المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيره - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - ط عطاءات العلم - الكتاب

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌أحدهما: الولايات

- ‌ الولاية لها ركنان: القوة، والأمانة

- ‌فصلاجتماع القوة والأمانة في الناس قليل

- ‌كثيرًا ما يحصل للرجل إحدى القوتين دون الأخرى

- ‌فصلالقسم الثاني من الأمانات(1): الأموال

- ‌هذا القسم يتناول الرُّعاة(7)والرعية

- ‌ليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم

- ‌فصل(1)الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف:

- ‌ يجتمع مع الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين

- ‌لم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوانٌ جامع

- ‌كثيرًا ما يقع الظلم من الولاة والرعية

- ‌الظالم يستحق العقوبة والتعزير

- ‌ التعاون نوعان

- ‌المؤلفة قلوبهم نوعان: كافر، ومسلم

- ‌كثيرًا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل

- ‌ صلاح البلاد والعباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌إذا كان المحاربون الحرامية جماعة

- ‌ المقتتلون على باطل لا تأويل فيه

- ‌ إذا شَهَروا السلاح ولم يقتلوا نفسًا

- ‌ التمثيل في القتل

- ‌لو شَهَر المحاربون السلاح في البنيان

- ‌من آوى محاربًا أو سارقًا

- ‌ الواجب على من استجار به مستجير:

- ‌إذا قُطِعت يده حُسِمت

- ‌ تُقْطَع يده إذا سرق نصابًا

- ‌ الطائفة الممتنعة، لو تركت السنة الراتبة

- ‌ نفقةُ الإنسان على نفسه وأهله مقدَّمة على غيره

- ‌القتل ثلاثة أنواع:

- ‌من قَتَل بعد العفو أو أَخْذ الدِّية

- ‌النوع الثاني:

- ‌النوع(7)الثالث:

- ‌إذا كانت المَظْلَمة في العِرْض مما لا قصاص [فيه]

- ‌ حدُّ(2)القذف

- ‌أولو الأمر صنفان؛ الأمراء والعلماء

- ‌الواجب اتخاذ الإمارة(3)دينًا وقُربة

الفصل: ‌ نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيره

وهذا يحتاج إليه الرجل في سياسة نفسه وأهل بيته ورعيته، فإنَّ النفوس لا تقبل

(1)

الحقَّ إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها، فتكون تلك الحظوظ عبادة لله وطاعة له مع النية الصالحة، ألا ترى أن الأكل والشرب واللباس واجب على الإنسان؟ حتى لو اضطر إلى الميتة وجبَ عليه الأكل عند عامة العلماء، فإن لم يأكل حتى مات دخل النار؛ لأن العبادات لا تؤدَّى إلا بهذا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ولهذا كانت‌

‌ نفقةُ الإنسان على نفسه وأهله مقدَّمة على غيره

، ففي «السنن» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا» ، فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار، فقال:«تصدق به على نفسك» ، قال: عندي آخر: قال: «تصدق به على زوجتك» ، قال: عندي آخر، قال:«تصدق به على ولدك»

(2)

، قال: عندي آخر، قال:«تصدق به على خادمك» ، قال: عندي آخر، قال:«أنت أبصر به»

(3)

.

وفي «صحيح مسلم»

(4)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله

(1)

(ي): «تبذل» .

(2)

(قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على زوجتك») ليست في الأصل و (ز)، وما يتعلق بالولد تكرر في (ظ).

(3)

أخرجه أحمد (7417)، وأبو داود (1691)، والنسائي (2535)، والبخاري في «الأدب المفرد» (197)، وابن حبان (4235)، والحاكم:(1/ 415). والحديث صححه ابن حبان، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وحسَّنه الألباني في «الإرواء» (895).

(4)

(995). وسقطت من (ف) جملة «ودينار أنفقته في رقبة

على مسكين».

ص: 179

- صلى الله عليه وسلم: «دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينارٌ أنفقتَه في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمُها أجرًا الذي أنفقته على أهلك» .

وفي «صحيح مسلم»

(1)

عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابن آدم إنك إن تُنفقِ الفضلَ خيرٌ لك، وإن تمسكه شرّ لك، ولا تلام على كَفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العُليا خير من اليد السفلى» .

وهذا تأويل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا [أ/ ق 57] يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ} [البقرة: 219]، أي: الفضل، وذلك لأن نفقةَ الرجل على نفسه وأهله فرضُ عين، بخلاف النفقة في الغزو وفي

(2)

المساكين، فإنه في الأصل إما فرضٌ على الكفاية، وإما مستحبٌّ. وإن كان قد يصير مُتعينًا إذا لم يقم غيره به

(3)

، فإن إطعام الجائع واجب، ولهذا جاء في الحديث:«لو صَدَق السائلُ لما أفلحَ من ردَّه»

(4)

ذكره الإمام أحمد، وذكر أنه إذا عُلِم صدقه وجبَ إطعامُه

(5)

.

