المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ذنوبهم وخطاياهم، كما قال عن الأمم الماضين: (وما ظلمناهم ولكن - الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور - جـ ٣

[حكمت بشير ياسين]

الفصل: ذنوبهم وخطاياهم، كما قال عن الأمم الماضين: (وما ظلمناهم ولكن

ذنوبهم وخطاياهم، كما قال عن الأمم الماضين:(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) سورة هود: 101، وقال تعالى:(وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذاباً نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا) سورة الطلاق: 7-8.

أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (إلا نحن مهلكوها) : مبيدوها (أو معذبوها) يعني بالقتل وبالبلاء ما كان يقول: فكل قرية في الأرض سيصيبها بعض هذا قبل يوم القيامة.

وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها) قضاء من الله كما تسمعون ليس منه بد إما أن يهلكها بموت وأما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره وكذبوا رسله.

قوله تعالى (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)

قال الإمام أحمد: ثنا عثمان بن محمد، ثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر ابن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحى الجبال عنهم فيزدرعوا، فقيل له إن شئت: تستأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم قال: لا بل استأن بهم وأنزل الله: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة) .

(المسند 1/2‌

‌58)

وأخرجه النسائي والحاكم والبيهقي من طريق إسحاق بن راهويه عن جرير به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وأحمد شاكر في تعليقه على المسند، انظر (تفسير النسائي رقم 310) و (المستدرك 2/362) و (دلائل النبوة 2/271) و (مسند أحمد رقم 2333) وصححه محققو مسند أحمد بإشراف أ. د. عبد الله التركي (ح 2333) .

قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه آتى ثمود الناقة في حال كونها آية مبصرة أي بينة تجعلهم يبصرون الحق واضحا لا لبس فيه، فظلموا بها، ولم يبين ظلمهم بها ها هنا ولكنه أوضحه في مواضع أخر كقوله

ص: 263

(فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم) الآية، وقوله (فكذبوه فعقروها) الآية، وقوله (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) .

وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد في قول الله عز ذكره (الناقة مبصرة)، قال: آية.

وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) وإن الله يخوف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون أو يذكرون أو يرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه.

وذكر ابن كثير قول قتادة ثم قال: وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر ابن الخطاب مرات، فقال عمر: أحدثتم والله لأن عادت لأفعلن ولأفعلن وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه. ا. هـ. ثم ذكر الحديث وهذا لفظ البخاري عن عائشة مرفوعا: "أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ثم قال: يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا.

أخرجه الشيخان (صحيح البخاري- الكسوف، ب الصدقة في الكسوف رقم 1044) ، (وصحيح مسلم- الكسوف، ب صلاة الكسوف رقم 901) .

قوله تعالى (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا)

قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أحاط بالناس أي فهم في قبضته يفعل فيهم كيف يشاء فيسلط نبيه عليهم ويحفظه منهم، قال بعض أهل العلم: ومن الآيات التي فصلت بعض التفصيل في هذه الإحاطة، قوله تعالى (سيهزم الجمع ويولون الدبر) وقوله (قل للذين كفروا ستغلبون) الآية، وقوله (والله يعصمك من الناس) ، وفي هذا أن هذه الآية مكية، وبعض الآيات المذكورة مدني، أما آية القمر وهي قوله:(سيهزم الجمع) الآية، فلا إشكال في البيان بها لأنها مكية.

ص: 264

قال الطبري: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن يقول: أحاط بالناس، عصمك من الناس. ا. هـ.

ورجاله ثقات، وإسناده صحيح وعبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، وأبو رجاء محمد بن سيف الأزدي.

وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس)، قال: منعك من الناس.

وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد (أحاط بالناس) قال: فهم في قبضته.

أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، والشجرة الملعونة في القرآن قال: شجرة الزقوم.

(الصحيح- التفسير، ب (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) رقم 4716) .

وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى والشجرة الملعونة في القرآن، قال: الزقوم. قال: وذلك أن المشركين قالوا: يخبرنا محمد أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر ولا تدع منه شيئاً، فذلك فتنة لهم. ا. هـ.

قال ابن حجر بعد أن ذكر قول قتادة: وقال السهيلي الزقوم فعول من الزقم وهو اللقم الشديد وفي لغة تميمة: كل طعام يتقيأ منه يقال له زقوم، وقيل: هو كل طعام ثقيل. (فتح الباري 8/399) .

