الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يَتصوَّرُ الناسُ ذلك اليومَ؛ لانعدامِ الإماءِ، وكثرةِ خروجِ الحرائرِ كما تخرُجُ الإماءُ سابقاً، فيَحْمِلُون كلامَ الفقهاءِ في فقهِ الإماءِ ورُخَصِهِنَّ، على فقهِ الحرائِرِ.
والأئمةُ الثلاثةُ -مالكٌ وأبو حنيفةَ والشافعيُّ- يقولون بسَتْرِ المرأةِ الحُرَّةِ لوجهِها لأجلِ نظرِ الرجالِ، وإن لم يقولُوا بأنَّه عورةٌ كأحمَدَ، ومَن نَظَرَ في كلامِهِم وكلامِ أصحابِهم وسياقاتِه ومناسباتِه، وجدَ ذلك بيِّناً:
أما مالكُ بنُ أنَسٍ: فهو يرى أنَّ الوجهَ والكفَّيْنِ يُستَرَانِ لأجلِ النظرِ لا لكونِهما عورةً، وهذا ما يُقَرِّرُه عنه أصحابُه، فهو يقولُ بالغايةِ ويختلِفُ في التعليلِ، فهو يأمُرُ بتغطيةِ الوجهِ عندَ وجودِ الناظِرِ، وُيجيزُهُ عند عدَمِه؛ قال ابنُ القَطَّانِ: «ويحتَمِلُ عندي أنْ يقالَ: إنَّ
مذهَبَ مالِكٍ
هو أنَّ نظرَ الرجلِ إلى وجهِ المرأةِ الأجنبيَّةِ لا يجوزُ إلا مِن ضرورةٍ
…
والجوازُ للبُدُوِّ، وتحريمُه مُرَتَّبٌ عندَه -أي: مالِكٍ- على جوازِ النظرِ، أو تحريمِه، فكلُّ موضعٍ له فيه جوازُ النظر، فيه إجازةُ البُدُوِّ» (1). انتهى.
وهكذا يقولُ أبو العباسِ الوَنْشَرِيسِيُّ المالكيُّ في
(1) انظر: «النظر، في أحكام النظر» (ص 50 - 51).
«المِعْيَارِ المُعْرِب» : «عورةُ الصلاةِ، والعورةُ التي يجوزُ النظرُ إليها، نوعانِ مختلفانِ» ، ثم قال:«فدلَّ جميعُ هذا على أنَّ للعورةِ بالنسبةِ إلى النظرِ حُكْماً، وبالنسبةِ إلى الصلاةِ حكماً آخَرَ؛ يدلُّ على طلَبِ سَتْرِ الوجهِ للحُرَّةِ: أنها لو صلَّتْ مُنتقِبةً، لم تُعِدْ» (1). انتهى.
وأمَّا ما يَسْتَشْكِلُه البعضُ مِن تجويزِ مالكٍ لأكلِ المرأةِ مع غيرِ مَحْرَمِها (2)؛ فإنَّما يقصِدُ أحوالاً لا يلزَمُ منها المحظورُ، ونساءُ العربِ تأكُلُ مع عبيدِها، وتأكُلُ مِن تحتِ جلبابِها، وهذا مشهورٌ، بل فسَّرَ الأزهريُّ قولَ مالكٍ، فقال:«معنى قولِ مالِكٍ في المُؤاكَلةِ: ذلك في الحِجَال» (3)، جمع حَجَلَةٍ، وهو بيتٌ كالقُبَّةِ يُسْتَرُ بالثيابِ (4)، فجعَلَ المرأةَ عندَ أكلِها مع غيرِ مَحْرَمٍ، ساترةً لبدَنِها كلِّه؛ لا لوجْهِها فحَسْبُ.
وقد يجوزُ في قولِ مالكٍ في المرأةِ المُتَجالَّةِ العجوزِ أو الحُرَّةِ مع عبدِها وخادمِها، وهو صريحُ قولِ مالكٍ؛ كما
(1) انظر: «المعيار المعرب» (1/ 310).
(2)
انظر: «الموطأ» (2/ 934).
(3)
انظر: «إكمال المعلم» للقاضي عياض (6/ 520).
(4)
انظر: «النهاية في غريب الحديث والأثر» (1/ 346).
نقلَه ابنُ العربيِّ، قال:«قال مالِكٌ: يجوزُ للوَغْدِ أن يأكُلَ مع سيِّدَتِه، ولا يجوزُ ذلك لذي المَنْظَرةِ» (1).
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: «وقد وردَتِ الرُّخْصةُ في أكلِ المرأةِ مع عبدِها الوَغْدِ، ومع خادمِها المأمونِ» (2)، ومالكٌ في «الموطَّأ» يَمْنَعُ مِن تسليمِ الرجلِ على المرأةِ الشابَّةِ (3)، فكيف يمنَعُ مِن تسليمِ الرجلِ الأجنبيِّ على المرأةِ الشابَّةِ، ثم يُجِيزُ أكلَه معها؟! إلا أنَّه يقصِدُ المُتَجالَّةَ العجوزَ كما بيَّنَه ابنُ الجَهْمِ، وقد صرَّح مالكٌ بقولِه:«ولا تُترَكُ المرأةُ الشابَّةُ تجلِسُ إلى الصُّنَّاعِ، فأمَّا المرأةُ المتجالَّةُ، والخادمُ الدُّونُ التي لا تُتَّهَمُ على القعودِ، ولا يُتَّهَمُ مَن تَقعُدُ عندَه، فإِنِّي لا أرَى بأساً بذلك» (4).
