المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تقطع يده إذا سرق نصابا - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - ط عطاءات العلم - الكتاب

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌أحدهما: الولايات

- ‌ الولاية لها ركنان: القوة، والأمانة

- ‌فصلاجتماع القوة والأمانة في الناس قليل

- ‌كثيرًا ما يحصل للرجل إحدى القوتين دون الأخرى

- ‌فصلالقسم الثاني من الأمانات(1): الأموال

- ‌هذا القسم يتناول الرُّعاة(7)والرعية

- ‌ليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم

- ‌فصل(1)الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف:

- ‌ يجتمع مع الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين

- ‌لم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوانٌ جامع

- ‌كثيرًا ما يقع الظلم من الولاة والرعية

- ‌الظالم يستحق العقوبة والتعزير

- ‌ التعاون نوعان

- ‌المؤلفة قلوبهم نوعان: كافر، ومسلم

- ‌كثيرًا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل

- ‌ صلاح البلاد والعباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌إذا كان المحاربون الحرامية جماعة

- ‌ المقتتلون على باطل لا تأويل فيه

- ‌ إذا شَهَروا السلاح ولم يقتلوا نفسًا

- ‌ التمثيل في القتل

- ‌لو شَهَر المحاربون السلاح في البنيان

- ‌من آوى محاربًا أو سارقًا

- ‌ الواجب على من استجار به مستجير:

- ‌إذا قُطِعت يده حُسِمت

- ‌ تُقْطَع يده إذا سرق نصابًا

- ‌ الطائفة الممتنعة، لو تركت السنة الراتبة

- ‌ نفقةُ الإنسان على نفسه وأهله مقدَّمة على غيره

- ‌القتل ثلاثة أنواع:

- ‌من قَتَل بعد العفو أو أَخْذ الدِّية

- ‌النوع الثاني:

- ‌النوع(7)الثالث:

- ‌إذا كانت المَظْلَمة في العِرْض مما لا قصاص [فيه]

- ‌ حدُّ(2)القذف

- ‌أولو الأمر صنفان؛ الأمراء والعلماء

- ‌الواجب اتخاذ الإمارة(3)دينًا وقُربة

الفصل: ‌ تقطع يده إذا سرق نصابا

كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحبُّ إلينا من أهلنا، قال: فكيف أدبه فيكم؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة، قال: هذه هيبته، وهذه محبته، وهذا أدبه، هذا أمر من السماء

(1)

!

و‌

‌إذا قُطِعت يده حُسِمت

، ويستحب

(2)

أن تعلَّق في عنقه

(3)

، فإن سرق ثانيًا قُطِعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثًا ورابعًا؛ فيه قولان للصحابة ومَن بعدهم من العلماء:

أحدهما: تُقْطَع أربعتُه في الثالثة والرابعة، وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى

(4)

الروايتين.

والثاني: أنه يُحْبس، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه والكوفيين، ومذهب أبي حنيفة

(5)

وأحمد في روايته الأخرى.

وإنما‌

‌ تُقْطَع يده إذا سرق نصابًا

، وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم؛ كمالك والشافعي

(1)

لم أقف عليه.

(2)

بقية النسخ: «واسْتُحِب» .

(3)

لحديث فضالة بن عبيد قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه. أخرجه عبد الله في زوائد المسند (23946)، وأبو داود (4411)، والترمذي (1447)، والنسائي (4997)، وابن ماجه (2587). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه ابن الملقن في «البدر» : (8/ 675 - 676). وضعفه النسائي وابن العربي وابن القطان في «بيان الوهم» : (3/ 184).

(4)

الأصل و (ل): «أحد» ، والمثبت من بقية النسخ.

(5)

«ومذهب أبي حنيفة» من الأصل فقط.

ص: 130

وأحمد. ومنهم من يقول: دينار أو عشرة دراهم. فمن سرق ذلك قُطِع بالاتفاق.

وفي «الصحيحين»

(1)

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَطَع في مِجَنٍّ ثمنه ثلاثة دراهم.

وفي لفظ لمسلم

(2)

: قَطَع سارقًا في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم. والمجن التُّرْس.

وفي «الصحيحين»

(3)

عن عائشة رضي الله عنها[أ/ق 41] قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُقطع يد

(4)

السارق في ربع دينار فصاعدًا». وفي رواية لمسلم

(5)

: «لا تُقطع يدُ السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا» . وفي رواية البخاري

(6)

قال: «اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» . وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنا عشر درهمًا.

ولا يكون السارق سارقًا حتى يأخذ المال من حِرْزٍ، فأما المال الضائع من صاحبه، والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حافظ

(7)

والماشية التي لا راعي عندها، ونحو ذلك= فلا قَطْع فيه لكن يُعَزَّر الآخذ، ويضاعف

(1)

البخاري (6795)، ومسلم (1686).

(2)

بعد الحديث بال السابق.

(3)

البخاري (6789)، ومسلم (1684/ا).

(4)

بقية النسخ: «اليد» .

(5)

(1684/ 2).

(6)

لم أجده في البخاري، وهو في «مسند أحمد» (24559)، والبيهقي:(8/ 255).

(7)

(ط): «حائط» .

ص: 131

عليه الغُرم كما جاء به الحديث

(1)

.

وقد اختلف أهل العلم في التضعيف، وممن قال به: أحمد وغيره، قال رافع بن خديج: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا قطع في ثَمَرٍ ولا كَثَر»

(2)

. والكَثَر: هو الجُمَّار

(3)

جُمَّار النخل. رواه أهل السنن.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رجلًا من مُزَينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، جئت أسألك عن الضالة من الإبل؟ قال:«معها حِذاؤها وسِقاؤها تأكل الشجَر وتَرِد الماء، فدَعها حتى يأتيها باغيها» . قال: الضالة من الغنم؟ قال: «لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها» . قال: الحريسة

(4)

التي تؤخذ من مراتعها؟ قال: «فيها ثمنها مرتين وضَرْب نكال، وما أُخِذ من عَطَنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المِجَنِّ» . قال: يا رسول الله، فالثمار وما أُخِذَ منها من أكمامها؟ قال: «من أخذ بفمه ولم يتخذ خُبنَة

(5)

فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه

(1)

كما سيذكره المصنف قريبًا.

(2)

أخرجه أحمد (15842)، وأبو داود (4388)، والترمذي (1449)، والنسائي (4960)، وابن ماجه (2593)، وابن حبان (4466)، والبيهقي:(8/ 262) وغيرهم من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقد اختلف في وصله وإرساله، والحديث صححه ابن حبان، وقال الطحاوي: هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول. وصححه ابن الملقن، وقال ابن عبد الهادي: رجاله رجال الصحيحين. انظر «البدر المنير» : (8/ 657 - 659)، وصححه الألباني في «الإرواء» (2414).

(3)

«هو الجمار» ليست في (ف).

(4)

الأصل: «العريبة» ! (ز): «فالحرية» !

(5)

الأصل: «حبة» ! (ي، ب): «خبيئة» . والخُبْنَة: ما يحمله الإنسان في حضنه أو تحت إبطه.

ص: 132

مرتين وضربًا ونكالًا

(1)

، وما أُخِذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يُؤخذ من ذلك ثمن المِجَن، وما لم يبلغ ثمن المجنّ

(2)

ففيه غرامة مِثْليه وجلداتُ نكال» رواه أهل السنن لكن هذا سياق النسائي

(3)

.

وكذلك

(4)

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على المُنْتَهِب، ولا على المُخْتَلِس، ولا الخائن قَطْع»

(5)

.

فالمنتهب: الذي ينهب الشيءَ والناسُ ينظرون، والمختلس: الذي

(6)

يجتذب الشيء فيُعلَم به قبل أخذه. فأما الطرَّار وهو البطَّاط الذي يبط

(1)

(ي): «وضرب نكال» ، (ز، ظ، ب): «وضرب ونكال» .

