الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الخامس: علم اللغة التاريخي "منهج البحث
"
32-
المادة اللغوية المدونة:
من الصعب أن يثبت الباحث أن سبق زمني لأي من علم اللغة الوصفي والتاريخي على الآخر، ولكن علم اللغة الوصفي، باهتمامه بطبيعة اللغة ومشكلاتها بوجه عام ربما قيل بوجود جذوره في تلك التأملات الفلسفية التي تهتم بطبيعة اللغة، والتي أثارها الفلاسفة الإغريق، وفيما يخص الجانب الآخر من البحث وهو وصف لغات مستقلة، فإن علم اللغة الوصفي يرجع إلى الوراء في شكل تلك الجهود المبكرة التي تمت على أيدي النحويين الصينيين والهنود والإغريق ولكن الفلاسفة -بالإضافة إلى فلسفتهم لطبيعة اللغة- قد تفكروا أيضًا في أصلها. وهو نوع من النشاط ربما عد بداية التفكير في علم اللغة التاريخي.
وفي القديم -كما في العصور الوسطى- كان فرعا علم اللغة -إذا نحن استعملنا المصطلح الحديث- يعيشان جنبًا إلى جنب، ففي مجال علم اللغة الوصفي يمكن أن يوضع علم النحو، والكتيبات الصغيرة لإرشاد الرحالة والمسافرين إلى بلاد أجنبية، والأحكام التي تتعلق بعمومية النحو، والتصورات النحوية، وفي الجانب التاريخي تدخل تلك الأساطير حول أصل اللغات وتطورها، والمحاولات الأولى لتصنيف اللغات إلى عائلات ولسنا في حاجة إلى أن نقول إن ما تم في تلك العصور السحيقة لم يكن يتسم بالدقة والتحري، ولم يكن يتبع أي منهج يمكن أن يوصف بالعلمية.
وحينما غزت التقاليد العلمية من ملاحظة واستنتاج ميدان علم اللغة أخيرًا قرب نهاية القرن الثامن عشر أصبح للجانب التاريخي للغة اليد العليا على وجه السرعة وقد بدا أن من الخير لعلم اللغة التاريخي أن يتجه وجهة واقعية فيهتم -إلى حد ما- بفحص نمو اللغة وتطورها على أساس من الوثائق الثابتة تاريخيًا بدلا من أن يشغل نفسه بالأسس والنظريات التي ربما تعم اللغات بأسرها. وكذلك فإن ذلك القدر من علم اللغة الوصفي الذي أخذ صورة عملية في ذلك الوقت "لم يكن المصطلح علم اللغة الوصفي قد ظهر بعد" قد وجه اهتمامه إلى العناية بالقواعد النحوية والمعاجم ذات الطابع الإرشادي المعياري الواضح.
وكان التركيز على الجانب المكتوب للغة هو السائد في كل مكان، أما اللغة المتكلمة فقد صورت على أنها شيء متغير خداع، وأن الجزء الثابت منها الذي يستحق الدراسة هو ذلك الموجود في اللغة المكتوبة، ولهذا فليس محل دهشة إذن أن تكون الخطوات الأصلية في علم اللغة قد تناولت بالبحث فقط الجانبين التاريخي والمكتوب للغة، وإن المنهجين الدراسيين في علم اللغة التاريخي ونعني بهما المنهج المقارن، ومنهج إعادة تركيب اللغة قد أسسا كلية على ما وجد من وثائق مكتوبة، ومن حيث طبيعة البحث، فإن علم اللغة التاريخي لا بد أن يعتمد على المادة المكتوبة بقدر ما يعتمد علم اللغة الوصفي على المادة الكلامية لمتكلمين أحياء.
وقد ظهرت المادة المكتوبة في عدة أشكال، فوجدت في النقوش المحفورة على الحجارة، والصخور، وجوانب الجبال، ووجدت في الألواح الطينية المحفور عليها بأدوات مدببة رفيعة، وفي ألواح الشمع المنقوشة بإبر خاصة، وهناك أيضًا وثائق مسجلة على أوراق من البردي والرقائق وعلى أوراق الكتابة العادية المكتوبة. إما بفرشاة، أو بريشة طائر، أو بمداد قلم، أو بقلم رصاص، ويوجد كذلك قدر قليل مكتوب على الآلة الكاتبة أو مطبوع، وكل هذه قد قامت بمهمة التسجيل للأفكار الإنسانية، ولكن مع فارق أساسي.
فبينما بعض السجلات المكتوبة -التي هي في أساسها كتابات تصويرية-
تتجنب اللغة المتكلمة، وتحاول أن تمثل الأفكار والتجارب مباشرة، نجد بعضًا آخر يستعمل الكتابة كوسيط بين الطرفين، وإن الكتابة التصويرية pictographic-ideographic أو Logographic كما تبدو في الصينية الحديثة، تظهر -من النظرة الأولى- ولا صلة بينها وبين اللغة المتكلمة، ما دامت الرموز المكتوبة لا يبدو أنها تعنى بتمثيل أصوات اللغة، ولكن هذه الرموز -مع ذلك- تمثل الكلمات المنطوقة في ترتيبها الذي ترد فيه عادة أثناء الكلام، ومعنى هذا أن بعض المعلومات التي تتعلق باللسان المنطوق -على الرغم من أنها تتعلق بتركيب الجملة فقط- يدل عليها بالكتابة التصويرية وبمجرد أن نعد ترجمة لسلسلة من الرموز الصينية كلمة مقابل كلمة نستطيع أن نعرف النظام الذي تتبعه اللغة الصينية في ترتيب مفرداتها أثناء الكلام.
