الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
33-
المنهج المقارن:
حينما تنقصنا الشواهد الكاملة يوجد هناك منهج آخر، يمكن اتباعه، وهو منهج كان رائجًا في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر على أيدي علماء اللغة التاريخيين العظماء "مثل Jones، و Bopp، و Rask والإخوة Grimm".
ويتضمن المنهج المقارن أساسًا وضع الصيغ المبكرة المؤكدة، المأخوذة من لغات يشك وجود صلة بينها جنبًا إلى جنب ليمكن إصدار حكم فيها بعد الفحص والمقارنة، ومن هذه المقارنة يمكن استنتاج شيئين:
أولا: درجة الصلة بين عدة لغات وضعت تحت الفحص، إذا كان هناك أي صلة.
وثانيًا: الشكل الذي يبدو أقرب صلة إلى اللغة الأم التي وجدت في الماضي والتي تعد الأصل المشترك لهذه اللغات، ومنها انشعبت جميعها.
ولعل الباحث يكون آمنًا حين يقرر انتماء لغات متعددة إلى أصل مشترك إذا وجد بينها تماثلا كافيًا في تركيباتها النحوية ومفرداتها الأساسية، وإذا لاحظ ازدياد قربها بعضها من بعض كلما اتجهنا إلى الوراء.
وإن الصورة لتبدو شيئًا كهذا:
_________
1 ذكر المؤلف في معجمه Glossary of Linguistic Terminology أن مصطلح Centum يطلق على اللغات الأوربية التي لم تتحول أصواتها الوقفية الطبقية مثل k و g إلى غارية أو لثوية في حين أن المصطلح Satem يطلق على اللغات التي تحولت بعض أصواتها الوقفية الطبقية إلى احتكاكية أو غارية أو لثوية "انظر 36 و239" وانظر:
Webster's Third New Intemational Dictionary. "المترجم".
وإذا نحن وضعنا -جنبا إلى جنب- كما فعل علماء اللغة التاريخيون في أوائل القرن التاسع عشر صيغًا من لغات قديمة تشكل مجموعة تظن قرابتها النسبية "السنسكريتية واليونانية واللاتينية والقوطية والسلافية القديمة والكلتية القديمة" يتضح في الحال حقيقة هامة، وهي أن تلك اللغات تشترك جميعًا في شيئين اثنين: أحدهما التراكيب النحوية الأساسية، وثانيهما المفردات البدائية، وشيء ثالث يتضح بعد الدراسة المقارنة لعديد من الكلمات التي تحتوي على فونيمات معينة؛ وهو أنه يوجد بين هذه اللغات تقابل فونولوجي فحين نجد بعضها يشتمل على صوت الـ"p" في أول الكلمة، نجد بعضها الآخر يضع مكانه صوت الـ"f" وبعضًا آخر صوت الـ"h" وأحيانا لا نجد لهذا الصوت مقابلا في بعض آخر.
وقد سمح هذا -ولا شك- للغويين التاريخيين بأن يتوصلوا إلى عمل جداول توضح التقابلات الفونولوجية بين اللغات، وأن يتنبئوا -مع قدر كبير من الثقة- بأنه إذا ظهر صوت "p" في أول الكلمة في لفظ في السنسكريتية واليونانية واللاتينية، والسلافية فسيظهر في شكل "F" في الجرمانية، وفي شكل "h" في الأرمينية، وسيسقط تمامًا في اللغة الكلتية، وبالإضافة إلى قيمة هذه الجداول باعتبارها دليلا على وجود علاقات قوية بين هذه اللغات التي أطلق عليها فيما بعد اسم lndo-European فإنها تساعد كذلك على إعطاء بعض التنبؤات عن الصورة التي كانت عليها اللغة الأم، فبعد أخذ عينات مختلفة من التركيبات النحوية، وخصوصًا المتطابق منها، وعينات من المفردات اللغوية، وأخرى من الفونيمات التي تأخذ دورًا بارزًا في الكلمات المتقابلة في مختلف اللغات يمكن للباحثين أن يعيدوا تركيب اللغة الأم، ولو بصورة تقريبية على الأقل، بمظاهرها وصيغها وهي لغة لم يصل إلينا منها أي تسجيلات مكتوبة ومن الممكن حينئذ أن يقال إن المقارنة ربما تؤدي إلى إعادة بناء لغة ما، وهو -في حد ذاته- شيء له طريقته الفنية ومنهجه الخاص.
وكما تؤدي الدراسة المقارنة إلى اكتشاف علاقات وطيدة بين مجموعة
من اللغات فإنها تؤدي إلى استبعاد عدد آخر عن المجموعة، فهي تقرر أن الإنجليزية، والألمانية، والإسكندنافية، واللغات الرومانسية، والسلافية، واللغات الفارسية، والهندية الشمالية، واليونانية، والألبانية، والأرمينية، ولغات أخرى معينة تعرضت لانقراض منذ آماد بعيدة كلها تقع تحت المجموعة الهندية الأوربية، ولكنها -في نفس الوقت- تقصي عن المجموعة لغات أخرى مثل الهنغارية، والفنلندية، والتركية والعربية، والعبرية، والصينية، واليابانية، وعددا آخر من اللغات، ولكن كثيرا من هذه اللغات نفسها يبدو مكونا لعائلات لغوية منفصلة يمكن تطبيق القوانين المقارنة عليها، وإلى جانب العائلة الهندية الأوربية، توجد عائلات أخرى مثل العائلة الحامية السامية "المصرية القديمة، القبطية، البربرية الحديثة بالنسبة للفرع الحامي، والأكادية القديمة، الفينيقية، العبرية الحديثة، العربية، الأمهرية بالنسبة للفرع السامي" ومثل العائلة الأورالية الألطائية Ural-Altaic، وتشتمل على الهنغارية والفنلندية والإستونية بالنسبة للفرع الأورالي، والتركية والمنغولية والأوزيكية والمنشورية بالنسبة للفرع الألطائي.
وعن هذا الطريق أصبح ممكنا من الناحية التاريخية تصنيف كثير من لغات العالم الهامة قديمها وحديثها، إلى عائلات. وهناك بعض اللغات التي استعصت على الدراسة المقارنة، وخصوصا تلك اللغات التي يتكلمها أناس متخلفون، والتي ليس لها صورة مكتوبة أو تقاليد تاريخية ولكن حتى مع هذه اللغات فإن الجهود الكبيرة التي استعملت المنهج اللغوي الوصفي مكنت المتخصصين أخيرا من تحقيق انتصارات باهرة في ناحيتي تصنيف اللغات وإعادة بنائها لدرجة أن معلوماتنا الحديثة عن تصنيف اللغات الهندية الأمريكية، أو لغات الإفريقيين الزنوج، ومعلوماتنا التاريخية عنها تعد معلومات خصبة غنية ما كان من الممكن تقدير الوصول إليها منذ قرن مضى.