الجلبابَ إلى وجهِها، ولا تضرِبُ به، قلتُ: وما «لا تَضْرِبُ به» ؟ فأشارَ لي، كما تَجلْبَبُ المرأةُ، ثمَّ أشارَ لي: ما على خَدِّها مِن الجلبابِ، قال: تَعْطِفُه، وتَضْرِبُ به على وجهِها؛ كما هو مسدولٌ على وجهِها» (1).
ويؤكِّدُه ما روى طاوسٌ، قال:«لِتُدْلِ المرأةُ المُحْرِمةُ ثوبَها على وجهِها، ولا تَنتَقِبْ» (2).
وقد حكى الإجماعَ على أنَّ المرأةَ تغطِّي وجهَها عن نظرِ الرجالِ وهي مُحْرِمةٌ: ابنُ عبدِ البَرِّ، وابنُ قُدَامةَ، وغيرُهما:
قال ابنُ عبدِ البَرِّ: «أجمَعُوا على أنَّ المرأةَ تَلْبَسُ
(1) أخرجه الشافعي في «مسنده» (1/ 303 رقم 788)، وفي «الأُم» (3/ 370 - 371)، وأبو داود في «مسائل الإمام أحمد» (732). ولم يذكُرِ الشافعيُّ:«أبا الشعثاء» .
(2)
أخرجه الشافعي في «الأم» (3/ 371)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (14540).
المَخِيطَ كُلَّه، والخِفَافَ، وأنَّ لها أنْ تُغطِّيَ رأسَها، وتستُرَ شَعْرَها؛ إلا وجهَها، فتَسْدُلُ عليه الثوبَ سَدْلاً خفيفاً تُسْتَرُ به عن نظرِ الرجالِ» (1)، وقال ابنُ قُدَامةَ:«لا نَعْلَمُ فيه خلافاً» (2).
ولا تشترَطُ المجافاةُ عند سدلِ المُحْرِمةِ ثوبَها على وجهِها، بحيثُ لا يلتصِقُ بوجهِها كالتصاقِ النِّقابِ؛ فلم يَشتَرِطْهُ مالكٌ وأحمدُ في قولٍ (3)؛ خلافاً لمَذهبِ الشافعيِّ (4).
وعلى هذا عملُ نساءِ الصحابةِ في الحجِّ؛ يَتْرُكْنَ النقابَ، ويَتخَمَّرْنَ أو يَتجلبَبْنَ بغيرِه، فقد صحَّ عن فاطمةَ بنتِ المنذِرِ، قالت: «كُنَّا نُخمِّرُ وجوهَنا ونحنُ مُحْرِماتٌ مع أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ (5).
وقد كانتِ العربُ في بعضِ أنساكِها في الحجِّ على
(1) انظر: «التمهيد» (15/ 108)، و «الاستذكار» (11/ 28 - 29).
(2)
انظر: «المغني» (5/ 154).
(3)
انظر: «المدونة» (1/ 463)، و «المغني» (5/ 155).
(4)
انظر: «الأم» (3/ 370 و 571).
(5)
أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 328)، وإسحاق بن راهويه في «مسنده» (2255).
ما كان عليه إبراهيمُ، ومَن بعدَه مِن الأنبياءِ عليهم السلام، وقد كانُوا في الجاهليةِ تَكْشِفُ النساءُ وجوهَهُنَّ في الحجِّ؛ ظَنّاً منهم أنَّ الحكمَ عامٌّ للنقابِ وغيرِه، عند الرجالِ الأجانبِ وغيرِهم؛ قال خُفَافُ بنُ نُدْبةَ السُّلَمِيُّ، وهو شاعرٌ جاهليٌّ يَصِفُ حالَ امرأةٍ مُحْرِمةٍ:
وأبْدَى شُهُورُ الحَجِّ مِنْهَا مَحَاسِناً
…
ووَجْهاً مَتَى يَحْلِلْ لهُ الطِّيبُ يُشْرِقِ (1)
وبَقِيَ الظنُّ عند بعضِ نساءِ العربِ كذلك بعدَ الإسلام، حتى إنَّ منهنَّ مَن كانت تجدُ حَرَجاً على نُسُكِها مِن تغطيةِ وجهِها في حَجِّها خوفاً على أجرِها؛ وذلك مِن بقايا فهمِ الجاهليةِ، وكانت عائشةُ رضي الله عنها تُسأَلُ عن ذلك وتُبَيِّنُ الأَمرَ؛ فقد روى إسماعيلُ بنُ أبي خالِدٍ، عن أُمِّهِ وأُخْتِه أنَّهما دخلَتَا على عائشةَ يومَ التَّرْوِيَةِ، فسألَتْها امرأةٌ: أَيَحِلُّ لي أنْ أغطِّيَ وجهِي وأنا مُحْرِمةٌ؟ فرفعَتْ خمارَها عن صدرِها، حتى جعلَتْه فوقَ رأسِها؛ أخرَجَه ابنُ سعدٍ في «الطبقات» (2).