(2)

«وما لم يبلغ ثمن المجنَّ» سقط من (ز).

(3)

أخرجه أحمد (6683)، وأبو داود (1710)، والترمذي (1289) مختصرًا، وابن ماجه (2596)، والنسائي (4959)، وفي «الكبرى» (7405) من طرق كثيرة عن عمرو بن شعيب به، واللفظ الذي ساقه المصنف أقرب إلى سياق أحمد. قال الترمذي: حديث حسن. وبعض ألفاظه في «الصحيحين» .

(4)

(ف، ي، ظ): «ولذلك» .

(5)

أخرجه أحمد (15112)، وأبو داود (4391)، والترمذي (1448)، والنسائي (4971)، وابن ماجه (2591)، وابن حبان «الإحسان» (4456، 4457) وغيرهم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وجمهور النقاد على أن ابن جريج لم يسمع هذا الحديث من أبي الزبير، وأن بينهما واسطة وهو ياسين الزيات وهو ضعيف، لكنه توبع على روايته. قال الترمذي: حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. اهـ، وصححه ابن حبان وابن الملقن. انظر «البدر المنير»:(8/ 660 - 664)، و «نصب الراية»:(3/ 364).

(6)

(ي، ظ، ب): «كالذي» .

ص: 133

الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها؛ فإنه يُقْطَع على الصحيح.

فصل

وأما الزاني: فإن كان مُحصنًا فإنه يُرجم بالحجارة حتى يموت، كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزَ بن مالك الأسلمي، ورجم الغامدية، ورجم اليهوديين

(1)

، ورجم غير هؤلاء، ورجم المسلمون بعده.

وقد اختلف العلماء هل يُجلد قبل الرجم مئة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره

(2)

.

وإن كان غير مُحْصن فإنه يُجلد مئة جلدة بكتاب الله ويُغَرَّب عامًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

، وإن كان

(4)

بعض العلماء لا يرى وجوب التغريب

(5)

.

ولا يُقام عليه الحدُّ حتى يشهد عليه أربعة شهداء، أو يشهد على نفسه أربعَ شهادات عند كثير من العلماء أو أكثرهم، ومنهم من يكتفي بشهادته

(6)

على نفسه مرة واحدة. ولو أقرَّ على نفسه ثم رجع

(7)

، فمنهم مَن يقول:

(1)

حديث ماعز رواه البخاري (6824)، ومسلم (1693). وحديث الغامدية أخرجه مسلم (1695)، وحديث رجم اليهوديين أخرجه البخاري (1329)، ومسلم (1699).

(2)

انظر «المغني» : (12/ 313 - 314).

(3)

من قوله: (ويغرب

) إلى هنا سقط من (ي) وقد وضع الناسخ علامة × لعله إشارة لذلك. والتغريب ثابت في «صحيح مسلم» (1690) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(4)

سقطت من الأصل.

(5)

كأبي حنيفة ومحمد بن الحسن.

(6)

(ي): «بشهادة واحدة» .

(7)

الأصل: «رفع» ! والمثبت من باقي النسخ.

ص: 134

يسقط عنه الحد، ومنهم من يقول: لا يسقط.

والمُحْصَن: من وَطِئ [أ/ق 42] وهو حرٌّ مكلَّف لمن تزوجها

(1)

نكاحًا صحيحًا في قُبُلِها ولو مرَّة واحدة

(2)

، فإن وطئ كاملٌ ناقصةً أو بالعكس، ففي إحصان الكامل تنازع بين الفقهاء، ومتى وطئها مرةً صار مُحْصنًا يُرجَم إذا زنى ولو لم يكن حين الزنا متزوجًا

(3)

.

[وهل يشترط أن تكون الموطوءة مساوية للواطئ في هذه الصفات؟ على قولين للعلماء. وهل

(4)

تُحصِن المراهقة البالغ

(5)

وبالعكس؟

فأما أهل الذمة فإنهم يُحصِنون أيضًا عند أكثر العلماء

(6)

كالشافعي وأحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين على باب مسجده، وذلك أول رَجْم

(7)

في الإسلام]

(8)

.

واختلفوا في المرأة إذا وُجِدت حُبلى ولم يكن لها زوج ولا سيِّد، ولم

(1)

الأصل: «تزوج» .

(2)

بعده في الأصل: (عاقل بالغ في نكاح صحيح امرأة مسلمة في قبلها) وهذه العبارة بمعنى ما سبق في تعريف المحصن.

(3)

من قوله: «فإن وطئ

» إلى هنا من الأصل فقط.

(4)

(ي، ز): «وقيل» .

(5)

(ي): «المميزة البالغة» ، (ز):«المميزة للبالغ» .

(6)

(ي، ز): «الفقهاء» .

(7)

(ف): «رَجْم رُجم» .

(8)

ما بين المعكوفين ليس في الأصل وهو ثابت في باقي النسخ. وقد تقدم قريبًا حديث رجم اليهوديين.

ص: 135

تدَّع

(1)

شبهَة في الحَبَل، ففيها قولان عند

(2)

أحمد وغيره؛ قيل

(3)

: لا حدّ عليها لأنه يجوز أن تكون حَبِلَت مكرهةً، أو بتحَمُّل

(4)

، أو بوطء شبهة. وقيل: بل تُحَد، وهذا المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بأصول الشريعة، وهو مذهب أهل المدينة، فإن الاحتمالات النادرة لا يُلتفت إليها، كاحتمال كذبها وكذب الشهود.

وأما التلوُّط، فمن العلماء من يقول: حدُّه حد الزاني

(5)

، وقد قيل دون ذلك، والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة: أنه يُقْتَل الاثنان الأعلى والأسفل، سواءٌ كانا محصَنَيْن أو غير محصَنَين

(6)

.

فإنَّ أهل السنن رووا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن وجدتموه يفعل فعل

(7)

قوم لوط فاقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به»

(8)

.

(1)

(ي): «يك» ، (ب):«يكن» .

(2)

بقية النسخ: «في مذهب» .

(3)

الأصل: «وقيل» .

(4)

الأصل: «احتملت مكرهة أو تتحمل» ، (ل):«تكون مكرهة» . وما أثبته من بقية النسخ، والمعنى ما ذكره في «المغني»:(12/ 377)(أن المرأة تحمل من غير وطء، بأن يدخُلَ ماءُ الرجل في فرجها، إما بفعلها أو بفعل غيرها؛ ولهذا تُصُوِّر حمل البكر، فقد وجد ذلك) اهـ. وانظر: «شرح العثيمين» (ص 296).

(5)

(ف): «الزنا» .

(6)

حكى إجماعهم صاحب «المغني» : (12/ 350) وإنما اختلفوا في صفة القتل.

(7)

(ي، ز، ظ، ب): «يعمل عمل» .

(8)

أخرجه أحمد (2732)، وأبو داود (4462)، والترمذي (1456)، وابن ماجه (2561)، والدارقطني:(3/ 124)، والحاكم:(4/ 355)، والبيهقي:(8/ 231 - 232) من طرق عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما. نقل الحافظ عن النسائي أنه استنكر الحديث، وسئل الترمذيُّ البخاريَّ عن الحديث فقال:«عمرو بن أبي عمرو (الراوي عن عكرمة) صدوق، ولكن روى عن عكرمة مناكير، ولم يذكر في شيء من ذلك أنه سمع من عكرمة» اهـ. «العلل الكبير» (251). وقد صحح الحاكمُ إسناده.

ص: 136

وروى أبو داود

(1)

عن ابن عباس رضي الله عنه في البكر

(2)

يوجد على اللوطية، قال: يُرْجَم.

ورُوِي عن

(3)

علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحو ذلك

(4)

.