أما الأبجدية المقطعية الشائعة في كثير من لغات العالم فتذهب خطوات أبعد من هذا إنها تحاول أن تمثل -على اختلاف في درجة الإتقان- الأصوات المتكلمة للغة، وأن تحمل معلومات لا تتعلق بكيفية ترتيب الكلمات، ولكن بكيفية نطقها.
وقد سبق بالفعل "المبحث رقم 12" بيان الأضرار المتولدة عن استعمال الصيغ المكتوبة كشواهد على اللغة المتكلمة الموجودة، وإن عالم اللغة التاريخي -أثناء استعماله المادة المكتوبة الموضوعة تحت تصرفه- يجب على الدوام أن يتخذ الحيطة في قبول حجيتها التي تعد ذات قيمة سطحية، ومن ناحية أخرى من الممكن للباحث أن يغلب جانب الشك إلى حد كبير، وفي حالة أي كتابة بنيت على أساس مقطعي أو هجائي يمكننا -ونحن مطمئنون- أن نزعم أنه كانت توجد أصلا- مع الأخذ في الاعتبار جانب التسامح في الحكم نظرًا لجهل واضع النظام بالأسس الفونيمية الحديثة- الرغبة الصادقة في تمثيل الأصوات الفعلية المتكلمة، سواء عن طريق الرمز لكل صوت، أو الرمز
لكل مقطع، ومن واجب عالم اللغة التاريخي أن يحاول الكشف عما إذا كان الأخير قد تغير، بينما بقي الأول ثابتًا، ولأي مدى افترق النظامان في النهاية.
إن الأساليب شبه العلمية التي تستخدم في تحليل الرموز، وتهتم بفك ما انغلق من مبهمات الخطوط غير المعروفة، سواء كانت تصويرية أو مقطعية أو صوتية، وإعادة كتابتها، لتعد فرعا قائمًا بذاته1. وبمجرد أن تتم إعادة الكتابة تبدأ محاولة تفسير تلك الرموز من ناحية المعنى، وأخيرا يأتي ربط النص المكتوب بالعادات الكلامية المحتملة لأعضاء هذه الجماعة.
وإن المشاكل المتعلقة بتلك الرموز تتفاوت -إلى درجة كبيرة- من لغة إلى لغة، وتختلف خطة العمل تبعًا لذلك، وربما كان من الأحسن أن نشير إلى بعض الأمثلة المعروفة لتوضيح ذلك، في حالة حجر رشيد Rosetta Stone الذي أمدنا بمفتاح اللغة المصرية القديمة، وجد الفاحصون أنفسهم منذ البداية أمام نصوص ثلاثة متماثلة كتب أحدهما بالرموز الهيروغليفية المصرية "التي تنقش عادة على الحجارة" وثانيها صورة أخرى أكثر استعمالا لنفس الرموز تظهر عادة على أوراق البردي، وأما الثالثة فكانت بالإغريقية، وبما أن الإغريقية كانت معروفة بالفعل فقد كان الأمر أمر وقت فقط حتى تم اكتشاف غامض اللغة المصرية القديمة "أخذ ذلك فعلا أكثر من 20 سنة" وقد كانت أول خطوة في حل تلك الرموز هي فصل تلك الرموز، الدالة على الأسماء الملكية المعروفة فعلا بعد اكتشافها في الآثار الفرعونية، ثم إعادة كتابتها بمساعدة مقابلاتها الإغريقية.
وإن اللغة الإترورية Etruscan المكتوبة بحروف هجائية يسهل فك رموزها والتي كانت الأصل المباشر للغات الرومانية -لم يتوصل بعد إلى حل
1 هناك عملان رائعان يمثلان أفضل الأساليب المتبعة في فك رموز اللغات غير المعروفة، وهما:
1-
Extinct Languages تأليف J.Friedrick "لندن 1957".
2-
Lost Languages تأليف P.E. Cleator "نيويورك 1959".
مغاليقها تمامًا، نظرًا لعدم وجود نقوش مزدوجة اللغة بدرجة كافية، ومهما أمكن للعلماء الذين يعيدون تركيب اللغة داخلها أن يقولوا فإن حروفها الهجائية تعين -إلى حد ما- في معرفة ما تعنيه كلماتها.
وحينما نأتي إلى وثائق متأخرة مثل النقوش الرومانية، ووثائق اللاتينية المبتذلة، المعروفة التاريخ، والمكتوبة على الرقائق تأخذ المشكلة شكلا آخر.
وهنا من السهل بدرجة كافية في العادة أن تفك الرمز الهجائي وأن تحدد المعنى، أما المشكلة الرئيسية فهي إلى أي مدى تعكس النقوش أو الوثائق اللغة المتكلمة لتلك الفترة، هل ذلك القدر الكبير من الشواهد النقشية والوثائقية يعطينا صورة صادقة عن تطور اللاتينية تجاه اللغات الرومانية ويبين مراحل تحويلها إليها؟ وهنا فإن حجية الوثائق يجب أن تفحص على ضوء ما نعرفه من نقطة للبداية ونقطة للنهاية بالنسبة لكل كلمة أو صيغة، وعلى ضوء معلوماتنا المتفرقة عن الفترة المتوسطة بينهما.
إن واحدًا من الأعمال الرائعة لعلم اللغة -وبخاصة فيما يتعلق بالجانب التاريخي- يكمن في مشابهته لعمل الشرطة السرية المتمثل في التقاط المفاتيح واستعمالها، وربط الجزئيات بعضها ببعض، وفي علم اللغة قد يظل السر غير مكتشف تمامًا، كما يحدث في تحقيقات الجرائم، ولكن هناك قواعد لاستخدام الشواهد، وهناك مناهج تتعلق بكيفية استعمال المفاتيح كما سيتضح فيما بعد.