الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابع عشر: مسألة التوسل
* التوسل المشروع (1):
1 -
التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنا، أو صفة من صفاته العليا: كأن يقول المسلم في دعائه: «اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم اللطيف الخبير أن تعافيني» ، أو يقول:«أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي» ، ومثله قول القائل:«اللهم إني أسألك بحبك لمحمد» ، فإن الحب من صفاته تعالا.
2 -
التوسل إلى الله بعمل صالح قام به الداعي: كأن يقول المسلم: «اللهم بإيماني بك ومحبتي لك واتباعي لرسولك اغفر لي
…
»، أو يقول:«اللهم إني أسألك بحبي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيماني به أن تفرج عني» ، ومنه أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بال، فيه خوفه من الله سبحانه وتقواه إياه، ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه.
3 -
التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح الحي الحاضر: كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالا، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله تعالا، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوا، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرج عنه كربه ويزيل عنه همه.
* التوسل غير المشروع (2) وله ثلاث مراتب:
1 -
أن يدعو غير الله ويستغيث به، أو يطلب منه المدد، وهو ميت أو غائب،
(1) التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني (32 - 46) بتصرف، وانظر الأدلة على ذلك هناك.
(2)
فضل الغنى الحميد تعليقات مهمة على كتاب التوحيد للشيخ ياسر برهامى (ص104 - 106) بتصرف.
سواء كان من الأنبياء، أم الصالحين، أم الملائكة، أم الجن، أم غيرهم كأن يقول:«يا سيدى فلان أغثنى أو اقض حاجتا، أو اشف مريضي» ونحو هذا، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، وإن سماه صاحبه توسلاً، فهو توسل شركى من جنس توسل المشركين بعبادة غير الله، القائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفا} [الزمر: 3].
2 -
أن يقول للميت والغائب: ادْعُ الله لي أو اشفع لي في كذا، فهذا لا خلاف بين السلف أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يقل بها أحد من علماء الأمة وهو من ذرائع الشرك، فهو من الشرك الأصغر، والفرق بينه وبين الذي قبله أن الأول دعاء غير الله، والثاني مخاطبة الميت بما لم يرد في الكتاب والسنة، ولكنه لم يَدْعُه، ولم يسأله قضاء الحاجات وتفريج الكربات؛ فلم يصرف له العبادة.
3 -
أن يقول في دعائه لله عز وجل: «أسألك يا رب بفلان» ، يقصد بذاته أو بحقه أو بجاهه، ونحو ذلك، وليس هذا مشهوراً عن الصحابة رضي الله عنهم بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه وتَرْكهم لهذا النوع، مع وجدود المقتضي له وانتفاء الموانع منه، واستحضارهم له، يدل على أنهم تركوه تعبداً لله ففِعْله بدعة، ولا يصح عن أحد من الصحابة خلافه.
وهذا النوع الأخير فيه خلاف بين أهل العلم لكن الصحيح النهي عنه.
* قال الشيخ الألباني رحمه الله: «لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل للأمر الدينى إلا من طريق شرعي، فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلاً سبب لاستجابة الدعاء لرُدَّ ذلك عليه إلا أن يأتي بدليل، ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل، لأنه كلام ينقض بعضه بعضاً، إذ إنك تسميه توسلاً، وهذا لم يثبت شرعاً وليس له طريق آخر في إثباته
…
فحين يقال: بأن التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها، فما الذي يحمل المسلم على اختياره هذا التوسل الذي لم يرد، والإعراض عن التوسل الذي ورد؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة
فهي بدعة ضلالة اتفاقاً، فهذا التوسل من هذا القبيل فلم يجز التوسل به ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب» (1).
* مناقشة كلام الأستاذ محمد حسين:
أولاً: نقل الأستاذ محمد حسين (ص130) أنه: «لا يوجد ما يمنع شرعاً من السؤال بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو ذات غيره من الصالحين مما لا يعبد من دون الله تعالى وذلك له دليله الشرعي» .
* الرد:
1 -
اشترط أن يكون المتوَسَّل به مما لا يُعبد من دون الله تعالا، فعلى كلامه يجوز التوسل بأبي بكر الصديق ولا يجوز التوسل بعيسى عليه السلام؛ لأن عيسى يُعبد من دون الله.
