المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - ط عطاءات العلم - الكتاب

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌أحدهما: الولايات

- ‌ الولاية لها ركنان: القوة، والأمانة

- ‌فصلاجتماع القوة والأمانة في الناس قليل

- ‌كثيرًا ما يحصل للرجل إحدى القوتين دون الأخرى

- ‌فصلالقسم الثاني من الأمانات(1): الأموال

- ‌هذا القسم يتناول الرُّعاة(7)والرعية

- ‌ليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم

- ‌فصل(1)الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف:

- ‌ يجتمع مع الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين

- ‌لم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوانٌ جامع

- ‌كثيرًا ما يقع الظلم من الولاة والرعية

- ‌الظالم يستحق العقوبة والتعزير

- ‌ التعاون نوعان

- ‌المؤلفة قلوبهم نوعان: كافر، ومسلم

- ‌كثيرًا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل

- ‌ صلاح البلاد والعباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌إذا كان المحاربون الحرامية جماعة

- ‌ المقتتلون على باطل لا تأويل فيه

- ‌ إذا شَهَروا السلاح ولم يقتلوا نفسًا

- ‌ التمثيل في القتل

- ‌لو شَهَر المحاربون السلاح في البنيان

- ‌من آوى محاربًا أو سارقًا

- ‌ الواجب على من استجار به مستجير:

- ‌إذا قُطِعت يده حُسِمت

- ‌ تُقْطَع يده إذا سرق نصابًا

- ‌ الطائفة الممتنعة، لو تركت السنة الراتبة

- ‌ نفقةُ الإنسان على نفسه وأهله مقدَّمة على غيره

- ‌القتل ثلاثة أنواع:

- ‌من قَتَل بعد العفو أو أَخْذ الدِّية

- ‌النوع الثاني:

- ‌النوع(7)الثالث:

- ‌إذا كانت المَظْلَمة في العِرْض مما لا قصاص [فيه]

- ‌ حدُّ(2)القذف

- ‌أولو الأمر صنفان؛ الأمراء والعلماء

- ‌الواجب اتخاذ الإمارة(3)دينًا وقُربة

الفصل: ‌كثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل

الفاسد، كذي الخُويَصرة الذي أنكره على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال فيه ما قال.

وكذا حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما قصدَ به المصلحة من التحكيم، ومَحْوِ اسمه، وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم

(1)

. وهؤلاء أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم؛ لأن معهم دينًا فاسدًا لا يصلح به دنيا ولا آخرة.

و‌

‌كثيرًا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل

، فإن كلاهما

(2)

فيه ترك، فيشتبه ترك

(3)

الفساد لخشية الله تعالى بترك ما يُؤمَر به من الجهاد والنفقة: جبنًا وبخلًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«شرُّ ما في المرء شُحٌّ هالعٌ وجُبْن خالع»

(4)

.

قال الترمذي: حديث صحيح.

وكذلك قد يترك الإنسان العمل ظنًّا أو إظهارًا أنه ورع، وإنما هو كِبْر

(1)

انظر ما أنكره الخوارج على علي رضي الله عنه في «المعرفة والتاريخ» : (1/ 522 - 524) للبسوي، و «المسند» (656)، و «البداية والنهاية»:(10/ 564 - 570).

(2)

(ي): «كلًّا منهما» . وتشبه في الأصل: «كليهما» . وقد جرت عادة الشيخ على إلزام (كلا) الألف كما هو ثابت بخطه.

(3)

سقطت من الأصل.

(4)

أخرجه أحمد (8010)، وأبو داود (2511)، وابن أبي شيبة:(5/ 332)، وابن حبان «الإحسان» (3250)، والبيهقي:(9/ 170) من طريق عُلَيّ بن رباح عن عبد العزيز بن مروان قال سمعت أبا هريرة به.

والحديث صححه ابن حبان، والمصنف في «الفتاوى»:(28/ 437)، وقال العراقي في «تخريج الإحياء»:(2/ 910): سنده جيد. ولم أجد الحديث في الترمذي كما أشار المصنف، ولعله سبق قلم.

