المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع: البداء - أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية - عرض ونقد - - جـ ٢

[ناصر القفاري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني: عقيدتهم في أصول الدين

- ‌الفصل الأول: عقيدتهم في توحيد الألوهية

- ‌المبحث الأول: نصوص التوحيد جعلوها في ولاية الأئمة

- ‌المبحث الثاني: الولاية أصل قبول الأعمال عندهم

- ‌المبحث الثالث: اعتقادهم أن الأئمة هم الواسطة بين الله والخلق

- ‌المسألة الأولى: قولهم: لا هداية للناس إلا بالأئمة

- ‌المسألة الثانية: قولهم: لا يقبل الدعاء إلا بأسماء الأئمة

- ‌المسألة الرابعة: قولهم: إن الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى بيت الله

- ‌زيارة كربلاء يوم عرفة أفضل من سائر الأيام:

- ‌زيارة قبر الحسين أفضل الأعمال:

- ‌زوار الحسين تأتيهم الملائكة ويناجيهم الله:

- ‌مناسك المشاهد:

- ‌الجانب النقدي (لمسألة المشاهد عند الشيعة) :

- ‌المبحث الرابع: قولهم: إن الإمام يُحرّم ما يشاء ويُحلّ ما يشاء

- ‌المبحث الخامس: قولهم: إن تراب قبر الحسين شفاء من كل داء

- ‌المبحث السادس: دعاؤهم بالطلاسم والرموز واستغاثتهم بالمجهول

- ‌المبحث السابع: استخارتهم بما يشبه أزلام الجاهلية

- ‌الفصل الثاني: عقيدتهم في توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: قولهم: إن الرب هو الإمام

- ‌المبحث الثاني: قولهم بأن الدنيا والآخرة كلها للإمام يتصرف بها كيف يشاء

- ‌المبحث الثالث: إسناد الحوادث الكونية إلى الأئمة

- ‌المبحث الرابع: الجزء الإلهي الذي حل في الأئمة

- ‌المبحث الخامس: قولهم بتأثير الأيام والليالي بالنفع والضر

- ‌الفصل الثالث: عقيدتهم في أسماء الله وصفاته

- ‌المبحث الأوّل: الغلو في الإثبات (التّجسيم)

- ‌المبحث الثاني: التعطيل عندهم

- ‌1- المسألة الأولى: قولهم بأن القرآن مخلوق:

- ‌2- مسألة الرؤية:

- ‌الفصل الرابع: اعتقادهم في الإيمان وأركانه

- ‌المبحث الأول: قولهم في الإيمان والوعد والوعيد

- ‌المسألة الأولى: مفهوم الإيمان عندهم:

- ‌المسألة الثانية: الشهادة الثالثة

- ‌المسألة الثالثة: القول بالإرجاء

- ‌المسألة الرابعة: قولهم في الوعد

- ‌المسألة الخامسة: قولهم في الوعيد

- ‌المبحث الثاني: قولهم في أركان الإيمان

- ‌الإيمان بالملائكة:

- ‌الإيمان بالكتب:

- ‌المسألة الأولى: دعواهم تنزل كتب إلهية على الأئمة

- ‌أ- "مصحف فاطمة

- ‌ب- كتاب أنزل على الرسول قبل أن يأتيه الموت

- ‌ج- "لوح فاطمة

- ‌د- دعواهم نزول اثنتي عشرة صحيفة من السماء تتضمن صفات الأئمة:

- ‌نقد هذه المقالة:

- ‌المسألة الثانية: دعواهم بأن جميع الكتب السماوية عند الأئمة

- ‌الإيمان بالرسل:

- ‌تفضيلهم الأئمة على الأنبياء والرسل:

- ‌معجزات الإمام:

- ‌الإيمان باليوم الآخر:

- ‌الإيمان بالقدر:

- ‌الباب الثالث: أصولهم ومعتقداتهم (الأخرى) التي تفردوا بها

- ‌الفصل الأول: الإمامة

- ‌منزلة الإمامة عندهم:

- ‌سرية هذا المبدأ:

- ‌حصر الأئمة بعدد معين:

- ‌استدلالهم على مسألة الإمامة:

- ‌الاستدلال بالأمور المعلومة والمتفق عليها في مسألة النص:

- ‌حكم من أنكر إمامة أحد الاثنى عشر:

- ‌1- الصحابة رضوان الله عليهم:

- ‌2- تكفيرهم أهل البيت:

- ‌3- تكفيرهم خلفاء المسلمين وحكوماتهم:

- ‌4- الحكم على الأمصار الإسلامية بأنها دار كفر:

- ‌5- قضاة المسلمين:

- ‌6- أئمة المسلمين وعلماؤهم:

- ‌7- الفرق الإسلامية:

- ‌8- الأمة كلها:

- ‌النقد:

- ‌الفصل الثاني: عصمة الإمام

- ‌نشأة هذه العقيدة وتطورها

- ‌استدلالهم على عصمة أئمتهم

- ‌نقد عام لمبدأ "عصمة الأئمة

- ‌الفصل الثالث: التقية

- ‌تعريفها:

- ‌استدلالهم على التقية:

- ‌الفصل الرابع: المهدية والغيبة

- ‌المهدية والغيبة عند فرق الشيعة:

- ‌نشأة فكرة الغيبة عند الشيعة الاثني عشرية وتطورها

- ‌الخطوط العامة لقصة المهدية عند الاثني عشرية

- ‌الاستدلال على وقوع الغيبة

- ‌دفاعهم عن طول أمد الغيبة:

- ‌المهدي بعد عودته المزعومة

- ‌أ- شريعة مهديهم المنتظر:

- ‌ب- سيرة القائم المنتظر:

- ‌ج- جند القائم:

- ‌الشيعة وغيبة مهديهم:

- ‌النيابة عن المنتظر:

- ‌نقد عقيدة الغيبة والمهدية عند الاثني عشرية:

- ‌الفصل الخامس: الرجعة

- ‌استدلالهم على الرجعة:

- ‌نقد مقالة الرجعة:

- ‌الفصل السادس: الظهور

- ‌الفصل السابع: البداء

- ‌استدلالهم على البداء:

- ‌روايات في كتب الاثني عشرية تنقض عقيدة البداء:

- ‌الفصل الثامن: الطينة

الفصل: ‌الفصل السابع: البداء

‌الفصل السابع: البداء

من أصول الاثني عشرية القول البداء على الله سبحانه وتعالى حتى بالغوا في أمره، فقالوا:"ما عبد الله بشيء مثل البداء"(1) . و"ما عظم الله عز وجل بمثل البداء"(2) ، "ولو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما افتروا من الكلام فيه"(3) ، «وما بعث الله نبيًا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء" (4) .

ويبدو أن الذي أرسى أسس هذا المعتقد عند الاثني عشريّة هو الملقّب عندهم بثقة الإسلام وهو شيخهم الكليني (ت328 أو 329هـ) حيث وضع هذا المعتقد في قسم الأصول من الكافي، وجعله ضمن كتاب التوحيد، وخصّص له بابًا بعنوان "باب البداء" وذكر فيه ستّة عشر حديثًا من الأحاديث المنسوبة للأئمة.

وجاء من بعده ابن بابويه (ت381هـ) ، وسجل ذلك ضمن عقائد طائفته، وعقد له بابًا خاصًا بعنوان "باب البداء" وذلك في كتاب "الاعتقادات" الذي يسمى دين الإمامية (5) . ومثل ذلك فعل في كتابه "التوحيد"(6) .

وقد اهتمّ شيخهم المجلسي (ت1111هـ) بأمر البداء وبوّب له في بحاره

(1) أصول الكافي، كتاب التوحيد، باب البداء: 1/146، ابن بابويه/ التوحيد، باب البداء: ص332، بحار الأنوار، كتاب التوحيد، باب البداء: 4/107

(2)

أصول الكافي: 1/146، التوحيد لابن بابويه ص333، بحار الأنوار: 4/107

(3)

أصول الكافي: 1/148، التوحيد لابن بابويه: ص334، بحار الأنوار: 4/108

(4)

أصول الكافي: 1/148، التوحيد لابن بابويه: ص334، بحار الأنوار: 4/108

(5)

الاعتقادات: ص89

(6)

التوحيد: ص331

ص: 937

بعنوان "باب النّسخ والبداء"، وذكر (70) حديثًا من أحاديثهم عن الأئمة (1) .

وكذلك جاءت هذه المقالة ضمن كتب العقيدة عند المعاصرين (2) . وألف شيوخهم في شأنها مؤلفات مستقلة بلغت (25) مصنفًا كما في الذريعة (3) .