2 -
من الناس من يَدْعُون غير الله عز وجل من الأنبياء والصالحين وهذا الدعاء عبادة وصرفها لغير الله شرك، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60](2).
فعلى ما نقله الأستاذ محمد حسين لا يجوز التوسل بهم لأن الناس عبدوهم وهو قد اشترط أن يكون المتَوَسَّل به مما لم يعبد من دون الله، وما يحدث عند الأضرحة من الاستغاثة بالمقبورين ودعائهم والتمسح بقبورهم دليل على اعتقادهم الضر والنفع بهم، ودعائهم والاستغاثة بهم من الشرك الأكبر فعلى هذا لا يجوز التوسل بهم حسب ما اشترط هو.
3 -
قوله: «وذلك له دليله الشرعي» ، سيتبين من الصفحات التالية إن شاء الله أن هذا القول ليس له أي دليل شرعي.
(1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص150 - 151) بتصرف.
(2)
رواه الإمام أحمد في المسند (18299) والإمام أبو داود (1479) وصححه الشيخ الألباني.
ثانياً: قال الأستاذ محمد حسين (ص130): «يقول ابن تيمية في قاعدة جليلة: «السؤال بذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجوِّزه طائفة من الناس ونُقِلَ في ذلك آثار عن السلف وهو موجود في دعاء كثير من الناس لكن ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك ضعيف بل موضوع وليس عنه حديث ثابت قد يُظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى ودعاء عمر في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار» انتهى كلام ابن تيمية، وأقول: إنه أثبت حجية ذلك بحديث الأعمى واستسقاء الصحابة وبرغم رده على ذلك فهو رد للحديث الصحيح ولأعمال الصحابة رضي الله عنهم».
* الرد:
1 -
أطلب من القارئ الكريم أن يراجع النقل السابق ويركز على ما فوق الخط فشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «قد يُظن أن لهم فيه حجة» ، والأستاذ محمد حسين يقول إن شيخ الإسلام أثبت حجية ذلك، فها هو منهج الأستاذ محمد حسين في النقل والاستنباط وفهم أقوال العلماء.
2 -
هذا الذي نقله الأستاذ محمد حسين موجود بنصه في مجموع الفتاوى (1/ 162 - 163)(وفي الطبعة القديمة التي يحيل عليها الأستاذ محمد حسين (1/ 222 - 223) وبتر منه الأستاذ محمد حسين كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ينفي فيه أن فيما ذكره حجة وهاك نصه: «
…
السؤال به فهذا يُجَوِّزه طائفة من الناس، ونُقِلَ في ذلك آثار عن بعض السلف وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكن ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك ضعيف بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول:«أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة» وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه فإنه صريح في أنه توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول:«اللهم شَفِّعْهُ فيَّ» ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله، ودعاء أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار، وقوله:«اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا» ، يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته؛ إذ لو كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس».
3 -
اتهم الأستاذ محمد حسين شيخ الإسلام ابن تيمية بهتاناً وزوراً بأنه يرد الحديث الصحيح وأعمال الصحابة رضي الله عنهم، وشيخ الإسلام ابن تيمية بريء من ذلك، بل كان رحمه الله من منهجه أن يسير وراء الدليل وسيتضح ـ إن شاء الله ـ من الرد على حديث الأعمى واستسقاء الصحابة بالعباس أنهما ليس فيهما دليل على ما ذهب إليه الأستاذ محمد حسين لأن غاية ما فيهما هو التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبدعاء العباس.
4 -
العجيب أن يتهم الأستاذ محمد حسين شيخ الإسلام بذلك ـ وهو منه بريء ـ رغم أن كتابه (اللمع) مليء بشبهات واهية يرد بها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيحة كما مر بك سابقاً، بل غالباً ما يترك الحديث الصحيح ويأخذ بقول يخالفه لأحد العلماء.
ثالثاً: حديث استسقاء الصحابة بالعباس رضي الله عنهم:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قَحِطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا،» قال: «فيُسقون» (1).
التوضيح:
1 -
معنى قول عمر رضي الله عنه: «إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فتسقيَنا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا» : أننا كنا نقصد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله
(1) رواه البخاري (1010، 3710).