ص: 77

وإرادةٌ للعلو، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات»

(1)

كلمة جامعة كاملة، فإن النية للعمل كالروح للجسد، وإلا فكل واحد من الساجد لله والساجد للشمس والقمر، قد وضع جبهته على الأرض، فصورتهما واحدة، ثم هذا أقرب الخلق إلى الله تعالى، وهذا أبعد الخلق عن الله.

[أ/ق 23] وقد قال الله عز وجل: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

(2)

[العصر: 3]، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]. وفي الأثر: «أفضل الإيمان: السماحة والصبر»

(3)

. فلا تتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك.

ولهذا كان من لم يقم بهما سلبه الله الأمر ونقله إلى غيره، كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

(1)

أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2)

هذه الآية من الأصل فقط.

(3)

أخرجه أحمد (22717)، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (653)، والبخاري في «خلق أفعال العباد» (124)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (25) ولفظهما مختصر، وغيرهم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ولفظه عند أحمد والخرائطي: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أي العمل أفضل؟ قال:«الإيمان بالله، وتصديق به، وجهاد في سبيله» ، قال: أريد أهون من ذلك يا رسول الله، قال: «السماحة والصبر

» الحديث. وفي إسناد أحمد والخرائطي ابن لهيعة، وفي إسناده غيره من يُضَعَّف.

ص: 78

وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39].

وقال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

وقد قال سبحانه وتعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء، والقتال الذي هو الشجاعة. وكذلك قال في غير موضع:{وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [التوبة: 20].

وبيَّن أن البخل من الكبائر في قوله تعالى: {يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ} [آل عمران: 180]، وفي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية [التوبة: 34].

وكذلك الجبن في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]، وفي قوله:{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56]، وهو كثير في الكتاب والسنة، وهو مما اتفق عليه أهل الأرض، حتى إنهم يقولون في الأمثال العامية: لا طعنة ولا

ص: 79

جفنة

(1)

، ويقولون: لا فارس الخيل ولا وجه العرب

(2)

.

لكن افترق الناس هنا ثلاث فرق:

* فريق غلبَ عليهم حبُّ العلو في الأرض أو الفساد، فلم ينظروا في عاقبة المعاد، ورأوا أن السلطان لا يقوم إلا بعطاء، وقد لا يتأتَّى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلِّها، فصاروا نهَّابين وهَّابين.

وهؤلاء يقولون: لا يمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويُطْعِم، فإنه إذا تولى العفيف

(3)

الذي لا يأكل ولا يُطْعِم، سَخِط عليه الرؤساء وعزلوه، إن لم يضروه في نفسه وماله. وهؤلاء نظروا في عاجل دنياهم وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم، فعاقبتهم عاقبة رديئة في الدنيا والآخرة، إن لم يحصل لهم ما يُصْلِح آخرتهم

(4)

من توبة ونحوها مما يعتقدونه فينجوا منه

(5)

.

* وفريقٌ عندهم خوفٌ من الله تعالى، ودينٌ يمنعهم عما يعتقدونه قبيحًا، من ظلم الخلق وفعل المحارم، فهذا حسنٌ واجب، لكن قد يعتقدون مع ذلك أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام، فيمتنعون أو يمنعون عنها مطلقًا، وربما كان في نفوسهم جُبن أو بخل، أو ضِيق خلق

(1)

والمعنى: لا شجاعة ولا كرم. وفي الأصل: «لا طعته ولا خفته» ! وهو تحريف.

(2)

بمعنى المثل السابق، وقد أنشد السراج (ت 691) لنفسه كما في «أعيان العصر»:(5/ 121).

قال وقد أبْصَرَ وجهي مُقْبلًا

لا فارس الخَيلِ ولا وجْهَ العَرَب

(3)

(ي): «الضعيف» .

(4)

بقية النسخ: «عاقبتهم» .

(5)

«مما يعتقدونه فينجوا منه» من الأصل فقط.

ص: 80

عاضد لما

(1)

معهم من الدين، فيقعون أحيانًا في ترك واجب يكون تركه أضرَّ عليهم من بعض المحرمات، أو يقعون في النهي عن واجب، يكون النهيُ عنه من الصدِّ عن سبيل الله.