ولم تختلف الصحابةُ في قتله لكن تنوعوا فيه؛ فروي عن الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريقه، وعن غيره: قتله، وعن بعضهم: أنه يُلقَى

(5)

عليه جدار حتى يموت تحت الهدم، وقيل: يُحبسان في أنتَنِ موضع حتى يموتا، وعن بعضهم: أن يُرفع على أعلى جدار في القرية ويُرمى منه ويُتْبع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط. وهذه رواية عن ابن عباس رضي الله عنه والرواية الأخرى قال: يرجم، وعلى هذا أكثر السلف، وهو مذهب أهل المدينة والشام وأكثر فقهاء الحديث كأحمد في أصح روايتيه والشافعي في أحد قوليه

(6)

.

(1)

(4463).

(2)

تحرفت في الأصل إلى «المنكر» !

(3)

من قوله: «ابن عباس

» إلى هنا ساقط من (ز).

(4)

أخرجه عبد الرزاق: (7/ 363 - 364)، والبيهقي:(8/ 232).

(5)

(ظ، ب): «يلقى من شاهق، وعن بعضهم أنه يرفع

». والجملة بعده إلى «يموتا» ليست في (ف).

(6)

انظر آثار الصحابة في هذه المسألة في «مصنف ابن أبي شيبة» : (5/ 496 - 497)، و «مصنف عبد الرزاق»:(7/ 362 - 364). ومن قوله: «وهو مذهب

» إلى هنا من الأصل فقط.

ص: 137

قالوا: لأن الله رجم قوم لوط، وشَرعَ رجم الزاني تشبيهًا برجم قوم لوط. ويُرجم الاثنان سواء كانا حرَّيْن أو مملوكَيْن، أو كان أحدهما مملوكَ الآخر

(1)

إذا كانا بالغَين، فإن كان أحدهما غير بالغٍ عُوقِب بما دون القتل، ولا يُرجم إلا البالغ.

فصل

وأما حدُّ الشُّرْب؛ فإنه ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، فقد روى أهل «السنن» عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: «مَن شَرِب الخمرَ فاجلدوه، ثم إن شربَ فاجلدوه، ثم إن شربَ فاجلدوه

(2)

، ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه»

(3)

.

(1)

(ي، ظ، ب، ل): «مملوكًا والآخر حرًّا» .

(2)

«ثم إن شرب فاجلدوه» الثالثة ليست في بقية النسخ. و (ل): «ثم إلى الرابعة إن شرب الرابعة

».

(3)

جاء الحديث من رواية عدد من الصحابة: فقد أخرجه أحمد (16847)، وأبو داود (4482)، والترمذي (1444)، والنسائي في «الكبرى» (5279)، وابن ماجه (5273)، والحاكم:(4/ 372) من حديث معاوية رضي الله عنه.

وأخرجه أحمد (7762)، وأبو داود (4484)، والنسائي (5662)، وابن ماجه (2572)، والحاكم:(4/ 371)، والبيهقي:(8/ 313) وغيرهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه. وسنده ضعيف.

وروي أيضًا من حديث ابن عمر، وقبيصة بن ذؤيب، وجابر، والشريد، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عمرو، وجرير، وابن مسعود، وشرحبيل بن أوس، وغطيف.

قال الترمذي بعد أن ساق حديث معاوية: (روى الزهري عن قصيبة بن ذؤيب عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا قال: فرفع القتل وكانت رخصة. والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك في القديم والحديث، ومما يقوي هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة أنه قال: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث؛ النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه) اهـ. وللشيخ أحمد شاكر بحث مطول حول قتل شارب الخمر في الرابعة في «شرح المسند» : (9/ 40 - 70).

ص: 138

وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة

(1)

هو وخلفاؤه والمسلمون بعده.

والقتل عند أكثر العلماء منسوخ، وقيل: هو محكم، وقد يقال: هو تعزيرٌ يفعله الإمام عند الحاجة.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين، وضرب أبو بكر أربعين، وضرب عمر في خلافته ثمانين. وكان علي رضي الله عنه يضرب مرة أربعين ومرة ثمانين

(2)

.

فمن العلماء مَن يقول: يجب ضرب [أ/ق 43] الثمانين، ومنهم من يقول: الواجب أربعون، والزيادة يفعلها الإمامُ عند الحاجة، إذا أدمن الناسُ الخمرَ أو كان الشارب ممن لا يرتدع بدونها، ونحو ذلك.

فأما مع قلة الشاربين وقُرب أمر الشارب فتكفي الأربعون، وهذا أوجه القولين، وهو قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (6773)، ومسلم (1706) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (1707) من حديث علي رضي الله عنه.

(3)

(ي): «أحد القولين» . انظر «المغني» : (12/ 498 - 499).

ص: 139

وقد كان عمر رضي الله عنه لمَّا كَثُر الشرب زاد فيه النفي وحلق الرأس، مبالغةً في الزجر عنه

(1)

، فلو عُزِّرَ الشارب مع الأربعين بقطع خُبْزِه

(2)

أو عزلِه عن ولايته= كان حسنًا، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه عن بعض نوَّابه أنه تمثَّل بأبياتٍ في الخمر فعزله

(3)

.

والخمرُ التي حرمها الله تعالى ورسوله، وأمرَ النبي بجلد شاربها: كلُّ شراب مسكر من أي أصل كان، سواء كان من الثمار؛ كالعنب والرطب والزبيب

(4)

والتين، أو الحبوب؛ كالحِنطة والشعير، أو الطلول؛ كالعسل، أو الحيوان، كلبن الخيل. بل لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر لم يكن عندهم بالمدينة

(5)

من خمر العنب شيء

(6)

؛ لأنه لم يكن بالمدينة

(7)

(1)

أخرجه عبد الرزاق: (9/ 231 - 233) عن عمر وغيره.

(2)

تحتمل في الأصل: «خبره» وهو كذلك في (ط)، وتحرف النص في (ل). وسيأتي ما يؤيد ما أثبتناه (ص 146).

(3)

هو النعمان بن عدي رضي الله عنهما استعمله عمر على ميسان، وكان يقول الشعر، فقال:

ألا هل أتى الحسناء أن خليلَها

بميسان يُسقى في زُجاج وحَنْتم

إذا شئتُ غنتني دهاقينُ قريةٍ

ورقاصة تجذو على كل منسم

إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني

ولا تسقني بالأصغر المتثلِّم

لعل أمير المؤمنين يسوءه

تنادُمُنا في الجَوسَقِ المتهدِّم

أخرجه ابن سعد في «الطبقات» : (4/ 130 - 131).

(4)

«والزبيب» من الأصل.

(5)

في الأصل بعده: (شيء) ولا مكان لها.

(6)

كما ثبت في البخاري (4616) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(7)

«من خمر العنب شيء؛ لأنه لم يكن بالمدينة» ساقط من (ي).

ص: 140

شجر عنب، وإنما

(1)

كانت تُجْلب من الشام، فكان عامة شرابهم من نبيذ التمر، وقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه أنه حرَّم كل مسكر وبيَّن أنه خمر

(2)

.

وكانوا يشربون النبيذ الحُلو، وهو أن يُنْبَذ في الماء تمرٌ أو زبيب، أي يُطْرح فيه ــ[والنبذُ: الطرح]

(3)

ــ ليَحْلوَ الماء، لاسيما كثير من مياه الحجاز، فإن فيه ملوحة، فهذا النبيذ حلال بإجماع المسلمين؛ لأنه لا يُسكِر، كما يحل شرب عصير العنب قبل أن يصير مسكرًا.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن ينبذوا

(4)

هذا النبيذ في أوعية الخشب أو الجرِّ ــ وهو ما يُصنع من التراب ــ أو القرع أو الظروف المُزَفَّتة، وأمرهم أن ينبذوا في الظروف التي تُربط أفواهُها بالأوكية

(5)

؛ لأن الشدة تدب في النبيذ دبيبًا خفيًّا ولا يشعر الإنسان، فربما شرب الإنسان

(6)

ما قد دبَّ فيه الشِّدة المُطربة وهو لا يشعر، فإذا كان في سقاء موكئًا انشق الظرفُ إذا غلا فيه النبيذ، فلا يقع الإنسان في محذور، وتلك الأوعية لا تنشق.