ولعل القارئ المسلم يعجب من أمر هذه العقيدة، التي لا يعرفها المسلمون، وليس له ذكر في كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنها من أعظم ما عبد الله به، ومن أصول رسالات الرسل، وفيها من الأجر ما لو علم به المسلم لأصبحت تجري على لسانه دائمًا كشهادة التوحيد (كما يزعمون) .

إذا رجعت إلى اللغة العربية لتعرف معنى البداء تجد أن القاموس يقول: بدا بدوًا وبدوًا وبداءة: ظهر. وبدا له في الأمر بدوًا وبداء وبداة: نشأ له فيه رأي (4) . فالبداء في اللغة - كما ترى - له معنيان:

الأول: الظهور بعد الخفاء. تقول: بدا سور المدينة أي: ظهر.

والثاني: نشأة الراي الجديد. قال الفراء: بدا لي بداء أي: ظهر لي رأي آخر، وقال الجوهري: بدا له في الأمر بداء أي: نشأ له فيه رأي (5) .

وكلا المعنيين وردا في القرآن، فمن الأول قوله تعالى:{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} (6) . ومن الثاني قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (7) .

(1) بحار الأنوار: 4/92-129

(2)

انظر - مثلاً -: المظفر/ عقائد الإمامية: 69، الزنجاني/ عقائد الإمامية الاثني عشرية: 1/34

(3)

انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 3/53-57

(4)

القاموس المحيط، مادة: بدو (4/302)

(5)

الصحاح (6/2278) ، ولسان العرب (14/66)، وانظر هذا المعنى في كتب الشيعة مثل: مجمع البحرين للطريحي: 1/45

(6)

البقرة، آية: 284

(7)

يوسف، آية: 35

ص: 938

وواضح أن البداء بمعنييه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم وكلاهما محال على الله سبحانه. ونسبته إلى الله سبحانه من أعظم الكفر، فكيف تجعل الشيعة الاثنا عشرية هذا من أعظم العبادات، وتدعي أنه ما عظم الله عز وجل بمثل البداء؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

وهذا المعنى المنكر يوجد في كتب اليهود، فقد جاء في التوراة التي حرفها اليهود وفق ما شاءت أهواؤهم نصوص صريحة تتضمن نسبة معنى البداء إلى الله سبحانه (1) .

ويبدو أن ابن سبأ اليهودي قد حاول إشاعة هذه المقالة، التي ارتضعها من «توراته» في المجتمع الإسلامي الذي حاول التأثير فيه باسم التشيع وتحت مظلة الدعوة إلى ولاية علي، ذلك أن فرق السبيئة "كلهم يقولون بالبداء وأن الله تبدو له البداوات"(2) .

ثم انتقل هذه المقالة إلى فرقة "الكيسانية" أو "المختارية" أتباع المختار بن أبي عبيد الثقفي وهي الفرقة التي اشتهرت بالقول "بالبداء" والاهتمام به، والتزامه عقيدة.

(1) جاء في التوراة: "فرأى الرب أنه كثر سوء الناس على الأرض. فندم الرب خلقه الإنسان على الأرض وتنكد بقلبه، وقال الرب: لأمحون الإنسان الذي خلقته عن وجه الأرض.."(سفر التكوين، الفصل السادس، فقرة: 5) ومثل هذا المعنى الباطل وما أشبه يتكرر في توراتهم (انظر: سفر الخروج، الفصل: 32 فقرة: 12، 14، وسفر قضاة، الفصل الثاني، فقرة: 18، وسفر صموئيل الأول، الفصل الخامس عشرة فقرة: 10، 34، وسفر صموئيل الثاني، الفصل: 24، فقرة: 16، وسفر أخبار الأيام الأول، الفصل: 21، فقرة: 1، وسفر أرميا، الفصل: 42، فقرة: 10، وسفر عاموس، الفصل: 7، فقرة: 3، وسفر يونان، الفصل: 3، فقرة: 10 وغيرها) .

هذا ما جاء في توراة اليهود، مع أنهم ينكرون النسخ، لأنه بزعمهم يستلزم البداء (انظر: مسائل الإمامة: ص75، مناهل العرفان: 2/78) ، فانظر إلى تناقضهم وردهم للحق وقبولهم بالباطل

(2)

الملطي/ التنبيه والرد: ص19

ص: 939

ويذكر أصحاب المقالات أن السبب الذي جوزت لأجله الكيسانية البداء على الله تعالى هو: أن مصعب بن الزبير أرسل جيشًا قويًا لقتال المختار وأتباعه فبعث المختار إلى قتالهم أحمد بن شميط مع ثلاثة آلاف من المقاتلة وقال لهم: أوحي إلي أن الظفر يكون لكم، فهزم ابن شميط (1) . فيمن كان معه فعادوا إليه فقالوا: أين الظفر الذي قد وعدتنا؟ فقال المختار: هكذا كان قد وعدني ثم بدا فإنه سبحانه وتعالى قد قال: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) . (3) .