(1)

(1036). وأخرجه البخاري (1472)، ومسلم (1035) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه ووقع في الأصل: «

الفضل أحب إليك»، وليس في شيء من روايات الحديث.

(2)

(ز، ظ، ب): «و» ، (ل):«أو» . وسقطت من الأصل.

(3)

من بقية النسخ.

(4)

أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» : (5/ 296 - 297) من طريق مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده به مرفوعًا. وقال: هذا حديث منكر لا أصل له في حديث مالك ولا يصح عنه. اهـ. وعده علي بن المديني في خمسة أحاديث تروى ولا أصل لها، انظر «بدائع الفوائد»:(3/ 1151)، و «المقاصد الحسنة» (ص 344).

(5)

ذكره ابن هانئ في «مسائله» : (2/ 177) في قصةٍ للإمام مع أحد السُّؤال.

ص: 180

وقد روى أبو حاتم البُستي

(1)

في «صحيحه»

(2)

حديث أبي ذر

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل الذي فيه أنواع من العلم والحكمة، وفيه: «أنه كان في حكمة آل

(4)

داود: حقٌّ على العاقل أن تكون [له أربع]

(5)

ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه، ويحدثونه عن ذات نفسه، وساعة يخلو فيها بلذته

(6)

فيما

(1)

ليست في الأصل.

(2)

(361) في حديث طويل.

وأخرجه ابن حبان في «المجروحين» : (2/ 130)، وأبو نعيم في «الحلية»:(1/ 166 - 167)، وغيرهم من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه عن جده عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر

الحديث بطوله. وإبراهيم هذا قال أبو حاتم وأبو زرعة: كذاب. «الجرح والتعديل» : (2/ 143)، لكن ذكره ابن حبان في «الثقات»:(8/ 79)، وتعقبه الذهبي في «الميزان»:(1/ 72 - 73). وأفرط ابن الجوزي فذكره في «الموضوعات» ، وتعقبه ابن حجر، والسيوطي كما في «الكافِ الشاف»:(4/ 114)، و «الدر المنثور»:(2/ 436). وللحديث طرق أخرى، لكن قال ابن رجب في «فتح الباري»:(3/ 273): «وقد روي من وجوه متعددة عن أبي ذر، وكلها لا تخلو من مقال» . وذكر المصنف في «الفتاوى» : (7/ 409) ما يقتضي أن هذا الحديث لم يثبت عند أحمد ابن حنبل ومحمد بن نصر.

(3)

الأصل: «أبي داود أبي ذر» وهو سهو!

(4)

(آل) ليست في (ظ، ب، ل). وقول المصنف «حكمة آل داود» ليس في رواية أبي ذر للحديث، وإنما جاءت في أثر وهب بن منبه ــ وهو نفس سياق المصنف ــ الذي أخرجه عبد الرزاق:(11/ 22)، والبيهقي في «الشعب» (4352).

(5)

سقطت من الأصل.

(6)

(ي): «بلذة نفسه» .

ص: 181

يَحِل ويَجْمُل، فإنَّ

(1)

في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات، وينبغي للعاقل أن يكون عارفًا بزمانه، حافظًا للسانه، مقبلًا على شأنه»

(2)

.

فبيَّن أنه لابدَّ من اللذات المباحة الجميلة، فإنها تُعِين على تلك الأمور.

ولهذا ذكر الفقهاء أن العدالة هي: الصلاح في الدين، والمروءة. وفسَّروا المروءة باستعمال ما يجمِّله ويزيِّنه، وتجنب ما يُدَنِّسه ويُشِينُه

(3)

.

وكان أبو الدرداء يقول: إني لأستجمُّ نفسي بالشيء من الباطل لأستعين به على الحق

(4)

.

والله سبحانه وتعالى إنما خلق الشهوات في الأصل واللذات لتمام مصلحة الخلق، فإنه بذلك

(5)

يجتلبون ما ينفعهم، كما خلق الغضب ليدفعون به ما يضرهم. وحرَّم منها

(6)

ما يضر تناوله، وذمَّ من اقتصر عليها، واشتغل بها عن مصلحة دينه، ومن أسرف فيها في النوع أو القَدْر، كما قال تعالى:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، وقال:{إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]، وقال: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ

(1)

الأصل زيادة «كان» ولا معنى لها.

(2)

من قوله: «وينبغي

».إلى هنا من الأصل فقط، وهو في رواية ابن حبان وأبي نعيم.

(3)

انظر «الفتاوى» : (15/ 356)، و «الاستقامة»:(1/ 364) كلاهما للمصنف.

(4)

أخرجه البسوي في «المعرفة والتاريخ» : (3/ 199)، وابن عساكر في «تاريخه»:(46/ 501).

(5)

بعده في (ي): «تتم مصلحة الخلق ويجتلبون

».

(6)

(ي، ز): «من الشهوات» .

ص: 182

كَفُورًا} [الإسراء: 26 - 27]. حتى حَجَرَت الشريعة عند الجمهور على المبذِّر الذي يصرف المال فيما لا ينفعه.