ورُوِي عنه أنه رخص بعد هذا في الانتباذ في الأوعية، وقال: «كنت قد

(1)

الأصل: «وربما» !

(2)

سيذكر المصنف بعض تلك الأحاديث قريبًا.

(3)

من بقية النسخ.

(4)

في هامش (ي): «صوابه: ينتبذوا» .

(5)

أخرجه مسلم (18) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والبخاري (1398)، ومسلم (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(6)

«فربما شرب الإنسان» سقطت من (ي).

ص: 141

نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا

(1)

ولا تشربوا مسكرًا»

(2)

. فاختلف الصحابة ومَن بعدهم من العلماء: منهم من لم يبلغه النسخ أو لم يُثْبِته، فنهى عن الانتباذ في الأوعية، ومنهم من اعتقد ثبوته وأنه ناسخ

(3)

، فرخَّص في الانتباذ في الأوعية، فسمع طائفةٌ من الفقهاء أن بعض الصحابة كانوا يشربون النبيذ، فاعتقدوا أنه المسكر، فرخَّصوا في شرب أنواع من الأشربة التي ليست من العنب والتمر، وترخَّصوا في المطبوخ من نبيذ التمر والزبيب إذا لم يسكر الشارب.

والصواب ما عليه جماهير المسلمين: أن كل مُسكِر خمر يُجلد شاربه، ولو شرب منه قطرةً واحدة لتداوي أو غير تداوي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر أيُتَداوى بها؟ فقال:«إنها داء وليست بدواء»

(4)

، و «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرَّمَ عليها»

(5)

.

والحدُّ واجب إذا قامت البينة [أ/ق 44] أو اعترف الشارب.

(1)

(ي، ظ، ب، ل): «ولا تشربوا» . (ف): «فاشربوا» !

(2)

أخرجه مسلم (977) من حديث بريدة رضي الله عنه.

(3)

(ب): «ناسخ منتسخ» .

(4)

أخرجه مسلم (1984) من حديث طارق بن سويد رضي الله عنه.

(5)

أخرجه أبو يعلى (6930)، وابن حبان «الإحسان» (1391)، والبيهقي:(10/ 5)، والطبراني في «الكبير» (23/رقم 749) من حديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»:(5/ 86): (رجال أبي يعلى رجال الصحيح خلا حسان بن مخارق وقد وثَّقه ابن حبان) اهـ. وصححه المصنف في «الفتاوى» : (21/ 568). وله شواهد من حديث عدد من الصحابة مرفوعًا وموقوفًا.

ص: 142

فإن وُجِدت منه رائحة الخمر، أو رُئي وهو يتقيَّؤها ونحو ذلك؛ فقد قيل: لا يقام عليه الحد؛ لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمرٍ، أو شربها جاهلًا بها أو مكرهًا ونحو ذلك. وقيل: بل يُجلد

(1)

إذا عَرَف أن ذلك مسكر. وهذا المأثور

(2)

عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، كعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم، وعليه تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يصلح عليه الناس، وهو مذهب مالك وأحمد في غالب نصيهما

(3)

وغيرهما

(4)

.

والحشيشة المصنوعة من ورق القِنَّب

(5)

حرام، يُجلَد صاحبُها

(6)

كما يُجلَد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخَنُّث ودِياثة وغير ذلك من المفاسد

(7)

. والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة، وكلاهما تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدِّها، ورأى أنَّ آكلها يعزَّر بما

(1)

(ي): «يحد» .

(2)

(ل): تحتمل: «المشهور» . (ف): «هو المأثور» .

(3)

بقية النسخ: «نصوصه» .

(4)

انظر «المغني» : (12/ 501 - 502)، و «الذخيرة»:(12/ 203 - 204) للقرافي.

(5)

(ي، ز، ظ، ط، ل): «العنب» . والمثبت من الأصل و (ب). والقِنَّب: بكسر القاف وضمها فالتشديد مع الفتح: ضَرْبٌ من الكَتّان وهو الغليظ الذي تُتَّخَذُ منه الحِبَالُ وما أشبهَها. وفي «المصباح» (ص 197): «القنّب: يُؤخذ لِحاه ثمَّ يُفْتَلُ حِبالًا وله لُب يُسَمَّى الشَّهدانِج. وانظر «اللسان» : (1/ 691).

(6)

(ظ، ب): «آكلها» .

(7)

بقية النسخ: «الفساد» .

ص: 143

دون الحد، حيث ظنها تغير العقل من غير طَرَب، بمنزلة البنج، ولم يجد

(1)

للعلماء المتقدمين فيها كلامًا. وليس كذلك، بل آكلوها ينتشون

(2)

عنها ويشتهونها كشراب الخمر وأكثر، وآكلها تصده

(3)

عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة إذا أكثر

(4)

منها، مع ما فيها من المفاسد الأُخر؛ من الدِّياثة، والتخَنُّث، وفساد المزاج والعقل، وغير ذلك.

لكن لما كانت جامدة مطعومة ليست شرابًا، تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره؛ فقيل: هي نجسة كالخمرة المشروبة، وهذا

(5)

هو الاعتبار الصحيح، وقيل: لا، لجمودها، وقيل: يُفَرَّق بين جامدها ومائعها. وبكل حال فهي داخلة فيما حرَّمَ الله ورسولُه من الخمر والمسكر لفظًا أو معنى.

قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البِتْع ــ وهو من العسل يُنبَذ حتى يشتد ــ، والمِزْر ــ وهو من الذرة والشعير يُنبذ حتى يشتد ــ قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اُعْطِي جوامع الكَلِم بخواتيمه فقال: «كلّ مُسْكِر حرام» . متفق عليه في «الصحيحين»

(6)

.

وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مِن الحِنْطةِ خمرًا،

(1)

(ف): «نجد» .

(2)

(ظ، ز، ب): «ينشون» .

(3)

بقية النسخ: «وتصدهم عن

».

(4)

بقية النسخ: «أكثروا» .

(5)

الأصل: «وهل» والمثبت من النسخ.

(6)

البخاري (4343)، ومسلم كتاب الأشربة (1733/ 70).

ص: 144

ومِن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا، وأنا

(1)

أنهى عن كل مسكر» رواه أبو داود وغيره

(2)

.

ولكن هذا في «الصحيحين»

(3)

عن عمر موقوفًا عليه: أنه خطب به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «الخمر ما خامر العقل»

(4)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ مسكر خمر وكل مسكر حرام» . وفي رواية: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» رواهما مسلم في «صحيحه»

(5)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملءُ الكفِّ منه حرام»

(6)

. قال الترمذي: حديث حسن.

(1)

(ظ): «وإنما» .

(2)

أخرجه أحمد (18350)، وأبو داود (3677)، والترمذي (1872)، والنسائي في «الكبرى» (6756)، وابن ماجه (3379)، وابن حبان «الإحسان» (5398)، والحاكم:(4/ 148) من طرق عن عامر الشعبي عن النعمان به. قال الترمذي: هذا حديث غريب. ثم ساق الحديث من طريق أبي حيان عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر موقوفًا به ــ كما سيذكره المصنف ــ ثم قال: وهذا أصح من حديث إبراهيم بن مهاجر ــ يعني عن الشعبي عن النعمان ــ. وصحح حديث النعمان ابن حبان، والحاكم وابن الملقن في «البدر»:(8/ 706).