فالسبب كما ترى أن المختار كان يدعي علم الغيب وما يحدث بالمستقبل، فكان إذا وقع خلاف ما أخبر به قال: قد بدا لربكم.

وتجد هذا المعنى في أخبار الاثني عشرية، فإنهم قد أشاعوا بين أتباعهم أن أئمتهم "يعلمون ما كان وما يكون ولا يخفى عليهم الشيء" (4) . فإذا نسبوا إلى الأئمة أخبارًا لم تقع قالوا: هذا من باب البداء.

جاء في البحار في باب البداء "عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام: يا أبا حمزة إن حدثناك بأمر أنه يجيء من هاهنا فجاء من هاهنا، فإن الله يصنع ما يشاء، وإن حدثناك اليوم بحديث وحدثناك غدًا بخلافه فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت"(5) .

وكان شيوخ الشّيعة يمنون أتباعهم بأنّ الأمر سيعود إليهم، والدّولة ستكون لهم، حتى إنّهم حدّدوا ذلك بسبعين سنة في رواية نسبوها لأبي جعفر، فلمّا مضت السّبعون ولم يتحقّق شيء من تلك الوعود اشتكى الأتباع من ذلك، فحاول

(1) وهو من قواد المختار، وقتل سنة (67هـ)

(2)

الرعد، آية: 39

(3)

الإسفراييني/ التبصير في الدين: ص20، وانظر: البغدادي/ الفرق بين الفرق: ص50-52

(4)

أصول الكافي، باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء: 1/260

(5)

بحار الأنوار: 4/119، تفسير العياشي: 2/217، البرهان: 2/299

ص: 940

مؤسّسو المذهب الخروج من هذا المأزق بالقول بأنّه قد بدا لله سبحانه ما اقتضى تغيير هذا الوعد (1) .

وكانت روايات الشّيعة في حياة جعفر الصّادق تتحدّث بأخبار تنسبها لجعفر أنّ الإمامة ستكون بعد موته لابنه إسماعيل، ولكن وقع ما لم يكن بالحسبان، إذ مات إسماعيل قبل موت أبيه فكانت قاصمة الظّهر لهم، وحدث أكبر انشقاق باق إلى اليوم في المذهب الشّيعي، وهو خروج طائفة كبيرة منهم ثبتت على القول بإمامة إسماعيل وهم الإسماعيليّة، رغم أنّهم فزعوا إلى عقيدة البداء لمعالجة هذه المعضلة فنسبوا روايات لجعفر تقول:"ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل ابني.. إذ اخترمه قبلي ليعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي"(2) .

واستجاب لهذا التّأويل طائفة الاثني عشريّة الذين قالوا بإمامة موسى دون إسماعيل.

ومؤسسو التشيع يدعون في الأئمة أنهم يعلمون الحوادث الماضية والمستقبلة والآجال والأرزاق.. إلخ. ولكن الأتباع وسائر الناس لا يرون فيهم شيئًا من هذه الدعاوى، والأئمة لا يخبرون الناس بشيء من ذلك، لأنهم لا يملكون ذلك أصلاً ولا يدعونه في أنفسهم فلم يجد مؤسسو التشيع تعليلاً يبررون به هذا العجز إلا عقيدة البداء فنقلوا عنهم أنهم لا يخبرون عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيغيره (3) .

وزعموا أن الأئمة يعطون علم "الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض

(1) انظر: تفسير العياشي: 2/218، الغيبة للطّوسي: ص263، بحار الأنوار: 4/214

(2)

التّوحيد لابن بابويه: ص336، وانظر مثل هذا المعنى في أصول الكافي 1/327

(3)

زعموا - مثلاً - أن علي بن الحسين قال: لولا البداء لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة. (تفسير العياشي: 2/215، بحار الأنوار: 4/118)

ص: 941

والأمراض ويشترط (لهم) فيه البداء" (1) . وهذه حيلة أخرى منهم ليستروا بها كذبهم إذا أخبروا خلاف الواقع.

