الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة العاشرة
الفرق بين البدعة والمصالح المرسلة
* كثير من الناس عدّوا أكثر المصالح المرسلة بدعاً، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات (1).
* قال الدكتور عبد الكريم زيدان: «والمصالح منها ما شهد الشارع له بالاعتبار، ومنها ما شهد له بالإلغاء، ومنها ما سكت عنه، فالأُولى هي المصالح المعتبرة، والثانية هي المصالح الملغاة، والثالثة هي المصالح المرسلة:
1 -
المصالح المعتبرة: وهي ما اعتبرها الشارع بأن شرع لها الأحكام الموصلة إليها: كحفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فقد شرع الشارع الجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحدّ الشرب لحفظ العقل، وحدّ الزنى والقذف لحفظ العرض، وحدّ السرقة لحفظ المال.
وعلى أساس هذه المصالح المعتبرة وربطها بعللها وجوداً وعدماً جاء دليل القياس، فكل واقعة لم ينص على حكمها، وهي تساوي واقعة أخرا نص الشارع على حكمها في علة الحكم، فإنها تأخذ نفس الحكم المنصوص عليه.
2 -
المصالح الملغاة: مصالح متوهمة غير حقيقية أو مرجوحة أهدرها الشارع ولم يعتد بها بما شرعه من أحكام تدل على عدم اعتبارها.
ومن أمثلة هذا النوع مصلحة الأنثى في مساواتها لأخيها في الميراث فقد ألغاها الشارع بدليل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]، ومثل مصلحة الجبناء القاعدين عن الجهاد في حفظ نفوسهم من
(1) الاعتصام (2/ 449).
الهلاك، فقد ألغى الشارع هذه المصلحة المرجوحة بما شرعه من أحكام الجهاد، وهكذا، ولا خلاف بين العلماء في أن المصالح الملغاة لا يصح بناء الأحكام عليها.
3 -
المصالح المرسلة: مصالح لم ينص الشارع على إلغائها ولا على اعتبارها، فهي مصلحة، لأنها تجلب نفعاً وتدفع ضرراً، وهي مرسلة؛ لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه، فهي إذن تكون في الوقائع المسكوت عنها وليس لها نظير منصوص على حكمه حتى نقيسها عليه، وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة أو يدفع مفسدة مثل المصلحة التي اقتضت جمع القرآن وتدوين الدواوين وتضمين الصُنَّاع وقتل الجماعة بالواحد» (1).
- جمع القرآن: اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جمع المصحف ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما صنعوا من ذلك ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن، وقد عُلِم النهي عن الاختلاف في ذلك، وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنة وغيرها إذا خيف عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكَتْب العلم (2).
- تضمين الصُنَّاع: قضى الخلفاء الراشدون بتضمين الصناع ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك على أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع فتضيع الأموال ويقل الاحتراز وتتطرق الخيانة فكانت المصلحة التضمين.
(1) الوجيز في أصول الفقه د/عبد الكريم زيدان (ص236، 237) ومن أوضح الأمثلة عليها في الوقت الحاضر: توثيق عقد الزواج حفظاً للنسب.
(2)
مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «قيدوا العلم بالكتاب» رواه الإمام الطبراني والإمام الحاكم وصححه الشيخ الألباني.
- قتل الجماعة بالواحد إذ لا نص على عين المسألة، ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (1) ووجه المصلحة أن دم القتيل معصوم وقد قتل عمداً فإهداره داع إلى حزم أصل القصاص، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه، وليس أصله قتل المنفرد، فإنه قاتل تحقيقاً والمشترك ليس بقاتل تحقيقاً، فإن قيل هذا أمر بديع في الشرع وهو قَتْل غير القاتل، قلنا: ليس كذلك، بل لم يقتل إلا القاتل وهم الجماعة من حيث الاجتماع، فهو مضاف إليهم تحقيقاً إضافته إلى الشخص الواحد، وإنما التعيين في تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد، وقد دعت إليه المصلحة، فلم يكن مبتدعاً مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء (2).
* هل يعمل بالمصالح المرسلة في العبادات؟
قال الدكتور محمد بن حسين الجيزاني عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية: «إن الاستصلاح أو المصلحة المرسلة نوع دقيق من أنواع الاجتهاد، وباب واسع من أبواب الرأي، وهذا الرأي ليس رأياً مجرداً عن الدليل، بل هو مقيد بضوابط، وذلك أن المصلحة المرسلة لا تعتبر حجة إلا إذا كانت مندرجة تحت مقاصد الشريعة، محققة لها.
