المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المحلق رقم3 … الملحق رقم 3: اقتراحات قليلة: علم اللغة الوصفي: تنحصر وظيفة علم اللغة - أسس علم اللغة

[ماريو باي]

فهرس الكتاب

- ‌الفهرس:

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة المترجم

- ‌مقدمة المؤلف:

- ‌القسم الأول: قضايا أساسية

- ‌علم اللغة وفقه اللغة

- ‌ اللغة، الكتابة، الإيماءات، الإشارات، الرموز:

- ‌ خصائص اللغة المتكلمة:

- ‌امتداد آفاق اللغة

- ‌ مستويات التحليل اللغوي:

- ‌ علم الأصوات، علم الأصوات العام، علم الفونيمات:

- ‌ الكتابة الصوتية والكتابة الفونيمية:

- ‌ التركيب القواعدي؛ صرف ونحو:

- ‌ المفردات؛ علما الدلالة وتاريخ الكلمات:

- ‌ تصنيف اللغات:

- ‌ علم اللغة المقارن؛ إعادة التركيب اللغوي:

- ‌ الكتابة:

- ‌ توزيع اللغات وعلم اللغة الجغرافي:

- ‌ الموقع وعدد المتكلمين وتوزيع اللغات في الوقت الحاضر:

- ‌ لغات المناطق وأهميتها النسبية:

- ‌ اللغة الأدبية، اللغة الوطنية، اللهجات، اللغة الدارجة، العامية:

- ‌ الصورة اللغوية المتغيرة:

- ‌القسم الثاني: علم اللغة الوصفي "اصطلاحات أساسية

- ‌ علم الأصوات:

- ‌ علم الفونيم:

- ‌الفونيمات الثانوية النبر- التغنيم- المفصل

- ‌ علم المورفيم:

- ‌ المورفوفونيم:

- ‌ التركيب النحوي؛ علم القواعد:

- ‌ المفردات:

- ‌القسم الثالث: علم اللغة الوصفي "منهج البحث

- ‌ التحليل الفونيمي والمورفيمي

- ‌ بناء نحو وصفي:

- ‌ إعداد الأطلس اللغوي:

- ‌القسم الرابع: علم اللغة التاريخي "إصطلاحات أساسية

- ‌نقاط إتصال مع علمي اللغة الوصفي والجغرافي

- ‌التغير الفونولوجي والقياسي

- ‌ التغير الصرفي والنحوي:

- ‌ التغير المعجمي؛ الاشتقاق، التركيب، الوضع، الافتراض:

- ‌القسم الخامس: علم اللغة التاريخي "منهج البحث

- ‌ المادة اللغوية المدونة:

- ‌ المنهج المقارن:

- ‌ التصنيف العائلي: اللغات الهندية الأوربية وغير الهندية الأوربية

- ‌ منهج لإعادة البناء الداخلي للغة:

- ‌ تاريخ اللغات والإحصاء المعجمي:

- ‌القسم السادس: علم اللغة الجغرافي "اصطلاحات ومصاعب رئيسية

- ‌ وظيفة علم اللغة الجغرافي:

- ‌ اللغات والمتكلمون؛ البلاد واللغات:

- ‌ اللغات المساعدة والبديلة:

- ‌ أنظمة الكتابة والتعرف اللغوي:

- ‌ عوامل مساعدة؛ الثقافة، المنحنى الثقافي، الدين، التأثير التاريخي:

- ‌ اللهجات والتنوعات المحلية؛ اللغات الطبقية:

- ‌القسم السابع: علم اللغة الجغرافي؛ "منهج البحث

- ‌ التعداد السكاني وإحصاءات القراءة والكتابة:

- ‌ التقارير التعليمية:

- ‌ دراسات للمناطق ولغاتها:

- ‌القسم الثامن: تاريح موجز لعلم اللغة

- ‌العصور القديمة والوسطى

- ‌من النهضة العلمية حتى عام 1800:

- ‌القرن التاسع عشر:

- ‌القرن العشرون:

- ‌نظرة إلى الأمام:

- ‌ملاحق

- ‌مدخل

- ‌المحلق رقم3

- ‌قائمة بمصطلحات الكتاب:

- ‌قائمة اللهجات واللغات والعائلات اللغوية

الفصل: ‌ ‌المحلق رقم3 … الملحق رقم 3: اقتراحات قليلة: علم اللغة الوصفي: تنحصر وظيفة علم اللغة

‌المحلق رقم3

الملحق رقم 3:

اقتراحات قليلة:

علم اللغة الوصفي:

تنحصر وظيفة علم اللغة التاريخي في أن يتتبع تطور اللغة واللغات من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى، ويصف المراحل المتداخلة والعمليات المرتبطة بها، وأن يكشف -إذا كان ممكنا- عن المراحل غير المعروفة التي مرت بها اللغة أو اللغات، ومن الواضح أنه لا توجد أي علاقة بين هذا وبين إجراءات تعلم لغة متكلمة حديثة. إننا يمكننا أن نتوصل إلى قدر كبير من المعلومات التاريخية والفلولوجية عن كيفية سير اللغة حتى وصلت إلى صورتها الحاضرة، وما نزال -في نفس الوقت- عاجزين عن أن نتكلمها أو نفهمها، وأقصى ما يمكن أن تقدمه لنا الدراسة التاريخية مجرد المساعدة في التعرف على المادة المكتوبة للغة المدروسة.

أما وظيفة عالم اللغة الجغرافي فهي أن يقدم لغات العالم في صورة مرئية كاملة، وفي إطار من قيمتها الاقتصادية والسياسية الحاضرة وأن يصف أهميتها النسبية وفوائدها في المجالات المختلفة، ومرة أخرى تجد علم اللغة الجغرافي لا يقدم لنا سوى مساعدة ضئيلة في جانب تعلم نطق اللغة نفسها أو فهمها، فيما عدا المعلومات اللغوية الجغرافية المذيلة بنماذج وأمثلة عملية.