(1) سبق تخريجه (ص 58).
(2)
أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبير» (10/ 456).
وقد كانت عائشةُ رضي الله عنها تُبيِّنُ التفريقَ بينَ النقابِ والتغطيةِ بغيرِه، وأنَّ التغطيةَ جائزةٌ ولو كانتِ المرأَةُ وحدَها؛ كما في البخاريِّ معلَّقاً، وأسنَدَه ابنُ حزمٍ والبيهقيُّ، قالت:«لا تَنْتقِبْ ولا تَلَثَّمْ، وتَسْدُلُ الثوبَ على وجهِها» ، وعندَ البيهقيِّ:«إن شاءَتْ» (1).
وعلى هذا يَنُصُّ الفقهاءُ في كتبِهم عندَ ذكرِ المرأةِ ولباسِها حالَ إحرامِها، فيقولون عباراتٍ تُزِيلُ اللبسَ فيقولون:«ولها أن تغطِّيَ وجهَها» ، وربَّما قال بعضُهم:«ويجوزُ لها أنْ تُغَطِّيَ وجهَها عند الرجالِ» .
ويبيِّنُ بعضُ الفقهاءِ المرادَ كالعِمْرَانِيِّ الشافعيِّ كما في «البَيَان» ؛ قال بعدَ تقريرِ ذلك: «ولَسْنَا نريدُ بذلك أنَّها
(1) علقه البخاري (2/ 137). فقال: «ولَبِسَتْ عائشةُ رضي الله عنها الثيابَ المُعصْفَرَةَ وهي مُحرِمةٌ، وقالت: لا تَلَثَّمْ ولا تَتبَرْقَعْ، ولا تلبَسْ ثوباً بوَرْسٍ ولا زعفَرَانٍ» ، ووصَلَه ابنُ حزمٍ في «المحلَّى» (7/ 91)؛ فقال: وروينا عن وكيعٍ
…
سُئِلَت عائشةُ أمُّ المؤمِنِين: ما تلبَسُ المحرِمَةُ؟ فقالت: «لا تنتَقِبْ ولا تَلَثَّمْ، وتَسْدُلُ الثوبَ على وجهِها» ، ووصلَه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (47/ 5)؛ بلفظِ:«المحرِمَةُ تَلْبَسُ مِن الثيابِ ما شاءتْ؛ إلا ثوباً مَسَّه وَرْسٌ أو زَغفَرانٌ، ولا تتبَرْقَعْ ولا تَلَثَّمْ، وتَسْدُلُ الثوبَ على وجهِها إنْ شاءَت» .
تبرُزُ للناس» (1).
ويزعُمُ بعضُ الكُتَّابِ أنَّ الأئمةَ يقولونَ بجوازِ كشفِ المرأةِ لوجهِها عند الرجالِ، ولا يُوجِبونَهُ، وهذا فَهْمٌ خاطِئٌ لا وجهَ له؛ لأنَّ التعبيرَ عند إرادةِ رفعِ الحرجِ أو الحظرِ يكونُ هكذا في لغةِ القرآنِ ولسانِ العرب؛ كما في قولِه تعالى عنِ السعيِ بين الصَّفَا والمروةِ:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]؛ لأنَّ الناسَ كانت تَجِدُ حرجاً مِن السعيِ بينَ الصفا والمروةِ؛ لأنَّهم كانُوا يَضَعُونَ أصناماً على الجَبَلَيْنِ فيسعَوْنَ بينهما، فأصبحت عالقةً في أذهانِهم فيتحَرَّجُون مِن السعيِ؛ فقال اللهُ:{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، والطوافُ بهما واجبٌ أو ركنٌ في الحجِّ والعمرةِ، والآيةُ وكذا كلامُ الفقهاءِ لرفعِ الحرَجِ المتوهَّمِ؛ لا لإثباتِ أصلِ الحكمِ.
وأخذُ الأحكامِ مِن غيرِ فهمِ سياقاتِها خطأٌ كبيرٌ، وكثيراً ما يأخُذُ بعضُ الكُتَّابِ أحكامَ غطاءِ المرأةِ لوجهِها مِن المناسكِ أو مِن حجابِ الصلاةِ، فينشَأُ الخطأُ،
(1)«البيان في مذهب الإمام الشافعي» (4/ 154).