بدعائه، والآن وقد انتقل صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلا، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ونطلب منه أن يدعو لنا، وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم:«اللهم بجاه نبينا اسقنا» ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم بجاه العباس اسقنا» ؛ لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولم يفعله أحد من السلف الصالح (1).
2 -
لو كلف الأستاذ محمد حسين نفسه النظر في شرح الحديث في فتح الباري للحافظ ابن حجر لفهم معنى الحديث حيث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد بيّن الزبير بن بكار في (الأنساب) صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة
…
فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: «اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث» » (2).
3 -
لماذا لم يتوسلوا مباشرة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبره وتوسلوا بعمه؟
يجيب الأستاذ محمد حسين (ص132): «صلاة الاستسقاء عبادة مشروعة تكون من حي مكلف وهو العباس» .
* الرد:
عاد الأستاذ محمد حسين وناقض نفسه فإذا كانت صلاة الاستسقاء عبادة مشروعة تكون من حي مكلف وهو العباس، فما الذي قام به العباس رضي الله عنه؟ هل قال:«اللهم بحق جاهي عندك» أم ماذا قال؟!
وإذا كان هو يستدل بهذا الحديث على أن الصحابة توسلوا بذات العباس فكيف نصدق ذلك وهو يقول إن العباس هو الذي قام بهذه العبادة المشروعة وهو حي مكلف وليس الصحابة، يعني ـ بفهمه هو ـ أن العباس هو الذي توسل، فبمن توسل
(1) التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني (ص44 - 45).
(2)
فتح الباري (2/ 605) شرح حديث (1010).
العباس؟ هل قال العباس اللهم بحق جاهي عندك اسقنا؟!
* إن ما فعله العباس رضي الله عنه هو أنه دعا لهم كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر كما سبق.
4 -
مرة أخرى لماذا لم يتوسلوا مباشرة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبره وتوسلوا بعمه؟
* يجيب عن ذلك الشيخ الألباني رحمه الله فيقول: لأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وآله وسلم ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمّنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلا.
ولذلك لجأ عمر رضي الله عنه وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواطن عدة، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس رضي الله عنه لقرابته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ناحية، ولصلاحه وتقواه من ناحية أخرا، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا، وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ممكناً، وما كان من المعقول أن يقر الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ عمر على ذلك أبداً» (1).
5 -
قال الشيخ الألباني رحمه الله: «نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما أمراً جديراً بالانتباه، وهو قوله: «إن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا، استسقى بالعباس بن عبد المطلب» ، ففي هذا إشارة إلى تكرر استسقاء عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوسل بعمه رضي الله عنه، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإننا نقول: لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة، ولما استمر عليه كلما استسقا».
رابعاً: حديث الأعمى:
(1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص61 - 62).
عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:«ادع الله أن يعافينا» ، قال:«إن شئتَ دعوتُ لك، وإن شئت أخرتُ ذاك فهو خير» ، وفي رواية:«وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك» ، فقال:«ادْعُه» ، فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلى ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء:«اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتُقضَى لي، اللهم فشفعه فيَّ، وشفعني فيه» ، قال: ففعل فبرأ (1).
* قال الشيخ الألباني رحمه الله: «هذا الحديث لا حجة فيه على التوسل بالذات بل هو دليل على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع الذي أسلفناه؛ لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها:
1 -
أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو له، وذلك قوله:«ادع الله أن يعافيني» فهو قد توسل إلى الله بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبيَ صلى الله عليه وآله وسلم ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً «اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن تشفيني وتجعلني بصيراً» ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذْكر فيها اسم المتوسَّل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«إن شئتَ دعوتُ، وإن شئتَ صبرتَ فهو خيرٌ لك» .
3 -
إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: «فادْعُ» فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دعا له؛ لأنه خير من وفي بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد
(1) رواه الإمامان أحمد (17174، 17175) وابن ماجة (1385) وصححه الشيخ الألباني.
