الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الرابعة عشرة
هل كل خلاف معتبر
؟
* قال الشيخ ياسر برهامي: (1) «أنواع الاختلاف الواقع بين المسلمين:
1 -
اختلاف التنوع: وهو ما لا يكون فيه أحد الأقوال منافياً للأقوال الأخرى بل كل الأقوال صحيحة، وهذا مثل القراءات وأنواع التشهدات والأذكار، فمن يقرأ في التشهد بتشهد ابن مسعود لا يرى مانعاً من تشهد ابن عباس رضي الله عنهما أو تشهد عمر رضي الله عنه أو غيره من الصيغ، بل اتفق العلماء على جواز كل منها، وإنما اختلافهم في اختيار كل منهم لما يراه الأفضل لاعتبارات يراها.
2 -
اختلاف التضاد: وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه، وهو يكون في الشيء الواحد يقول البعض بحرمته والبعض بحله ـ من جهة الحكم لا من جهة الفتوى ـ فالحكم بأن هذا الفعل حرام كشرب قليل النبيذ المسْكر كثيره غير عصير العنب، والمخالف يقول: قليله حلال، وليس من جهة الفتوى كإنسان في حالة ضرورة ومخمصة لم يجد إلا ذلك النبيذ ليسد رمقه فهو حلال في هذه الحالة كفتوا، أما الحكم العام فهو حرمته عند من يقول بذلك.
وأما وقوع اختلاف التضاد بين المسلمين وأن الحق واحد في قول أحد المجتهدين، ومن خالفه مخطاء في الأصول والفروع، في العقائد والأعمال، في الأمور العلمية والأمور العملية، فهو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم وعليه أئمة العلم.
(1) فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي (ص10 - 66) بتصرف.
وينقسم اختلاف التضاد إلى:
أولاً: اختلاف سائغ غير مذموم: وهو ما لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة صحيحة، أو إجماعاً أو قياساً جلياً.
أمثلة الاختلاف السائغ:
- وجوب المضمضة والاستنشاق أو استحبابهما.
- وجوب الترتيب في الوضوء أو استحبابه.
- وضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد الركوع أو إرسالهما.
- النزول على الركبتين أو على اليدين في السجود.
- قراءة الفاتحة خلف الإمام خاصة في الجهرية.
ثانياً: اختلاف غير سائغ مذموم: وهو ما خالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جَلاّ لا يختلف فيه.
أمثلة للاختلاف غير السائغ:
- القول بجواز شرب النبيذ المسْكِر كثيره من غير عصير العنب وهو خلاف نص الحديث الصحيح: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» (1).
- القول بصحة النكاح دون ولاّ وهو مصادم لنص الحديث الصحيح: «أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» ثلاثاً (2).
- القول بجواز المعازف وسماعها وهو مصادم لنص الحديث الصحيح: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف» رواه البخاري (3).
- القول بجواز حلق اللحى في الواقع الحالي على سبيل الفتوى لعموم الملتزمين كما تقوله وتفعله بعض الجماعات؛ فإنه خلاف نص الحديث الصحيح في
(1) رواه الإمام مسلم (2003).
(2)
رواه الإمام الترمذي (1114) وصححه الشيخ الألباني.
(3)
رواه الإمام البخاري (5590) والحر: الفرج.
وجوب إعفائها (1).
- تهنئة الكفار من النصارى وغيرهم بأعيادهم الكفرية أو بمناصبهم الطاغوتية بزعم سماحة الإسلام أو مصلحة الدعوة؛ فإن هذا عند كل أهل العلم من موالاتهم وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع.
- الاحتفال بالموالد والأعياد البدعية، والمشاركة فيها بزعم الاختلاط بالناس لدعوتهم، دون إنكار.
- الصلاة بالمساجد التي بنيت على القبور، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة المستفيضة في لعن من اتخذ القبور مساجد.
- القول بجواز رسم ذوات الأرواح باليد وهو خلاف نص حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النمرقة، وهي غير مجسمة:«إن أشدّ الناسِ عذابا ً يومَ القيامة المصوّرون» (2).
تنبيه هام جداً
ليس معنى أن الخلاف في المسألة خلاف سائغ أنه يجوز لكل واحد أن ينتقي بالتشهي أياً من القولين دون اجتهاد، فهذا سبيل إلى الزندقة والانحلال، وقد أجمع العلماء فيما نقل الإمام أبو عمر بن عبد البر أنه:«لا يجوز تتبع رخص العلماء فضلاً عن الزلات والسقطات» (3) ا. هـ.
فالواجب على الإنسان على حسب مرتبته في العلم:
1 -
العالم المجتهد يلزمه البحث والاجتهاد وجمْع الأدلة والنظر في الراجح منها، فما ترجّح عنده قال به وعمل به وأفتا، وما أحراه في المسائل التي تعم بها البلوى أن يشير إلى الخلاف فيها مع بيان ما يراه صواباً.
