الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من النهضة العلمية حتى عام 1800:
نقطة البدء في نظرنا هي وصف دانتي للغة الإيطالية المثالية في كتاب أصدره عام 1305 بعنوان De Vulgari Eloquentia، وقد قرن بدراسة صائبة عن توالد اللغات، وعن أصل اللغات الإيطالية والفرنسية والبروفنسالية، والعلاقة بينها، وبتصنيف دقيق في جملته للهجات الإيطالية. ثم أخذت النهضة تشق طريقها، ولكن ببطء وبطريقة غائمة نحو الآراء اللغوية الحديثة.
وقد كان الإسهام الأساسي الذي قدمته العصور الوسطى لعلم اللغة هو محاولة تقديم نحو عالمي صالح للتطبيق -مع إدخال تعديلات مناسبة- على كل اللغات، وقد كان هذا -من أحد الوجوه- إحياء لفكرة قديمة سيطرت على عقول الأوائل، وهي اعتبار لغاتهم فقط هي اللغات الوحيدة التي تستحق الدراسة والتوسع لتصبح لغات عالمية. والتغير الذي قدمه علم اللغة الوسيط هو أنه اعترف بلغات أخرى بالإضافة إلى اللاتينية واليونانية، حتى ولو كانت تلك اللغات تحتل مكانة ثانوية، وظل هذا التصور للنحو العالمي يحتل عالم اللغة فترة طويلة بعد اكتشاف لغات أخرى تختلف جذريا في التركيب عن اللغات الكلاسيكية، وإن كان اكتشاف هذه اللغات قد بدأ يلقي ظلالا من الشك على قيمته. ولربما كنا على صواب إذا قلنا: إن النحو العالمي ما يزال بروحه -إلى حد ما- يسيطر على عقلية اللغويين المعاصرين، لأن من بين الأهداف التي يهتم بالوصول إليها علم اللغة الوصفي -كما صرح بذلك دي سوسير نفسه- تحقيق مبادئ قابلة للتطبيق عالميا على كل اللغات "ولاحظ كذلك محاولة Whorf لعمل نحو جديد عالمي مبني على أساس علمي بحت". والفروق الأساسية بين النظرة الوسيطة والنظرة الحديثة تكمن في العناية بالعناصر اللغوية المختلفة،
والاهتمام بنوع معين من اللغات دون الأنواع الأخرى، ولكن علماء اللغة الوسيطين يمكن أن يلتمس لهم العذر فيما وقعوا فيه من أخطاء منهجية، على ضوء ما نعرفه عنهم من جهل بجميع اللغات التي لا تتصل بالمجموعة الهندية الأوربية، أو بمجموعة شبيهة من الناحية التركيبية، مثل المجموعة السامية التي تتضمن ضمن ما تتضمن اللغتين العربية والعبرية، وهما لغتان كانتا معروفتين إلى حد معقول لدى علماء أوروبا في العصر الوسيط.
ولكن باتساع المجال الأوربي أولا نتيجة للحروب الصليبية، وثانيا بسبب الرحلات والاكتشافات والريادات الجغرافية، أخذت النافذة تتسع لتطل على لغات أخرى جديدة غريبة، شرقية قصية، وإفريقية، وهندية أمريكية، وهي لغات لا يصلح لها تطبيق المعايير النحوية القديمة الشائعة إلا بالإكراه، كما يكره وتد مربع ليدخل في ثقب مستدير.
وإنه لمن الصعب أن نحدد بالدقة متى بدأ الشعور- خلال عصر النهضة- يتسرب إلى عقول العلماء بأن هذه اللغات المكتشفة حديثا لا تتفق قواعدها وأسسها مع نظرية النحو العالمي، على الأقل بالطريقة التي وصلتنا. وعلى كل حال فقد بدأت محاولات كثيرة لوضع نحو وصفي لبعض اللغات الحديثة والقديمة على السواء، وبدأت تظهر مناقشات وخلافات كان يشوهها في الغالب جهل العلماء بالحقائق المتعلقة بتصنيف اللغات وقراباتها اللغوية، وبدأت كذلك مناقشات تتعلق بمستوى الصواب اللغوي، وبمشكلة انقسام اللغة إلى لهجات، ومشكلة اللهجات الطبقية.
وإنه لمن الأهمية بمكان أن نقول: إن البحث والدرس وإن ظلا يعانيان من اضطراب المنهج وخطأ المقدمات فقد حققا في هذه الفترة تقدما ملموسا سار في عدة اتجاهات، لقد كان عقل عصر النهضة عقلا فاحصا، لقد أراد أن يعيش التجربة ويقيم الدليل، ويعرف كل شيء، ويبعد -بقدر الإمكان- عن عقلية العصر الوسيط التي كانت تتسم بالغيبية المطلقة، وتخلع صفة الأزلية
على الأشياء المؤثرة في الحياة، وترى أن ما يقع في هذا العالم إنما يقع بمحض الصدفة.
وقد حمل هذا الاتجاه -الذي امتد حتى نهاية القرن الثامن عشر- ثمارا كثيرة، وإن لم تكن جميعها ذات قيمة كبيرة، وبمجيء عام 1800 كانت كثير من الأسس اللغوية قد وضعت، وإن ظل هناك عيب واضح في البحث، وهو عدم التزامه منهجا سليما مستقرا يعطي ضمانات علمية دقيقة، وقد تم عمليا وصف كل اللغات المعروفة تقريبا بطريقة أو بأخرى. وإن أكره بعضها ليخضع للقالب الهندي الأوربي، وتم تقدم كبير في موضوع تصنيف اللغات، وإن وجدت بعض الآراء الخاطئة التي كانت تحتاج إلى تقويم، وبعض الاتجاهات غير العلمية التي أقيمت على التخمين والافتراض، أو على الجهد الفردي الذي يطرق بدون خبرة مجال اللغة، وقد جمعت في تلك الفترة شواهد كتابية كثيرة يمكن، أن تخدم الدراسة التاريخية اللغوية، وتساعد في رصد أطوار اللغات، وبعض النظريات الحديثة، مثل الصواب والخطأ في اللغة، ومثل الانقسامات اللهجية، ومثل المستوى الأدبي للغة قد طرحت على بساط البحث والمناقشة، وفوق كل هذا فقد ارتفع الوعي اللغوي، ووجدت اهتمامات لغوية كثيرة، وكل ما بقي في حاجة إلى معالجة هو اختفاء المنهج العلمي المستقر.