الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عندَها» (1). انتهى.
وأمَّا أبو حَنِيفةَ: فهو كمالِكٍ في هذا البابِ، يُفرِّقُ بين عورةِ السترِ وعورةِ النظرِ، فلا يُوجِبُ سترَ الوجهِ والكفَّيْنِ لأنهما عورةٌ؛ وإنَّما يوجِبُ سَتْرَهما عندَ نظرِ الرجالِ الذين يُستَرُ عن مِثْلِهم، وقد رأيتُ مَن يحتجُّ بقولٍ لأبي حنيفةَ في سياقِ أحكامِ النظرِ، نقلَه محمدُ بنُ الحسنِ كما في «المبسوط»؛ حيثُ قال:«ولا بأسَ أن ينظُرَ إلى وجهِها والى كَفَّيْها، ولا ينظُرُ إلى شيءٍ غيرِ ذلك منها؛ وهذا قولُ أبي حنيفةَ» (2).
ولمَّا اختَلَّ لدى الناقِلِ لمثلِ هذا الكلامِ الأصلُ، وهو عدمُ التفريقِ بين العورتَيْنِ والسياقَيْنِ، نسَبُوا إلى
مذهبِ أبي حنيفةَ
ما لا يُريده، وأعلامُ الحنفيةِ يَعْلَمُون مرادَه ويُدْرِكُونَ التفريقَ، ويبيِّنون أنَّ الأصلَ التغطيةُ، وأنَّ إباحةَ النظرِ في أحوالٍ للرجلِ لا تُناقِضُ أصلَ السترِ مِن المرأةِ؛ فخطابُ المرأةِ غيرُ خطابِ الرجلِ؛ قال السَّرَخْسيُّ: «المرأةُ عورةٌ مِن قَرْنِها إلى قَدَمِها، ثم أُبِيحَ
النظرُ إلى بعضِ المواضعِ منها؛ للحاجةِ والضرورةِ» (1)، وهو هنا يريدُ عورةَ النظرِ.
ولذا؛ لا تَجِدُ مَن يُبِيحُ مِن الحنفيَّةِ المحقِّقِين للمرأةِ كشفَ وجهِها إلا في سياقِ الحاجةِ إلى النظرِ إليها في العقودِ والحقوقِ، ويُفَرِّقُون بينَ أصلِ النظرِ، وبين الحاجةِ إليه، ويفَرِّقُون بين عورةِ السترِ وعورةِ النظرِ؛ قال الطحطاويُّ في «حاشيته»:«قولُه: «وجميعُ بدنِ الحُرَّةِ» ؛ أي: جسَدِها، قولُه:«إلا وَجْهَها» ، ومنعُ الشابَّةِ مِن كشفِهِ لخوفِ الفتنةِ، لا لأنَّه عورةٌ» (2). انتهى.
وهذا ما يقَرِّرُه علماءُ الحنفيةِ ومحقِّقُوها؛ كالجَصَّاصِ (3)، وابنِ عابِدِين (4)، وغيرِهما.
وأمَّا الشافعيُّ: فلا يختلِفُ القولُ عنه بوجوبِ سترِ المرأةِ لوجهِها لأجلِ النظرِ كقولِ مالِكٍ وأبي حنيفةَ، وما نقلَه المُزَنِيُّ عنه في تفسيرِ الزينةِ الظاهرةِ: بالوجهِ والكَفَّيْن (5)، فهو
(1) انظر: «المبسوط» للسرخسي (10/ 145).
(2)
انظر: «حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح» (ص 241).
(3)
انظر: «أحكام القرآن» (5/ 172 - 173 و 245).
(4)
انظر: «رد المحتار» (2/ 79).
(5)
انظر: «مختصر المزني» (ص 163).
يريدُ عورةَ النظرِ، وذكَرَه في سياقِ عورةِ الصلاةِ؛ ولذا حمَلَ البيهقيُّ تفسيرَه ذلك على إبرازِ الوجهِ والكفَّيْنِ لنظَرِ المحارمِ لا لنظَرِ الأجانِبِ؛ كما في «السُّنَنِ الكُبْرى» (1)، وفسَّرَهُ بهذا المعنى الخطيبُ الشِّرْبِينيُّ والسُّبْكِيُّ وابنُ الرِّفْعةِ وغيرُهم.