ص: 253

أما وظيفة علم اللغة الوصفي فهي أساسا وضع الأسس والمعايير التي تقبل التطبيق على مادة اللغة كلها، وكذلك وصف اللغات كل على حدة بدقة.

ومن الممكن أن نستخلص من هذه الدراسات الوصفية أسسا مفيدة، ومناهج تساعد في تعليم اللغة وتعلمها إذا أريد توجيه الأعمال الوصفية للنفع بدقة وذكاء، ولكن مهمة عالم اللغة تنتهي بمجرد أن يقدم لنا بكل دقة أعماله الوصفية، وفيما وراء ذلك، فإما أن يحول عالم اللغة الوصفي نفسه إلى معلم لغة "وهو غالبا غير مؤهل لذلك"، أو أن يترك الميدان لمعلم اللغة المؤهل.

وإن مؤهلات معلم اللغة لمتعددة ومتنوعة، فلا بد أولا أن يكون على علم باللغة التي يدرسها، ويمكنه أن يتكلمها ويفهمها كلغته الوطنية، أو أقل قليلا، كذلك يجب أن يكون على قدر من المعرفة بلغة المتعلمين تمكنه من أن يقارن اللغتين لنفسه إن لم يكن لتلامذته، وأن يصل إلى أوجه الخلاف الأساسية بينهما ومناطق الصعوبة فيهما، وهو إلى جانب هذا لا بد أن يكون ذا أذن مدربة سريعة وصبر لا ينفد أثناء الشرح، وقدرة على وضع التمارين والتدريبات الكثيرة.

وكل هذا يعني أن عالم اللغة -تاريخيا كان أو وصفيا أو جغرافيا- ليس بطبيعته ذا موهبة لتعليم اللغات المتكلمة، وإن كان يوجد بينهم من يحمل هذه الموهبة. إن معلم اللغة ليس في حاجة إلى أن يكون عالم لغة بأي معنى من المعاني الثلاثة، وعالم اللغة ليس في حاجة كذلك إلى أن يكون معلم لغة.

ولكن معلم اللغة لا بد أن يكون مؤهلا لتلقي إرشادات عالم اللغة، وراغبا في تطبيقها على تدريس اللغة، ومهما كانت المعلومات التي يقدمها له عالم اللغة فهي مفيدة في وظيفته، ومن عالم اللغة التاريخي يتحصل معلم اللغة على معلومات ودراسات تصل اتصالا وثيقا بتاريخ الأدب والثقافة للمنطقة التي يدرس لغتها وبنظامها الكتابي، وعالم اللغة الجغرافي يمكن أن يدله على جوانب الأهمية في لغته، وسبب هذه الأمية، وما أقسامها وصلاتها، وما الأسباب التي تدعو إلى دراستها، وعالم اللغة الوصفي يمكن أن يقدم له معلومات ذات قيمة عظمى

ص: 254

تمس واقع اللغة المتكلمة مساسا مباشرا، سواء في وضعها المستقل، أو مع مقارنتها بلغة المتعلمين.

وهذا لا يمكن عمله إلا في حالة ما إذا قدمت المعلومات بصورة واضحة، وبلغة ظاهرة يمكن أن يفهمها معلم اللغة بسهولة، وأي استعمال للمصطلحات الفنية الخاصة سوف يفوت هذا الغرض، وهذه المعلومات لا بد أن تكون متعلقة بالأمور الهامة لا التافهة، فلا تحوي إلا النقاط الرئيسية الخاصة بالتركيب الصرفي والفونيمي للغة موضوع الدراسة، ونقاط الخلاف الأساسية مع لغة المتعلمين، ومن ناحية أخرى فإن النقاط ذات الأهمية الخاصة لا يصح أن تغفل وهي كثيرا ما تغفل نتيجة الرغبة في جعل اللغتين قابلتين للصب في قالب نحوي عالمي مثالي، أو للرغبة في وضعهما على نفس المستوى اللغوي الجغرافي نتيجة لفهم خاطئ لمعنى المثلية أو التعادلية equalitarianism. وفي حالة اللغة المنقسمة اجتماعيا أو ثقافيا فإن المعلومات التي يجب أن يقدمها عالم اللغة الجغرافي هي تلك المتعلقة باللغة المشتركة التي يتكلمها المتعلمون من الناس، لأن هذا المستوى من اللغة هو في العادة موضوع تدريس معلمي اللغة، وموضوع دراسة التلاميذ، فيما عدا حالات خاصة.

وأهم من كل هذا أن يكون التحليل دقيقا، وليس مؤسسا على ملاحظات عابرة أو تعميمات سريعة. إن اللغات ظواهر معقدة جدا، وهي بعيدة كل البعد عن أن تملك التقنين المبالغ في تيسيره، كما يحاول بعض اللغويين الوصفيين أحيانا، وليس كافيا بأي حال من الأحوال أن تجمع أفرادا قليلين من أبناء اللغة الذين يتشابهون في لهجتهم لكي تصل في النهاية إلى وضع نحو وصفي للغة كبيرة ذات حضارة معاصرة، وإذا نحن فعلنا ذلك فإننا سنصل في النهاية إلى نحو وصفي لبعض اللهجات الفردية أو اللهجات العامة، ولكننا لن نصل لشيء يرضي حاجة معلم اللغة.

وإذا توافرت الظروف الملائمة يمكن أن يتحقق تعاون مثالي بين عالم اللغة

ص: 255

ومعلم اللغة، ولكن إذا سمح اللغوي لدراسته أن تعكس آراء نظرية قد يمكن أو لا يمكن تبريرها في واقع اللغة العام، وفي معناها الواسع، وفي فلسفة بنائها ولم تكن تقبل التطبيق إلا جزئيا على مواقف معينة، أو نوع من المادة اللغوية في متناول اليد فإن ذلك يسبب اضطرابا ومتاعب جمة.