وقد يكونون متأوِّلين، وربما اعتقدوا أن إنكار ذلك واجب ولا يتم إلا بالقتال، فيقاتلون المسلمين كما فعلت الخوارج؛ فهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل، لكن قد يصلح بهم كثيرٌ من أنواع الدين وبعض أمور الدنيا، وقد يُعْفَى عنهم في بعض ما

(2)

اجتهدوا فيه فأخطأوا، ويُغفَر لهم قصورُهم، وقد يكونون من الأخسرين

(3)

الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره، ولا يرى أن يتألف الناس من الكفار والفجار لا بمال ولا بنفع

(4)

، ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرَّم.

* الفريق الثالث: الأمة الوسط، وهم أهل دين

(5)

محمد صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة، وهو: إنفاق المال والمنافع

(1)

المثبت من (ي، ز)، الأصل:«عامد لما معهم» ، (ل):«مع ما معهم» ، (ب):«ضيق خلق معهم» ، وبياض في (ف).

(2)

بقية النسخ: «عنهم فيما» .

(3)

(ف) زيادة: «أعمالا» .

(4)

الأصل: و «لا بمنع» .

(5)

(ف): «وهو دين» .

ص: 81

للناس ــ وإن كانوا رؤساء ــ بحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال لإقامة

(1)

الدين، والدنيا التي يحتاج إليها الدين. وعِفَّته في نفسه فلا يأخذ ما لا يستحقه، فيجمعون بين التقوى والإحسان {(127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ} [النحل: 128].

فلا تتم السياسة الدينية إلا بهذا، ولا يصلح الدين والدنيا إلا بهذه الطريقة، وهذا هو الذي يُطْعم الناس ما يحتاجون إلى إطعامه

(2)

، ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب، ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه الأُوَل، فإن الذي يأخذ لنفسه تطمع فيه النفوس ما لا تطمع في العفيف، ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني، فإن العِفَّة مع القدرة تقوِّي حُرْمة الدين.

وفي «الصحيحين»

(3)

عن أبي سفيان بن حرب أن هرقل ملك الروم قال له عن النبي صلى الله عليه وسلم: بماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصّلَة.

وفي الأثر: أن الله أوحى إلى رسوله إبراهيم الخليل ــ صلى الله على نبينا وعليه وعلى كافة الأنبياء والمرسلين ــ: يا إبراهيم أتدري لم اتخذتك خليلًا؟ لأني رأيتُ العطاءَ أحبَّ إليك من الأخذ

(4)

.

(1)

بقية النسخ: «ولإقامة» .

(2)

(ف، ي، ز، ل): «طعامه» .

(3)

البخاري (7)، ومسلم (1773).

(4)

وردت في ذلك آثار عن جماعة من السلف، عن يوسف بن أسباط أخرجه أبو نعيم في «الحلية»:(8/ 242)، وعن وهب بن منبه أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق»:(6/ 217 - 218)، وغيرهما كما في «الدر المنثور»:(2/ 407 - 408).

ص: 82

وهذا الذي ذكرناه في الرزق والعطاء الذي هو السخاء وبذل المنافع= نظيرُه في الصبر والغضب الذي هو الشجاعة ودفع المضارِّ: أن الناس ثلاثة أقسام: قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم، وقسم لا يغضبون لنفوسهم ولا لربهم، والثالث ــ وهو الوسط ــ أن يغضب لربه لا لنفسه كما في «الصحيحين»

(1)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نِيلَ منه شيء فانتقم لنفسه، إلا أن تُنْتَهَك حُرُمات الله، فإذا انتُهِكَت حُرُمات الله لم يَقُم لغضبه شيء حتى ينتقم لله تبارك وتعالى» .

فأما من يغضب لنفسه لا لربه، أو يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره [أ/ق 25]، فهذا القسم الرابع شرُّ الخلق لا يصلح بهم دين ولا دنيا.

كما أن الصالحين أرباب السياسة الكاملة، هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرَّمات، وهم الذين يعطون ما يُصْلِح الدين بعطائه، ولا يأخذون إلا ما أُبيح لهم، ويغضبون لربهم إذا انتُهِكَت محارمُه، ويعفون عن حظوظهم، وهذه أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بذله ودفعه، وهي أكمل الأمور، وكلما كان إليها أقرب كان أفضل.

فليجتهد المسلم في التقرُّب إليها بجهده، ويستغفر الله تعالى بعد ذلك من قصور أو تقصير، بعد أن يعرف كمالَ ما بَعَث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين.