(1) رواه الإمام مالك في الموطأ وصححه الشيخ الألباني في الإرواء (2201).
(2)
الاعتصام (2/ 452 - 461) بتصرف.
(3)
الوجيز في أصول الفقه (ص238 - 242) بتصرف.
ومن هنا يمكن أن نقول: إن المصلحة المرسلة لا مدخل لها في التعبدات المحضة، كأفعال الصلاة وأفعال الحج وأنصبة المواريث ومقادير الكفارات والعِدَد والحدود.
فجميع هذه المسائل تعبدية توقيفية، لا مجال فيها للرأي، ولا مدخل فيها للاجتهاد، إلا أن الاستصلاح ربما يقع في بعض العبادات، لكنه إنما يقع في وسائلها المطلقة لا في ذات العبادة وأصلها، ولا يقع أيضاً في وسائلها التوقيفية التي ورد بها الشارع.
ومن الأمثلة على ذلك أن استقبال القبلة ودخول الوقت أمور تعبدية لابد من تحقيقها بالنسبة إلى الصلاة، وقد يستعان في معرفة القبلة بالبوصلة أو غيرها، وبالساعة في معرفة وقت الصلاة، فكل هذا من قبيل الوسائل التي أطلقها الشارع، وتندرج تحت قاعدة:(ما لا يتم الواجب إلا به).
ومن ذلك أيضاً: إنشاء طابق ثانٍ للطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام، ومثل إنشاء جسر متعدد الأدوار للجمرات.
وإذا تأملنا ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم في المصلحة المرسلة وجدناه في أحد بابين:
إما في أمور ليست من قبيل العبادات، وإنما هي مصالح عامة وأمور عادية، مثل تدوين الدواوين وتضمين الصناع، وإما في أمور تتعلق بالعبادة لكنها من قبيل الوسائل التي لا يتحقق مقصود الشارع إلا بها، كجمع القرآن وكتابة السنة المطهرة.
وبهذا يظهر الفرق جلياً بين الاستصلاح والابتداع، حيث إن الابتداع إنما يكون في الأمور التعبدية» (1).
* شروط العمل بالمصلحة المرسلة:
1 -
أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشرع فلا تخالف أصلاً من أصوله، ولا
(1) موقع الإسلام اليوم 27/ 2/1427هـ.
تنافي دليلاً من أدلة أحكامه، بل تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها، أو قريبة منها ليست غريبة عنها.
2 -
أن تكون معقولة بذاتها، بحيث لو عرضت على العقول السليمة لتلقتها بالقبول.
3 -
أن يكون الأخذ بها لحفظ ضروري أو لدفع حرج؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
4 -
أن تكون المصلحة التي تترتب على تشريع الحكم مصلحة حقيقية لا وهمية.
5 -
أن تكون المصلحة عامة لا خاصة، أي أن يوضع الحكم لمصلحة عموم الناس لا لمصلحة فرد معين أو فئة معينة (1).
* والضابط الذي تتميز به المصلحة المرسلة عن البدع المحدثة هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: «والضابط في هذا ـ والله أعلم ـ أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحةً، إذ لو اعتقدوه مفسدةً لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين، فما رآه الناس مصلحةً؛ نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن من غير تفريط منه؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه.
وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعارضٍ زال بموته وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث.
فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجوداً، لو كان مصلحةٍ ولم يُفْعَل: يُعْلم أنه ليس بمصلحةٍ. وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق؛ فقد يكون مصلحةً» (2) ا. هـ.
(1) الوجيز في أصول الفقه (ص 242)، وانظر الاعتصام (2/ 264 - 269).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 594).
وخلاصةُ القول: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمرٍ ضروري، أو رفع حرجٍ لازم في الدين، وليست البدع ـ عند من يدعيها ـ هكذا بيقين؛ لأن المبتدع إنما يفعل البدع بقصد زيادة التقرب إلى الله وإن لم يكن هناك حاجة لإحداث ذلك الفعل.
قال الإمام الشاطبي: «فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف؛ فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات؛ لأن البدع من باب الوسائل، لأنها متعبد بها بالفرض، ولأنها زيادة في التكليف وهو مضاد للتخفيف.
فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغي باتفاق العلماء، وبذلك كله يُعلم مِن قصْد الشارع أنه لم يَكِلْ شيئاً من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده، والزيادة عليه بدعة؛ كما أن النقصان منه بدعة» (1).
(1) الاعتصام (2/ 469).