الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في تبديلِها، ولكنَّها اتفقَتْ على شِدَّةِ التحرِّي والتتبُّعِ لنصوصٍ تؤيِّدُ الواقعَ، ناسخةً أو منسوخةً، عامَّةً أو خاصَّةً، مُطْلَقةً أو مُقَيَّدةً، صحيحةً أو ضعيفةً، مرفوعةً أو موقوفةً، يتتَبَّعُون حتى كُتُبَ التاريخِ والسِّيَرِ، وأذهانُهم مهتمَّةٌ بإيجادِ ما يوافقُ الواقعَ، فيَفْرَحُون بالنَّصِّ المُجمَلِ، ويَتعامَوْنَ عنِ المُحكَمِ!
وكأنَّهم أرادُوا بدلاً مِن أنْ تُسْتَرَ عوراتُ النساءِ بالثيابِ أن يَسْتُرُوها بالنصوص؛ لتَهْدَأَ النفوس، حتى رأيتُ مَن يحتَجُّ بقولِه تعالى عن مَلِكةِ سَبَأٍ:{وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل: 44] على جوازِ كشفِ ساقِ المرأةِ! وكلَّما ازدادَ الواقعُ بعداً، ازدادُوا للنصوصِ بَتْراً.
ويجبُ
التفريقُ بين هذه المدرسةِ المهزومةِ وبين منهجِ الأنبياءِ في تقريبِ الحقِّ والتدرُّجِ فيه
، فإنْ كان الناسُ في بلدٍ بعيدِينَ عن الحَقِّ، فيجبُ دعوتُهم إلى أُصولِ الحقِّ، وتحذيرُهم مِن أُصولِ الباطلِ قبلَ فروعِه، فكلُّ ذنبٍ عظيمٍ، فله مِن جِنْسِه صغائِرُ حتى الكُفْرُ، فإنَّ الخَمْرَ حُرِّمَتْ؛ لأنَّها مُسْكِرةٌ ومُفتِّرةٌ، فإنْ كانت مُنتشِرة في بلدٍ، فإنَّه يُبدَأُ بها ويُتغافَلُ عما كانَ مِن جنسِها مِن الصغائرِ كالدُّخَانِ ونحوِه؛ حتى يستقِرَّ الأصلُ فيُنتقَلَ إلى الفرعِ.
وكذلك إنْ كانَ الزِّنَى ينتشِرُ في بلدٍ، فيُنْهَوْنَ عن الزنى ويُتغافَلُ عن وسائِلِه، حتى تَتوطَّنَ النفوسُ على تحريمِه، ثم يُتدرَّجُ في ترتيبِ الوسائلِ بحسبِ قُرْبِها مِن المقاصِدِ، فأقرَبُ وسائلِ الزنى: الخَلْوةُ، فيُشدَّدُ فيها، ثم يَلِيها الاختلاطُ في التعليمِ والعمَلِ، والتغافُلُ عن الوسائلِ لا يعني إباحتَها.
وأن كان البلدُ في عُرْيٍ تُؤْمَرُ المُسلِماتُ بتغطيةِ عورةِ السترِ قبلَ عورةِ النظَرِ، حتى تَتوطَّنَ نفوسُهُنَّ، فيؤمَرْنَ بما دُونَه، وهكذا لا يؤمَرُ بفرعٍ لم يثبُتْ أصلُه، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان يُثبِّتُ الأصولَ قبلَ فروعِها.
وقد تَتبايَنُ البلدانُ في قربِها وبعدِها عنِ الإسلامِ، فيجبُ أن تَتبايَنَ البِدَايَاتُ فيها؛ فإنَّه يُبدَأُ في كلِّ بلدٍ بما انتَهَتْ إليه مِن القُرْبِ إلى الخَيْرِ، فتُدْعَى إلى ما بعدَه.
وقد تَمْدَحُ في بلدٍ ما تَذُمُّه في آخَرَ، وإن كانَا في زمنٍ واحدٍ؛ فقد يكونُ أحدُ البلدانِ في عُرْيٍ، وبلدٌ أُخرى في احتشامٍ، فتَمْدَحُ المتعرِّيةَ إنْ غطَّتْ رأسَها ولو أبقَتْ وجهَها، وتَذُمُّ المحتشِمَةَ إنْ كشفَتْ وجهَها وإنْ غطَّتْ رأسَها؛ لأنَّ الأُولَى اقتربَتْ إلى الحقِّ فتُمدَحُ ولو لم تَصِلْ إلى الخيرِ التامِّ، والثانيةُ ابتعَدَتْ عند الخيرِ فتُذَمُّ ولو لم
تصِلْ إلى الشَّرِّ التامِّ؛ ففَرْقٌ بين تأليفِ المُقْبِلِ وتحذيرِ المُدْبِرِ، فشاربُ الخمرِ والدُّخَانِ، إنْ ترَكَ الخمرَ وحدَه مُدِحَ، وتاركُ الخمرِ والدخانِ، إنْ شَرِبَ الدخانَ وحدَه ذُمَّ، ولو كانَا جميعاً عند المدحِ والذمِّ سواءً، ولكنَّ هذا مُقْبِلٌ فاستحَقَّ المَدْحَ، وهذا مُدْبِرٌ فاستحَقَّ الذَّمَّ.
وإن كانتِ الفروعُ تَصُدُّ عن الأصولِ، سُكِتَ عنها، ولا يجوزُ صَدُّ الناسِ عن أصولِ دينِهم بها، فإنْ تمكَّنَ الناسُ مِن الأصولِ، قَبِلُوا الفروعَ وأذعَنُوا لها، وأن لم يتمكَّنُوا زادَتْهم الفروعُ صدّاً، وقد روَى ابنُ سعدٍ في «الطبقات» ؛ أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ كَتَبَ وهو خليفةٌ إلى عامِلِه على خُرَاسانَ الجَرَّاحِ بنِ عبدِ الله الحَكَمِيَّ يأمُرُه أن يدعُوَ أهلَ الجزيةِ إلى الإسلامِ، فإنْ أسلَمُوا قَبِلَ إسلامَهم، ووضَعَ الجزيةَ عنهم، وكانَ لهم ما للمسلِمِين، وعليهم ما على المسلِمِين، فقال له رجلٌ مِن أشرافِ أهلِ خُرَاسانَ: إنَّه واللهِ ما يَدْعُوهم إلى الإسلامِ إلا أنْ توضَعَ عنهم الجزيةُ، فامتَحِنْهم بالخِتَانِ، فقال: أنا أرُدُّهم عن الإسلامِ بالختانِ؟ هم لو قد أسلَمُوا، فحَسُنَ إسلامُهم، كانُوا إلى الطُّهْرَةِ أسرَعَ، فأسلَمَ على يَدِه نحوٌ مِن أربعةِ آلافٍ (1).
(1) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبير» (7/ 375).