شاء الدعاء وأصر عليه فإذن لابد أنه صلى الله عليه وآله وسلم دعا له، فثبت المراد، وقد وجّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه على أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجّهه إلى النوع الثانى من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه، وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وهي تدخل في قوله تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35].
4 -
أن الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياه أن يقول: «اللهم فشفعه في» وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم أو جاهه أو حقه إذ إن المعنى: «اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم فيّ» ، أي اقبل دعاءه في أن ترد علي بصري، والشفاعة لغةً: الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وآله وسلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة.
5 -
أن مما علمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأعمى أن يقوله: «وشفعنى فيه» أي: اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم أي دعاءه في أن ترد على بصري، هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه، ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد؛ لأنها تنسف بيانهم من القواعد وتجتثه من الجذور (1)، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه، ذلك أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الأعمى مفهومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة.
6 -
أن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعائه المستجاب وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره.
يتبين مما سبق أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا
(1) لم يذكر الأستاذ محمد حسين هذه الجملة في كتابه فلماذا؟ أليس من الأمانة العلمية أن يذكر الحديث بنصه ولا يبتر الجزء الذي هو حجة عليه؟
علاقة له بالتوسل بالذات، وأن قول الأعمى في دعائه:«اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم» إنما المراد به: «أتوسل إليك بدعاء نبيك» ، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] أي: أهل القرية وأصحاب العير» (1).
* تنبيه: قال الأستاذ محمد حسين (ص133): «روى الطبراني بطرق صحيحة عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان أمير المؤمنين في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين، ثم قل: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي» ، وتَذْكُر حاجتك فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب أمير المؤمنين عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة، وقال:«ما حاجتك؟» فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له: «ما ذَكَرْتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة» ، وقال:«ما كانت لك حاجة فائتنا» ، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقِيَ عثمان بن حنيف فقال له:«جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتى ولا يلتفتُ إليّ حتى كلمتَه فيّ» ، فقال عثمان بن حنيف: «والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره
…
» (وذكر حديث الأعما)».
* الرد:
قال الشيخ الألباني رحمه الله: «قصة الرجل مع عثمان بن عفان وتوسله به صلى الله عليه وآله وسلم حتى قضى حاجته أخرجها الطبراني في المعجم الصغير (ص10 - 104) وفي الكبير (3/ 2/1/ 201) من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكى عن روح بن
(1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص76 - 82) بتصرف.
القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عثمان بن حنيف».
وذكر الشيخ الألباني أن القصة ضعيفة منكرة لأمور ثلاثة:
1 -
ضعف حفظ المتفرد بها وهو شبيب بن سعد.
2 -
الاختلاف عليه فيها فقد أخرج الحديث ابن السنى في عمل اليوم والليلة (ص202) والحاكم (1/ 526) من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة.
3 -
مخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث (حديث الأعما).
وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة فكيف بها مجتمعة؟ (1)
* تنبيه آخر: قد يتعلق بعضهم بقول الطبراني بعد أن أخرج القصة والحديث: «وقد روى هذا الحديث شعبة
…
والحديث صحيح».
قال الشيخ الألباني: «الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة بدليل قوله: «قد روى شعبة الحديث
…
والحديث صحيح»، فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو القصة، فلم يصححها إذن الطبراني فلا حجة لهم في كلامه» (2).
* تنبيه أخير: قال الشيخ الألباني رحمه الله وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة وجدها من الأدلة الكبرى على نكارتها وضعفها، وهي أن الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل، ولا يلتفت إليه! فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الملائكة تستحي من عثمان، ومع ما عرف به رضي الله عنه من رفقه بالناس وبره بهم ولينه معهم؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه لأنه ظلم يتنافى مع شمائله رضي الله عنه وأرضاه ـ» (3).
(1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص92 - 96) بتصرف.
(2)
التوسل أنواعه وأحكامه (ص96 - 97).
(3)
التوسل أنواعه وأحكامه (ص99).
خامساً: قال الأستاذ محمد حسين (ص131): «وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار وكان خازن عمر بن الخطاب قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا رسول الله استسق لأمتك، فإنهم قد هلكوا» ، فأتى الرجل في المنام فقال له:«ائت عمر فقال له: إنكم مستسقون فعليك الكفين» ، قال: فبكى عمر وقال: «يا رب ما آلوا إلا ما عجزتُ عنه» ، ذكره وأقره أيضاً ابن حجر العسقلاني في فتح الباري الجزء الثالث».