(3)

البخاري (4619)، ومسلم (3032).

(4)

من قوله: «لكن هذا

» إلى هنا سقط من (ف، ظ).

(5)

(2003/ 74، 75). وقوله: «في صحيحه» من الأصل و (ز).

(6)

أخرجه أحمد (24423)، وأبو داود (3687)، والترمذي (1866)، وابن حبان «الإحسان» (5383)، والدارقطني:(4/ 250)، وغيرهم. والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان. ويشهد له ما بعده.

ص: 145

وروى

(1)

أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: «ما أسكرَ كثيرُه فقليله حرام»

(2)

. وصححه الحُفَّاظ

(3)

.

وعن جابر رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المِزْر؟ فقال: «أمسكر هو؟ » قال: نعم، [أ/ق 45] فقال: «كلّ مُسكِر حرام، إنّ على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخَبَال

(4)

»، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال:«عَرَق أهل النار، أو عُصارة أهل النار» رواه مسلم في «صحيحه»

(5)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ مُخَمَّر خمر وكل

(1)

(ي): «رواه» .

(2)

أخرجه أحمد (6674)، والنسائي (5607)، وابن ماجه (3394) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بنحوه.

وأخرجه أحمد (14703)، وأبو داود (3673)، والترمذي (1865)، وابن ماجه (3393)، وغيرهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ:(ما أسكر كثيره فالفرق منه حرام). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث جابر.

وله شواهد من حديث ابن عمر، وعائشة ــ السالف ــ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.

انظر «البدر المنير» : (8/ 701 - 705)، و «نصب الراية»: «4/ 301).

(3)

الأصل: «الحافظ» ! وفي (ف، ي، ز، ب): و «صححته» .

(4)

علق في هامش (ي): (الخبال وزنه سحاب، قاله المجد في «قاموسه». تمت).

(5)

(2002).

ص: 146

مسكر حرام» رواه أبو داود

(1)

.

والأحاديث في هذا الباب كثيرة ومستفيضة، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ بما أوتيه من جوامع الكلم ــ كلَّ ما غطى العقل وأسكر، ولم يفرق بين نوع ونوع، ولا تأثير لكونه مأكولًا أو مشروبًا، على أن الخمر قد يُصْطَبَغ

(2)

بها، وهذه الحشيشة قد تُذاب

(3)

في الماء وتُشرب، فالخمر يُشرب ويُؤكل، والحشيشة تؤكل وتشرب

(4)

، وكل ذلك حرام. وإنما لم يتكلم المتقدِّمون في خصوصها؛ لأنه إنما حدث أكلُها من قريب في أواخر المئة السادسة أو قريبًا من ذلك، كما أنه قد أُحْدِثت أشْرِبة مُسكرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها داخلة في الكلم الجوامع من الكتاب والسنة.

فصل

(5)

من الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون: حد القذف

(6)

، فإذا قذف الرجل محصنًا بالزنا أو اللواط، وجبَ عليه الحدُّ ثمانون جلدة.

والمحصن هنا هو: الحرّ العفيف، وفي باب حدِّ الزنا: الذي وطئ وطءًا كاملًا في نكاح تامّ.

(1)

(3680). ومن طريقه البيهقي: (8/ 288).

(2)

أي: يؤتدم بها.

(3)

(ف): «تراق» .

(4)

«فالخمر يُشرَب ويُؤكل، والحشيشة: تؤكل وتشرب» سقط من (ي).

(5)

هذا الفصل ليس في (ف، ظ، ب، ل).

(6)

انظر: «الإجماع» (ص 70) لابن المنذر.

ص: 147

فصل

وأما المعاصي التي ليس فيها حدٌّ مقدَّر ولا كفارة

(1)

، كالذي يُقَبِّل الصبيَّ والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جماع، أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنا، أو يسرق

(2)

من غير حرز، أو

(3)

شيئًا يسيرًا، أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت المال، والوقوف، ومال اليتيم، ونحو ذلك إذا خانوا فيها. وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا، أو يغش في معاملته كالذين يغشون

(4)

في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفِّف الكيل

(5)

والميزان، أو يشهد بالزور، أو يلقن شهادة الزور

(6)

، أو يرتشي في حكمه، أو يحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزَّى بعزاء الجاهلية، كقوله: يالقيس ياليمن

(7)

، أو يلبي داعي الجاهلية، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات= فهؤلاء يعاقَبون تعزيرًا وتنكيلًا وتأديبًا بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرةِ ذلك الذنب في الناس وقِلَّتِه، فإذا كان كثيرًا زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلًا.

(1)

ما فيه حد تقدم بعضه، وما فيه الكفارة كالجماع في نهار رمضان، ووطء الحائض.

(2)

الأصل: «السرق» !

(3)

كذا في جميع الأصول، وفي المطبوع:«ولو» . وما في الأصول أصح، والمعنى: أو شيئًا يسيرًا لم يبلغ النصاب من حرز.

(4)

(ي): «كالذي يغش» .

(5)

بقية النسخ: «المكيال» .

(6)

«أو يلقن شهادة الزور» سقطت من (ي).

(7)

«كقوله: يالقيس ياليمن» من الأصل. والجملة بعدها ساقطة من (ي).

ص: 148

وعلى حسب حال المذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور زِيدَ في عُقوبته بخلاف المُقِلِّ من ذلك.

وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيُعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم ما لا يُعاقَب

(1)

من لم يتعرَّض إلا لامرأة واحدة أو صبي واحد

(2)

.

وليس لأقلِّ التعزير حدٌّ، بل هو بكل ما

(3)

فيه إيلام للإنسان من قول وفعل، وتَرْك قولٍ وتَركِ فعل، فقد يُعَزَّر الرجلُ بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يُعَزَّر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إن كان ذلك هو المصلحة، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه الثلاثةَ الذين خُلِّفوا

(4)

، وقد يُعزر بعزله عن ولايته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يُعَزِّرون بذلك، وقد يُعَزَّر بترك استخدامه في جند المسلمين [أ/ق 46] كالجندي المقاتل إذا فرَّ عن الزحف، فإن الفرار من الزحف من الكبائر، وقَطْعُ خبزِه نوعُ تعزيرٍ له، وكذلك الأمير إذا فعل ما يُستَعْظم فعزلُه عن الإمارة تعزيرٌ له

(5)

.

وقد يُعَزَّر بالحبس، وقد يُعزر بالضرب، وقد يُعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابةٍ مقلوبًا، كما قد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر

(1)

(ي): «ما يعاقبه» ، (ف، ز، ب): «ما لا يعاقبه» .

(2)

(ظ، ب): «للمرأة الواحدة» و (ظ) فقط: «أو للصبي الواحد» .

(3)

(ي): «بفعل ما» .

(4)

(ي): «أصحابه

تخلفوا يعزرون بذلك». «وأصحابه» ليست في (ف).

(5)

قوله: «وكذلك

» إلى هنا ساقط من (ي).

ص: 149

بذلك

(1)

في شاهد الزور

(2)

؛ فإن الكاذب أسودُ الوجه فيسَوَّد

(3)

وجهُه، وقَلَبَ الحديث فقُلِبَ ركوبُه.

وأما أعلاه؛ فقد قيل: لا يُزاد على عشرة أسواط، وقال كثير من العلماء: لا يبلغ به الحدود.

ثم هم على قولين؛ منهم من يقول: لا يبلغ به أدنى الحدود؛ لا يبلغ بالحُرِّ أدنى حدود الحر، وهي الأربعون أو الثمانون، ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد، وهي العشرون أو الأربعون.

وقيل: بل لا يبلغ بكلٍّ منهما حدّ العبد.