ص: 83

فهذا في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

فصل

وأما قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] فإن الحُكْم بين الناس يكون في الحدود والحقوق، وهما قسمان:

فالقسم الأول: الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين، أو نوع منهم، وكلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله وحقوق الله

(1)

، مثل: حدِّ قُطَّاع الطريق، والسُّرَّاق، والزُّناة ونحوهم، ومثل: الحكم في الأمور السلطانية، والوقوف والوصايا التي ليست لمعيَّن، فهذه من أهم أمور الولايات؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لابدَّ للناس من إمارة برَّةً كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين، هذه البرَّة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: تُقام بها الحدود، وتأمن بها السُّبُل، ويُجاهَد بها العدو، ويُقْسَم بها الفيء

(2)

.

وهذا القسم

(3)

يجب على الولاة البحث عنه

(4)

، وإقامته من غير دعوى

(1)

الأصل: «حدود وحقوق الله» . وسيأتي القسم الثاني (ص 195).

(2)

أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7102) بنحوه، وفي سنده ليث بن أبي سليم. ورُوي نحوه عن ابن مسعود مرفوعًا عند الطبراني رقم (10210).

(3)

يعني إقامة الحدود والحقوق المذكورة وغيرها. وقارن بنا ذكره الشيخ العثيمين في «شرحه» (ص 188).

(4)

هنا تعليق في (ي) لكن معظمه لم يظهر.

ص: 84

أحدٍ به، وكذلك تُقام الشهادة فيه من غير دعوى أحدٍ به، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق: هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بماله؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، ولكنهم متفقون على أنه لا يفتقر إلى مطالبة المسروق بالحدِّ، بل اشترط بعضُهم المطالبة بالمال

(1)

لئلا يكون للسارق فيه شبهة.

وهذا القسم يجب إقامته على الشريف والوضيع، والقوي والضعيف، ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرهما، ولا تحل الشفاعة فيه، ومن عطَّلَه لذلك ــ وهو قادر على إقامته ــ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، وهو ممن اشترى بآيات الله ثمنًا قليلًا.

روى أبو داود في «سننه»

(2)

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعتُه دون حدٍّ من حدود الله فقط ضادَّ

(3)

الله في أمره، ومَن خاصم في باطلٍ وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومَن قال في مسلم ما ليس فيه حُبِسَ في ردغة الخَبال حتى يخرج مما قال». قيل: يا رسول الله، وما ردغة الخبال؟ قال:«عُصارة أهل النار»

(4)

.

(1)

(ف، ب، ل) زيادة: «له» .

(2)

(3597)، وأخرجه أحمد (5385)، والحاكم:(2/ 27)، والبيهقي:(6/ 82)، وغيرهم. قال الحاكم: صحيح الإسناد، وجود إسناده المنذري في «الترغيب»:(3/ 198)، وابن القيم في «أعلام الموقعين»:(5/ 463)، والذهبي في «الكبائر» (ص 477)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على «المسند»:(7/ 204).

(3)

(ظ): «حاد» ، الأصل:«ضار» .

(4)

هذا الحديث بهذا السياق مركب من حديثين، آخر هذا الحديث الذي أورده المؤلف المشتمل على سؤالهم للنبي صلى الله عليه وسلم عن ردغة الخبال ليس في حديث ابن عمر هذا، وإنما هو في حديث آخر لعبد الله بن عمرو.

وقد تقدم تخريج حديث ابن عُمر، أما حديث ابن عَمرو فأخرجه ابن ماجه (3377) مرفوعا ولفظه:«من شرب الخمر وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة» قالوا: يا رسول الله، ما ردغة الخبال؟ قال:«عصارة أهل النار» . ومثله في حديث عياض بن غنم عند أبي يعلى في مسنده (6827) بنفس اللفظ السابق.

وجاء نحوه عن ابن عباس في المعجم الكبير للطبراني (12/ 249) قالوا: يا أبا العباس وما ردغة الخبال؟ قال: «شحوم أهل النار وصديدهم» . التفسير موقوف.

ص: 85

فذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحُكَّام، والشهداء، والخُصَماء، وهؤلاء أركان الحكم.