وكذلك يَسْتشكِلُ البعضُ ما يُنْقَلُ عن مالكٍ في مسألةِ الظِّهَارِ، وأنَّ الزوجةَ تكشِفُ وجهَها لزوجِها الذي ظاهَرَ منها، وقال مالكٌ: «وقد ينظُرُ غيرُه أيضاً إلى
(1) انظر: «أحكام القرآن» (3/ 386 /العلمية).
(2)
انظر: «الكافي في فقه أهل المدينة» (2/ 1136).
(3)
انظر: «الموطأ» (2/ 959).
(4)
انظر: «مواهب الجليل» (3/ 405)، و «البيان والتحصيل» (9/ 335).
وجهِها» (1)؛ يعني: أنَّها تكشِفُ له لأنَّه زوجُها ولو ظاهَرَ منها، والوجهُ يراه غيرُه ممن هو أبعَدُ منه، فلا يَخْتَصُّ الزوجُ بالوجهِ، وليس عورةَ سترٍ؛ وإنما عورةُ نظَرٍ، فقد يراها غيرُه؛ كعَبْدِها ومحارِمِها، وهم كثيرٌ، بلْ مِن السلَفِ مَن يرخِّصُ للعبدِ المملوكِ أن يرى شَعْرَ سَيِّدَتِه؛ روى ابنُ أبي شيبةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال:«لا بأسَ أن ينظُرَ المملوكُ إلى شَعْرِ مولاتِه» (2).
والزوجُ أَوْلَى مِن أولئكَ لزوجَتِه ولو ظاهَرَ منها، وهذا مرادُ مالكٍ، والإمامُ مالكٌ يشدِّدُ في الرؤيةِ للمخطوبةِ ألَّا تتجاوَزَ الوجهَ والكفَّيْنِ، ويُسْأَلُ عنِ الأمَةِ المشتراةِ: أَتَرَى ينظُرُ إلى كَفَّيْها؟ قال مالكٌ: «أرجو ألَّا يكونَ به بأسٌ» (3).
ومَن عرَفَ مذهبَ مالكٍ في العَوْراتِ والنظرِ، في الحُرَّةِ والأَمَةِ، والحاجاتِ والضروراتِ، عرَفَ أنَّه لا يقصِدُ ما يَنْسُبُه إليه بعضُ الجَهَلَةِ مِن سفورِ المرأةِ أمامَ الرجالِ بكلِّ حالٍ.
(1) انظر: «المدونة» (2/ 335).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (17557).
(3)
انظر: «البيان والتحصيل» (7/ 296).
ويورِدُ بعضُهم كلاماً لمالِكٍ في الرجالِ يُيَمِّمُون المرأةَ الميتةَ بالتُّرَابِ (1)، وجعَلُوا ذلك لازماً لكشفِ أعضاءِ التيمُّمِ، والمرأةُ قد تُيمَّمُ مِن غيرِ كشفٍ ولا مَسٍّ؛ وذلك أنَّ مالكاً يرى أنَّ المرأةَ لو ماتت وليس معها غيرُ ابنِها: أنَّه يُغَسِّلُها مِن وراءِ الثيابِ (2)، وهذا وهو ابنُها وهي مَيِّتةٌ، واستيعابُ الأعضاءِ بالماءِ أشقُّ مِنِ استيعابِ عضوَيْنِ بالترابِ لم يَقْصِدِ الشارعُ استيعابَهما أصلاً.
وحملُ كلامِ مالكٍ في مسألةِ النظرِ على كشفِ المرأةِ لوجهِها، خطأٌ يقعُ فيه من لم يحقِّقْ مذهَبَهُ في التفريقِ بين العورتَيْنِ.
والمالكيَّةُ يفرِّقُون بين عورةِ النظرِ وعورةِ السَّتْرِ، ومِنهم مَن يُطْلِقُ عورةَ النظَرِ والفتنةِ فيَجْعَلُ المرأةَ كُلَّها عورةً مِن هذا الوجهِ؛ قال القرطبيُّ: «وبما تضمَّنَتْهُ أصولُ الشريعةِ مِن أنَّ المرأةَ كلَّها عورةٌ؛ بدنَها وصوتَها، كما تقدَّمَ، فلا يجوزُ كشفُ ذلك إلا لحاجةٍ؛ كالشهادةِ عليها، أو داءٍ يكونُ ببدنِها، أو سؤالِها عما يَعْرِضُ وتَعيَّنَ
(1) انظر: «المدونة» (1/ 261).
(2)
انظر: «النوادر والزيادات» (1/ 551 - 552)، و «البيان والتحصيل» (2/ 247).