الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شروط المفتي
لمّا كان المفتي مُبلِّغًا عن الله تعالى، ومجتهدًا في الوصول إلى حكم الله في واقعةٍ أو نازلةٍ معيَّنة؛ كان لا بدّ من الحديث عن شروطِه، وما يجب أن يتوفّرَ مِن صفاتِهِ ونعوتِهِ اللّازمة.
والمفتي مجتهِدٌ في الاستدلال بالأدلّة الشرعيّة، واستنباط الأحكام منها، وليس ذكرُ بعض الأصوليّين في تعريف المفتي بأنّهُ المجتهد
…
تسويةً بينهما في المنزلة والأهمّيّة، بل إنّ الاجتهاد شرطٌ من الشّروط الواجب توفُّرُها عند المفتي
(1)
، ولذلك اعتبر بعض الأصوليين مقام الفتوى أشدّ وأغلظ من مقام الاجتهاد
(2)
.
والمقصودُ في هذا المقام الوقوفُ على ما اشترطه العلماءُ من شروط فيمَن تصدّر لهذا المنصب العظيم، لِئَلّا يتسنَّمه كلُّ أحدٍ، فَيُسْأَل مَن ليس أهلاً؛ فَيَضِلّ السّائلُ والمسؤولُ.
والحديثُ عن الشروط هنا حديثٌ عمّن يصلح أن يكون مفتيًا، لا عمّن تجبُ عليه الفتوى، إذ لهذا الأخيرِ أحوالٌ مختلفةٌ تجب الفتوى بوجود مقتضياتِها وأسبابِها.
وقبل الحديث عن الشّروط الّتي اشترطها العلماء في المفتي، لا بدّ من ذكر الشّروط المتّفق على عدم اشتراطِها فيه؛ وهي: الحريّة، والذكوريّة، والنّطق؛
(1)
أورد ابن النجّار في «شرح الكوكب المنير» خلاف العلماء في اشتراط الاجتهاد في المفتي، ووضّح معنى الاجتهاد عند بعضهم، وأنواع المجتهدين من المفتين؛ فليراجع هناك (4/ 557). وسيأتي الكلام بعد صفحات على مراتب المفتين وأنواعهم.
(2)
انظر: «قواطع الأدلة» للسمعاني (2/ 306).
فتصحّ فتوى العبد، والمرأة، والأخرس؛ إن أفتى السائلَ بالإشارة المفهومة، أو الكتابة الواضحة، وكلِّ ما يقوم مقام النّطق إن كان صحيحًا معتبرًا
(1)
.
وأمّا الشّروط المعتبرة الّتي يجب أن تتوفَّر؛ فهي:
أوّلاً: أن يكون مسلمًا؛ وهذا الشّرط لا خلاف فيه عند العلماء، فإنّ الكافر غيرُ مؤتَمن على الدِّين، فضلاً عن الإفتاء فيه؛ فإنّ كفرَهُ يجرِّئُه على الكذب والافتراء فيه.
وممّا يدلّ على ذلك قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}
(2)
.
فبيَّن الله تعالى أنّ الكافر يتمنَّى ضلال الناس مثله وكفرهم؛ فكيف يؤتمن على الدِّين؛ قال الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «فقد كانوا (أي الكفار) جبهةَ تضليل النّاس، وتحريفٍ للكتاب، وتلبيسٍ للحقِّ بالباطل؛ كلُّ ذلك عن قصدٍ وعِلْمٍ؛ بدافعِ الحَسَد، ومناصبةِ العداء. وخصمٌ هذا حالُهُ فلا دواءَ له؛ لأن المدلِّس لا يؤمَنُ جانبه، والمضلِّلَ لا يصدَّق، والحاسدَ لا يشفيه إلّا زوال النّعمة عن المحسود»
(3)
.
ثانيًا: أن يكون مكلَّفًا؛ فلا تصحّ فتيا الصّبيّ والمجنون؛ أمّا الصّبيُّ فلأنّه ناقصُ الأهليّة، غيرُ مؤتَمن، ويأمَنُ غالبًا مِن عقوبة الله تعالى؛ فلا يُستبعدُ منه الكذبُ أو التّدليس.
(1)
انظر: «المجموع» (1/ 75)، و «روضة الطالبين» للنووي (3/ 297)، و «إعلام الموقّعين» لابن القيّم (4/ 220)، و «صفه الفتوى» لابن حمدان (ص 13).
(2)
البقرة: 109.
(3)
«أضواء البيان» (8/ 24).
وأمّا المجنون فَبُعْدُ قبولِ فتياه آكدُ من الصّبيّ لما ذُكِر آنفًا، ولأنّه لا يعقل السّؤالَ؛ فكيف تؤخَذُ منه الأحكامُ؟!