وفي «الصحيحين»

(1)

عن عائشة رضي الله عنها أن قريشًا أهمَّهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: مَن يكلم فيها رسول الله؟ فقالوا: ومَن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، قال:«يا أسامة، أتشفعُ في حدٍّ من حدود الله؟ [أ/ق 26] إنما هلك بنوا إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعتُ يدَها» .

ففي هذه القصة عبرة، فإنَّ أشرف بيت كان في قريش بطنان: بنو مخزوم، وبنو عبد مناف، فلما وجب على هذه القطعُ بسرقتها، التي هي جهود العاريَّة

(1)

البخاري (3475، 2648)، ومسلم (1688).

ص: 86

على قول بعض العلماء، أو سرقة أخرى غير هذه على قول آخرين، وكانت من أكبر القبائل وأشرف البيوت، وشفَع فيها حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة= غضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكر عليه دخوله فيما حرمه الله، وهو الشفاعة في الحدود، ثم ضرب المثل بسيدة نساء العالمين ــ وقد برَّأها الله من ذلك ــ فقال:«لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدَها» .

وقد رُوِي: أن هذه المرأة التي قُطِعت يدها تابت، وكانت تدخل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فيقضي حاجَتَها

(1)

.

فقد رُوِي: «أن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة، وإن لم يتب سبقته يده إلى النار»

(2)

.

وروى مالك في «الموطأ»

(3)

: أن جماعةً أمسكوا لصًّا ليرفعوه إلى عثمان، فتلقاهم الزبير فكلَّمهم فيه، فقالوا: إذا رُفِع إلى عثمان فاشفع فيه عنده، فقال: إذا بلغت الحدودُ السلطانَ فلعن الله الشافع والمُشفِّع. يعني الذي يقبل الشفاعة.

(1)

جاء ذكر ذلك في الحديث السالف في «الصحيحين» .

(2)

لم أجده بهذا اللفظ، لكن أخرج ابن عدي في «الكامل»:(1/ 401 - 402) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (إذا قطعت يد السارق وقعت في النار، فإن تاب استشلاها، وإن مات ولم يتب تبعها) ومعنى استشلاها: استرجعها. وقال عنه: منكر، تفرد به أسيد بن يزيد وهو لا يعرف. وقال الذهبي في «الميزان»:(1/ 258): ليس بصحيح. وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» : (7/ 390) نحوه من مرسل ابن المنكدر.

(3)

(2417)، قال الحافظ: منقطع، ورواه ابن أبي شيبة ــ لعله في المسند ــ بسند حسن كما قال الحافظ.

ص: 87

وكان صفوان بن أمية نائمًا على رداءٍ له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء لصٌّ فسرقه، فأخذه فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطع يده، فقال: يا رسول الله، أعلى ردائي تقطع يده؟ أنا أَهَبُه له، قال: «فهلَّا قبل أن تأتيني به

(1)

» ثم قطعَ يدَه. رواه أهل السنن

(2)

.

يعني صلى الله عليه وسلم: أنك لو عفوتَ عنه قبل أن تأتيني به لكان، فأما بعد أن رُفِع إليَّ فلا يجوز تعطيل الحدِّ لا بعفوٍ ولا بشفاعةٍ ولا بهبة ولا غير ذلك.

ولهذا اتفق العلماء ــ فيما أعلم ــ على أن قاطعَ الطريق واللص ونحوهما إذا رُفِعوا إلى وليِّ الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم، بل تجب إقامته وإن تابوا. فإن كانوا صادقين في التوبة كان الحدُّ كفارةً لهم، وكان تمكينُهم من ذلك من تمام التوبة، بمنزلة رد الحقوق إلى أهلها، والتمكين من استيفاء القصاص في حقوق الآدميين.

وأصل هذا في قول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85]، فإن الشفاعة هي: إعانة الطالب حتى يصير معه شفعًا بعد أن كان

(1)

(ي، ز) زيادة: «عفوتَ عنه» .

(2)

أخرجه أحمد (15305)، وأبو داود (4394)، والنسائي (4879)، وابن ماجه (2595)، والدارقطني:(3/ 204)، والحاكم:(4/ 380)، والبيهقي:(8/ 265) وغيرهم من طرق عن صفوان به بألفاظ مختلفة. قال الحاكم: صحيح الإسناد، وصححه ابن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق»:(4/ 563)، وابن الملقن في «البدر»:(8/ 652). ومجموع طرقه لا تخلو من مقال، ولذلك مال إلى تضعيفها عبد الحق الإشبيلي، وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام»:(3/ 568 - 571).

