الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالاتِّفاقِ؛ وإنَّما الخلافُ في إجزائِه عن الفريضةِ، والعاجِزُ المُقعَدُ لا فريضةَ عليه؛ لسقوطِها بعجزِه، وإنْ حُجَّ عنه، فالأَجْرُ صحيحٌ له، وقد ذهَبَ بعضُ الفقهاءِ: إلى صِحَّةِ نيابةِ العبدِ عند الحُرِّ، وإجزاءِ ذلك عنه؛ فلم يَشْتَرِطُوا الحريةَ في النائبِ.
الثالثُ: حديثُ سُبَيْعةَ الأَسْلَميَّةِ:
وهو أنَّ سُبَيْعةَ بنتَ الحارثِ كانَتْ تحتَ سعدِ بنِ خَوْلةَ، فتوفِّي عنها في حَجَّةِ الوداعِ وهي حاملٌ، فلم تَنشَبْ أنْ وضَعَتْ حَمْلَها بعدَ وفاتِه، فلمَّا تَعَلَّتْ مِن نفاسِها، تَجمَّلَتْ للخُطَّابِ، فدخَلَ عليها أبو السَّنابِلِ، فقال لها: ما لي أراكِ تَجَمَّلْتِ للخُطَّابِ تَرْجِينَ النكاحَ؟! فإنَّكِ واللهِ ما أنتِ بناكِحٍ حتى تَمُرَّ عليَكِ أربعةُ أشهُرٍ وعَشْرٌ، قالت سُبَيْعةُ: فلَمَّاً قال لي ذلك، جَمَعْتُ عليَّ ثيابي حينَ أَمْسَيْتُ، فأتيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسأَلْتُه عن ذلك، فأفتاني بأنِّي قد حَلَلْتُ حينَ وضَعْتُ حَمْلِي، وأمَرَنِي بالتزوُّجِ إنْ بَدَا لي؛ أخرَجَ الحديثَ البخاريُّ ومسلمٌ (1).
وبيانُ ما أشكَلَ فيه مِن وجوهٍ:
أولاً: ليس في شيءٍ مِن الأحاديثِ أنَّها كانَتْ كاشفةً
(1) أخرجه البخاري (3990)، ومسلم (1484).
لوجهِها؛ وإنَّما رأى أبو السنابِلِ زينَتَها، واستنكَرَ ذلك؛ يَظُنُّها في عِدَّتِها، والمعتدَّةُ بوفاةِ زوجِها مُنِعَتْ مِن الخِضَابِ، وهو في الكفِّ، ومِنَ الكُحْلِ وهو في العَيْنِ لا يستُرُه النِّقَابُ، ومُنِعَتْ مِنَ الثيابِ المُزَعْفَرةِ والمُعَصْفَرةِ، ومنَعَ بعضُ الأئمةِ كمالِكٍ وغيرِه لُبْسَ المعتدَّةِ للذَّهَبِ ولو خاتَماً، وكلُّ هذه زينةٌ تُرَى، ولا يلزمُ رؤيةُ الوَجهِ، والمتشابِهاتُ لا يجوزُ أن تكونَ أصولاً، يُبْنَى عليها أحكامٌ، ولا قاضيةً على ما هو أصرحُ منها وأحكَمُ واللهُ حَرَّمَ الزينةَ على العجوزِ أمامَ الرجالِ:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]، فكيفَ تُجَازُ الزينةُ للشابَّةِ الحُرَّةِ بنَصٍّ مشتَبِهٍ، ولم يَقُلْ بجوازِ بروزِ الشابَّةِ بزينةِ وجهِها للأجانِبِ أحدٌ مِن الصحابةِ ولا التابِعِين.
ثانياً: أنَّ زوجَ سُبَيْعةَ الأسلَميَّةِ مولىً وليس حُرّاً، وهكذا يَنُصُّ عليه أئمةُ السِّيَرِ؛ كابنِ إسحاقَ، وابنِ هِشَامٍ، والواقديِّ، وابنِ حِبَّانَ، وابنِ عبدِ البَرِّ، والبلاذُرِيِّ، وأبي الفَرَجِ بنِ الجَوْزِيِّ، ومحمَّدِ بنِ حَبِيبَ، وابنِ الأَثِيرِ (1)؛
(1) انظر: «سيرة ابن إسحاق» (ص 157)، و «سيرة ابن هشام» (1/ 329 و 369 و 685)، و «مغازي الواقدي» (1/ 156)، و «الثقات» (1/ 189 و 3/ 151)، و «الاستيعاب» (ص 284)، =
ولكنَّهم يختَلِفُون في أصلِه: هل هو مِن كَلْبٍ، أو مِن مَذْحِجٍ، أو مولىً مِن موالي فارِس، وإنْ نسَبَه بعضُهم لبَنِي عامِرٍ؛ فإنَّ المولَى يُنْسَبُ لقومِه وَلَاءً؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:(مَوْلَى القَوْمِ مِنْهُمْ)(1)، وسعدُ بنُ خَوْلةَ مَوْلىً قديمٌ، فأمُّهُ مولاةٌ كذلك لسعدِ بنِ أبي السَّرْحِ، كما ذكَرَه البلاذُرِيُّ في «أنساب الأشراف» (2)؛ ولذا جاءَ في «الصحيح» عن سُبَيْعةَ:«أنَّها كانتْ تحتَ سعدِ بنِ خَوْلةَ وهو في بَنِي عامِرٍ» (3)، وهذا غالباً يُطْلَقُ على الموالي والحُلَفَاءِ، لا على الحُرِّ، وأصيلِ النسَبِ، فالحُرُّ يقالُ فيه غالباً:«مِن بني فلانٍ» ، والمولَى والحَلِيَفُ يُقال فيه غالباً:«في بَنِي فلانٍ» .