قال ابنُ حمدان الحرّانيُّ رحمه الله: «ومِن صفتِهِ وشروطِهِ (أي المفتي) أن يكون: مسلماً، عدلاً، مكلَّفاً، فقيهاً، مجتهداً، يقظاً، صحيحَ الذِّهن والفكرِ والتصرّف في الفقه، وما يتعلَّق به. أمّا اشتراط إسلامِه وتكليفِه وعدالتِهِ .. فبالإجماعِ؛ لأنّه يخبر عن الله تعالى بحُكْمِهِ؛ فاعتبر إسلامُهُ، وتكليفُهُ، وعدالتُهُ لتحصل الثقةُ بقولِهِ»
(1)
.
ثالثًا: أن يحيطَ بالنصوص الشرعيَّة من الكتاب والسُّنّة؛ مع معرفة تامّة بآيات وأحاديث الأحكام، ومعرفة العلوم المتعلِّقة بها، مثل: علم النّاسخ والمنسوخ، والجرح والتّعديل، وغيرها.
قال الآمدي في «الإحكام» : «وأما المفتي فلا بدّ وأن يكون من أهل الاجتهاد، وإنما يكون كذلك بأن يكون عارفًا بالأدلّة العقليّة،
…
وأن يكون مع ذلك عارفاً بالأدّلة السمعيّة وأنواعها، واختلاف مراتبها في جهات دلالتها، والناسخ والمنسوخ منها، والمتعارضات، وجهات الترجيح فيها، وكيفية استثمار الأحكام منها
…
»
(2)
.
وأشار أبو المظفَّر السمعانيُّ إلى ذلك فقال: «المفتي مِن العلماءِ مَن استكملت فيه ثلاثة شرائط: أحدها: أن يكون من أهل الاجتهاد. والشّرط الثّاني: أن يستكمل أوصاف العدالة في الدِّين، حتّى يثق بنفسه في التزام حقوقه، ويوثَقَ به في القيام
(1)
«صفة الفتوى» (ص 13).
(2)
(4/ 227، 228).
بشروطِهِ. والشّرط الثّالث: أن يكون ضابطًا نفسَه من التّسهيل، كافّاً لها عن التّرخيص حتّى يقومَ بحقِّ الله تعالى في إظهار دينِهِ، ويقومَ بحقِّ مستفتيه»
(1)
.
ومع اتّفاق العلماء على هذا الشّرط وأهميّتِهِ .. إلّا أنّك تجدُ عندهم خلافًا عريضًا في المرتبة الّتي ينبغي أن يصلَ إليها الفقيهُ حتّى يسمّى مجتهدًا أو مفتيًا، ولا شكّ أنّ هذا الأمرَ مِن أهمِّ الأمورِ الّتي وَقَفَ عندها العلماءُ لدى بيانِ سبب الخلاف بين الفقهاء والمجتهدين في القضايا الفقهيّة، والنّوازل المعاصرة.
رابعًا: أن يُحصِّل المهمَّ اللّازم من العلوم الشرعيّة الّتي تساعد على فهم النّصوص الشّرعيّة، واستنباط الأحكام الفقهيّة منها، وذلك مثل: علوم اللُّغة، وأصولِ الفقه، والقواعد الفقهيّة، ومعرفةِ مواضع الإجماع، ومعرفة أعراف النّاس وعوائدِهم، وجملة كبيرة من المسائل المختلف فيها، ووجوه النّظر والاستدلال، وكذلك بعض العلوم العقليّة، وما يمكِّن من فهْمِ نصوص الشّرع.
ولأهميّة أصول الفقه ومكانتِهِ في فهم شرع الله تعالى .. عدَّه الأصوليّون أصلَ باب الاجتهاد والفتوى، ولا يمكن للمفتي أو المجتهد أنْ يبلغ هذه الدرجة إلَّا بالتّمكُّن منه، والفهم من خلاله مرادَ الله تعالى
(2)
.
وأمّا عُرْفُ النّاس وعاداتُهم فقد أشار الإمام ابن القيم إلى أنّ المفتي لا يتمكّن من الحكم بالحقّ إلّا بفهمٍ يتضمّن معرفةَ الواقع وعُرْف النّاس
(3)
.
خامسًا: أن يكون عدلاً معروفًا بالتزامه وتديُّنِهِ واستقامتِهِ؛ فلا تصحُّ فتيا
(1)
«قواطع الأدلّة في الأصول» (5/ 133).
(2)
انظر: «البرهان في أصول الفقه» للجويني (2/ 870)، و «الإبهاج» للسُّبكي (1/ 8)، و «إرشاد الفحول» للشوكاني (ص 421).
(3)
انظر: «إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين» (1/ 87).
الفاسق، وذلك عند جماهير العلماء
(1)
، وقد أمر الله تعالى بالتّثبُّت من خَبَرِهِ؛ قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
(2)
.
وقضية اشتراط العدالة في المفتي مطلقًا شائكةٌ، ولابن القيّم كلام قيّم في تحريرِ هذا الشرط والتزامِه؛ حيث يقول: «وأمّا فتيا الفاسق؛ فإن أفتى غيرَه لم تُقبَل فتواه، وليس للمستفتي أن يستفتيَه، وله أن يعمل بفتوى نفسه، ولا يجب عليه أن يفتي غيره، وفي جواز استفتاء مستور الحال وجهان، والصّواب جواز استفتائه وإفتائه.