قال الشيخ الشنقيطي: التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة: أن جل وعلا جعل ما أراه نبيه صلى الله عليه وسلم من الغرائب والعجائب ليلة الإسراء والمعراج فتنة للناس لأن عقول بعضهم ضاقت على قبول بعض ذلك معتقدة أنه لا يمكن أن يكون حقاً قالوا: كيف يصلي ببيت المقدس ويخترق السبع الطباق ويرى ما رأى في ليلة واحدة ويصبح في محله بمكة هذا محال فكان هذا الأمر فتنة لهم لعدم تصديقهم به واعتقادهم أنه لا يمكن وأنه جل وعلا جعل الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم فتنة للناس لأنهم لما سمعوه صلى الله عليه وسلم يقرأ (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) قالوا: ظهر كذبه لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة فكيف ينبت في أصل النار فصار ذلك فتنة وبين أن هذا هو المراد من كون الشجرة المذكورة

ص: 265

فتنة لهم في قوله (أذلك خيرا نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) الآية

أشار في موضع آخر إلى الرؤيا التي جعلها فتنة لهم وهو قوله (أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى) .

وانظر سورة آل عمران آية (102) حديث الترمذي عن ابن عباس وفيه: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم

".

قوله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا)

قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى في هذه الآية عن إبليس (أأسجد لمن خلقت طينا) يدل فيه إنكار إبليس للسجود بهمزة الإنكار على إبائه واستكباره عن السجود لمخلوق من طين وصرح بهذا الإباء والاستكبار في مواضع أخر فصرح بهما معا في سورة البقرة في قوله (إلا إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين) وصرح بإبائه في سورة الحجر بقوله (إلا إبليس أبي أن يكون من الساجدين) وباستكباره في سورة ص، بقوله (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) وبين سبب استكباره بقوله (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) كما تقدم إيضاحه في سورة البقرة.

قوله تعالى (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً)

أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) يقول لأستولين.

أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) يعني: لأحتوين.

قال الشيخ الشنقيطي: وهذا الذي ذكر جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله (لأحتنكن ذريته) الآية، بينه أيضاً في مواضع أخر من كتابه كقوله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ

ص: 266

أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) وقوله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه في سورة النساء وغيرها، وقوله في هذه الآية (إلا قليلاً) بين المراد بهذه القليل في مواضع أخر كقوله (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) وقوله (لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجميعن إلا عبادك منهم المخلصين) كما تقدم إيضاحه.

قوله تعالى (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) عذاب جهنم جزاؤهم ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء.

أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد: (موفورا) قال وافرا.

قال الشيخ الشنقيطي: وهذا الوعيد الذي أوعد به إبليس ومن تبعه في هذه الآية الكريمة بينه أيضاً في مواضع أخر كقوله (قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) وقوله: (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) .

قوله تعالى (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)

أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) قال صوته كل داع دعا إلى معصية الله.

أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) قال: بدعائك (واجلب عليهم بخيلك ورجلك) قال: إن له خيلا ورجلاً من الجن والإنس هم الذين يطيعونه.

ص: 267

أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) قال: خيله كل راكب في معصية الله ورجله كل راجل في معصية الله.

وبه عن ابن عباس (وشاركهم في الأموال والأولاد) قال كل مال في معصية الله.

وبه عن ابن عباس (وشاركهم في الأموال والأولاد) قال ما قتلوا من أولادهم، وأتوا فيهم الحرام.

أخرج آدم بن إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد قال: أما شركته في الأموال فأكلها بغير طاعة الله وأما في الأولاد فالزنا.

أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله تعالى (وشاركهم في الأموال والأولاد) قال: قد فعل: أما في الأموال فأمرهم أن يجعلوها بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا، وأما في الأولاد فإنهم هودوهم ونصّروهم ومجسوهم.

أخرج مسلم بسنده عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم".

(الصحيح ح 2865- الجنة، ب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار) .

أخرج الشيخان بسنديهما عن ابن عباس مرفوعاً: "أما إن أحدكم إذا أتى أهله وقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فرزقا ولدا لم يضره الشيطان".

