الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مستند الفتوى
لمّا كانت الفتوى توقيعاً عن ربِّ العالمين، وإخباراً عن أحكام الله تعالى في أفعال المكلَّفين؛ كان لا بدّ أن يكون لها مستندٌ يدلُّ على صحّتها، ويشهد لانضباطها، وأنّها من عند الله تبارك وتعالى، لا بمجرَّد الظَّنِّ والهوى؛ وذلك لأنّ الله سبحانه إنّما تعبّد عباده باتِّباع ما جاءهم من عنده في محكم كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال عز وجل:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}
(1)
.
قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: «أي: لا تخرجوا عمّا جاءكم به الرسول إلى غيره؛ فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره»
(2)
.
كما نهى الله تعالى عن القول عليه بغير علم؛ بل جعله من أعظم المحرَّمات؛ فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
(3)
.
قال ابنُ القيّم رحمه الله: «فرُتَبُ المحرَّماتِ أربعَ مراتب، وبدأ بأسهلها؛ وهو الفواحش، ثمّ ثنّى بما هو أشدُّ تحريماً منه؛ وهو الإثم والظلم، ثمّ ثلّث بما هو أعظم تحريماً منهما؛ وهو الشِّرك به سبحانه، ثمّ ربَّع بما هو أشدُّ تحريماً من ذلك كلِّه؛ وهو القول عليه بلا علمٍ، وهذا يعمُّ القول عليه سبحانه بلا علمٍ في أسمائِه
وصفاتِه، وأفعالِه، وفي دينِه وشرعِه»
(1)
.
فكان لزاماً على المفتي أن يكون عالماً بأدلّة المسائل، وحُجَج الأحكام، كما ينبغي أن يكون عالماً بأصول الشّريعة، ومقاصدها الكُلّيّة، وغير ذلك من آلات الاجتهاد المهمّة.
وأدلّة الأحكام تنقسم إلى قسمين: أدلّةٌ أصليّةٌ متّفقٌ عليها، وأدلّة تبعيّةٌ مختلفٌ فيها.
فأمّا الأدلّةُ الأصليّةُ المتَّفقُ عليها؛ فهي أربعة: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس.
(2)
.
وأمّا الأدلّةُ التبعيّةُ المختلفُ فيها؛ فهي كثيرةٌ، ويختلف علماء المذاهب في الأخذ بها إقلالاً وإكثاراً، كما يختلفون في ترتيبها تقديماً وتأخيراً؛ وذلك كقول الصّحابي، والمصالح المُرسَلَة، والاستحسان، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، وغيرها. وهذا النّوع من الأدلّة لا يصير إليه المفتي غالباً إلّا إذا أعوزه الدّليل من النّوع الأوّل.
والحاصل: أنّ الفتوى لا بدّ أن يكون لها حجّةٌ ودليلٌ، والمفتي لا ينبغي أن يصدر في فتواه إلّا عن برهانٍ وتأصيلٍ.
هل يلزم المفتي أن يذكر الدليل؟
تقرَّر فيما سبق أنّه لا يجوز أن يفتي في دين الله سبحانه إلّا عالمٌ بأدلَّة الشَّريعة، ومقاصدها الكليَّة، وأنّ الفتوى بالرأي المجرَّد بابٌ من أبوابِ الضلالةِ، والقولِ على الله تعالى بلا علم، ولا بيَّنة.
ولا يخفى أنّ الفتوى المشفوعة بالدّليل، المصحوبة بالتعليل؛ تكون أحرى بفهم المستفتي، وقبوله لها، وانشراح صدره للعمل بها؛ من الفتوى المجرَّدة عن الدّليل أو التّعليل.
وإذا عُلم ذلك؛ فهل يلزمُ المفتيَ ذكرُ الدَّليلِ على الأحكامِ الّتي يقرِّرها في فتواه؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأوّل: ينبغي للمفتي أن يذكر الدليل على الحكم الذي انتهى إليه، ويبيِّن مأخذه ما أمكنه ذلك.
وممّن نصّ على ذلك: ابنُ القيّم؛ حيث قال: «ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه من ذلك، ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجاً مجرَّداً عن دليله ومأخذه؛ فهذا لضيق عَطَنِه، وقلّة بضاعته من العلم، ومن تأمّل فتاوى النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجّة بنفسه؛ رآها مشتملة على التنبيه على حِكْمَة الحُكْم ونظيره، ووجه مشروعيتّه»
(1)
.
ثمّ قال - بعد أن ذكر أمثلة على ذلك من السنّة النبويّة- «فينبغي للمفتي أن ينبِّه السائل على علّة الحكم ومأخذه إن عرف ذلك، وإلَّا حرم عليه أن يفتي بلا علم»
(2)
.
وقال أيضاً: «عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أَوْلَى بالعيب؛ بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل؛ فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله وإجماع المسلمين، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، والقياس الصحيح عيباً؟! وهل ذكر قول الله ورسوله إلّا طراز الفتاوى؟!
…
»
(3)
.