وقال إمامُ الحرمَيْنِ الجُوَيْنيُّ: «اتَّفق المسلمونَ على منعِ النِّساءِ مِن الخروجِ سافراتِ الوجوهِ؛ لأنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةُ الفِتنةِ» (2)، وقال أبو حامِدٍ الغزاليُّ لَمَّا ذكَرَ فتنةَ النظرِ بين المرأةِ والرجلِ في «الإحياء»:«لم يَزَلِ الرجالُ على مَمَرِّ الزمانِ مَكْشُوفي الوجوهِ، والنساءُ يَخْرُجْنَ مُنتَقِبَاتٍ» (3)، وعدَّ أبو حامدٍ الغزاليُّ في» الإحياء» الكشفَ معصيةً (4).
وقد أيَّدَ النوويُّ في كتابِه «الروضةِ» الاتفاقَ الذي حكاهُ الجوينيُّ (5)، قال الشِّهَابُ الرَّمْليُّ:» نقَلَ في «الروضةِ» وأصلِها هذا الاتفاقَ وأقرَّاه» (6).
(1) انظر: «السنن الكبرى» (7/ 85 و 94).
(2)
«نهاية المطلب» (12/ 31).
(3)
انظر: «إحياء علوم الدين» (2/ 47).
(4)
انظر: «إحياء علوم الدين» (2/ 313).
(5)
انظر «روضة الطالبين» (5/ 366 - 367).
(6)
انظر: «حاشية الرملي على أسنى المطالب» (3/ 109)، =
وقد نَصَّ أبو العبَّاسِ بنُ الرِّفْعةِ على وجوبِ تغطيةِ المرأةِ لوجهِها في الصلاةِ؛ إنْ مَرَّ أمامَها الرجالُ، وقد قال ابنُ تيميَّةَ عنِ ابنِ الرِّفْعةِ:«رأيتُ شيخاً تتقاطَرُ فروعُ الشافعيةِ مِن لِحْيَتِه» (1).
وقال السبكيُّ: «الأقرَبُ إلى صنيعِ الأصحابِ: أنَّ وجهَها وكفَّيْها عورةٌ في النظَرِ» (2). انتهى.
وفقهاءُ الشافعيةِ يفرِّقُون بين عورةِ الصلاةِ، وعورةِ السَّتْرِ، وعورةِ النظرِ، وأكثَرُ الخطأِ عليهم في نقلِ قولٍ لهم في موضِعٍ، وحملِه على موضِعٍ آخَرَ.
قال ابنُ حجَرٍ الهَيْتَمِيُّ: «ومَن تَحقَّقَتْ نظَرَ أجنبيٍّ لها، يلزَمُها سَتْرُ وجهِها عنه؛ وإلَّا كانَتْ مُعِينةً له على حرامٍ فتأثَمُ» (3). انتهى.
وقال الرَّمْليُّ الشافعيُّ: «استَثْنَى الوجهَ والكفَّيْنِ المصنِّفُ- النوويُّ- في» مجموعِه»، لكنَّه فرَضَه في الحُرَّةِ، ووجوبُ سترِهما في الحياةِ ليس لكونِهما عورةً؛
= و «فتاوى الرملي» (3/ 170).
(1)
انظر: «الدرر الكامنة» (1/ 337).
(2)
نقله عنه الخطيبُ الشربيني في «مغني المحتاج» (4/ 209).
(3)
انظر: «تحفة المحتاج، في شرح المنهاج» (7/ 193).
بل لكونِ النظرِ إليهما يوقِعُ في الفتنةِ» (1). انتهى.
وأئمَّةُ الفَتْوَى والتحقيقِ مِن الشافعيَّةِ يَنُصُّونَ على وجوب سَتْرِ المرأةِ لوجهِها، وإنِ اختلَفَ تعليلُهم للسترِ؛ فأقوامٌ يوجِبُون السترَ لذاتِه؛ كالشِّهابِ الرَّمْليِّ، والشَّمْسِ الرَّمْليِّ، والخطيبِ الشِّرْبِينيِّ، ومنهم مَن يُوجِبُه لمصلحةِ الناسِ ودفعِ الفتنةِ والفسادِ؛ كأبي زكَرِيَّا الأنصاريِّ، والشهابِ ابنِ حَجَرٍ.
والمعتَمَدُ عند الشافعيَّةِ: ما اتَّفَقَ عليه الرافعيُّ والنوويُّ؛ أنَّ تغطيةَ المرأةِ لوَجْهِها واجبٌ لذاتِه؛ كما نقلَه الخطيبُ عنهما، ثم ما عليه الهَيْتَمِيُّ والرَّمْليُّ، وهو ما حكَيَاه في هذه المسألةِ بلا اختلافٍ أنَّ المرأةَ يجبُ أن تُغَطِّيَ وجهَها عندَ رؤيةِ الرجالِ لها.