واللفظ للبخاري. (الصحيح- بدء الخلق ب صفة إبليس وجنوده رقم 3271) ، (وصحيح مسلم- النكاح، ب ما يستحب أن يقوله عند الجماع رقم 1434) .

قال الشيخ الشنقيطي: أما مشاركته لهم في الأموال فعلى أصناف منها ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له كالبحائر والسوائب ونحو ذلك وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعا كالربا والغصب وأنواع الخيانات لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له، وأما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضاً: منها: قتلهم بعض أولادهم طاعة له، ومنها: أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم

ص: 268

طاعة له وموالاة، ومنها: تسمية أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيدا لغير الله طاعة له ومن ذلك أولاد الزنى لأنهم إنما تسببوا وجودهم بارتكاب الفاحشة طاعة له إلى غير ذلك فإذا عرفت هذا فاعلم أن الله قد بين آيات من كتابه بعض ما تضمنته هذه الآية من مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد كقوله (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته، وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكورة في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضاً وكقوله (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) الآية، وكقوله (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لايطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لايذكرون اسم الله عليها إفتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون) .

قال ابن كثير وقوله: (وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان في عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) الآية، سورة إبراهيم:22.

قال الشيخ الشنقيطي: وقوله (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) بين فيه أن مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة، وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) وقوله (ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور) .

ص: 269

قوله تعالى (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا)

أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) وعباده المؤمنون وقال الله في آية أخرى: (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) .

أخرج سفيان بن عيينه في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو حجة.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا على شرط الصحيح (فتح الباري 8/391) .

أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً قال: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم -إذا هو نام- ثلاث عقد يضرب كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإذا صلى انحلت عقدة كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.

(صحيح البخاري- بدء الخلق ب صفة إبليس وجنوده رقم 3269-3291) .

وأخرج أيضاً بسنده عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "إذا مر بين أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه فإن أبي فليمنعه فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان..".

وأخرج أيضاً بسنده عن جابر مرفوعاً قال: "إذا استجنح الليل -أو كان جُنحُ الليل- فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم، وأغلق بابك واذكر اسم الله واطفىء مصباحك واذكر اسم الله وأوك سقاؤك واذكر اسم الله وحمر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئاً".

وأخرج أيضاً بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً: "إذا نودى بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا قضى أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضى أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول: اذكر كذا وكذا، حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا، فإذا لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا سجد سجدتى السهو".

ص: 270

وأخرج بسنده عن أبي هريُرْة مرفوعا قال: "التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليردد ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال ها ضحك الشيطان".

وأخرج بسنده عن عائشة رضي الله عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة فقال: "هو اختلاس يختلس الشيطان من صلاة أحدكم".

قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن عباده الصالحين لاسلطان للشيطان عليهم فالظاهر أن في هذه الآية الكريمة حذف الصفة كما قدرنا ويدل على الصفة المحذوفة إضافته العباد إليه إضافة تشريف وتدل لهذه الصفة المقدرة أيضاً آيات أخر كقوله (إلا عبادك منهم المخلصين) وقوله (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) وقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) .

قوله تعالى (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما)

أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر) يقول: يجري الفلك.

وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر) قال: يسيرها في البحر.

قوله تعالى (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لاتجدوا لكم وكيلا)

قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة أن الكفار إذا مسهم الضر في البحر أي اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لاخلاص لهم من ذلك - ضل عنهم أي غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا،

ص: 271

فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده لعلمهم أنه لاينقذ من ذلك من الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر كما قال تعالى (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً) وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة كقوله (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذا لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبتغون في الأرض بغير الحق) وقوله (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) وقوله (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) وقوله (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) وقوله (واذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا حوله نعمة منه نسى ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) .

أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا) يقول: حجارة من السماء (ثم لا تجدوا لكم وكيلا) أي: منعة ولا ناصرا.

قوله تعالى (أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا)

أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فيرسل عليكم قاصفا من الريح) يقول: عاصفا.

وبه عن ابن عباس قوله (ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعا) يقول: نصيرا.

ص: 272

وأخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (تبيعا) يعني: ثائرا نصيرا.

وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) يقول: لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك.