وهناك نقد حقيقي يوجه إلى الدراسة الوصفية للغة، وهو خاص بكثرة مصطلحاتها وتعددها بشكل ملحوظ، وهناك تفسير لهذا ولكنه لا يعد تبريرا يتمثل في محاولة علماء اللغة الشبان المتحمسين أن يسدوا حاجات هذا العلم الوليد على وجه السرعة، ومجاراة كل هذه المصطلحات الجديدة التي يستعملها علماء اللغة الوصفيون، والتي قد تصل إلى بضع مصطلحات للظاهرة الواحدة تحتم السعي لوضع -ليس فقط قائمة بالمصطلحات أو معجما لغويا- ولكن دائرة معارف كاملة. وقد بذلت محاولات سابقة لتأليف معاجم لمصطلحات علم اللغة مثل معجم Marouzeau، أو المعجم الذي وضعه مؤلف هذا الكاتب ولكن هذه المعاجم أصبحت بسرعة فائقة متخلفة في أقل من عشر سنوات وليس هذا بسبب تغيير في الفرع التاريخي أو الجغرافي، ولكن بسبب تغيير في الفرع الوصفي وحده، وهناك محاولة أخرى تمت أخيرا، ليس بقصد تعريف المصطلحات، ولكن ببساطة بقصد اقتباسها في سياقها الذي استعملها فيه الكاتب الذي وضعها، ولكن حتى هذه المحاولة ما تزال في حاجة إلى متابعة دائمة حتى اللحظة الحاضرة، بالإضافة إلى أنه يعيبها عدم غنائها من الناحية التعريفية، وهناك نداء ملح يستصرخ علماء اللغة الوصفيين أن يتفقوا على مصطلحات لعلمهم تتسم بالثبات والعمومية، لكي يصبح تناول المادة أمرا سهلا، وبخاصة للدارسين المبتدئين، ومما هو جدير بالذكر أن مؤلف هذا الكتاب قد لاحظ وجود خلاف في المصطلحات يصل إلى حد 75% بين عملين مكتوبين على يدي عالمين لغويين وصفيين مشهورين، كثيرا ما كانا يتقابلان وجها لوجه وعلى الرغم من تناولهما نفس الظواهر والعمليات اللغوية.

ص: 256

وكثيرا ما يكتنف الغموض كتابات اللغويين في هذا الميدان، وهذا يرجع جزئيا إلى الكثرة الكثيرة من المصطلحات العلمية، وجزئيا إلى الطبيعة الثقيلة التي يتميز بها الفكر العلمي الأكاديمي، وإن الشعار "لا تعرف في كلمات ثلاث بسيطة، وفي عبارة قصيرة، ما يمكن أن تعرفه في عشر كلمات طويلة غير عادية " يبدو هو المتحكم في بعض المؤلفين. وفي هذا الخصوص فإن عالم اللغة الوصفي لا يعد وحده مذنبا في المجال التطبيقي، بل يشاركه علماء آخرون في حقول كثيرة، مثل علم النفس، والفلسفة، وعلم الاجتماع، والتربية، والإدارة. وما دام هذا الطابع أمرا فرديا فإنه من الصعب مواجهته أو معالجته بدواء عام شامل.

وهناك اتجاه ظهر لبعض الوقت في علم اللغة الوصفي، وهو الميل نحو الإبهام والغموض، وإن النزول بعلم اللغة الوصفي إلى مستوى القضايا والنظريات الرياضية الذي بدأه Hjelmslev فيما سمي بالتحليل شبه الرياضي للغة glossematics1 لا يحقق أي منفعة لا لعلم اللغة ولا للرياضة. إن موضوع علم اللغة هو اللغة، وإذا عجز علم اللغة عن أن يجعل نفسه واضحا ومفيدا في أبحاثه وموضوعاته التي يتناولها من غير الاستعانة بعلم لا توجد بينهما علاقة واضحة فقد فشل في أداء مهمته، ومثل هذا يقال عن المبالغة في استعمال أبحاث الفلسفة أو علم النفس أو ما وراء علم اللغة، المبنية على مجرد مزاعم غير ثابتة. إن علم اللغة يجب أن يكون واقعيا، لا باحثا فيما وراء الطبيعة.

وهناك اتجاه لغوي آخر نحو معالجة الجزئيات الدقيقة، ووصف نقاط ذات

1 شرح المؤلف هذا المصطلح في معجمه Glossary of linguistic Terminology بأنه تحليل شبه رياضي للغة مؤسس على التوزيع والعلاقات المتبادلة بين الجلوسيمات glossemes، وذكر أن هذا المصطلح قد وضعه Hjelmslev ومدرسة كوبنهاجن، ثم شرح المصطلح glosseme بقوله: إنه "أصغر وحدة ذات معنى"، أو أنه أصغر وحدة يمكن أن يصل إليها التحليل "اللغوي" أو "الوحدة التي لا تقبل التقسيم" أو "كل ما يحمل معنى""ص106". "المترجم".

ص: 257

أهمية ضئيلة، أو منفعة قليلة، في تفصيلات واسعة، وبينما هو ممكن -على وجه العموم- أن تضع نظاما عاما للتنغيم ودرجة الصوت والمفصل في لغة معينة فإنه ليس من الممكن أن تعالجها في بساطة بالغة، وبشكل يسمح بالقول بأنه:"يوجد في الإنجليزية الأمريكية أربع درجات للصوت، وهي تستعمل بشكل كذا وكذا"، لأنه توجد خلافات كثيرة بين المتكلمين الأفراد، وإن التفرقة بين Light housekeeper و Lighthouse keepr ربما يثير الدهشة، ولكنه في نفس الوقت لا يقدم إلا معلومات ضئيلة صاقة، فاللغة تعتمد إلى حد كبير على السياق لتحقيق التفاهم، وهي تتضرر كثيرا بذكر التفصيلات والخصائص الدقيقة التي نادرا ما يلاحظها السامع.