وذمَّ

(1)

أيضًا من ترك ما يحتاج إليه منها، حتى قال تعالى:{(86) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} [المائدة: 87].

وفي «الصحيحين»

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه عن أصحابه أنه قال بعضهم: أمَّا أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .

ونهى أمَّته عن الوِصال في الصيام، وقال:«من صامَ الدَّهرَ فلا صام ولا أفطر»

(3)

. وقال: «أفضلُ الصيامِ صيامُ داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا ولا يفِرُّ إذا لاقى»

(4)

.

وذمَّ الرهبانية التي في ترك النساء واللحم، كما يقوله الجهال في مدح بعض الناس: ما نكح ولا ذبح

(5)

. فإن مَدْح مثل هذا من الرهبانية التي

(1)

كتب ناسخ الأصل كلمة مغايرة ثم أصلحها.

(2)

البخاري (5063)، ومسلم (1401) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري (1977)، ومسلم (1159/ 189) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقوله:«ولا يفرّ إذا لاقى» غير محررة في الأصل.

(5)

تكلم المصنف على هذا النوع من الزهد في «مجموع الفتاوى» : (10/ 510 - 511، 620 - 624).

ص: 183

ابتدعها النصارى ليست من دين الإسلام، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن لكلِّ أمةٍ رهبانية ورهبانية أمتي [أ/ق 58] الجهاد في سبيل الله»

(1)

(2)

.

وجعل من استعان بالمباح الجميل على الحق من

(3)

الأعمال الصالحة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «في بُضْع أحدكم صدقة» ، قالوا: أيأتي أحَدُنا شهوتَه ويكون له أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان يكون عليه وِزْر؟ » قالوا: بلى، وقال:«فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال»

(4)

.

وروى أحمد في «مسنده» وابن خزيمة في «صحيحه» عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحبُّ أن تُؤتى رُخَصُه كما يكره أن تُؤتى معصيته»

(5)

(6)

.

(1)

بهذا اللفظ أخرجه سعيد بن منصور (2309). وتقدم (ص 157) بلفظ: «لكل أمة سياحة

».

(2)

من قوله: «واشتغل بها

» إلى هنا من الأصل فقط.

(3)

العبارة في الأصل: «وجعل لمن

»، وفي بقية النسخ: «فأما من استعان بالمباح الجميل فهذا من

».

(4)

أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(5)

أخرجه أحمد (5866)، وابن خزيمة (2024)، وابن حبان (2742)، والبيهقي:(3/ 140) من حديث ابن عمر. وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وأخرجه ابن حبان 354) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وسنده صحيح. بلفظ: (

كما يحب أن تؤتى عزائمه).

(6)

من قوله: «وروى أحمد

» إلى هنا من الأصل فقط.

ص: 184

وفي «الصحيحين»

(1)

عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إنك لم تنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في

(2)

في امرأتك».

والنصوص

(3)

في هذا كثيرة، فالمؤمن إذا كانت له نية أثيب على عامة

(4)

أفعاله، وكانت المباحات من صالح أعمالِه لصلاح قلبه ونيته، والمنافقُ لفسادِ قلبه ونيته يُعاقَب على ما يُظهره من صُوَر العبادات رياءً

(5)

، فإن في

(6)

«الصحيحين»

(7)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إنّ في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح لها سائرُ الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائرُ الجسد، ألا وهي القلب» .

فصل

وكما أن العقوبات شُرِعَت داعيةً إلى فعل الواجبات

(8)

، وترك المحرمات، فقد شُرِع أيضًا كلُّ ما يعين على ذلك، فينبغي تيسير طريق الخير

(1)

البخاري (56)، ومسلم (1628)، ووقع في (ي):«الصحيح» ، وفي (ي، ز): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد.

(2)

(ي، ز): «ترفعها إلى» .

(3)

بقية النسخ: «والآثار» .

(4)

(ل): «صلحت عامة» .

(5)

ليست في (ي).

(6)

(ل): «في الحديث الصحيح» . (ي، ز): «في الصحيح» .

(7)

البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير.

(8)

(ي): «الفعل الواجب» .

ص: 185

والطاعة، والإعانة عليه والترغيب فيه

(1)

بكل ممكن، مثل أن يبذل لولده أو أهله أو رعيته ما يُرَغِّبهم في العمل الصالح من مال أو ثناء أو غيره.

فإن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا، وكان يؤلف الناس بالنفع والمال على الإسلام وشرائعه، ويثني على من أحسن فيه، كما أثنى على غير واحد من أصحابه، ويدعو أيضًا لمن أتى بما يستحق الدعاء، كما قال الله تعالى له:{(102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، ولهذا قال الفقهاء: ينبغي للإمام إذا قبض الصدقة أن يدعو لمن أعطاها، مثل أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا

(2)

.

