الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على النِّصْفِ مِن عدَّةِ الحُرَّةِ، وذهَبَ بعضُ السلفِ -كابنِ سيرينَ، ومكحولٍ؛ كما عزاهُ أحمدُ إليهما، وهو قولُ جماعةٍ مِن أهلِ الظاهِرِ- إلى أنَّ عدةَ الحرةِ كالأَمَةِ (1).
وجعَلَ مالِكٌ وربيعةُ وأحمدُ -في روايةٍ- ومجاهِدٌ والحَسَنُ وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، الأَمَةَ المعتَدَّةَ بالأشهُرِ كالحُرَّةِ؛ تعتَدُّ ثلاثةَ أشهُرٍ (2).
ولا خلافَ عندَ العلماءِ أنَّ الحُرَّةَ والأَمَةَ إن كانَتْ حاملاً: أنَّها تَبِينُ بوَضْعِ حَمْلِها.
وأُمُّ الوَلَدِ لو مات سيِّدُها وزوجُها معاً ولم تَعْلَمِ الأوَّلَ منهما، فإنَّها تعتَدُّ أربعةَ أشهُرٍ وعشراً كالحُرَّةِ؛ قاله غيرُ واحدٍ مِن الفقهاءِ مِن المالِكِيَّةِ وغيرِهم (3).
الرابع: حديثُ سَفْعاءِ الخَدَّيْنِ:
وهو حديثُ جابِرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه، قال: شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصلاةَ يومَ العيدِ، فبدَأَ بالصلاةِ قبلَ الخُطْبَةِ بغيرِ أَذَانٍ ولا إقامةٍ، ثم قامَ متَوَكِّئاً على بلالٍ، فأمَرَ بتقوَى اللهِ، وحَثَّ على طاعَتِه، ووعَظَ الناسَ وذَكَّرَهم، ثم مَضَى حتَّى أتى النساءَ، فوعَظَهُنَّ وذكَّرَهُنَّ، فقال: (تَصَدَّقْنَ؛
(1) انظر: «المحلَّى» (11/ 308)، و «المبدع» (7/ 76).
(2)
انظر: «المدونة» (2/ 8 - 9)، و «المبدع» (7/ 83 - 84).
(3)
انظر: «المدونة» (2/ 17)، و «الأم» (6/ 555).
فإِنَّ أكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ)، فقامَتِ امرأةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ، فقالَتْ: لِمَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: (لِأنَّكُنَّ ثُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ)، قال: فجعَلْنَ يتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ، يُلْقِينَ في ثوبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وخَوَاتِمِهِنَّ (1).
وبيانُ ما أشكَلَ فيه مِن أوخُهٍ:
أولاً: أنَّ المرأةَ المذكورةَ لا يُجزَمُ بكونِها حُرَّةً شابَّةً، وظاهِرُ الحديثِ: أنَّها مِن القواعدِ أو الإماءِ؛ فـ «السَّفْعَةُ» شُحُوبٌ وسوادٌ أو تغيُّرٌ، وغالباً ما يُصِيبُ كِبارَ السِّنِّ أو الجوارِيَ؛ لكثرةِ بُرُوزِهِنَّ، وحديثُ «سَفْعَاءِ الخَدَّيْنِ» نظيرُ ما في «صحيح البخاري» ، قالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: رَأَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بيتِها جارِيَةً في وجهِها سَفْعَةٌ، فقال:(اسْتَرْقُوا لَهَا)(2)، وكونُها كاشفةً لا يجعَلُ منها حُرَّةً؛ فقد كانتْ جاريةً.
ثانياً: يَعْضُدُ أنَّ سَفَعَ الخَدَّيْنِ يكونُ في قواعدِ النساءِ، لا في المرأةِ الشابَّةِ الحسناءِ، ما في روايةِ أحمدَ والنَّسَائِيِّ في هذا الحديثِ، قال:«مِنْ سَفِلَةِ النِّسَاءِ، سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ» (3)؛
(1) أخرجه البخاري (958 و 961 و 978)، ومسلم (885/ 4).