وبالإضافة إلى هذا، فإن هناك نفورا من تطبيق بعض الحقائق التي توصل إليها علماء اللغة الوصفيون والمقارنون على المشاكل العملية كتعليم اللغة. وإليكم أمثلة قليلة لذلك:

1-

الأهمية الزائدة عن الحد التي أعطيت للتقسيم المقطعي "تقطيع الكلمة إلى أجزائها المقطعية، كجزء مما يسميه اللغويون الوصفيون المفصل Juncture " في معظم اللغات الغربية غير الإنجليزية. وإنه مما لا يمكن تأكيده بدرجة كافية أن أسرع طريق وأفعله لاكتساب طريقة نطق ابن اللغة في أي لغة مثل الإيطالية أو الإسبانية أو الفرنسية أو حتى الألمانية أو الروسية هو أن تقطع الكلمة إلى مقاطعها الحقيقية تبعا للنماذج المقطعية للغة" وهذا لا يتطابق دائما مع قواعد اللغة المكتوبة لتقسيم الكلمات حينما تقع في أواخر الأسطر، وأن تنطق كل مقطع على حدة، وبطريقة متميزة، ثم بعد ذلك وضع المقاطع بعضها بجانب بعض ونطقها بنفس السرعة التي تنطق بها في الكلام العادي.

2-

التماثل أو التقارب بمحض الصدفة، أو حتى التطابق الكامل لمخرج الصوت Ppint of articulation -وربما مع تعديلات بسيطة-

ص: 258

بين فونيمات تمثلها لغتان مختلفتان برموز كتابية مختلفة مثل الأصوات الإنجليزية الانفجارية اللثوية، ومثل الراء المكررة في الإيطالية والإسبانية "تتلقى أذن الإيطالي الجملة الإنجليزية get out of her على أنها gherare hir". ويوجد غالبا تماثل في الصفة والمخرج بين الحركة الإنجليزية القصيرة i التي في it، و git -مع إطالة خفيفة- وبين الصوت الروماني الضيق "e" الموجود في الكلمة الإيطالية Vedere، أو الإسبانية ver.

3-

ما هو ثابت من أن لغة ما غالبا ما تنتج -استثناء أو مصادفة أو تحت ظروف طارئة- ما يعد فونيما أصليا أو عنقودا فونيميا Phoneme cluster مقررا في لغة أخرى، اللغة الإنجليزية ليس عندها تقابل فونيمي بين الصوت الساكن المفرد والمضعف مثل الذي يظهر في الإيطالية واليابانية والمجرية ولغات أخرى. ولكن حينما ينطق المتكلم الإنجليزية كلمة Wonderful كما لو كانت wunnerful، أو يصيح مفتش القطار في صوت جهوري Allab board يوجد الساكن المضعف بدون المفصل الموجود في مثل Unnamed. والإنجليزية لا تسمح بوجود العنقود الصوتي الأولى mch "الروسية 'mchat" ولكن كلمتين إنجليزيتين مثل: Cream cheese مع حذف crea سوف يمكن المتعلم من التدريب الكافي الذي يحتاجه.

وإن عدم وضوح الرؤية بالإضافة إلى روح الديمقراطية الزائفة ليبدوان المسئولين عن اعتقاد بعض علماء اللغة الوصفيين أن كل اللغات تعد على قدم المساواة، ولربما كان ذلك صحيحا من الناحية التجريدية، ولكن عالم اللغة الجغرافي الذي يتناول الحقائق لا التجريدات يعلم أنه لا احتمال في المستقبل المرئي لوضع لغة Menomini أو Ojibwa مثلا على قدم المساواة مع الإنجليزية أو الروسية، فيما عدا في جانب واحد هو الناحية الوصفية. أما من

ص: 259

الناحية التاريخية أو الجغرافية فلا وجه للمقارنة مطلقا.

ويوجه نفس النقد إلى الاعتقاد الخاطئ أن أي طراز داخل اللغة يعد حسنا كأي طراز آخر، مع ما يستتبعه ذلك من النصيحة القائلة "اترك لغتك وشأنها" ودع المقادير تجري في أعنتها، وقد ظهر ذلك بشكل واضح في الجدل الملتهب الذي ثار بعد ظهور Webster's third international dictionary الذي وضع طبقا للأسس الوصفية التي تغفل وجود فروق بين الاستعمال الجيد والصيغة النموذجية والصيغة الرديئة والعامية وحتى المبتذلة.

إن الطبقية موجودة بين أشكال اللغة تماما كما هي موجودة بين اللغات. إن بعض اللغات تطاوعك أكثر من الأخرى، وتخدمك بصورة أفضل كوسيلة للاتصال الذي يعد أهم وظائف اللغة، ومع ذلك فلندرس بكل وسيلة ممكنة لهجات سكان الجبال، أو قطاع الطريق، سواء من وجهة النظر الوصفية الخالصة، أو لتحقيق أغراض خاصة. ولكن دعنا لا نعرض لدعوى أن كل أشكال اللغة من جميع النواحي تعادل اللغة المشتركة التي يتحدث بها كل المواطنين، مع بعض الاختلافات المحلية البسيطة.

وينبع من نفس الخطأ الأيديولوجي ما يقال عن "المتكلم الوطني"، والاعتقاد بأنه لا يخطئ، وأن الصواب والخطأ أحكام تطلق على اللغة حين يستعملها الأجانب، ومن جهات كثيرة جدا -بعضها ذوقي ذاتي محض، وبعضها قائم على أساس من تيسير الاتصال- توجد حالات وحالات كثيرة تكون لهجة الأجنبي المثقف فيها أفضل من لهجة الوطني الأمي السمجة، وإن الأمريكيين الذين لا يجدون صعوبة في فهم Charles Boyer سوف يجدون صعوبة في فهم بعض المواطنين في مناطق أمريكية معينة، ولا يعني هذا أننا لا ينبغي أن نجاهد في تعلم وتعليم اللغة بطريقة نطق تقرب من النطق الوطني ما أمكن، ولكنه يعني ببساطة أن المرة الوحيدة التي يعتبر فيها نطق المتكلم الوطني الخالص نطقا بدائيا إنما ترتبط بأعمال المراقبة والتجسس.