قوله تعالى (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)

قال ابن كثير: يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها كقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) أي: يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه وغيره من الحيوانات يمشى على أربع ويأكل بفمه وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية الدنيوية.

قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وحملناهم في البر والبحر) الآية، أي في البر على الأنعام وفي البحر على السفن، والآيات الموضحة على ذلك كثيرة جدا كقوله (وعليها وعلى الفلك تحملون) وقوله (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك ما تركبون) وقد قدمنا هذا مستوفي بإيضاح في سورة النحل.

قوله تعالى (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا)

أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (بإمامهم)، قال: نبيهم.

أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة بلفظ: أنبيائهم.

قال الشيخ الشنقيطي: ويدل لهذا القول قوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وقوله (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) وقوله (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) الآية، وقوله (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء) الآية.

ص: 273

أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) بكتابهم.

وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن الحسن بلفظ: بكتابهم الذي فيه أعمالهم.

قال الشيخ الشنقيطي: ويدل هذا قوله تعالى (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) وقوله (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) وقوله (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) الآية، وقوله (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) . ا. هـ.

قال ابن كثير: وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) سورة يس آية: 12، وقال تعالى (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) سورة الكهف: 49، وقال تعالى (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) سورة الجاثية آية: 28-29، وهذا لاينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لابد أن يكون شاهدا عليها بأعمالها كما قال (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيبن والشهداء) سورة الزمر آية: 69، وقال (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) سورة النساء آية: 41، ولكن المراد ها هنا بالإمام هو كتاب الأعمال ولهذا قال تعالى (يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم) أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرؤه ويجب قراءته كما قال تعالى (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقروا كتابيه إني ظنت أني ملاق حسابيه) إلى أن قال (وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه ولم أدري ما حسابيه) سورة الحاقة الآيات 19-20.

ص: 274

قال الشيخ الشنقيطي: وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرءونه ولا يظلمون فتيلا، وقد أوضح هذا في مواضع أخر كقوله (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه) إلى قوله (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه) .

وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (ولا يظلمون فتيلا) قال الذي في خلق النواة.

قوله تعالى (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)

قال الشيخ الشنقيطي: المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة عمى القلب لا عمى العين ويدل لهذا قوله تعالى (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) لأن عمى العين مع أبصار القلب لا يضر بخلاف العكس فإن أعمى العين يتذكر فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه قال تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى) .

أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ومن كان في هذه أعمى) يقول من عمي من قدرة الله في الدنيا فهو في الآخرة أعمى.

أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد (في هذه أعمى) قال: الدنيا.

أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) قال: في الدنيا أعمى عما أراه الله من آياته من خلق السموات والأرض والجبال والنجوم (فهو في الآخرة) الغائبة التي لم يرها (أعمى وأضل سبيلا) .

أخرج عبد الرزاق والطبري من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى (فهو في الآخرة أعمى) قال: أعمى عن حجته في الآخرة.

وإسناده صحيح.

ص: 275

قوله تعالى (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا)

قال الشيخ الشنقيطي: ومعنى الآية الكريمة: أن الكفار كادوا يفتنونه أي قاربوا ذلك ومعنى يفتنوك: يزلونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره مما لم نوحه إليك

وبين في موضع آخر: أنهم طلبوا منه الإتيان بغير ما أوحى إليه، وأنه امتنع أشد الامتناع وقال لهم: إنه لا يمكنه أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه بل يتبع ما أوحي إليه ربه، وذلك في قوله:(وقال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) .

قوله تعالى (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا)

أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد في قول الله (ضعف الحياة) قال: عذابها (وضعف الممات) قال: عذاب الآخرة.

أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

وأخرجه أيضاً عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار عن أبي الشعثاء بنحوه، وسنده صحيح.

قال الشيخ الشنقيطي: وهذا الذي ذكره هنا من شدة الجزاء لنبيه لو خالف نبيه في غير هذا الموضع كقوله (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) الآية.

قوله تعالى (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً)

وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ليستفزونك من الأرض) قال: قد فعلوا بعد ذلك فأهلكهم الله يوم بدر فلم يلبثوا بعده إلا قليلاً حتى أهلكهم الله يوم بدر كذلك كانت سنة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك. ا. هـ،

ص: 276