ومنهم من يقول: لا يبلغ بكلِّ ذنبٍ حدَّ جنسه وإن زاد على حدِّ جنسٍ آخر، فلا يبلغ بآخِذ المال

(4)

من غير حرز قطع اليد، وإن ضُرِب أكثر من حدِّ القاذف، ولا نفعل

(5)

بمن فعل ما دون الزنا حدَّ الزاني وإن زاد على حد القاذف

(6)

.

كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلًا نقش على خاتمه، وأخذ بذلك من بيت المال، فأمر به فضُرب مئة، ثم ضربه في اليوم الثاني مئة،

(1)

(ظ، ل): «بمثل ذلك» .

(2)

أخرج نحوه عبد الرزاق في «المصنف» : (8/ 326 - 327)، وابن أبي شيبة:(5/ 532).

(3)

بقية النسخ: «فسود» .

(4)

بقية النسخ: «يبلغ بالسارق» .

(5)

بقية النسخ: «ولا يبلغ» .

(6)

«وإن زاد على حد القاذف» سقط من (ز).

ص: 150

ثم ضربه في اليوم الثالث مئة

(1)

.

وروي عن الخلفاء الراشدين في

(2)

رجل وامرأة وُجِدا في لحاف: يُضربان مئة

(3)

.

ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي جارية امرأته: «إن كانت أحلتها له: جلد مئة، وإن لم تكن أحلتها له: رُجِم»

(4)

.

وهذا القول أظهر الأقوال

(5)

، وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره،

(1)

ذكره في «المغني» : (12/ 525)، وابن بطال في «شرح البخاري»:(8/ 486) نقلًا عن ابن القصار بصيغة التمريض، وصاحب القصة مع عمر هو معن بن زائدة. لكنَّ معنًا توفي سنة (151) فكيف أدرك عمر؟ !

(2)

الأصل: «وفي» .

(3)

روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أخرجه عبد الرزاق: (7/ 401)، وابن أبي شيبة:(5/ 496). وأخرج أحمد (22780) عن الحسن البصري ــ شك في رفعه ــ نحوه.

(4)

أخرجه أحمد (18425)، وأبو داود (4458)، والترمذي (1451)، والنسائي (3361)، وابن ماجه (2551)، والبيهقي:(8/ 239)، وغيرهم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

قال الترمذي: حديث النعمان في إسناده اضطراب، سمعت محمدًا ــ أي البخاري ــ يقول: لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث إنما رواه عن خالد بن عرفطة. ونقل عنه أيضًا أنه قال: أنا أنفي هذا الحديث. «العلل الكبير» : (2/ 615). وقال النسائي في «السنن الكبرى» : (6/ 448) بعد أن ساق عدة أحاديث في الباب: ليس في هذا الباب شيء صحيح يحتج به.

(5)

هذه الجملة من الأصل.

ص: 151

والقولان الآخران

(1)

في مذهب الشافعي رضي الله عنه وغيره. وأما مالك وغيره فحُكِي عنه: أن من الجرائم ما يبلغ به القتل، ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا جسَّ

(2)

للعدو على المسلمين، فإن أحمد توقف في

(3)

قتله، وجوَّز مالكٌ وبعضُ الحنبلية كابن عقيل قتلَه، ومَنَعَه أبو حنيفة والشافعي وبعضُ الحنبلية كالقاضي أبي يعلى

(4)

.

وجوَّز طائفةٌ من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما قتلَ الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، وكذلك كثير من المالكية

(5)

، قالوا: إنما جوَّز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض لا لأجل الردة

(6)

.

وكذلك قد قيل في قتل الساحر، فإنَّ أكثر العلماء على أنه يُقتل، وقد روى

(7)

الترمذي عن جندب موقوفًا ومرفوعًا أن: «حدُّ الساحر ضربة بالسيف»

(8)

.

(1)

بقية النسخ: «الأولان» .

(2)

بقية النسخ: «تجسس» .

(3)

الأصل: «من» .

(4)

انظر «المغني» : (12/ 523 - 525).

(5)

بقية النسخ عدا ف: «أصحاب مالك» . وانظر كلام مالك في قتل القدرية في «تهذيب المدونة» : (2/ 77)، و «التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل»:(8/ 368).

(6)

في بعض النسخ زيادة: «وكذلك قيل: المقدورُ عليه من أهل الأهواء كالخوارج والرَّوافض والقدريَّة في إحدى الرِّوايتين عن أحمد، وفي الرِّواية الَّتي لا تُكَفِّرهم إنَّما هو لأَجل الفساد في الأرض لا لأجل الكفر» .

(7)

بقية النسخ: «رُوي» وبعد الحديث: «رواه الترمذي» .

(8)

أخرجه الترمذي (1460)، والطبراني في «الكبير» (1666)، والدارقطني:(3/ 114)، والحاكم:(4/ 360)، والبيهقي:(8/ 136)، كلهم من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.

قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث

والصحيح عن جندب موقوف. اهـ وقال في «العلل الكبير» : (2/ 624): سألت محمدًا ــ يعني البخاري ــ عن هذا الحديث فقال: هو لا شيء، وإنما رواه إسماعيل بن مسلم، وضعف إسماعيل بن مسلم المكي جدًّا. اهـ.

ص: 152

وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قتله، قال بعضهم

(1)

: لأجل الكفر، وقال بعضهم: لأجل الفساد في الأرض، لكنَّ جمهور هؤلاء يرون قتله حدًّا

(2)

.

وكذلك أبو حنيفة يُعَزِّر بالقتل فيما تكرر من الجرائم، إذا كان جنسه يوجب القتل، كما يُقْتل من تكرر منه التلوُّط، أو اغتيال النفوس لأخذ

(3)

المال، ونحو ذلك.

وقد يُستدل على أن المفسد متى لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يُقتل بما رواه مسلم في «صحيحه»

(4)

عن عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أتاكم وأمرُكم على رجلٍ واحدٍ يريد أن يشقَّ عصاكم ويُفرِّق جماعتكم [أ/ق 47] فاقتلوه» . وفي رواية: «ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن

(1)

(ف): «فقال بعض الفقهاء» ، (ي، ز، ظ، ل): «الفقهاء» ، (ب):«العلماء» .

(2)

الجملة الأخيرة ليست في (ف، ظ). وانظر بعض آثار السلف في قتل الساحر في «مصنف عبدالرزاق» : (10/ 180 - 184)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (5/ 561 - 562).

(3)

(ي): «لأجل» .

(4)

(1852).

ص: 153

يفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا مَن كان»

(1)

.

وكذلك قد يقال في أمره بقتل شارب الخمر في الرابعة؛ بدليل ما رواه أحمد في «المسند» عن ديلم الحِمْيَري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنا بأرضٍ نعالج بها عملًا شديدًا، وإنا نتخذ شرابًا من القمح نتقوَّى به على أعمالنا وعلى بَرْد بلادنا، فقال:«هل يُسْكِر؟» قلت: نعم، قال:«فاجتنبوه» ، قلت: إن الناس غير تاركيه، قال:«فإن لم يتركوه فاقتلوهم»

(2)

.

وهذا لأن المُفسد كالصائل، فإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قُتِل.

وجِماع ذلك أن العقوبة نوعان:

أحدهما: على ذنب ماضٍ جزاء بما كسب نكالًا من الله؛ كجلد الشارب والقاذف

(3)

، وقطع المحارب والسارق، وكذلك تعزير من سرق دون النصاب من غير حرز، وتعزير الخائن ومُزَوِّر الشهادة والعلامة ونحو ذلك

(4)

.

والثاني: العقوبة لتأدية حق واجب أو ترك محرم في المستقبل، كما يُستتاب المرتد حتى يسلم، فإن تاب وإلا قُتِل، وكما يُعاقَب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤديها، فالتعزير في هذا الضرب أمْثَل

(5)

منه

(1)

(1852/ 59).

(2)

أخرجه أحمد (18034)، وأبو داود (3683)، والبيهقي:(8/ 292). وغيرهم، وسند أحمد صحيح، انظر تخريج «المسند»:(29/ 568).

