الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فروَى ابنُ سعدٍ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالِدٍ، عن أُمِّهِ وأُخْتِه؛ أنَّهما دخلَتَا على عائشةَ رضي الله عنها يومَ الترويةِ، فسألَتْها امرأةٌ: أيَحِلُّ لي أنْ أُغَطِّيَ وجهِي وأنا مُحْرِمَةٌ؟ فرفعَتْ خمارَها عن صدرِها حتى جعلَتْه فوقَ رأسِها (1).
ومِن أئمَّةِ الفقهِ مَن يدفَعُ اللَّبْسَ الذي قد يطرَأُ على هذه المسألةِ، مِن أنَّهم يجوِّزُون كشفَ المرأةِ لوجهِها في الحجِّ وبروزَها للناسِ حينما يَمْنَعُونَها مِن النِّقَابِ؛ قال العِمْرانيُّ الشافعيُّ في «البيان»:«ولسنا نُرِيدُ بذلك أنًّها تبرُزُ للناسِ» (2).
وأمَّا
مسألةُ العقودِ والشهاداتِ والخِطبةِ، والحاجةِ إلى النظرِ فيها:
فالأئمةُ الثلاثةُ- مالكٌ وأبو حنيفة والشافعيُّ- يعدُّون الوجهَ والكفينِ عورةَ نظَرٍ، فيرَوْنَ تغطيتَها لهذه العِلَّةِ، وأحمدُ وجماعةٌ يرَوْنَ الوجهَ والكفينِ عورةَ سَتْرٍ؛ كالشعرِ والنحرِ للشابَّةِ والعجوزِ، ويظُنُّ مَن يقرَأُ مثلَ هذا الكلامِ: أنَّ الجمهورَ على جوازِ كشفِ الوجهِ، وتفرَّدَ أحمدُ بالمَنْعِ،
وهذا خطأٌ؛ بل هم مُتَّفِقُونَ على وجوبِ التغطيةِ؛ لكنَّهم يختَلِفُون في تعليلِ حكمةِ التغطيَةِ: هل لأنَّه عورةٌ فيُسْتَرَ لذاتِه، أو لأجلِ فتنةِ الناظِرِ فيُغَطَّى لأجلِ غيرِه؟ ويتفِقُون في الغايةِ وهي التغطيةُ، ويُرخِّصُ الجميعُ للقاضي أن ينظُرَ للشاهدةِ في الخصومةِ إنْ أنكَرَها خصمُها، أو عندَ عدمِ حفظِ الحقوقِ إلا بمعرفةِ حالِها، أو عندَ إرادةِ الرجلِ خِطْبةَ المرأةِ لنكاحِه بها، أو تعامُلِ الرجلِ مع الأَمَةِ في البيعِ عندَ خشيةِ فَوْتِ الحقِّ؛ فيَذكُرُ الأئمةُ جوازَ نظرِ الرجلِ إليها في هذه الأحوالِ وشبهِها، ويعلِّلُ الجمهورُ جوازَ ذلك بقولِهم:» لأنَّ وجهَها وكفَّيْها ليسا بعورةٍ»؛ فيحمِلُون قولَهم على عورةِ النظرِ، والأئمةُ يريدونَ: إنَّما جازَ ذلك لأنَّ الوجهَ ليس بعورةٍ يُسْتَرُ لذاتِه، وإنَّما لغيرِه، فقامتِ الحاجةُ في غيرِه للنظرِ إليه، فجازَ؛ لأنَّ الحاجةَ لا تجيزُ النظرَ إلى الشعرِ والنحرِ بأيِّ حالٍ؛ لأنَّهما عورةُ سَتْرٍ يُستَرانِ لذاتِهما، لا لأجلِ فتنةِ الناظرِ بهما، فلا يَحِلُّ كشفُ ذلك لا لعجوزٍ ولا لامرأةٍ ولو كانتْ قبيحةً مريضةً شوهاءَ.
وعلى هذا حمَلَ البيهقيُّ قولَ الشافعيِّ في تفسيرِ قولِه: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]؛ الوجهَ والكفَّيْنِ، فنقَلَ البيهقيُّ كلامَ الشافعيِّ في النظرِ إلى المخطوبةِ؛
قال الشافعيُّ: «ينظُرُ إلى وجهِها وكفَّيْها، ولا ينظُرُ إلى ما وراءَ ذلك» ، ثم قال البيهقيُّ معلِّقاً وموضِّحاً لقولِ الشافعيِّ: «وهذا لأنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه يقولُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، قيل عنِ ابنِ عباسٍ وغيره: هي الوجهُ والكفَّانِ
…
وأما النظرُ -بغيرِ سببٍ مبيحٍ- لغيرِ مَحْرَمٍ، فالمنعُ منه ثابتٌ بآيةِ الحجابِ، ولا يجوزُ لهنَّ أن يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إلا للمذكُورِينَ في الآيةِ مِن ذَوِي المحارمِ» (1)، وفرَّقَ البيهقيُّ بين تجويزِ الشافعيِّ نظرَ الرجلِ للمخطوبةِ، واستدلالِه له بالآيةِ وقولِ ابنِ عباسٍ، وبينَ كشفِها لوجهِها وكفَّيْها، فمَنَعَهُ إلا للمحارمِ، ففرقٌ عندَ الشافعيِّ بين عورةِ النظرِ التي تجوزُ لحاجةٍ، وبينَ عورةِ السترِ التي لا تجوزُ مطلقاً، وسترُ المرأةِ لوجهِها عن النظرِ عند الجمهورِ لا لكونِه عَوْرةً.
ومِن الواجبِ التنبيهُ على أنَّ الفقهاءَ يفرِّقُونَ بين عورةِ الحُرَّةِ وعورةِ الأَمَةِ، وأنَّ الأَمَةَ يُبتَلَى بخروجِها وتعامُلِها في الأسواقِ، وكلامُ الفقهاءِ في الأخذِ والعطاءِ وحاجةِ الرجلِ إلى النظَرِ العابِرِ جُلُّه للإماءِ لا للحرائرِ،
(1) انظر: «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (10/ 23).