ص: 260

وبعض اللغويين الوصفيين يجدون صعبا على أنفسهم أن يخفوا نفاد صبرهم بالنسبة للصورة المكتوبة للغة، بل إن منهم أكثر من هذا من يزعمون أنه لا توجد لغة مكتوبة، وإنما يوجد تقابل بين الكلام -الذي يعد اللغة الحقيقية- وبين الكتابة، وإلى جانب الحقيقة أن اللغة المكتوبة تعد -عادة- جليلة الشأن بالنسبة لعالم اللغة التاريخي في دراسته الفلولوجية، فإن عالم اللغة الجغرافي يمكن كذلك أن يشير إلى الدور الكبير الذي لعبته اللغة المكتوبة في كل اللغات الحضارية، وإلى أن الحكومات في جميع أنحاء العالم قد وجدت أمرا ضروريا أن تحاول القضاء على الأمية بين أبنائها، وإذا كانت الكتابة ينظر إليها على أنها فقط رمز الكلام، فيجب ألا ننسى أن الكلام في ذاته يعد فقط رمزا للفكر، من غير النظر إلى مرتبته العليا أو السفلى، وإن انتقال الدلالة -التي هي الهدف الأساسي للغة- يمكن أن يتأثر بالكتابة تماما كما يتأثر بالكلام، كما هو ثابت من النظم الكتابية التي تعبر عن الفكرة بالصورة المكتوبة مباشرة متخطية اللغة المكتوبة.

والمعاناة التي لا يمكن إخفاؤها بسهولة، التي يشكو منها كثير من علماء اللغة الوصفيين ضد زملائهم التاريخيين الذين يعد عملهم متعلقا بتواريخ أقدم منهم، وضد زملائهم الجغرافيين الذين يتناولون أمورا أكثر تعلقا بالتطبيقات العملية لعلم اللغة في الحاضر والمستقبل لتعد أمورا ذاتية، ومن المؤمل أن تختفي بمرور الوقت بناء على ما هو باد من إمكانية وجود توازن بين فروع علم اللغة الثلاثة في المستقبل القريب، وإن بعض علماء اللغة الوصفيين في الواقع ما يزالون في حاجة إلى أن نذكرهم أن اللغات كانت تتكلم وتتعلم وتعلم وتدرس وتناقش مدة طويلة قبل وجود Boas، و Bloomfield وأن هناك مناهج أخرى للدرس اللغوي غير مناهجهم يمكن أن يتوصل إليها، وربما كانت في بعض الأحيان أرجح من مناهجهم. إن العلم ليعد علما فقط حينما يظل محتفظا بعقليته المتفتحة، وحينما يسمح بالمناقشة الحرة، وإلا فإنه ينتكس إلى مجرد قضايا أو أحكام تحكمية لا تستند إلى دليل أو برهان.

ص: 261

علم اللغة التاريخي:

لقد أسلم من سوء الخظ علم اللغة التاريخي نفسه منذ البداية إلى شطحات الخيال، وقد كان من السمات الواضحة لعلماء اللغة التاريخيين محاولتهم ربط التطور اللغوي بحادثة تاريخية أو أخرى، وإعطاؤهم صفة السببية والتأثير لظواهر ربما حدثت تلقائيا، أو بمحض الصدفة.

والآن فإن الاتجاه المعاكس الذي يحاول فصل التطور اللغوي نهائيا عن حياة الناس متكلمي اللغة يعد هو الآخر اتجاها غير مرغوب فيه، إذ لا بد في كل الأمثلة من وجود علاقة التأثير أو السببية، بغض النظر عن نوعية هذا السبب أو المؤثر. وليست المشكلة في محاولة البحث عن الأسباب التي أدت إلى التغير اللغوي، وإنما في محاولة استخلاص الأسباب، ووضع اليد عليها قبل استيفاء الأمثلة والشواهد، وأسوأ من هذا الآن ذلك الاتجاه البادي من بعض اللغويين التاريخيين والمتمثل في محاولة تصفية الشواهد لتناسب أغراضهم، مع استبعاد الجزء الذي لا يماشي آراءهم المسبقة. وإعطاء اهتمام زائد لجزء آخر يماشي أحكامهم التي وضعوها قبل بدء البحث.

وإلى هذا الاتجاه المتطرف الذي اتسم به تاريخيو القرن التاسع عشر، يرجع قدر كبير من رد الفعل في الاتجاه المقابل الذي تم عليه يد الممارسة اللغوية الحديثة لعلم اللغة الوصفي التركيبي، التي تعاون أفرادها في إرساء دعائم البحث الميكانيكي المنهجي الذي اعتمد أساسا على الملاحظة المباشرة. ولكن هذه المناهج أيضا من الممكن أن يتسرب إليها سوء الفهم، وخطأ المعالجة، كما تحدثنا من قبل.

ومنذ اللحظة التي بدأ فيها البحث اللغوي يعتمد -وذلك مستهل القرن التاسع عشر- على المادة المسجلة والنقوش بدأ اللغويون يتجهون نحو الملاحظة ذات الطبيعة الشاملة، واهتم اللغويون كذلك بموضوع تطور اللغات، وبخاصة