(2)
أخرجه البخاري (5739).
(3)
أخرجه أحمد (3/ 318 رقم 14420)، والنسائي (1575).
يعني: مِن أَقَلِّ النساءِ شأناً، وكذلك ما رواه أحمدُ وأبو داودَ، مِن حديثِ عوفِ بنِ مالِكٍ الأشجَعِيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ القِيَامَةِ -وأَوْمَأَ بالوُسْطَى والسَّبَّابَةِ- امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا، ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، حَبَسَتْ نَفْسَها عَلَى يَتَامَاهَا؛ حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا)(1).
وإنما ذكَرَ جابرٌ رضي الله عنه قولَهُ: «سَفِلَة النِّساءِ» ؛ ليبيِّنَ أنها ليستْ مما تَفتِنُ الناظرَ إليها.
ثالثاً: أنَّ الحديثَ لم يَرِدْ في جميعِ طُرُقِه وصفُ وجهِ المرأةِ، وإنَّما تفرَّد به عبدُ المَلِكِ، عن عطاءٍ، عن جابرٍ؛ أخرَجَه مسلِمٌ (2)، وقد رواهُ ابنُ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، عن جابِرٍ، ولم يَذْكُرْ وَصْفَها (3)، وقد جاءتِ القِصَّةُ مِن حديثِ جماعةٍ مِن الصحابةِ؛ رواها ابنُ مسعودٍ (4)، وابنُ عُمَرَ (5)،
(1) أخرجه أحمد (6/ 29 رقم 24006)، وأبو داود (5149).
(2)
في «صحيحه» (885/ 4).
(3)
كما عند البخاري (961 و 978)، ومسلم (885/ 3).
(4)
أخرجه النسائي في «الكبرى» (9212 و 9213).
(5)
أخرجه مسلم (79).
وابنُ عباسٍ (1)، وأبو هريرةَ (2)، وأبو سعيدٍ (3) رضي الله عنهم، ولم يَذْكُرُوا سُفُورَها؛ ولذا قِيلَ بشُذوذِ هذه اللفظةِ في الحديثِ، وإن كانتْ محفوظةً فلا يُعْلَمُ كونُها قاعداً أم أمَةً أم حُرَّةً، وفي المحكَمِ حُجَّةٌ وغُنْيَةٌ وكفايةٌ، والمُتشابِهاتُ لا يَتَّبِعُها إلَّا مَنْ في قلوبِهِمْ زَيْغٌ؛ كما قال اللهُ تعالى. والله أعلم.
وبهذا ينتَهِي المقصودُ مِن هذه الرسالةِ، ولم تكن الغايةُ منها سَوْقَ الأدلةِ ولا سردَ أقوالِ الفقهاءِ وحَشْدَها، فإنَّ هذا البابَ لا حدَّ له ولا حَصْر، والمرادُ هو إعادةُ ما زُحْزِحَ مِن الأدلة والأقوالِ إلى مواضعِها، وبيانُ مُحْكَمِها مِن متشابِهِها؛ فإنَّ مِن الأدلةِ ما كان على موضعٍ عند العلماء يعرِفُون سياقَهُ ومنزلةَ دلالتِه بالنسبةِ لغيرِه، حتى جاء الزمنُ المتأخر فاستثير وحُمّل ما لا يحتمل، وجُعل منه أصلاً في الباب، واستُنبط منه ما جُعل تجديداً للدين، وما هو إلا قول دخيل لا يُعرف في قولٍ ولا عملٍ سالف، والله أعلم وأحكَم، وهو الموفق للهدى والسداد، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
(1) أخرجه البخاري (98)، ومسلم (884).
(2)
أخرجه مسلم (80).
(3)
أخرجه البخاري (304)، ومسلم (80 و 889).