والأصلُ أنَّ سُبَيْعةَ الأسلميةَ مولاةٌ كزَوْجِها، ونِسْبَتُها لأسلَمَ كنِسْبَةِ زوجِها سعدٍ لبَنِي عامِرٍ؛ فإنَّ العرَبَ لا تزوِّجُ الحرائرَ العبيدَ، وليس مِن عاداتِها ذلك، والخروجُ عن هذا الأصلِ نادِرٌ يَفْتقِرُ إلى بيِّنةٍ تنقُلُه، وكانتِ الحرةُ تَسْتثقِلُ
= و «أنساب الأشراف» (1/ 222)، و «تلقيح فهوم أهل الأثر» (ص 143)، و «المُحَبَّر» (ص 276 و 288)، و «أسد الغابة» (2/ 191 - 192)
(1)
أخرجه أبو داود (1650)، والترمذي (657)، والنسائي (2612)؛ من حديث أبي رافعٍ مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
«أنساب الأشراف» (1/ 222).
(3)
«صحيح البخاري» (3990).
زواجَها مِن المَوْلَى ولو كان مُعْتَقاً؛ وهو في الشرعِ جائزٌ؛ ولذا؛ رُوِيَ أنَّ زيدَ بنَ حارثةَ مولى الرسولِ صلى الله عليه وسلم وعتيقَه لَمَّا أرادَ خِطْبةَ زينَبَ بنتِ جَحْشٍ، واستَشْفَعَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:(لا أُرَاهَا يَفْعَلُ؛ إِنَّهَا أَكْرَمُ مِنْ ذَلِكَ نَسَباً). وفي روايةٍ قالتْ: «فَإِنِّي خَيْرٌ مِنه حَسَباً» (1).
ثالثاً: يدلُّ على كونِها أَمَةً أمورٌ:
منها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَبَ أن تُؤْذِنَهُ إنْ خرَجَتْ مِن عِدَّتِها، ولم يُحِلْها إلى وَليِّها وأهلِها لترى شأنَها مِنهم.
ومنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو الذي أنكَحَها؛ ففي البخاريِّ: «فأنكَحَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» (2)، وهذا لا يكونُ في الحرائِرِ؛ فإنَّ الحُرَّةَ يزوِّجُها عادةً أهلُها، وقد يُزَوِّجُ الأَمَةَ غيرُ مَوَالِيها؛ كأنْ تكونَ مَوْلاتُها امرأةً، أو كانَتْ شِرْكاً لرجالٍ كثيرٍ بإرثٍ أو غيرِه، فيزَوِّجُها الحاكِمُ.
ومنها: أنَّ أبا السنابِلِ دخَلَ عليها، ولا يُدْخَلُ على الحُرَّةِ، بخلافِ الأَمَةِ؛ لما في «الصحيحين» ، مِن حديثِ عُقْبةَ بنِ عامرٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم:(إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ)(3).
(1) أخرجه ابن جرير (20/ 272).
(2)
«صحيح البخاري» (4909).
(3)
أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172).
رابعاً: أنَّ دخولَ أبي السنابِلِ عليها ورُؤْيَتَهُ لها رؤيةُ راغِبٍ بالخِطْبَةِ لها؛ وهذا جائِزٌ؛ ففي «البخاري» : «وكان أبو السنابِلِ فِيمَنْ خَطَبَها» (1)، ونظَرُ الرجلِ للمرأةِ التي يَرْغَبُ في نكاحِها في عدَّةِ بينونَتِها الكبرى -وفاةً كانَتْ أو طلاقاً- جائِزٌ، ولكنْ لا تُخْطَبُ ولا تُوَاعَدُ حتى تخرُجَ مِن العِدَّة.
خامساً: أنَّ دخولَ أبي السنابِلِ على سُبَيْعةَ كان في حُجْرَتِها كما جاء في «الصحيح» ، ولم تكنْ بارِزةً بزينَتِها في الطُّرُقاتِ.
وأمَّا عِدَّةُ وفاةِ الزوجِ فلا اعتبارَ فيها بالحَيْضِ، بالنَّصِّ والإجماعِ؛ وإنَّما بالأَشْهُرِ للحُرَّةِ والأَمَةِ (2)، ولم يثبُتْ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لسُبَيْعةَ بنَفْسِهِ عِدَّةَ الأشهُرِ للنساءِ حرائِرَ أو إماءً، وإنَّما بَيَّنَ لها انتهاءَ عِدَّتِها بالوَضْعِ، وإنما في الأحاديثِ قولُ غيرِه لها.
ويُجْمِعُ العلماءُ على أنَّ الأَمَةَ الحاملَ كالحُرَّةِ إنْ تُوُفِّي عنها زوجُها: أنَّها تعتَدُّ حتى تضَعَ حَمْلَها (3). وإنْ كانَتْ غيرَ حاملٍ، فجمهورُ العلماءِ: على أنَّ عدةَ الأَمَةِ
(1)«صحيح البخاري» (4909).
(2)
انظر: «المبدع» (7/ 75 - 76).
(3)
انظر: «المبدع» (7/ 72 - 73).