ص: 88

وترًا، فإن أعانتْه

(1)

على برٍّ وتقوى كانت شفاعةً حسنة، وإن أعانَتْه على إثمٍ وعدوان كانت شفاعةً

(2)

سيئة. والبرُّ: ما أُمِرت به، والإثمُ: ما نُهِيْتَ عنه، وإن كانوا كاذبين فإن الله لا يهدي كيد الخائنين.

وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34]، فاستثنى التائبين قبل القدرة عليهم فقط، فالتائب بعد القدرة عليه باقٍ فيمن وجب عليه الحد

(3)

؛ للعموم والمفهوم والتعليل.

هذا إذا كان قد ثبت بالبينة، فأما إذا كان بإقرار، وجاء مقرًّا بالذنب تائبًا، فهذا فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع، وظاهر مذهب أحمد: أنه لا تجب إقامة الحد في مثل هذه الصورة، بل إن طَلَبَ إقامة الحد عليه أقيم، وإن ذهب لم يُقَم عليه حدٌّ، وعلى هذا حُمِل حديث ماعز بن مالك لما قال:«فهلَّا تركتموه»

(4)

،

(1)

(ي، ز، ل): «أعنته» ، (ف، ب): «أعانه» .

(2)

(ي): «شفاعته شفاعةً» .

(3)

«باقٍ فيمن وجب عليه» سقط من (ز).

(4)

أخرجه أحمد (9809)، والترمذي (1428)، والنسائي في «الكبرى» (7166)، وابن ماجه (2554)، وابن حبان (4439)، والحاكم:(4/ 363)، والبيهقي:(8/ 228) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: حسن، وصححه الحاكم على شرط مسلم.

وأخرجه أحمد (21890)، وأبو داود (4420)، والنسائي في «الكبرى» (7167)، والحاكم:(4/ 363) وغيرهم من حديث نُعَيم بن هَزَّال رضي الله عنه، صححه الحاكم. وروي أيضًا من حديث جابر وغيره.

ص: 89

وحديث الذي قال: «أصبتُ حدًّا فأقِمْه علَيَّ»

(1)

، مع آثار أخر

(2)

.

وفي «سنن أبي داود» والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعافَوا الحدودَ فيما بينكم، فما بلغني مِن حدٍّ فقد وجب»

(3)

.

وفي «سنن النسائي» وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حدٌّ يُعْمَل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمْطَروا أربعين صباحًا»

(4)

.

وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة، فإذا أقيمت الحدود، ظهرت طاعة الله ونقصت معصيته، فحصل الرزق والنصر.

(1)

أخرجه البخاري (6823) من حديث أنس، ومسلم (1696) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما.

(2)

من قوله: «هذا إذا كان

» إلى هنا ساقط من (ف، ظ).

(3)

أخرجه أبو داود (4376)، والنسائي (4885)، والحاكم:(4/ 383)، والبيهقي:(8/ 331) وغيرهم. قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الحافظ: سنده إلى عمرو بن شعيب صحيح. «الفتح» : (12/ 89).

(4)

أخرجه أحمد (8738)، والنسائي (4904)، وفي «الكبرى» (7350)، وابن ماجه (2538)، وابن حبان «الإحسان» (4398). وقد اختلف في إسناده بين الرفع والوقف، ورجح الدارقطنيُّ في «العلل»:(11/ 112)، والنسائيُّ الوقفَ.

ص: 90

ولا ينبغي

(1)

أن يؤخذَ من الزاني أو السارق أو قاطع الطريق ونحوهم مالٌ

(2)

يُعَطَّل به الحدُّ، لا لبيت المال ولا لغيره، وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سُحتٌ خبيث، وإذا فعل وليُّ الأمر ذلك فقد جمع فسادين عظيمين.

أحدهما: تعطيل الحد، والثاني: أكل السحت. فتَرَك الواجبَ وفَعَل المحرَّم، قال الله تعالى:{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]، وقال تعالى عن اليهود:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]؛ لأنهم كانوا يأكلون السحت من الرشوة التي تسمى: البِرْطِيل

(3)

، وتسمَّى أحيانًا: الهدية وغيرها، ومتى أكل وليُّ الأمر السُّحْت احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش، وهو الواسطة الذي يمشي بينهما. رواه أهل السنن

(4)

.