وكذلك أيضًا ذكر فضائل الأعمال الصالحة وثوابها ومنفعتها في الدنيا والآخرة، فإن الكتاب والسنة مملوءة من ذلك، وهذا أنفع في الحقيقة لمن استجاب له

(3)

من الرهبة بالعقوبة الدنيوية فقط، وإنما

(4)

يُصار إلى العقوبة الدنيوية إذا ظلمَ الخلقُ بالنكولِ عن هذه الطريقة، كما قال الله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46].

(1)

الأصل: «عليه» ، وسقطت «بكل» من (ب).

(2)

انظر «الأم» : (2/ 153، 205) للشافعي، و «تفسير البغوي»:(2/ 322).

وقد ثبت في البخاري (1497)، ومسلم (1077) من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلِّ عليهم، فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى.

(3)

الأصل: «به» ، ولعل الصواب ما أثبت.

(4)

الأصل: «وإذا» ، ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 186

ولأجل الرغبة في مصالح الدين

(1)

شُرِعت المسابقة بالخيل والإبل، والمناضلة بالسهام، وأخذ السَّبَق فيها

(2)

؛ لما فيه من الترغيب في إعداد القوة، ورباط الخيل للجهاد في سبيل الله تعالى، حتى قال

(3)

النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن: «لا سبَق إلا في خفٍّ أو حافرٍ أو نصلٍ»

(4)

، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسبِّق بين الخيل

(5)

هو وخلفاؤه الراشدون، ويخرجون الأسباق من بيت المال للسابقين، وكذلك إعطاء المؤلفة قلوبهم.

وقد رُوي: «أنَّ الرجلَ كان يُسلِم أول النهار رغبة [أ/ق 59] في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس»

(6)

.

وكذلك شَرَع في الشرِّ والمعصية حَسْمَ مادته

(7)

، وسدَّ ذريعته، ودفعَ ما يفضي إليه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، مثل

(8)

ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

من قوله: «فإن الله تعالى بعث

» إلى هنا من الأصل فقط. وتبدأ العبارة في بقية النسخ بقوله: «ولهذا شرعت

».

(2)

(ف): «الجعل عليها» .

(3)

الحديث من الأصل فقط.

(4)

أخرجه أبو داود (2574)، والترمذي (1700)، والنسائي (3585)، وابن ماجه (2878)، وابن حبان (4690)، والبيهقي:(10/ 16) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان، وابن القطان، وابن دقيق العيد. انظر «البدر المنير»:(9/ 418 - 422).

(5)

أخرجه البخاري (420)، ومسلم (1870).

(6)

هذا من قول أنس رضي الله عنه أخرجه مسلم عقب حديث (2312).

(7)

العبارة في بقية النسخ: «وكذلك الشر والمعصية ينبغي حسم

».

(8)

بقية النسخ: «مثال ذلك» .

ص: 187

فقال: «لا يخلونَّ رجل بامرأةٍ فإن ثالثهما الشيطان»

(1)

.

وقال: «لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومين إلا ومعها زوج أو ذو محرم»

(2)

. فنهى عن الخلوة بالأجنبية والسفر بها؛ لأنه ذريعة إلى الشر.

ورُوي عن الشعبي أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم غلام ظاهر الوضاءة، فأجلَسَه خلفَ ظهره، وقال:«إنما كانت خطيئة داود النظر»

(3)

.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعسُّ

(4)

بالمدينة فسمع امرأةً تغنِّي

(5)

بأبيات وتقول فيها:

هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربُها

أم من سبيلٍ إلى نصر بن حجاج

ففتش عليه

(6)

فوجده شابًّا حسنًا، فحلق رأسَه فازداد جمالًا، فنفاه إلى

(1)

أخرجه البخاري (1862)، ومسلم (1341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (1188)، ومسلم (827) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

رواه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 90 - 91)، والديلمي في «مسنده» عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن الحسن عن سمرة الحديث.

قال المصنف في «الفتاوى» : (15/ 377): حديث منكر، وقال ابن الصلاح: لا أصل له، وقال الزركشي: هذا حديث منكر، فيه ضعفاء ومجاهيل وانقطاع. انظر «تذكرة الموضوعات» (ص 182).

(4)

(ي، ز): «وعمر

لما كان يعس

»، (ظ، ب): «أنه كان

».

(5)

(ف، ظ، ز): «تتغنى» .

(6)

بقية النسخ: «فدعا به

». والأصل: «ففتش

فوجد».

ص: 188

البصرة لئلا يَفْتِن النساء

(1)

.

ورُوي عنه: أنه بلغه أن رجلًا يجلس إليه الصبيان فنهى عن مجالسته.

وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى المخنث الذي كان يدخل على أزواجه

(2)

، وأمر بنفي المخنثين من المدينة

(3)

، وأذن أن يدخلوا يوم الجمعة ليسألوا الناس عما يبتاعون

(4)

به، ونص على اتباع هذه السنة الفقهاء كالشافعي وأحمد

(5)

، وقالوا: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نَفْي الزاني ونَفْي المُخَنَّث، مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن المخنثين من الرجال، والمترجِّلات من النساء، والمتشبهين من الرجال

(1)

أخرجه قصة نصر بن حجاج ابنُ سعد في «الطبقات» : (3/ 285)، والخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 337 و 339) وسندها صحيح كما قال الحافظ في «الإصابة»:(3/ 579). ووقع في باقي النسخ: «تفتتن النساء به ــ به النساء ــ» .

(2)

خبره في البخاري (4324)، ومسلم (2180) وفيهما النهي عن دخوله على النساء، وأما خبر نفيه فقد أخرجه المستغفري من مرسل ابن المنكدر، ذكره الحافظ في «الفتح»:(9/ 246).

(3)

قيل إنهم ثلاثة وقيل أكثر من ذلك، انظر «الفتاوى»:(15/ 308 - 309)، و «فتح الباري»:(9/ 246).

(4)

الأصل: «يتبعون» ولعله ما أثبت.

(5)

قال الشافعي في «الأم» : (7/ 369 - 370): «يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا أنه نفى مخنثين كانا بالمدينة يقال لأحدهما: هيت وللآخر ماتع، ويحفظ في أحدهما أنه نفاه إلى الحِمى، وأنه كان في ذلك المنزل حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر وحياة عمر، وأنه شكا الضيق فأذن له بعض الأئمة أن يدخل المدينة في الجمعة يومًا يتسوق ثم ينصرف، وقد رأيت أصحابنا يعرفون هذا ويقولون به حتى لا أحفظ عن أحد منهم أنه خالف فيه» اهـ.

ص: 189

بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، [وجلّ]

(1)

هذه الأحاديث في الصحيح. فلم يكتف باللعنة حتى نفاه؛ لأن فيه مضرة على النساء وعلى الرجال

(2)

.

فإذا كان من الصبيان من تخاف

(3)

فتنته على الرجال أو النساء، مُنِعَ وليُّه من إظهاره لغير حاجة، أو تحسينه

(4)

لاسيما تبريجه

(5)

وتجريده في الحمامات، وإحضاره مجالس اللهو والأغاني، فإن هذا مما ينبغي التعزيرُ عليه.

وكذلك من ظهر منه الفجور يُمْنَع من تملُّك الغلمان المُرْدان الصِّباح

(6)

، ويُفرَّق بينهما وإن لم يُقر أو يعمد

(7)

فيه بفجوره، فإن ما كان مقصوده إلى دفع المنكر لا عقوبة فاعله فيُكتفى فيه بالدلالة، حتى اتفق

(8)

(1)

في الأصل: «وعلى» تصحيف.

(2)

من قوله: «وهذا لأن النبي

» إلى هنا من الأصل فقط. وانظر تفصيل ضرر المخنث على الرجال والنساء في «الفتاوى» : (15/ 310 - 311). وما أشار إليه المصنف من الأحاديث انظرها في البخاري (5885 و 5886 و 6834).

(3)

الأصل: «يخلق» وهو تحريف.

(4)

(ي): «أو يحتبسه» .

(5)

(ط): «بترييحه» ، وأقرب ما تكون في النسخ ما أثبته. وفي «القاموس»: التبريح: إظهار الزينة. وزاد في (ي) بعدها: «وتزيينه» .

(6)

(ظ) زيادة: «الوجوه» .

(7)

كذا قرأتها، وتحتمل غير ذلك.

(8)

من قوله: «وإن لم يقر

» إلى هنا من الأصل فقط. وبقية النسخ: «فإن الفقهاء متفقون» .

ص: 190

الفقهاء على أنه لو شهد شاهد به عند الحاكم، وكان قد استفاض عنه نوع من أنواع الفسوق القادحة في الشهادة، فإنه لا يجوز قبول شهادته، بل يجرحه الجارح عند الحاكم بذلك بناءً على الاستفاضة وإن لم يره، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال:«وجبت وجبت» ، ومُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًّا فقال:«وجبت وجبت»

(1)

، فسألوه عن ذلك فقال:«هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًّا، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض»

(2)

.

مع أنه كان في زمانه امرأة تفعل

(3)

الفجور، فقال:«لو كنتُ راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتُ هذه» . هكذا في الحديث الصحيح

(4)

. فبين أن الحدود لا تُقام إلا بالبينة.

وأما الحذر من الرجل في شهادته وأمانته ونحو ذلك، فتكون [بـ]ـالمظنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غِمْرٍ

(5)

على أخيه [أ/ق 60] ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت»

(6)

. وعنه أنه

(1)

من قوله: «ومر عليه بجنازة

» إلى هنا ساقط من (ز).

(2)

أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

كذا في الأصل، وفي (ف، ي، ز، ظ، ل): «تعلن» ، (ب):«تعال» .

(4)

«هكذا في الحديث الصحيح» من الأصل. والحديث في البخاري (5310)، ومسلم (1497) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

تحرفت في الأصل إلى: «عز» .