(3)

(ي، ز): «كحد الشرب والقذف» .

(4)

من قوله: «وكذلك تعزير

» إلى هنا من الأصل فقط.

(5)

بقية النسخ: «أشد» .

ص: 154

في الضرب الأول؛ ولهذا يجوز أن يُضرَب هذا مرةً بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة عليه

(1)

.

والحديث الذي في «الصحيحين»

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يُجلَد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله» قد فسَّره طائفةٌ من أهل العلم بأن المراد بـ «حدود الله» بما حُرِّم لحق الله، فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يُراد بها الفصل بين الحلال والحرام، مثل آخر الحلال وأول الحرام، فيقال في الأول:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، ويقال في الثاني:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وأما تسمية العقوبة المُقَدَّرة

(3)

حدًّا فهو عُرفٌ حادث

(4)

.

ومراد الحديث: أن من ضرب لحقِّ

(5)

نفسه، كضَرْبِ الرجل امرأتَه في النشوز لا يزيدُ على عشر جلدات

(6)

.

(1)

(ي، ز): «حتى يؤدي الواجب عليه» ، (ف، ظ، ب، ل): «حتى يؤدي الصلاة الواجبة أو يؤدي الواجب عليه» .

(2)

البخاري (6848)، ومسلم (1708) من حديث أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه.

(3)

(ز): «المعزرة» .

(4)

وقد انتصر لهذا القول ابن القيم كما في «أعلام الموقعين» : (2/ 304 - 305)، وناقشه ابن دقيق العيد كما في «فتح الباري»:(12/ 185)، وانظر «جامع العلوم والحكم»:(2/ 162 - 163)، و «الحدود والتعزيرات عند ابن القيم» (ص 24 - 26) لشيخنا بكر أبو زيد.

(5)

(ي، ز): «بحق» .

(6)

من قوله: «والحديث الذي في

» إلى هنا ليس في (ف، ظ، ب، ل).

ص: 155

فصل

والجلد الذي جاءت به الشريعة: هو الجلد المعتدل بالسوط

(1)

، فإن خيار الأمور أوسطها، قال علي رضي الله عنه: ضَربٌ بين ضَرْبَين، وسَوطٌ بين سَوطَين

(2)

.

ولا يكون الجلد بالعِصي ولا المقارع، ولا يُكْتفى فيه بالدِّرَّة، بل

(3)

الدِّرَّة تُستعمل في التعزير.

أما الحدود فلابد فيها من الجلد بالسوط، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤدِّب بالدِّرَّة فإذا جاءت الحدود دعا بالسوط.

ولا تجرَّد ثيابه كلها، بل يُنزع عنه ما يمنع ألم الضرب من الحشايا والفراء ونحو ذلك، ولا يُربط إذا لم يحتج إلى ذلك، ولا يضرب وجهُه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه»

(4)

. ولا يضرب مَقاتِلَه فإن المقصود تأديُبه لا قتلُه. ويُعطَى كلُّ عضوٍ حقَّه

(5)

من الضرب؛ كالظهر

(1)

(ف) زيادة: «الوسط» .

(2)

قال الحافظ في «التلخيص» : (4/ 86): لم أره عنه هكذا.

لكن أخرج عبد الرزاق: (7/ 369 - 370)، والبيهقي:(8/ 326) عن أبي عثمان النهدي قال: أُتيَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه برجل في حد، فأتي بسوط فيه شدة، فقال: أريد ألين من هذا، ثم أتي بسوط فيه لين، فقال: أريد أشد من هذا، فأتي بسوط بين السوطين، فقال: اضرب

(3)

(ي): «فإن» .

(4)

أخرجه البخاري (2560)، ومسلم (2612) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

بقية النسخ: «حظه» .

ص: 156

والأكتاف والفخذين ونحو ذلك.

فصل

العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان:

أحدهما: عقوبة المقدور عليه من الواحد والعدد، كما تقدم.

والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة [أ/ق 49] كالتي لا يُقدَر عليها إلا بقتال. فأصل هذا هو جهاد الكفار أعداء دين الله

(1)

ورسوله، فكلّ مَن بلَغَتْه

(2)

دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به، فلم يستجب له، فإنه يجب قتاله، حتى لا تكون فتنة ويكون

(3)

الدين كله لله.

وكان الله ــ لما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم وأمره بدعوة الخلق إلى دينه ــ لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله، حتى هاجر إلى المدينة فأذن له وللمسلمين بقوله سبحانه وتعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39 - 41].

ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله سبحانه وتعالى: {كُتِبَ

(1)

(ف): «أعداء الله» .

(2)

(ي): «تبلغه» .

(3)

(ز): «وحتى يكون» .

ص: 157

عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

ووكَّد الإيجابَ وعظَّم أمرَ الجهاد في عامة السور المدنية، وذمَّ التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب، فقال سبحانه وتعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقال سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، وقال سبحانه وتعالى:{فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا} [محمد: 20 - 21]، وهذا كثير في القرآن.

وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله كقوله

(1)

: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13]، وكقوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ

ص: 158

وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 - 22]، وقوله: {آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ

(1)

}

[المائدة: 54]، وقال سبحانه وتعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121].

فذكر ما يولده عن

(2)

أعمالهم وما يباشرونه من الأعمال.

والأمرُ

(3)

بالجهاد وذِكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تُحْصر؛ ولهذا كان أفضلَ ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحجِّ والعمرة، ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع، كما دل عليه الكتاب والسنة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:«رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذِروةُ سنامه الجهاد»

(4)

.

(1)

وقع في الأصل و (ب، ي، ظ): «والله ذو الفضل العظيم» وهو سبق قلم.

(2)

كذا في الأصل و (ز، ل)، و (ي):«تولده أعمالهم» ، و (ب):«يؤكده من» ، و (ف، ظ): «يولده من» .

(3)

الأصل: «بالأمر» .

(4)

تقدم تخريجه (ص 98).

ص: 159

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ في الجنة لمئةِ درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدّها الله للمجاهدين في سبيله» متفق عليه

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار» رواه البخاري

(2)

.

وقال: «رباطُ يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمله، وأُجْري عليه رِزقُه، وأمِنَ الفتَّان» رواه مسلم

(3)

.

وفي «السنن» : «رِباطُ يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل»

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «عينانِ لا تمسهما النار: عينٌ بكَت مِن خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله»

(5)

. قال الترمذي: حديث حسن.

وفي «مسند أحمد»

(6)

: «حرَس ليلةٍ في سبيل الله أفضلُ من ألف ليلة يُقام

(1)

تقدم تخريجه (ص 98).

(2)

(907) من حديث أبي عبس عبد الرحمن بن جبر رضي الله عنه.

(3)

(1913) من حديث سلمان رضي الله عنه.

(4)

أخرجه أحمد (470)، والترمذي (1656)، والنسائي (3167) وغيرهم من طرق عن زُهْرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان عن عثمان بن عفان به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.

(5)

أخرجه الترمذي (1639)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (146) وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه الترمذي، وله شاهد من حديث أنس، وأبي ريحانة، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم.

(6)

(433)، وأخرجه ابن ماجه (2766)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (150، 151)، والطبراني في «الكبير» (145)، والحاكم:(2/ 81)، وغيرهم من حديث عثمان رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد اختلف في إرساله ورفعه، ورجح الدارقطني في «العلل»:(3/ 36) أن الإرسال هو المحفوظ.

ص: 160

ليلُها ويُصام نهارُها».

وفي «الصحيحين»

(1)

: أن رجلًا قال: يا رسول الله، أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله، قال:«لا تستطيعه» ، قال: فأخْبِرني به، قال:«هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر وتقوم لا تفتر؟ » قال: لا، [قال]: «فذلك الذي يعدل

(2)

الجهاد».