وفي «الصحيحين»

(5)

: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما:

(1)

بقية النسخ: «ولا يجوز» .

(2)

(ظ): «ما» . وفي (ف) زيادة «أو الشارب» بعد السارق.

(3)

سيذكر المؤلف معناها (ص 91).

(4)

أخرجه أحمد (6532)، وأبو داود (3580)، والترمذي (1337)، وابن ماجه (2313)، وابن حبان «الإحسان» (5076)، والحاكم:(4/ 102 - 103) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الترمذي: حسن صحيح، وصحَّح الحاكمُ إسناده، وقواه الحافظ في «الفتح»:(5/ 221). وله شاهد من حديث جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وثوبان، وغيرهم رضي الله عنهم.

(5)

البخاري (2314)، ومسلم (1698، 1697) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما.

ص: 91

يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، فقال صاحبه ــ وكان أفقه منه ــ: نعم يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله واذَنْ لي، فقال:«قل» ، فقال: إن ابني كان عسيفًا في أهل هذا ــ يعني أجيرًا ــ فزنى بامرأته، فافتديتُ منه بمئة شاة وخادم، وإني سألت رجالًا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مئة وتغريب عام، وأنَّ على امرأة هذا الرجم. فقال:«والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله: المئة والخادم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغْدُ يا أُنَيس على امرأة هذا فاسألها فإن اعترفت فارجمها» ، فسألها فاعترفت فرجمها.

ففي هذا الحديث أنه لما بذل عن المذنب هذا المال لدفع الحدِّ عنه، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع المال إلى صاحبه، وأمر بإقامة الحد، ولم يأخذ المال للمسلمين؛ من المجاهدين والفقراء وغيرهم.

وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمالٍ يُؤخذ أو غيره لا يجوز، وأجمعوا على أن [أ/ق 28] المال المأخوذ من الزاني، والسارق، والشارب، والمحارب قاطع الطريق

(1)

، ونحو ذلك، لتعطيل الحدِّ= مالُ سُحْتٍ خبيث.

وكثير مما يوجد من فساد أمور الناس، إنما هو لتعطيل الحد بمال أو جاه، وهذا من أكبر الأسباب في فساد أهل البوادي والقرى والأمصار، من الأعراب والتُّرْكُمان والأكراد والفلاحين، وأهل الأهواء، كقيس ويَمَن، وأهل الحاضرة؛ من رؤساء الناس وأغنيائهم وفقرائهم، وأمراء الناس ومُقَدَّميهم وجندهم. وهو سبب سقوط حُرمة المتولِّي، وسقوط قَدره من

(1)

(ظ، ل، ب): «وقاطع الطريق» .

ص: 92

القلوب، وانحلال أمره، فإذا ارتشى وتَبَرْطل على تعطيلِ حدٍّ ضَعُفَت نفسُه أن يقيم حدًّا آخر، وصار من جنس اليهود الملعونين.

وأصلُ البِرْطيل هو: الحَجر المستطيل، سُمِّيت به الرشوة لأنها تلقم المرتشي عن التكلُّم بالحق، كما يلقمه الحجر الطويل

(1)

. كما قد جاء في الأثر: إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكُوَّة

(2)

. يعني: الطاقة

(3)

.

وكذلك إذا أخذ مالًا للدولة على ذلك، مثل هذا السُّحْت الذي يسمى: التأديبات، ألا ترى أن الأعراب المفسدين إذا أخذوا مالًا لبعض الناس، ثم جاءوا إلى ولي الأمر، فقادوا إليه خيلًا فيقدمونها له، أو غيرها= كيف يقوى طمعُهم في الفساد، وتنكسر حُرْمة الولاية والسلطنة، وتفسد الرعية!

وكذلك الفلاحون وغيرهم، وكذلك شارب الخمر إذا أُخِذ فدفعَ بعض ماله، كيف يطمع الخمَّارون فيرجون إذا أُمْسِكوا أن يفتدوا ببعض أموالهم، فيأخذها ذلك الوالي سحتًا لا يُبارك فيها، والفساد قائم.