(6)

أخرجه أحمد (6698، 6899)، وأبو داود (3600)، والدارقطني:(4/ 243)، والبيهقي:(10/ 200) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

قال ابن كثير في «إرشاد الفقيه» : (2/ 420): إسناده جيد. وقال ابن حجر في «التلخيص» : (4/ 218): سنده قوي.

وله شاهد من حديث عائشة الآتي، وابن عمر رضي الله عنهم. انظر «البدر المنير»:(9/ 624 - 630).

ص: 191

قال: «لا تجوز شهادة ظنين ــ أي متهم ــ في ولاء أو قرابة»

(1)

(2)

.

والاستفاضة

(3)

كافية في ذلك وما هو دون الاستفاضة، حتى إنه يُستدل على الرجل بأقرانه، كما قال ابن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم

(4)

. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرء على دين خليله فلينظر أحدُكم من يُخالِل»

(5)

. فإن المقصود من

(6)

هذا دفع شره، مثل الاحتراز من العدو. وقد قال عمر

(1)

قطعة من حديث أخرجه الترمذي (2298)، والدارقطني:(4/ 244) بدون هذا اللفظ، والبيهقي:(10/ 155) من حديث عائشة رضي الله عنها.

قال الترمذي: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث، ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه

ولا يصح عندي من قبل إسناده) اهـ. وقال أبو زرعة الرازي في «العلل» (1428): منكر ولم يقرأ علينا. اهـ وضعَّفه أكثر الحفاظ. انظر «البدر المنير» : (9/ 627 - 628).

(2)

من قوله: «فتكون المظنة

» إلى هنا من الأصل.

(3)

العبارة في بقية النسخ: «فلا يحتاج إلى المعاينة بل الاستفاضة

».

(4)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (8919).

(5)

أخرجه أحمد (8028)، وأبو داود (4833)، والترمذي (2378) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب، وصححه النووي في «الرياض» (ص 144)، وحسَّنه السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» ، وصححه الألباني في «الصحيحة» (927).

(6)

من قوله: «وذلك لأن النبي

» إلى هنا من الأصل. وتبدأ العبارة في باقي النسخ: «فهذا لدفع شره

».

ص: 192

- رضي الله عنه: احترسوا من الناس بسوء الظن

(1)

. ولا تجوز عقوبة المسلم بسوء الظن به

(2)

.

لهذا ينبغي للوالي والعالم أن يكون خبيرًا بالشر وأسبابه وعلاماته، مثل الخبرة بالكفر والفسوق وأحوال العدو في دينهم ودنياهم؛ ليحترس من شرِّ ذلك

(3)

.

وكان من أعظم المصالح: إزجاء العيون ــ الذين هم الجواسيس ــ إلى العدو، والمعرفة بطريق الكفر، كما قد ورد عن بعض السلف أنه قال: إنما تُنقض عُرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية

(4)

. وهذا لأن من لا يعرف الأمراض وأسبابها قد يغتر بالعافية، ولا يحترز من أسباب المرض أو ذاته، و [من] عرف سببه وعلامته فإنه يصلح

(1)

أخرجه الخطابي في «العزلة» (ص 168). وقد روي موقوفًا على مطرف بن عبد الله، ومرفوعًا من حديث أنس. انظر «المقاصد» (ص 23)، و «الضعيفة» (156).

(2)

العبارة في (ي، ز): «فهذا أمر عمر مع أنه لا تجوز عقوبة الحاكم بسوء الظن به» . وهي ساقطة من (ب)، وفي (ل):«ولا تجوز عقوبة المسلم بسوء» .

(3)

ولمزيد بيان لهذه المسألة انظر «الفوائد» (ص 201 - 205) لابن القيم.

(4)

لم أعثر عليه، وقد ذكره المصنف في عدد من كتبه منسوبًا إلى عمر، وكذا تلميذه ابن القيم. لكن أخرج معناه ابن أبي شيبة:(6/ 410)، وابن سعد:(6/ 129)، والحاكم:(4/ 475)، وأبو نعيم في «الحلية»:(7/ 243) عن عمر بن الخطاب قال: قد علمتُ وربِّ الكعبة متى تهلك العرب. فقام إليه رجلٌ من المسلمين فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يسوس أمرَهم من لم يعالج أمر الجاهلية ولم يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 193

للطبيب

(1)

.

والولاة والعلماء أطبَّاءُ الخلق، كما كتب سلمان إلى أبي الدرداء لما تولي القضاء: بلغني أنك قعدت طبيبًا فإياك أن تقتل مسلمًا

(2)

.

وكان عمر رضي الله عنه يقول: لست بخبٍّ ولا يخدعني الخب

(3)

.

وقالوا: كان عمر أورع من أن يَخْدع، وأعقل من أن يُخْدع

(4)

.

وسلامة القلب المحمودة: هي سلامته من الأمراض، كالشبهات والأخلاق الردية؛ من النفاق والغِلّ والحسد والبخل والجُبْن وشهوة الزِّنا والكِبر ونحو ذلك.