وفي «السنن» : أنه قال: «إن لكلِّ أمة سياحة وسياحةُ أمتي الجهاد في سبيل الله»

(3)

.

وهذا الباب واسعٌ لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه، وهو ظاهر عند الاعتبار؛ فإن نَفْع الجهاد عامٌ لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ويشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه يشتمل على ما يحبه

(4)

الله عز وجل، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال

(1)

تقدم تخريجه (ص 97).

(2)

الأصل: «لا يعدل» !

(3)

أخرجه أبو داود (2486)، والطبراني في «الكبير» (7708)، والحاكم:(2/ 73)، والبيهقي:(9/ 161) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال النووي: إسناده جيد. انظر «رياض الصالحين» (ص 381)، وضعفه العراقي في «تخريج الإحياء»:(1/ 216 - 217).

(4)

(ف، ي، ز، ط): «مشتمل من محبة» ، (ب، ل): «مشتمل على محبة» .

ص: 161

له، والصبر والزهد، وذِكر الله سبحانه وتعالى، وسائر أنواع الأعمال= على ما لا يشتمل عليه عمل آخر.

والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائمًا، إما النصر والظَّفَر، وإما الشهادة والجنة.

ثم إن الخلق لابد لهم من محيا وممات، ففيه يستعمل محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما، فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين والدنيا مع قلة منفعتها، فالجهاد أنفع فيهما

(1)

من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت [أ/ق 51] فموت الشهيد أيسر من كل مِيْتة، وهي أفضل الميتات

(2)

.

وإذا كان أصلُ القتال المشروع ــ وهو الجهاد ــ ومقصودُه: هو أن يكون الدينُ كلُّه لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمَن منع هذا قُوتِل باتفاق المسلمين. وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة؛ كالنساء والصبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن ونحوهم؛ فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلا أن يُقاتِل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع بمجرَّد الكفر، إلا النساء والصبيان لكونهم مالًا للمسلمين، والأول

(3)

هو الصواب، فإن

(4)

القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال

(1)

(ي، ظ): «فيها» .

(2)

(ظ، ل): «خير» ، (ب):«أيسر» . (ف): «المنيات» .

(3)

(ي) زاد: «أصح

».

(4)

بقية النسخ: «لأن» .

ص: 162

سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

وفي «السنن»

(1)

عنه صلى الله عليه وسلم أنه مَرَّ على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس، فقال:«ما كانت هذه لتقاتل» ، وقال لأحدهم:«الْحَق خالدًا فقل له: لا تقتلوا ذريةً ولا عسيفًا» يعني أجيرًا

(2)

.

وفيها عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا صغيرًا

(3)

، ولا امرأة»

(4)

.

وذلك أن الله تعالى أباح مِن قَتْل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال سبحانه وتعالى:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]، أي: أن القتل وإن كان فيه شرٌّ وفساد، ففي فتنة الكفار من الشرِّ والفساد ما هو أكبر منه.

(1)

أخرجه أحمد (15992)، وأبو داود (2669)، والنسائي في «الكبرى» (8572)، وابن ماجه (2842)، وابن حبان (4789)، والحاكم:(2/ 122)، والبيهقي:(9/ 91) وغيرهم من حديث رباح بن الربيع. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقد اختلف فيه على المرقع بن صيفي، فقيل: عن جده رباح، وقيل: عن حنظلة بن الربيع، وذكر البخاري وأبو حاتم (العلل 914) أن الأول أصح.

(2)

(ظ، ب): «والعسيف: الأجير» العبارة ليست في (ف، ي، ز، ل).

(3)

(ي، ل): «ولا صغيرًا» .

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة: (6/ 483)، وأبو داود (2614)، ومن طريقه البيهقي:(9/ 90) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وفيه خالد بن الفَزْر، قال ابن معين: ليس بذاك.

ص: 163

فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله، لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه

(1)

، ولهذا قال الفقهاء: إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة يُعاقَب بما لا يُعاقَب به الساكت.

وجاء في الحديث: «إن الخطيئة إذا أُخفيت

(2)

لم تضرَّ إلا صاحبها، ولكن إذا ظهرت فلم تُنكر ضرَّت العامة»

(3)

.

ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار، ولم توجب قَتْل المقدور عليه

(4)

منهم، بل إذا أُسِر الرجلُ [منهم]

(5)

في القتال أو غير القتال، مثل أن تُلقيه السفينةُ إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة، فإنه يفعل به

(6)

الإمامُ الأصلح؛ من قتله، أو استعباده، أو المنِّ عليه، أو مفاداته بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة. وإن كان من الفقهاء مَن يرى المنَّ عليه ومفاداته منسوخًا.

فأما أهل الكتاب والمجوس فيُقاتَلون حتى يسلموا أو يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. ومن سواهم؛ فقد اختلف الفقهاء في أخذ الجزية منهم، إلا أن عامَّتهم لا يأخذونها من العرب.

وأيُّما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه

(1)

(ي): «إلا عليه» .

(2)

(ي، ظ، ب، ل): «خفيت» .

(3)

تقدم تخريجه (ص 96).

(4)

(ظ، ب، ل): «قتال .. » ، (ف):«قتال .. عليهم» .

(5)

من بقية النسخ.

(6)

بقية النسخ: «فيه» .

ص: 164

الظاهرة المتواترة؛ فإنه يجب جهادُها باتفاق المسلمين، حتى يكون الدين كلُّه لله، كما قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وقد كان قد توقف في قتالهم بعضُ الصحابة ثم اتفقوا، حتى قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أن أقاتل الناس [أ/ق 52] حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالَهم إلا بحقِّها، وحسابهم على الله» ؟ فقال له أبو بكر رضي الله عنه: فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر

(1)

: فما هو إلا أن رأيتُ قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعلمتُ أنه الحق

(2)

.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة أنه أمر بقتال الخوارج، وفي «الصحيحين»

(3)

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان حِداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة» .

وفي رواية لمسلم

(4)

عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

من قوله: «القتال، مثل أن تُلْقيه السفينة إلينا

» إلى هنا ساقط من (ب).

(2)

أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وانظر ما سبق في الطائفة الممتنعة (ص 96) وما سيأتي (ص 163 - 164).

(3)

البخاري (3611)، ومسلم (1066).

(4)

(1066/ 156).

ص: 165

يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم

(1)

بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبونه أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوزُ صلاتُهم

(2)

تراقِيَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّميَّة، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضِي لهم على لسان نبيهم، لنكلوا عن العمل».

وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» متفق عليه

(3)

.

وفي رواية لمسلم

(4)

: «تكون أمتي فرقتين، فتخرج من بينهما مارِقةٌ تلي قتلَهم أولاهما بالحق» .

فهؤلاء الذين قتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما خرجت

(5)

الفُرقة بين أهل العراق والشام، وكانوا يسمون: الحرورية= بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن كلا الطائفتين المفترقتين من أمته، وأن أصحاب علي أولى بالحق، ولم يحرِّض إلا على قتال أولئك المارقين

(6)

الذين خرجوا من الإسلام، وفارقوا الجماعة، واستحلّوا دماءَ مَن سواهم من المسلمين وأموالهم. وثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يُقاتَل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين.

(1)

(ظ، ي): «قراؤكم إلى قرائهم» ، (ب):«قرائتهم إلى قراءتكم» وهكذا ما بعدها.

(2)

(ف، ظ، ب): «قراءتهم» ، وسقطت من (ل).

(3)

البخاري (3344)، ومسلم (1064/ 143).

(4)

(1065/ 151).

(5)

في سائر النسخ: «حصلت» .

(6)

الأصل: «المارقون» والمثبت من النسخ.

ص: 166