قلتُ (الكلام لابن القيّم): وكذلك الفاسق إلّا أن يكونَ معلنًا بفسقِهِ داعيًا إلى بدعتِهِ؛ فحكم استفتائِهِ حكمُ إمامتِهِ وشهادتِهِ، وهذا يختلف باختلاف الأمكنة، والأزمنة، والقدرة، والعجز؛ فالواجب شيء .. والواقع شيءٌ، والفقيه مَن يطبِّق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا مَن يلقي العداوة بين الواجب والواقع، فلكلِّ زمان حكمٌ، والنّاس بزمانِهم أشبهُ منهم بآبائهم، وإذا عمّ الفسوقُ، وغَلَبَ على أهل الأرض؛ فلو مُنِعَت إمامةُ الفسّاق، وشهاداتِهم، وأحكامَهم، وفتاويهم، وولاياتُهم .. لعُطّلتِ الأحكام، وفَسَدَ نظام الخلق، وبَطَلت أكثرُ الحقوق، ومع هذا؛ فالواجبُ اعتبار الأصلح فالأصلح، وهذا عند القدرة والاختيار، وأما عند الضّرورة والغلبة بالباطل؛ فليس إلَّا الاصطبار،
(1)
انظر: «البرهان في أصول الفقه» (2/ 869)، و «قواطع الأدلّة في الأصول» (2/ 353)، و «الإحكام» للآمدي (4/ 228) وقد حَكَى الاتفاقَ على ذلك، و «تيسير التّحرير» (4/ 183)، و «شرح الكوكب المنير» (3/ 39).
(2)
الحجرات: 6.
والقيام بأضعف مراتب الإنكار»
(1)
.
سادسًا: أن لا يكون معروفًا بتساهله في الفتوى؛ وقد نصّ الإمام السّمعانيُّ كما مرّ معنا على هذا الشرط، وفصّل فيه القول؛ فقال رحمه الله تعالى: «وللمُتَسَهِّل حالتانِ:
إحداهما: أن يتسهَّلَ في طلب الأدلّة، وطُرُق الأحكام، ويأخذ بمبادئ النّظَرِ، وأوائل الفكر. فهذا مقصّر في حقّ الاجتهاد؛ فلا يحلُّ له أن يفتيَ، ولا يجوز أن يستفتى، وإن جاز أن يكون ما أجاب به حقّاً؛ لأنّه غيرُ مستوفٍ لشروطِ الاجتهاد؛ لجواز أن يكون الصواب مع استيفاء النظر في غير ما أجاب فيه.
والحالة الثّانية: أن يتسهَّل في طلب الرُّخَص، وتأويل الشُّبَه، ويمُعِن النظر؛ ليتوصّل إليها، ويتعلَّق بأضعفها، وهذا مُتَجوِّز في دينه، متعدٍّ في حقّ الله تعالى، و غارٌّ لمستفتيه، عادلٌ عمّا أمر الله سبحانه به في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}
(2)
، وهو في هذه الحالة أعظم مأثمًا منه في الأُولى؛ لأنّه في الحالة الأولى مُقَصِّرٌ، وفي الثّانية متعدٍّ، وإن كان في الحالتين آثمًا متجوِّزًا، لكن الثّاني أعظم»
(3)
.
سابعًا: أن يُعرف بفطنتِهِ وصفاءِ قريحتِهِ ونباغته؛ وقد مرَّ معنا قول ابن حمدان الدالّ على هذا المعنى؛ حيث قال: «ومن صفته وشروطه (أي المفتي) أن يكون: مسلمًا، عدلاً، مكلَّفًا، فقيهًا، مجتهدًا، يقظًا، صحيحَ الذِّهن والفكرِ والتصرّف
في الفقه، وما يتعلّق به»
(1)
.
قال ابنُ عابدين الحنفيُّ في هذا الشرط: «وهذا شرطٌ لازمٌ في زماننا، فإنّ العادةَ اليوم أنّ من صار بيده فتوى المفتي استطال على خصمِهِ، وقهَرَهُ بمجرَّد قولِهِ: أفتاني المفتي بأنّ الحقَّ معي، والخصمُ جاهلٌ لا يدري ما في الفتوى، فلا بدّ أن يكون المفتي متيقّظًا؛ يعلم حِيَل النّاس ودسائِسَهم» . ثمّ قال: «ولهم مهارة في الحيل، والتّزوير، وقلْبِ الكلام، وتصوير الباطل بصورة الحقِّ، فإذا أخذ الفتوى قَهَرَ خصمَهُ، ووصل إلى غرضِهِ الفاسد؛ فلا يحلُّ للمفتي أن يعينه على ضلالِهِ، وقد قالوا: مَن جَهِل بأهلِ زمانِهِ فهو جاهل»
(2)
.
(1)
«صفة الفتوى» (ص 13).
(2)
«الحاشية» (5/ 359).