* الرد: قال الشيخ الألباني: «والجواب من وجوه:
1 -
عدم التسليم بصحة هذه القصة لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح، ولا ينافي هذا قول الحافظ ابن حجر: «بإسناد صحيح من رواية أبى صالح السمان
…
» لأننا نقول: إنه ليس نصاً في تصحيح جميع السَّنَد بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسناد من عند أبي صالح، ولقال رأساً: «عن مالك الدار
…
وإسناده صحيح» ولكن تعمد ذلك ليلفت النظر إلى أن ها هنا شيئاً ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله، لما فيه من إيهام صحته لا سيما عند الاستدلال به، بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبى صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبى حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته.
2 -
أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة وأخذ به جماهير الأئمة وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم قحط أن يصلوا ويدعوا ولم ينقل عن أحد منهم مطلقاً أنه التجأ إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعاً
لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة.
3 -
هَبْ أن القصة صحيحة فلا حجة فيها لأن مدارها على رجل لم يسم فهو مجهول أيضاً «جاء رجل إلى قبر النبي
…
» وتسميته بلالاً في رواية سيف (1) لا يساوي شيئاً؛ لأن سيفاً هذا ـ وهو ابن عمر التميمى ـ متفق على ضعفه عند المحدثين، بل قال ابن حبان فيه:«يروى الموضوعات عن الأثبات» ، وقال أنه كان يضع الحديث، فمن كان هذا شأنه لا تُقبل روايته ولا كرامة، ولا سيما عند المخالفة.
* تنبيه: سيف هذا يرد ذكره كثيراً في تاريخ ابن جرير وابن كثير وغيرهما، فينبغي على المشتغلين بعلم التاريخ ألا يغفلوا عن حقيقة أمره حتى لا يعطوا الروايات ما لا تستحق من المنزلة» (2).
* تنبيه آخر: على فرض صحة القصة (وقد عُلِمَ أنها ليست صحيحة) فإن مدارها على رؤيا، والرؤى ليست مصدراً من مصادر التشريع.
وعلى فرض صحة القصة فإن قوله: «إنكم مستسقون، فعليك الكفين» إرشاد إلى عمل مشروع وهو الاستسقاء، أي: اذهبوا فاستسقوا أنتم، فإنه ليس في (الرؤيا) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع يديه إلى السماء أو قال:«اللهم اسقِ أمتي» .
سادساً: قال الأستاذ محمد حسين (ص132): «روى الدارمي أن أهل المدينة لما قحطوا أشارت عليهم عائشة رضي الله عنها بأن يجعلوا من قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كوى (3) ـ أي فتحة ـ إلى السماء حتى لا يكون بينه وبينها سقف ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت فسمى عام التفتق» .
* الرد:
(1) قال الحافظ في الفتح (2/ 603): وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأي المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزنا، أحد الصحابة.
(2)
التوسل أنواعه وأحكامه (ص131 - 133) بتصرف.
(3)
هكذا بالأصل والصواب: كوة.
1 -
بيّن الشيخ الألباني رحمه الله ضعف سند هذا الحديث في كتابه القيم (التوسل أنواعه وأحكامه)(ص140 - 141) فراجعه إن شئت.
2 -
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرد على البكري: ص86 - 74): «وما رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان باقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلى العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء بعد، ولم تزل الحجرة كذلك في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
…
ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه بُني حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جُعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف، وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بيّن» (1).
سابعاً: قال الأستاذ محمد حسين (ص132): «القول بعدم التوسل بمخلوق يناقض عقيدة ابن تيمية رحمه الله حيث يجيز التوسل بالعمل الصالح، ومن عقيدة أهل السنة أن الأعمال مخلوقة، فلا فرق بين العمل الصالح المخلوق لله وبين العبد الصالح المخلوق لله» .
* الرد:
1 -
ثبتت مشروعية أن يتوسل الداعي بعملٍ صالح قام به، مع أن عمله مخلوق، ولم يثبت جواز التوسل بذات أو جاه مخلوق، سواء كان الداعي أو غيره، والأصل في العبادات التوقيف.