ثمّ استدلّ على ما قرّره بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي قوله حُجّة كان يُسأل عن المسألة؛ فيضرب لها الأمثال، ويشبّهها بنظائرها؛ فكيف بمن ليس قوله حُجّة؟!
(1)
«إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين» (4/ 161).
(2)
«إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين» (4/ 163).
(3)
«إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين» (4/ 259 - 260).
يعني: أنّه أَوْلَى بذكر الحُجّة في فتواه
(1)
.
القول الثّاني: لا ينبغي للمفتي أن يذكر الدَّليلَ في الفتوى مطلقاً؛ ليفرَّق بين الفتوى والتَّصنيف.
وممَّن ذهب إلى هذا: القاضي أبو الحسن الماورديُّ صاحب كتاب (الحاوي)؛ حيث قال: «إنّ المفتي عليه أن يختصر جوابه؛ فيكتفي فيه بأنّه يجوز أو لا يجوز، أو حقٌّ أو باطلٌ، ولا يعدل إلى الإطالة والاحتجاج؛ ليفرَّق بين الفتوى والتّصنيف» .
قال: «ولو ساغ التّجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير، ولصار المفتي مدرِّساً، ولكلِّ مقام مقال»
(2)
.
وممّا احتُجَّ به لهؤلاء: أنّ العلماء في كلِّ عصرٍ -من لدن الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم- لا يزالون يفتون العوامَّ، ويقبلون ذلك، ويعملون به من دون بيان دليل ذلك، وشاع ذلك وذاع من غير إنكار؛ فكان إجماعاً
(3)
.
القول الثّالث: التَّفصيل بين أن يكونَ السَّائلُ فقيهاً فيُذكر له الدَّليلُ، أو عامِّيّاً فلا يُذكر له الدليلُ.
وممّن نصّ عليه: القاضي أبو القاسم الصَّيمريُّ، والخطيبُ البغداديُّ.
قال الصيمريُّ: «لا يذكرُ الحجّةَ إن أفتى عامِّيّاً، ويذكرُها إن أفتى فقيهاً؛ كمن
(1)
انظر: «إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين» (4/ 260).
(2)
انظر: «أدب المفتي والمستفتي» لابن الصلاح (1/ 76 - 77).
(3)
انظر: «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (6/ 207)، و «إجابة السائل شرح بغية الآمل» للصنعاني (ص 407).
يُسأل عن النكاح بلا وليٍّ؛ فحَسَنٌ أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ)
(1)
، أو عن رجعة المطلَّقة بعد الدخول؛ فيقول: له رجعتها؛ قال الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}
(2)
»
(3)
.
(4)
.
القول الرّابع: التفصيل بين أن يكون الدليلُ نصّاً واضحاً أو مقطوعاً به؛ فيجوزُ ذكرُه، أو يكون دليلاً خفيّاً، أو يحتاجُ إلى نظرٍ واجتهادٍ؛ فلا ينبغي ذكرُه.
وممّن نصّ على هذا الحافظُ ابنُ الصلاح، والقاضي ابنُ حمدان الحنبليُّ.
قال ابن الصّلاح: «ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجّةَ إذا كانت نصّاً واضحاً مختصراً؛ مثل أن يُسأل عن عِدَّة الآيسة؛ فحسنٌ أن يكتب في فتواه: قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ
(1)
أخرجه أبو داود (ح 2085)، والترمذيّ (ح 1101)، وابن ماجه (ح 1880).
(2)
سورة البقرة: 228.
(3)
انظر: «المجموع» للنّوويّ (1/ 52).
(4)
انظر: «الفقيه والمتفقّه» (2/ 406 - 407). وعزاه ابن الصلاح في «أدب المفتي والمستفتي» (ص 152) للصيمريّ؛ دون قوله: «أو لينبِّه على ما ذهب إليه
…
»؛ فكأنّ الخطيب أخذ كلامه عن الصيمري، وزاد عليه ما بعده، واللّه أعلم.
أَشْهُرٍ}
(1)
، أو يُسأل: هل يطهر جلد الميتة بالدِّباغ؟ فيكتب: نعم يطهر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ)
(2)
. وأمّا الأقيسة وشبهها؛ فلا ينبغي له ذكرُ شيءٍ منها»
(3)
.
وإلى ما ذهب إليه ابنُ الصّلاح وابنُ حمدان أشار الإمامُ السّمعانيُّ بقوله:
(4)
.
(1)
سورة الطلاق: 4.
(2)
أخرجه مسلم (ح 366) -بلفظ: «إذا دبغ الإهاب
…
» -، والترمذي (ح 1728)، والنّسائي (ح 4241)، وابن ماجه (ح 3609).
(3)
«أدب المفتي والمستفتي» (ص 151 - 152). وذكر ابن حمدان في «صفة الفتوى» (ص 66) مثل كلام ابن الصّلاح مختصراً.
(4)
انظر: «أدب المفتي والمستفتي» (1/ 85)، و «المجموع» (1/ 57).