فأما الجهلُ بالحقائق فليس في نفسه محمودًا؛ إذ العلم صفة كمال، وما ينتفع به إما واجب وإما مستحب. والسياسةُ بالرأي والخبرة أعظم من السياسة بالشجاعة والقوة

(5)

وأنفع.

وبذلك يرفع الله الدرجات، كما قال في خبر يوسف عليه السلام:

(1)

كذا في الأصل.

(2)

أخرجه أحمد في «الزهد» (ص 154).

(3)

ذكره الماوردي في «أدب الدنيا والدين» (ص 14) غير مسند، ووجدته عن إياس بن معاوية أخرجه ابن عساكر في «تاريخه»:(10/ 19)، والمزي في «تهذيب الكمال»:(1/ 304).

(4)

القائل هو المغيرة بن شعبة، ذكره عنه أحمد في «فضائل الصحابة»:(1/ 438)، وابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (ص 240).

(5)

الأصل: «للقوة» .

ص: 194

{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وقال في ذي القرنين:{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، قالوا: علمًا

(1)

.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحربُ خَدْعَة»

(2)

. ومن حكمة الشعر عن أبي الطيب

(3)

:

الرأيُ قبل شجاعةِ الشُّجعان

هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس مَرَّةً

بلغت من العلياءِ كلَّ مكان

لكن لابدَّ للوالي من التغافل عن العقوبة على ما يعمله الناس من الذنوب التي لا تضرُّ إلا صاحبَها، كما روى معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الوالي إذا ابتغى الريبة في الناس إلا كاد يفسدهم»

(4)

.

(1)

أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في «الدر المنثور» : (4/ 445).

(2)

أخرجه البخاري (3029)، ومسلم (1740) من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (3030)، ومسلم (1739) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهم.

(3)

«ديوانه» (ص 265). ووقع في الأصل: «لعبد مرة بلغا

».

(4)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (249)، وأبو داود (4888)، وابن حبان (5760)، والطبراني في «الكبير»:(19/رقم 890) وغيرهم.

وله شاهد من حديث المقدام بن الأسود وأبي أمامة، أخرجه أحمد (23815)، وأبو داود (4889)، والحاكم:(4/ 378)، وغيرهم.

ولفظ الحديث في الأصل: «إلا كان» وقبلها بياض بقدر كلمة، ولعل الصواب ما أثبت بدليل أن في بعض ألفاظ الحديث: «

في الناس أفسَدتهم أو كدْت تُفْسدهم». فلعل ما في الأصل مصحَّف منه.

ص: 195

قال الحسن

(1)

: كلمةٌ سمعها معاويةُ من النبي صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ابتُلي من هذه القاذورات بشيء فليَسْتَتِر بستر الله، فإنه من يُبْدِ لنا صَفْحَتَه نُقِمْ عليه كتابَ الله»

(2)

.

ولا ينبغي له أن يُظْهِر للناس أنه يعرف ما أخفوه من سيئاتهم إذا لم يُعاقِب عليه، فإنَّ ذلك يغير قلوبَهم ويحرِّك الفتنةَ بلا فائدة.

فصلٌ

حقوق الله: اسمٌ جامع لكل ما فيه منفعة عامة لا تختصُّ بمعين، أو دَفْع مضرة عامة بما يتعلق بالدين أو الدنيا، كالنظر في المساجد وأئمتها ومؤذنيها، والوقوف والطرقات والضِّياع، وإحياء السنن النبوية، وإماتة [أ/ق 61] البدع المُضِلَّة، وتقديم

(3)

من ينتفع به في ذلك وغيره من خيار الناس، وأهل الدين والعلم، والبر والتقوى من كل صِنف من أصناف الناس، ومجانبة ذوي الإثم والعدوان، وأهل الحيلة والخديعة، والكذب والإدْهان، وغير ذلك من المصالح العامة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى بنفسه عامة ذلك، ويستنيب فيما بَعُدَ عنه، ويوكِّل في بعض الأمور لمن حضر عنده.

(1)

الذي في المصادر نسبة هذا القول لأبي الدرداء رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مالك في «الموطأ» (2386)، ومن طريقه الشافعي في «الأم»:(7/ 349، 367 - 368)، والبيهقي:(8/ 326) من مرسل زيد بن أسلم. قال الشافعي: «هذا حديث منقطع، ليس مما يثبت به هو نفسه حجة» .

وأخرجه الحاكم: (4/ 244) بنحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال: صحيح على شرط الشيخين.

(3)

الأصل: «وتقدم» .

ص: 196

وكان المسلمون يتعاونون على ذلك، وكان خلفاؤه قريبًا من ذلك، وكانوا يستخلفون في مصرهم قاضيًا فيما يتفق حكمهم فيه، فإذا نزل بالقاضي ما فيه إشكال يراجع الخليفة، كما كان زيدٌ يراجع عمر في مسائل الجد والطلاق وغير ذلك

(1)

.

