الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنَّ صلاةَ العيدَيْنِ ليستْ بواجبةٍ، في سياقِ مَن ينفِيها مِن الدينِ كلِّه، أو مَن يسوقُ أقوالَ بعضِ العلماءِ: أنَّ زكاةَ الفِطْرِ ليستْ بواجبةٍ، في مَسَاقِ مَن يقولُ: إنها عادةٌ وتقليدٌ؛ فهؤلاءِ الباحثون لم يضرِبُوا الحقَّ؛ وإنَّما أعطَوُا الضارِبَ مِطْرَقةً!
وربما ينقُلُ أحدُهم كلامَ الشافعيِّ في عَوْرةِ المرأةِ للصلاةِ، وأنَّه ليس منها الوجهُ والكَفَّانِ؛ ليَرمِيَها بيَدِ مَن يرى السفورَ مطلقاً، ثم يَرْمِيَها الآخَرُ حُجَّةً لمَن تبرُزُ في وسائلِ الإعلامِ سافرةً، مع أنَّ الشافعيَّ يمنَعُ المرأةَ أن تصعَدَ على الصَّفَا والمروةِ؛ حتى لا يَرَى شخصَها الناسُ وهي في حَرَمِ الله!
الخلافُ وحقُّ الاختيارِ:
يتوهَّمُ كثيرٌ مِن الناسِ أنَّ مجرَّدَ اختلافِ العلماءِ في مسألةٍ مِن المسائلِ، يبيحُ للمسلمِ أنْ يختارَ منها ما يَشْتَهِيه، وهذا -بإجماعِ أهلِ العلم المختلِفِين أنفُسِهم- خطأٌ؛ ونصَّ على هذا المعنى أئمَّةٌ؛ كَأحمدَ (1)، والبخاريِّ (2)، والمُزَنِيِّ
صاحبِ الشافعيِّ (1)، وابنِ حزمٍ (2)، وابنِ عبدِ البَرِّ، والشاطبيِّ (3)، وأبي الفَرَجِ بنِ الجَوْزِيِّ (4)، والخَطَّابِيِّ، وابنِ تيمِيَّةَ (5)، وغيرِهم:
قال ابنُ عبدِ البرِّ في «التمهيد» : «وقد أجمعَ المسلمونَ أنَّ الخلافَ ليس بحُجَّةٍ، وأنَّ عندَه يلزَمُ طلبُ الدليلِ والحُجَّةِ؛ لِيَتبيَّنَ الحقُّ منه (6)، وقال في «الجامع» : «الاختلافُ ليس بحُجَّةٍ عند أحدٍ علمتُهُ مِن فقهاءِ الأُمَّةِ؛ إلا مَن لا بَصَرَ له، ولا معرفةَ عندَه، ولا حُجَّةَ في قولِه» (7).
وقال الخطابِيُّ: «ليس الاختلافُ حجةً، وبيانُ السُّنَّةِ حجةٌ على المختلِفَيْن» (8).
(1) نقَلَ كلامَه ابنُ عبدِ البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 922)
(2)
انظر: «الإحكام» (5/ 64 - 70).
(3)
انظر: «الموافقات» (5/ 92 - 97).
(4)
«تلبيس إبليس» (ص 81)، و «نواسخ القرآن» (ص 831).
(5)
انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 472 - 473).
(6)
«التمهيد» (1/ 165).
(7)
«جامع بيان العلم وفضله» (2/ 922).
(8)
انظر: «أعلام الحديث» (3/ 209).
ومَن زعمَ أنه لا يأخُذُ إلا بمسائلِ الإجماعِ، فليَعْلَمْ أنَّ مِن مسائلِ الإجماعِ: أنَّ الخلافَ لا يُسَوِّغُ تركَ الدليلِ البَيِّنِ تقليداً لفقيهٍ، وقد نصَّ على هذا الأئمةُ الأربعةُ؛ وذلك أنَّ هذا يجعَلُ مجرَّدَ ورودِ الخلافِ، كورودِ الدليلِ على الإباحةِ؛ كما لو جاء دليلٌ خاصٌ على أنَّ شيئاً مَّا مباحٌ أو حرامٌ! وهذا فهمٌ خطيرٌ للخلافِ؛ فأقوالُ الفقهاءِ في ذاتِها ليستْ في مقامِ الأدلَّةِ.
وقد بلغَ ببعضِ الناسِ أنْ يجعلَ مِن وجودِ الخلافِ مسوِّغاً لتركِ الدليلِ البَيِّنِ، فجعَلُوه أقوى مِن الدليلِ، فعُكِسَتِ القاعدةُ الشرعيةُ؛ فبدلاً مِن أن يكونَ القرآنُ والسُّنَّةُ حاكمَيْنِ عندَ الاختلافِ، جُعِلَ الاختلافُ حاكماً عليهما! قال اللهُ:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وقال اللهُ لنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]؛ فلم يجعلْهُ يحكُمُ بما يرى مع وجودِ النصِّ، مع أنَّه نبيٌّ مؤيَّدٌ، ولَمَّا ذكَرَ اللهُ الاختلافَ، لم يأمُرِ العلماءَ والناسَ بالاختيارِ كما يُريدون؛ وإنَّما رجَعَهُمْ إلى النَّصِّ؛ فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
واللهُ لم يَرْجِعِ الناسَ إلى الخلافِ؛ لأنَّ كلَّ خلافٍ فهو حادثٌ بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس مِن الدِّينِ، ولكنَّ اللهَ يَعْذِرُ أقواماً غاب عنهم الدليلُ واجتهَدُوا، ولا يَعْذِرُ آخَرِينَ تساهَلُوا؛ فالتوسِعةُ مِن الله ليست على ذاتِ الخلافِ، وإنَّما على اجتهادِ المجتهدِ وأثرِه عليه، ولو كانتِ التوسعةُ في ذاتِ الخلاف بعينِه، لكان الأوْلَى للفقهاءِ أن يبحَثُوا عن مسوِّغاتٍ للخروجِ من الإجماعِ؛ ليحدُثَ خلافٌ؛ ليكونَ توسعةً ورحمةً؛ وهذا خطأٌ وضلالٌ.
واللهُ تعالى أخبَرَ بوجودِ الاختلافِ قَدَراً، وعَذَرَ المجتهِدَ المستفرغَ لوُسْعِهِ رحمةً منه، لكنْ متى لاحَ له الدليلُ، وجبَ له أن يَرْجِعَ، ففَهْمُه مهزوزٌ، والدليلُ ثابتٌ، وفي زمنِ الفقهاءِ السابقينَ في القرنِ الثاني والثالثِ لم تُجْمَعِ الأحاديثُ والآثارُ في الكتبِ جمعاً محكَماً، كما هو عند المتأخِّرِين، فكان الفقيهُ إذا أفتى بقولٍ خطأٍ وهو مأجورٌ، تتابَعَ المتأخِّرُون على تقليدِه، وقد ظهَرَ لهم دليلٌ غابَ عنه، فيُعذَرُ الفقيهُ المجتهدُ المتقدِّمُ؛ لغيابِ دليلٍ عنه، وربما لا يُعْذَرُ المقلِّدُ؛ لأنَّ الفقيهَ المتقدِّمَ اجتَهَدَ، والمقلِّدَ المتأخِّرَ ترَكَ الدليلَ، وأخذ ما يشتَهِي ويهوَى فقطْ؛ ولهذا تجدُ كثيراً مِن الناس يقلِّدُ كلَّ فقيهٍ بما يشتهي حتى تجتمعَ فيه الشهوةُ في صورةِ فقهٍ!