وقد أمر الشيعة بمقتضى هذه العقيدة بالتسليم بالتناقض والاختلاف والكذب، ففي رواية طويلة في تفسير القمي تخبر عن نهاية دولة بني العباس، قال فيها إمامهم:"إذا حدثناكم بشيء فكان كما نقول فقولوا: صدق الله ورسوله، وإن كان بخلاف ذلك فقولوا: صدق الله ورسوله تؤجروا مرتين.."(2) .

وقد كان لعقيدة البداء في إبان نشأتها أثرها في ظهور بوادر الشك لدى العقلاء من أتباع المذهب، وقد اكتشف بعضهم حقيقة اللعبة، فتخلى عن المذهب الإمامي أصلاً، وقد حفظت لنا بعض كتب الفرق قصة أحد هؤلاء وهو سليمان بن جرير الذي تنسب إليه فرقة السليمانية من الزيدية، فقال - كما تنقل ذلك كتب الفرق عند الشيعة نفسها -:"إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين، لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدًا وهما القول بالبداء وإجازة التقية"(3) .

ثم كشف - من خلال حياته في المجتمع الشيعي، ومخالطته لهم - كيف يتخذون من عقيدة البداء وسيلة للتستر على كذبهم في دعوى علم الأئمة للغيب فقال: "إنّ أئمّتهم لمّا أحلّوا أنفسهم من شيعتهم محلّ الأنبياء من رعيّتها في العلم فيما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غد، وقالوا لشيعتهم إنّه سيكون غدًا وفي غابر الأيّام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشّيء على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلّمكم أنّ هذا يكون فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشّيء الذي قالوا إنّه يكون على ما قالوه، قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك

(1) تفسير القمي: 2/290، بحار الأنوار: 4/101

(2)

تفسير القمي: 1/310-311، بحار الأنوار: 4/99

(3)

المقالات والفرق للقمي: ص78، فرق الشيعة للنوبختي: ص64

ص: 942

فلم يكوِّنه" (1) .

ثم شرح أيضًا كيف يخدعون أتباعهم بمقتضى عقيدة التقية، فتأثر بقوله طائفة من الشيعة واتبعوه (2) .

فأنت ترى بعد هذا العرض أنه لو سقطت عقدية البداء لانتقض دين الاثني عشرية من أصله، لأن أخبارهم ووعودهم التي لم يتحقق منها شيء تنفي عنهم صفة الإمامة.

وهذا سر مغالاة شيوخهم بأمر البداء، ودفاعهم عنه، وجعله من أعظم العبادات.

لكن مقالة البداء ارتدت عليهم بأوخم العواقب وهي إضافة سبب جديد لكفرهم وردتهم (3) . لأنهم بهذا المعتقد نزهوا المخلوق وهو الإمام عن الخلف في الوعد، والاختلاف في القول، والتغير في الرأي، ونشأة رأي جديد، ونسبوا ذلك إلى عالم الغيب والشهادة. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا (4) .

فنزهوا المخلوق دون الخالق، لأن غلوهم في الإمام - فيما يظهر - لم يجعل للحق جل شأنه في قلوبهم وقارًا، فتاهوا في بيداء هذا الضلال والكفر والإلحاد.

ولقد حاول شيوخ الشيعة أن يجدوا مخلصًا من وصمة هذا العار، ومهربًا من التكفير.

فالنصير الطوسي الذي يلقبه المجلسي بالمحقق (المتوفى سنة 672هـ) أنكر وجود البداء كعقيدة للاثني عشرية وقال عن طائفته: "إنهم لا يقولون بالبداء،

(1) المقالات والفِرَق للقمي: ص78، فرق الشّيعة للنّوبختي: ص64-65، وانظر في هذا المعنى: محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين للرّازي: ص249، وسليمان بن جرير ينسب الخداع إلى بعض أهل البيت، والحقّ أنّ ذلك من أولئك الزّنادقة المنتسبين إلى أهل البيت لأكل أموال النّاس بالباطل والتّآمر والتّخريب

(2)

انظر: المقالات والفرق: ص78، فرق الشيعة: ص65

(3)

انظر: الغزالي/ المستصفى: 1/110

(4)

الوشيعة: ص182

ص: 943

وإنما القول بالبداء ما كان إلا في رواية رووها عن جعفر الصادق أنه جعل إسماعيل القائم مقامه، فظهر من إسماعيل ما لم يرتضه منه، فجعل القائم موسى فسئل عن ذلك فقال: بدا لله في أمر إسماعيل، وهذه رواية، وعندهم أن خبر الواحد لا يوجب علمًا ولا عملاً" (1) .