ص: 262

في مجال الأصوات "لم تكن نظرية الفونيم قد ظهرت بعد"، ولم يصدروا أحكامهم بطريقة عشوائية، ولكن تبعا للنموذج المطرد، ومن أمثلة ذلك نماذج التقابلات الصوتية لفروع المجموعة الهندية الأوربية التي تعد قطعية ومطردة، وهي تزعم القطعية والاطراد بنفس الدرجة في أي فرع من فروع هذه المجموعة تعرض لنفس الدراسة المقارنة، ويبدو من الحقائق المؤكدة القول بأنه إذا بدأ نوع من الكلمات في اللاتينية أو الإغريقية أو السنسكريتية أو السلافية بحرف p، فإن المجموعة الجرمانية تتخذ في مقابله حرف f، والمجموعة الأرمينية حرف h، وربما أسقطته المجموعة الكلتية إذا وقع في أول الكلمة ويبدو حقيقة مؤكدة بنفس الدرجة أن يقال: إنه إذا احتوت كلمة لاتينية على العنقود الصوتي "-ct-" فإن فرعه الفرنسي أو البرتغالي يحوله إلى "-it-" والإسباني إلى "-ch-"، والإيطالي إلى "-tt-"، والروماني إلى "-pt-"، وهناك في الحقيقة بعض الاستثناءات، ولكنها يمكن أن يعلل لها بطريقة أو بأخرى، وقد قاد هذا بعض اللغويين التاريخيين إلى أن يضعوا نظرية "القانون الصوتي" Sound law، ويصلوا بها إلى حد القول بأنه في منطقة معينة، وفي فترة معينة، حين يظهر ابتكار أو تحديد، فإنه يؤثر على كل الكلمات المشتملة على الصوت محل الدراسة بدون استثناء، ومعنى هذا أن القوانين الصوتية قد أعطيت صفة الحتمية والإلزام تماما كما أعطيت نظريات نيوتن من قبل، ولكن عمومية هذه النظريات قد دحضت فيما بعد على يد Einstein وآخرين.

وقد خلق هذا الاتجاه العنيد الصلب اتجاها لغويا مضادا، ولكن من تبنوه ومضوا في طريقه إلى نهايته كانوا قلة، وكان رأي هذه القلة نفي أي نفوذ أو سلطان للقوانين الصوتية، وادعاء "تحكم الفرد" باعتباره العامل الأساسي في التغيير اللغوي، وقد توصل بعضهم في النهاية إلى رأي وسط عن طريق تعديل "القانون الصوتي" ليشمل الاستثناءات المحتملة التي تأتي نتيجة الاقتراض الخارجي أو اللهجي أو الثقافي، أو من تأثير القياس، أو غير ذلك، بل إنه

ص: 263

يجب أن يكون مفهوما أن القياس ليس كالاقتراض. الاقتراض حقيقي، وقابل للإثبات بوجه عام، أما القياس فبخلاف ذلك إلا في حالات قليلة معينة.

وعلى أي حال فمن الممكن أن يقال إنه بينما يمد القياس المعتقدين في قوة القانون الصوتي بخط دفاعي هائل، لأنه يمكنهم من إزالة الاستثناءات من طريقهم فإن له في نفس الوقت عيوبه الخاصة به، إنه ينتهي بوضع قوانين صوتية إضافية أضيق وأضيق في مجال التطبيق حتى إنها في النهاية -في حالات كثيرة- تتطابق مع تحكم الفرد الذي ينادي به اللغويون الأكثر تفكرا، المعارضون للقانون الصوتي. وربما كان أقرب إلى القبول أن تحدد الاتجاهات الصوتية التي تخضع لها معظم صيغ اللغات الموصوفة، دون أن يدعى لها قوة

ص: 264

القوانين الصارمة، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية الشذوذ أو الانحراف الناتج عن تعدد الأسباب، ومن بينها القياس. ودعنا نعترف بأنه في كل تأثير يوجد مؤثر بدون شك، ولكن دعنا في نفس الوقت نعترف بأنه ليس من السهل دائما تحديد المؤثر.

وقد قاد الاعتراف الراسخ بالقياس على أنه قوة مؤثرة في التغير اللغوي إلى عدد من الانحرافات في التطبيق، من ذلك مثلا عرض الأقيسة الغامضة، أو المشكوك فيها كحقيقة ثابتة في الكتب الدراسية وغيرها، ولا يوجد أي خطأ في تقديم الافتراضات، ولكنها يجب أن تؤخذ بحذر على أنها افتراضات إلى أن يقوم الدليل على صحتها.

وإن طريقة بعضهم في استخلاص نتائج شاملة من شواهد غير كافية تبدو من وقت لآخر في أعمال اللغويين التاريخيين. فهناك مثلا نظرية الطبقات السفلى والطبقات العليا السلالية، التي تنسب التغيرات التي تحدث أثناء تطور لغة معينة ولتكن اللاتينية إلى الفرنسية، إما إلى عادات كلتية سابقة في نطق الأصوات، إو الى نفوذ متأخر للغزاة الجرمانيين، وإنه وإن كان من السهل جدا إثبات هذا النفوذ فيما يمس المفردات "الفرنسية تحتوي على كلمات كثيرة موروثة أصلا عن الغاليين وغيرهم، ومقدمة إليها بوجه خاص على أيدي الفرنكيين، في حين أن الإسبانية تحتوي على كلمات عربية وأيبيرية لا تظهر في لغات رومانسية أخرى"، فإن الدليل على أن هذا النفوذ يمتد إلى النماذج الصوتية للغة أمر مشكوك فيه، ولذا فهو موضع نزاع، ومع هذا فإننا نجد لغويين ذوي شهرة عالية يوسعون مجال نفوذ الطبقة السفلى ليشمل التطور الفونولوجي، وينظرون إلى ذلك على أنه حقيقة ثابتة، ويستخلصون منه عديدا من النتائج البعيدة التصديق، نتائج ليست ذات طبيعة لغوية فحسب، بل وحتى طبيعة تاريخية.