وأما بعد الخلفاء؛ فتنوعت العادات في ذلك في الأعصار والأمصار بحسب قلة الحاجة وكثرتها، وبحسب قدرة الوالي الكبير وعجزه، وقيامه بالأمر وإعراضه وأسباب أخر، فصار بعض هذه الأمور يتولاها والي الحرب الذي هو صاحب الشرطة.

وكان صاحب الشرطة مثل المنفذ لأمر الولي الكبير الذي يقال له: «نائب السلطان» . قال أنس بن مالك: كان [قيس بن] سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير

(2)

.

وبعضها يتولَّاها المحتَسِب الذي وَليَ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، وولايته قد تدخل في ولاية القاضي. وبعضها يتولاها القاضي.

وأيُّ شيء من الولايات عُمِل فيه بطاعة الله ورسوله كانت ولايةً شرعية، وأيُّ شيء عُمِل فيها بخلاف ذلك، أو تُرِك فيها ما يجب لم تكن شرعية، لكن لما كان القاضي أقرب إلى العلم وأهله

(3)

[و] أكثر معرفة بالشريعة= صار كثيرٌ من الناس يظن أنه ليس من الولايات ما يجب أو يقع فيها حكم الشرع

(1)

كما أخرجه الحاكم: (4/ 339)، والبيهقي:(6/ 247).

(2)

أخرجه البخاري (7155).

(3)

الأصل: «وأهلها» .

ص: 197

إلا هي، وصاروا يفهمون أن الشرع ما حَكَم به القاضي، وربما فرُّوا من هذا الشرع؛ إما خروجًا منهم عن الحق، أو لتقصير يقع من بعض القضاة، وليس الأمر كذلك، بل الشرع اسم لما بعث الله تعالى به رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وحُكْمُه لازمٌ جميعَ الخلق.

فعلى كل والٍ أن يتبع هذا الشرع، وكثيرًا ما يوافقه النائب والوالي والمحتسب، كما أنه كثيرًا ما يخالفه بعض القضاة؛ إما لعدم معرفته، أو لغرض مذموم، أو لتقليد عالم أو غير ذلك، فإن الموافق له من غير القضاة قد يوافقه لظهور الحق الذي اتفقت عليه العقول أو الأديان أو شريعتنا، أو لمعرفته بذلك من الكتاب والسنة، أو لصحة رأيه، أو لتقليد مُصيب في ذلك، أو هو اتفاقًا من غير سلوك طريقٍ صحيح، لكنَّ موافقة الشرع في القضاء أكثر من موافقته في غيره من الولايات.

وقد رؤي من الولاة من هو خير من أكثر القضاة، ورؤي من القضاة من هو شرٌّ من فُسَّاق الولاة. وعموم هذه الولايات وخصوصها هو بحسب ما يمكن من المولي، فإن المقصود هو أمانة الدين في جميع الأشياء، ولا يتم ذلك إلا بالاجتماع والسلطان، فإذا جُعِل سلطانٌ يقام به الدين على الوجه المشروع، كان ذلك مقصود الولاية.

وقد ذكر طوائف من الفقهاء أن ولاية القضاء المطلقة تقتضي عدة أنواع، واختلفوا في أشياء، وهذا بحسب مقتضى لفظ الولاية وعُرْفها، فإن ذلك يختلف [باختلاف] معاني [أ/ق 62] العُرف حتى قالوا: ذلك يقتضي هذا، فإن موجبات العقود كلها تُتَلَقَّى من اللفظ أو العرف إذا لم يكن الشرع قد جعل لها حدًّا.

ص: 198

وكل ما كان من باب الوكالات والولايات التي تُستفاد بالشرط لا بالشرع، كالوصية، والقضاء، وأمارة الحرب، وولاية الأمصار، ونحو ذلك، فإن عمومَها وخصوصَها يُستفادُ من المولى لفظًا وعرفًا

(1)

على ما يثبت بالشرع، كولاية

(2)

الأب على ابنه، فإن عموم ذلك يستفاد بنفس الشرع

(3)

.

* * * *

(1)

انظر «الطرق الحكمية» : (2/ 626).

(2)

كذا العبارة في الأصل، ولعل في الكلام سقطًا.

(3)

من قوله (ص 188): «لهذا ينبغي للوالي

» إلى هنا من الأصل فقط.

ص: 199

فصل

وأما الحقوق والحدود التي لآدميٍّ معين

(1)

:

فمنها: الدماء

(2)

، قال الله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151 - 153].

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} إلى قوله

(3)

: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 92 - 93].

وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا

(1)

وهذا هو القسم الثاني من أقسام الحدود والحقوق، وتقدم الأول (ص 83).

(2)

بقية النسخ: «النفوس» .

(3)

في الأصل: «إلى قوله: (وساءت مصيرًا)» وهذه نهاية آية (97) ولا علاقة لها بكلام المؤلف.

ص: 200