(1)

فائدة: يقال: إن أول من أظهر البرطيل بالشام وأوقع عليه هذا الاسم هو: محمد بن صالح بن عبد الله بن صالح (ت 231) والي حلب وقِنَّسرين في خلافة الواثق، وكانت سيرته غير محمودة، وكان لا يعرف قبل ذلك إلا الرشوة على غير إكراه. انظر «زبدة الحلب من تاريخ حلب»:(1/ 78).

(2)

أخرجه أحمد في «الزهد» (ص 288) عن الحسن، وابن عساكر في «تاريخه»:(23/ 37) عن شريح.

(3)

«يعني: الطاقة» من الأصل.

ص: 93

وكذلك ذوو الجاه

(1)

إذا حموا أحدًا أن يُقام عليه الحد، مثل أن يرتكب بعض الفلاحين جريمة، ثم يأوي إلى قرية نائب السلطان، أو أمير

(2)

فيحتمي على الله ورسوله، فيكون ذلك الذي حماه ممن لعنه الله ورسوله، فقد روى مسلم في «صحيحه»

(3)

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من أحدث حدثًا، أو آوى محدثًا» . فكل من آوى محدِثًا من هؤلاء المُحْدِثين فقد لعنه الله ورسوله.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله فقد ضادَّ الله في أمره»

(4)

فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده، واعتاض من

(5)

المجرمين بسُحْتٍ من المال يأخذه؟ ! لاسيما الحدود على سكان البر، فإن من أعظم فسادهم: حماية المعتدين منهم بجاه أو مال، سواء كان المال المأخوذ لبيت المال أو للوالي سرًّا أو علانية، فذلك جميعه محرم بإجماع المسلمين، وهو مثل تضمين الحانات والخمر

(6)

، فإنَّ من مكَّنَ من ذلك أو أعان أحدًا عليه بمال يأخذه فهم

(7)

من جنسٍ واحد.

والمال المأخوذ على هذا شبيهٌ بما يُؤخذ من مهر البغيِّ، وحُلوان

(1)

(ي): «الجاهات» ، (ل):«الحاجة» .

(2)

(ز): «أمين» ومحتملة في (ب).

(3)

(1370)، وأخرجه البخاري أيضًا (1870).

(4)

تقدم تخريجه (ص 84).

(5)

بقية النسخ: «عن» .

(6)

«والخمر» ليست في الأصل.

(7)

(ي): «فهو» ، (ف، ظ، ب، ل): «يأخذه منهم» .

ص: 94

الكاهن، وثمن الكلب، وأجرة المتوسط في الحرام الذي يُسمَّى: القوَّاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ثمن الكلب خبيث، ومهر البغيِّ خبيث، وحُلوان الكاهن خبيث» رواه البخاري

(1)

.

فمَهْر البغيِّ هو الذي يسمَّى: جُذور القِحاب

(2)

، وفي معناه ما يُعطاه المخنَّثون الصبيان من المماليك أو الأحرار على الفجور بهم [أ/ق 29]. وحُلوان الكاهن مثل حلاوة المنجم ونحوه، على ما يخبر به

(3)

من الأخبار المبشرة بزعمه، ونحو ذلك.

وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمالٍ يأخذه= كان بمنزلة مُقَدَّم الحراميَّة الذي يُقاسم المحاربين على الأخِيْذة

(4)

، وبمنزلة القوَّاد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة. وكانت حاله شبيهًا بحال عجوز السوء امرأة لوط التي خانته، فكانت

(5)

تدلُّ الفجارَ على ضيفه التي قال الله فيها: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83]، وقال تبارك وتعالى:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81]، فعذَّب الله عجوزَ السوء القوَّادة بمثل ما عذَّبَ القوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث، وهذا

(1)

(2237)، وأخرجه مسلم أيضًا (1567) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

(2)

انظر في استعمال هذا اللفظ: «أخلاق الوزيرين» (ص 147)، واستعمل أيضًا في أجور المغنيات والقيان، انظر «نشوار المحاضرة»:(1/ 178، 183، 304).

(3)

(ف): «يخبرونه» .

(4)

(ف): «الأخذ» . والأخيذة: هي الشيء المأخوذ المغتصب. «اللسان» : (3/ 470).

(5)

بقية النسخ: «التي كانت» .

ص: 95