ومن الأمور المشكوك فيها كذلك نظرية المناطق الجانبية Lateral areas التي تطورت بمرور الوقت على أيدي لغويين مشهورين أمثال Meillet

ص: 265

و Bertoni. وهنا يفترض أن القسم المركزي للمنطقة اللغوية يقوم بدور مصدر الإشعاع للابتكار أو الابتداع، وأن الأجزاء النائية من المنطقة عادة ما تنجو من هذا النفوذ، وبالتالي فهي تكشف عن ملامح محافظة مشتركة في مناطق تفصلها مسافات بعيدة، فحيث نجد -على سبيل المثال- اللغتين الكلتية والهندية الإيرانية تتفقان في ملامح مشتركة لا تظهر في المناطق المتداخلة الهندية الأوربية، فإن هذا يعزى إلى النزعة المحافظة للمناطق الجانبية. وحينما نجد اللغتين إلى Hispanic، والـRumanian تظهران ملامح قليلة متماثلة ربما تكون قد حدثت بمحض الصدفة فإننا ننسى الجزء الأعظم من الظواهر الأخرى موضوع الاختلاف، ونصدر مع ذلك حكما بترابطهما شبه الغامض، وقد أقام اللغويون الرومانيون علاقة بين الإيطالية الجنوبية الوسطى، والرومانية، ليس على أساس سوى اشتراكهما في إسقاط الحرف اللاتيني النهائي "-s-"، و"يضاف إلى هذا نطق أصوات صامتة واقعة بين علتين، ولكن الأدلة على ذلك ضعيفة". أما كل الملامح الأخرى التي ترشح انضمام الإيطالية للغات الرومانسية الغربية، بينما تبعد الرومانية عن كليهما فإنه يتغافل عنها. وهذه الطريقة تتجاهل أغلبية الشواهد، وتركز على خاصة أو خصائص تخدم نظرية مسبقة، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى خلق إحساس بأن علم اللغة التاريخي -على عكس علم اللغة الوصفي- يتصف إلى حد ما بأنه علم مليء بالأوهام.

وهناك مثال آخر لهذه العقلية حديث الوقوع، وهو الاعتقاد في إمكانية إعادة تركيب التاريخ اللغوي على أسس لغوية تاريخية Glottochronology والاعتقاد في العمليات الإحصائية المعجمية Lexicostatistics التي سبق وصفها بوضوح1، والمبنية على شواهد غير كافية يلتقطها الباحث بسرعة، وشيء آخر يدخل فيما وراء علم اللغة matalinguistics، وقد غلفه في الظلام عالم ذكي -ولكنه لغويا غير مؤهل تأهيلا كافيا- وهو B.L. Whorf.

1 انظر المبحث رقم 36 "المترجم".

ص: 266

ومن أهم ما ينادي به أن نمط اللغة المتكلمة يؤثر في عقلية المتكلمين بها، وفي سلوكهم، بل ويرغمهم على التفكير والتصرف في اتجاهات معينة، وفي رأينا أن هذا ربما يحدث جزئيا بمجرد أن تستقر اللغة، ولكن يجب ألا ننسى أن اللغة هي التي تطور أساسا لتناسب عقلية المتكلمين ونشاطاتهم، وليس العكس.

إن علم اللغة التاريخي يمكن أن يكون موضوعا شائقا للدراسة، ويحقق في نفس الوقت مستوى علميا رفيعا، وهو يجب -على كل حال- أن يعدل منهجه الأساسي تعديلا ليس بالكبير، طبقا لما تقتضيه ضرورة تطبيق هذا المنهج ولتحقيق التواؤم مع القواعد المبنية على الشواهد الكافية، وكل المادة المناسبة يجب أن تجمع وتفحص بدقة وتقدم للدراسة، ولا يصح إهمال أي منها أو إسقاطه، لأنه يناسب نظرية أخرى للبحث، وحينما تكون الشواهد الموضوعة تحت اليد متعارضة، أو غير كافية لتكوين حكم قطعي -كما يحدث في كثير من الأحيان- فإنه يجب اللجوء إلى الافتراض الذي تسمح به المادة، ويظل الفرض محلا للتحقيق والفحص إلى وقت متأخر، حين تظهر شواهد جديدة يمكن الاعتماد عليها.

علم اللغة الجغرافي:

كثيرا ما ترتفع الأصوات بالشكوى من عجزنا عن أن نحشد ونعبئ العدد الذي نحتاج إليه من المتكلمين الأجانب، وفشلنا في أن نجذبهم إلى حقل عملنا، ونحولهم إلى وسطنا بطريقة نافعة "حوالي 20 مليونا منهم" لأغراض محلية، أو تعليمية لغوية، وفي حين يعد هذا النقد على حق من بعض النواحي، فإننا يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه ليس كل المتكلمين الأجانب "بل ليس معظمهم أو قدر كبير منهم" مؤهلين لمساعدتنا في هذا الميدان، وتقديم تعليمات كهذه إلينا أو حتى لإعطائنا معلومات قيمة أو دقيقة تتعلق بمنطقتهم الخاصة ولغتهم، وفي حين أن هؤلاء الناس قد يمكن اتخاذهم رواة لغويين في ظروف مناسبة،

ص: 267

ومع استخدام الفحوص والاختبارات المطلوبة، فإننا يجب أن نكون حذرين من حشد معلومات خاطئة لغوية أو غيرها تحت اسم تجميع المعلومات.

وهناك نقد هام يتعلق بعلم اللغة الجغرافي، ويمس جانبا منه، وهو أن موضوع دراسته ومباحثه تتغير باستمرار، وتتعرض لأنواع كثيرة من الضغوط والتغييرات. ولكن نفس النقد يمكن أن يوجه أيضا إلى فروع علم اللغة الأخرى ربما فيما عدا الملامح الأساسية الكبرى في علم اللغة الوصفي. وحتى هذه الملامح ما تزال تتعرض للتعديلات الكثيرة الدائمة. إن طبيعة اللغة تجعلها في حركة دائمة، ولذا فدراستها متحركة كذلك لا جامدة، وعلى كل حال فمن الممكن تماما أن نركز على الجوانب الأكثر موضوعية واتصالا بالحقائق في علم اللغة الجغرافي، بالإضافة إلى صقل منهج بحثه، وإجراءات دراسته، لإخضاعها لمتطلبات العلم، وشروطه الأساسية.

وإن المشكلة الحقيقية لعلم اللغة الجغرافي هي أنه لم يلق إلى الآن التأييد والعناية الكافيين، فحتى الآن نجد اهتمامات علمي اللغة الوصفي والتاريخي تنصب -إلى حد كبير- على تخصصاتهما لدرجة أنهما يعرضان الجانب اللغوي الجغرافي لعلم اللغة على أنه شيء له علاقة ضئيلة بهما. والحكومات والجهات المعنية التي كان يجب أن تعطيه اهتماماتها المباشرة قد فشلت حتى الآن في إبداء اهتمامها المطلوب.