(1) رواه الإمام البخاري (5892).
(2)
رواه مسلم (219).
(3)
جامع بيان العلم وفضله (ص360).
2 -
طالب العلم المميِّز القادر على الترجيح عليه أن يعمل بما ظهر له دليله من أقوال العلماء.
3 -
العامّيّ المقلد العاجز عن معرفة الراجح بنفسه عليه أن يستفتي الأوثق الأعلم من أهل العلم عنده ويسأله عن الراجح، فيعمل به في نفسه، ويجوز نقله لغيره من غير إلزام لهم به، ومن غير إنكار على من خالفه بأي من درجات الإنكار، أما ما يفعله يفعله كثير من أهل زماننا في مسائل الخلاف السائغ وغير السائغ، يأخذ ما يشتهي، بل يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم، ويفتي البعض بجواز التلفيق بين المذاهب، لا بحسب الأدلة والاجتهاد، بل بمجرد موافقته ما يظنونه مصلحة أو تيسيراً على الناس (1)، أو أن الرسول لم يُخَيَّر بين أمْرَيْن إلا اختار أيسرهما، فهذا من الجهل العظيم المخالف للإجماع القديم كما نقله أبو عمر بن عبد البر، فإن اختيار الأيسر هو في الأمور الاختيارية، أما ما كان فيه إثم وحلال وحرام وواجب ومندوب فلابد من الترجيح والاجتهاد على حسب درجة كل واحد كما سبق بيانه، وهذا في مسائل الخلاف السائغ، فما بالك بالخلاف غير السائغ.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: «قال بعض أهل العلم: هذا المذهب ـ يعني أن الاجتهاد لا ينقسم إلى خطأ وصواب ـ أولُه سفسطة وآخرُه زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يُخَيِّر المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب أطيبها» (2).
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر: «الاختلاف ليس بحجة عند أحد علِمْتُه من فقهاء الأمة إلا مَنْ لا بصرَ له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله. قال المزني: يقال لمن جوّز الاختلاف وزعم أن العالمِيْن إذا اجتهدا في الحادثة، فقال أحدهما: حلال، وقال
(1) من الخطأ الواضح قول الأستاذ محمد حسين (ص6): ويستعان بمجموع الاجتهادات من الأئمة على التيسير على الناس، لأن جميع الأئمة المجتهدين على هدى من ربهم اهـ. ونقول: كيف تكون الآراء المتضادة صواباً مع أن الحق واحد لا يتعدد؟
(2)
روضة الناظر: 198.
الآخر: حرام، فقد أدى كل واحد منهما جهده وما كُلّف به، وهو في اجتهاده مصيب للحق، يقال له: أبأصل قلت هذا أم بقياس؟ فإن قال: بأصل، قيل: كيف يكون أصلا ً والكتاب أصل ينفي الخلاف؟ وإن قال: بقياس، قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يُجوّزه عاقل فضلاً عن عالم.
ويقال له: أليس إذا ثبت حديثان مختلفان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معنى واحد أحَلّه أحدهما وحَرّمه الآخر، وفي كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دليلٌ على إثبات أحدهما ونَفْي الآخر، أليس يَثْبُت الذي يُثْبِته الدليل ويَبْطُل الآخر ويبطل الحكم به؟ فإن خفي الدليل على أحدهما وأشكل الأمر فيهما وجب الوقوف، فإن قال: نعم ـ ولابد مِنْ نعم وإلا خالف جماعة العلماء ـ، قيل له: فلِمَ لا تصنع هذا برأي العالميْن المختلفَيْن فيثبت منهما ما يثبته الدليل ويبطل ما أبطله الدليل» (1) ا. هـ.
* ليس من الاختلاف السائغ مصادمة السنة بآراء الرجال:
قد تكون المسألة اجتهادية، وفيها جملة من الأدلة تختلف طرق الجمع بينها، وليس واحد من الأدلة قاطعاً على غيره فتكون المسألة من مسائل الخلاف السائغ، ولكن قد يكون البعض قد استبانت له فيها سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يقول بها بل يعارضها بأقوال العلماء المجردة عن الدليل عنده، فهو يعرف السنة، ويعرف أن بعض أهل العلم خالفها، ولا يعرف وجهه ولا دليله فيعارض مَنْ خالفه بمجرد آراء العلماء، فهذا مخالف للإجماع، قال الإمام الشافعي رحمه الله:«أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس» .
وقد تكون المسألة اجتهادية في حق عالم لعدم علمه بالسنة فيها؛ فيجتهد، ويكون مَن تبعه على اجتهاده غير معذور إذا كان قد علم السنة واستبانت له؛ لأنه في هذه الحالة خالف الإجماع بعد مخالفته لأدلة الكتاب والسنة بوجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(1) جامع بيان العلم وفضله (ص 356).