2 -
قال الشيخ الألباني رحمه الله: «والجواب من وجهين:
(1) التوسل أنواعه وأحكامه (ص141 - 142).
الوجه الأول: أن هذا قياس والقياس في العبادات باطل.
الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة؛ لأننا لم نقل ـ كما لم يقل أحد من السلف قبلنا ـ إنه يجوز أن يتوسل بعمل غيره الصالح (1)، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته» (2).
ثامناً: اعتمد الأستاذ محمد حسين (ص134) على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: «أن السؤال بذات الرسول يجوزه طائفة من الناس ونقل في ذلك آثاراً عن بعض السلف» واعتمد الأستاذ محمد حسين على ذلك في جعل المسألة خلافية.
* الرد: ليس معنى أن المسألة خلافية أن القولين صواب، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية قد أبطل القول الآخر فقال: «وإن كان في العلماء من سوغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أن نهى عنه فتكون مسألة نزاع
…
فيرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ويبدي كل واحد حجته كما في سائر مسائل النزاع
…
وقد ثبت أنه لا يجوز القَسَم بغير الله لا بالأنبياء ولا بغيرهم
…
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا النذر شرك لا يوفي به، وكذلك الحلف بالمخلوقات لا تنعقد به اليمين ولا كفارة فيه، حتى لو حلف بالنبي لم تنعقد يمينه ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء
…
فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الله جل جلاله؟ وأما السؤال به من غير إقسام فهذا أيضاً مما منع منه غير واحد من العلماء، والسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين تدل على ذلك، فإن هذا إنما يفعله على أنه قربة وطاعة، وأنه مما يستجاب به الدعاء وما كان من هذا النوع فإما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحباً، وكل ما كان واجباً
(1) كأن يتوسل الداعي بصلاة أو صيام أحد الصالحين الأحياء.
(2)
التوسل أنواعه وأحكامه (ص152).
أو مستحباً في العبادات والأدعية فلابد أن يشرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن واجباً ولا مستحباً ولا يكون قربة وطاعة ولا سبباً لإجابة الدعاء
…
فمن اعتقد ذلك في هذا أو في هذا فهو ضال وكانت بدعته من البدع السيئة، وقد تبين بالأحاديث الصحيحة، وما استُقريء من أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين أن هذا لم يكن مشروعاً عندهم.
وأيضاً فقد تبين أنه سؤال لله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء، وأنه كالسؤال بالكعبة والطُور والكرسي والمساجد وغير ذلك من المخلوقات، ومعلوم أن سؤال الله بالمخلوقات ليس مشروعاً كما أن الإقسام بها ليس مشروعاً بل هو منهي عنه، فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق، ولا يسأله بنفس مخلوق، وإنما يسأل بالأسباب التي تناسب إجابة الدعاء» (1).
تاسعاً: ما نسب إلى الإمام أحمد من جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
* الرد: جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 530 - 531): «ما نقل عن الإمام أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة التمريض (2) فلا نعلم له طريقاً صحيحاً عن الإمام أحمد رحمه الله، ولو صح عنه لم يكن حجة، بل الصواب ما قال غيره في ذلك وهم جمهور أهل السنة، لأن الأدلة الشرعية في ذلك معهم» .
عاشراً: قال الأستاذ محمد حسين (ص135): «لم يأمر الإمام حسن البنا باتباع رأي من آراء المختلفين في المسألة» .
ونقول له: فلماذا يأمر الأستاذ محمد حسين باتباع الرأي المرجوح الذي ترده الأدلة؟ وما المصلحة التي تعود على المسلمين في اتباعهم لهذا الرأي المرجوح؟ وهل يعمل كل المسلمين بأنواع التوسل المشروع الثلاثة حتى نحثهم على العمل بهذا التوسل البدعي؟
(1) مجموع الفتاوى (1/ 201 - 202) الطبعة القديمة (1/ 285 - 287).
(2)
صيغة التمريض كأن يقول: روى عنه كذا أو نقل عن كذا، أو بلغنا عن كذا. وصيغة الجزم كأن يقول: قال كذا.