وقد يحسن أن يعاد القول إنه في خلال الحرب العالمية أنشأ "مكتب المعلومات الحربية""O.W.I." Office of war Information قسما خاصا أسماه "مكتب تحليل الوسائط" كانت وظيفته الرئيسية جمع الحقائق والمعلومات عن اللغات المتكلمة في كل أنحاء العالم، وفهرستها لأعمال استراتيجية مباشرة. وقد كانت هذه الدراسة مقرونة بإحصاءات عن الأمية، وبيانات عن قرابات اللغات، وبالطبع عن تعداد السكان، وحتى من قبل نهاية الحرب كان هذا المكتب قد حل، وكانت معلوماته المجموعة قد تشتتت، ولم يبق

ص: 268

هنا وهناك إلا باحث لغوي أو آخر، كان على صلة بهذا المكتب حفظ أو طبع بعض هذه المادة المجموعة1.

أما الأعمال الحرة التي تضع عادة برامج خاطفة في اللغات لأغراض وقتية أو قليلة الأهمية "مثل كيف تقول Have a cake بلغات متعددة، أو التأكد من أن اسم إنتاج جديد لا يرتبط بكلمات أخرى مسيئة أو مثيرة للضحك في أي من الأقطار التي سيباع فيها" فقد أخذت شكلا جادا فقط حينما أصبحت في حاجة إلى متخصصين في اللغات والمناطق، تلبية لحاجتها ومتطلباتها الخاصة.

"وعلى سبيل المثال فإن Standard oil قد أعدت برنامجا في العربية والإسبانية والإندونيسية بطريقة مختصرة للفنيين الذين خصصوا للخدمة في مناطق لها فيها آبار بترول". ولكن معظم هذه النشاطات كان يتسم بطابع الارتجال والتنوع.

إن ما يحتاج إليه في الحقيقة هو معهد لعلم اللغة الجغرافي يحظى بتأييد الجهات الحكومية والحرة على السواء بقصد الإشراف على البحث العلمي وتجميع الحقائق، وجمع المعلومات التي توضع تحت طلبهما كليهما، وطلب اللغويين كذلك، وبقصد تدريب الخبراء في المناطق واللغات -وحتى في علم اللغة الصرف- التي تتعلق بمناطق لا يقع الطلب كثيرا عليها، وليس لها فائدة تجارية مباشرة، كما هو الحال بالنسبة للمناطق واللغات التي تدرس في مناهج المدارس الثانوية العادية في الولايات المتحدة الأمريكية.

وإنه لمن غير المعقول أن نتوقع من شخص موهوب في هذه النواحي أن يتخصص في لغة أو منطقة يوجد في طلبها أمل ضعيف، أو مشكوك فيه، في حين أنه يعلم أنه لو تخصص في الفرنسية أو الإسبانية أو الألمانية مثلا فهو

1 انظر: Duncan Macdougald، Jr. في كتابه المطبوع في فلادلفيا عام 1944 بعنوان: The Language and Press of Africa.

ص: 269

يستطيع على أسوأ الفروض أن يحصل على وظيفة مدرس في أي مدرسة ثانوية محلية.

وإن معهد علم اللغة الجغرافي يجب أن يكون معدا ماليا، ليس فقط لتدريب اختصاصييه على لغات ومناطق يقل الطلب عليها، ولكن أيضا ليجد لهم عملا مجزيا حين ينتهون من دراستهم، أو حتى الاحتفاظ بمرتباتهم على قدم المساواة مع مرتبات الباحثين، إذا لم يكن هناك عمل فوري يمكن إلحاقهم به.

وحتى الآن فإن القوات المسلحة، ومكتب الخدمات الخارجية فقط هما اللذان حققا بعض القرب للمعهد اللغوي الجغرافي الذي نتصوره في مخيلتنا.

ولكن برنامج القوات المسلحة يقوم على التخصص في لغة واحدة، ولا يعطي ضمانات بالتوظيف في أعمال فيما عدا ما يتعلق باحتياجات القوات المسلحة، وهي احتياجات بطبيعتها متغيرة ومتقلبة ولا يمكن الاعتماد عليها.

ونتيجة لهذا ظهرت برامج خاطفة متتابعة، تعد قليلة القيمة بالنسبة للمنظمات ذات الأعمال الحرة، وكبيرة القيمة بالنسبة للحكومة، وبذلت جهود سريعة لمواجهة الاحتياجات التي تثور من وقت لآخر، دون اتباع خطة بعيدة المدى أو رسم مخطط لعدة سنوات مقدما كما يجب أن يكون.

والآن تبدو الحاجة ملحة إلى أعداد كبيرة من علماء اللغة الجغرافيين، يعمل بعضهم كخبراء عالميين فيما يخص الصورة العامة للغات العالم، ويعمل بعض آخر كاختصاصيين في الإحصاءات والأرقام الخاصة باللغة، وبعض ثالث للتخصص في بعض المناطق واللغات، ومثل هذه التخصصات لا يمكن أن ترتجل ارتجالا، وإنما هي تتطلب إعدادا طويلا مجهدا، وتدريبا شاقا، بل إنها تحتاج إلى تأييد وعون للمتخصصين بعد إنهائهم تدريبهم من أي شخص يمكن أن يستفيد من مجهوداتهم.

ص: 270

وإن إحدى ثمرات معهد علم اللغة الجغرافي سوف تتضح في جمع المعلومات التي لا شك ستكون محل ثقة الجميع، وتحت طلبهم، مع تعداد أو إحصاء لغوي شبيه بذلك الإحصاء الذي تم أثناء الحرب في مجال محدود وبصورة ناقصة على يد مكتب تحليل الوسائط التابع لمكتب المعلومات الحربية.

ص: 271