وقد منَعَ النوويُّ مِن كشفِ المسلمةِ لوجهِها وكفَّيْها عندَ المرأةِ الكافرةِ إلا أنْ تكونَ مملوكةً لها، وقال:«هذا هو الصحيحُ في مذهبِ الشافعيِّ» ؛ كما نقَلَ ذلك عن النوويِّ تلميذُه ابنُ العَطَّارِ في «الفتاوى» (2).
وقال النوويُّ في «المنهاج» : «ويحرُمُ نظَرُ فَحْلٍ بالغٍ إلى عورةِ حُرَّةٍ كبيرةٍ أجنبيَّةٍ، وكذا وجهِها وكَفَّيْها؛ عندَ خوفِ فِتْنَةٍ، وكذا عندَ الأَمْنِ؛ على الصحيحِ» (1). انتهى.
وبعضُهم ينقُلُ كلاماً للنوويِّ في «المِنْهاج» نقلَه عن القاضي عِيَاضٍ: أنَّ تغطيةَ المرأةِ لوجهِها سُنَّةٌ مُستَحَبَّةٌ (2)، وينسُبُون للنوويِّ إقرارَه، وهذا غَلَطٌ عليه؛ فالنوويُّ يتشدَّدُ في كشفِ المسلمةِ للكافرةِ، وُيوجِبُ احتجابَها عنها؛ لكونِها ليست مِن نسائِها؛ كما في آيةِ الزينةِ وما بعدَها؛ فكيفَ بالرجالِ الأجانِبِ؟!
وقولُ القاضي عياضٍ ضعَّفَه جماعةٌ مِن أئمةِ الشافعيةِ؛ كالخطيبِ الشِّرْبينيِّ (3)، والشمسِ الرَّمْليِّ (4)، وابنِ حَجَرٍ الهَيْتَميِّ (5)، وغيرِهم.
ويُدْرِكُ فقهاءُ الشافعيةِ مقاصدَ الشافعيِّ وتفريقَه بين
(1) انظر: «منهاج الطالبين» (ص 204).
(2)
انظر كلام القاضي عياضٍ في: «إكمال المعلم» (7/ 37)، وكلام النوويِّ في «شرح مسلم» (14/ 139).
(3)
انظر: «مغني المحتاج» (4/ 209).
(4)
انظر: «نهاية المحتاج» (6/ 188).
(5)
انظر: «تحفة المحتاج» (7/ 193).
عورةِ النظرِ وعورةِ السترِ؛ فلا ينسُبُون للشافعيِّ جوازَ كشفِ المرأةِ لوجهِها إلا في سياقاتِ عورةِ الصلاةِ والسترِ، وإنما ينسُبُون إليه وجوبَ تغطيَتِها لوجهِها في سياقِ عورةِ النظرِ -يعني: وجودَ الناظِرِينَ- قال الشِّهَابُ: «ومذهَبُ الشافعيِّ رحمه الله -كما في «الروضةِ» ، وغيرِه-: أنَّ جميعَ بدنِ المرأةِ عورةٌ حتى الوجهُ والكَفُّ مطلقاً، وقيلَ: يَحِلُّ النظرُ إلى الوجهِ والكفِّ إن لم يُخَفْ، وعلى الأَوَّلِ: هما عورةٌ إلا في الصلاةِ، فلا تبطُلُ صلاتُها بكشفِهما» (1). انتهى.
وما يُنْسَبُ للشافعيِّ ومالِكٍ وأبي حنيفةَ: أنهم يجيزونَ كشفَ وجهِ المرأةِ عندَ الرجالِ الذين لا يجوزُ لهم النظرُ إليها، ولا يَغُضُّون أبصارَهم عنها، خطأٌ شاعَ عند المتأَخِّرِين، ولا يَسْتَطِيعونَ إثباتَه عنهم صريحاً؛ وسببُهُ عدمُ تتبُّعِ أقوالِهم في عورةِ السترِ؛ وعورةِ النظرِ، والتفريقِ بينهما.
وأمَّا أحمدُ بنُ حنبلٍ: فالنصوصُ عنه كثيرةٌ، وهو يأمُرُ بتغطيةِ المرأةِ لوجهِها؛ لكونِه عورةً تستُرُه الحرةُ لذاتِه ولو لم تكنْ فيه فتنةٌ؛ قال أحمدُ: «كُلُّ شيءٍ مِن المرأةِ
(1) انظر: «حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي» (6/ 372).