ولكن هذا - كما ترى - مخالف للواقع؛ إذ إن البداء من عقائدهم المقررة، ورواياتهم وأخبارهم فيه كثيرة، ولذلك قال المجلسي بأن هذا الجواب عجيب من الطوسي، وعزا ذلك «لعدم إحاطته بالأخبار" (2) .

وصنف من الشيعة يقر بالبداء كعقيدة ويحاول أن يجد له تأويلاً مقبولاً.

فابن بابويه القمي يوجه "أحاديثهم" في البداء توجيهًا «تبدو» عليه ملامح الاضطراب، فهو في البداية يقول:"ليس البداء كما يظنه جهال الناس بأنه بداء ندامة تعالى الله عن ذلك، ولكن يجب علينا أن نقر لله عز وجل بأن له البداء معناه أن له أن يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل شيء ثم يعدم ذلك الشيء ويبدأ بخلق غيره"(3) .

فأنت ترى أن حديثه هنا خارج الموضوع تمامًا لأنه تكلم عن البدء لا البداء ولا يخالف مسلم في هذا الأمر الذي يقوله، ولو كان هذا مقصودهم بالبداء لما أنكره عليهم أحد، ولما وجدوا فيه مخرجًا لتناقض رواياتهم، وتخلف وعودهم.

فالله سبحانه: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ} (4) . وهو {يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (5) ، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} (6) . وليس هذا من البداء.

(1) الطوسي/ تلخيص المحصل: ص250

(2)

بحار الأنوار: 4/123

(3)

التوحيد: ص335

(4)

السجدة، آية: 7

(5)

يونس، آية: 4

(6)

القصص، آية: 68

ص: 944

ولكنه رجع وفسر البداء بالنسخ، فقال بعد الكلام السابق مباشرة:"أو يأمر بأمر ثم ينهى عن مثله، أو ينهى عن شيء ثم يأمر بمثل ما نهى عنه، وذلك مثل نسخ الشرايع، وتحويل القبلة، وعدة المتوفى عنها زوجها"(1) .

وهذا جهل أو تجاهل؛ إذ لا بداء في النسخ، والحكم كان مؤقتًا في علم الله، وأجل الحكم، وانتهاء الحكم عند حلول الأجل معلوم لله قبل الحكم. نعم بدا لنا ذلك من الله بعد نزول الناسخ، والبداء لنا في علمنا لا لله (2) .

"من أجل ذلك تنزه الله سبحانه عن أن يوصف بالبداء؛ لأن البداء ينافي إحاطة علم الله بكل شيء، ولم يتنزه عن النسخ؛ لأن النسخ لا يعدو أن يكون بيانًا لمدة الحكم الأول على نحو ما سبق في علم الله تعالى، وإن كان رفعه لهذا الحكم بداء بالنسبة لنا"(3) . "فإن الله سبحانه قدر في علمه الأزلي لكل حكم ميقاتًا وزمانًا معلومًا فإذا انتهى زمانه حل محله حكم آخر بأمره ونهيه سبحانه، فليس فيه تغيير في علمه الأزلي"(4) . قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (5) .

وقد شنع عبد القاهر البغدادي على الشيعة؛ حيث "جعلت النسخ من قبيل البداء فزعمت أنه إذا أمر سبحانه بشيء ثم نسخه فإنما نسخه لأنه بدا له منه"(6) .

وقد تمادت الشيعة في هذا الغي، وساق صاحب البحار بعض الروايات المنسوخة واعتبرها من قبيل البداء (7) ، مع أنه لا صلة للنسخ بالبداء (8) .

(1) التوحيد: ص335

(2)

الوشيعة: ص183

(3)

مصطفى زيد/ النسخ في القرآن: 1/20

(4)

محمد أبو زهرة/ الإمام الصادق: ص241

(5)

البقرة، آية: 106

(6)

الملل والنحل: ص52

(7)

بحار الأنوار: 93/83-84

(8)

راجع أيضًا في التفريق بين النسخ والبداء والرد على أوهام الرافضة واليهود في عدم التفريق =

ص: 945

ثم إن ابن بابويه عاد في نهاية توجيهه لعقيدة البداء إلى القول بأن البداء "إنما هو ظهور أمر، يقول العرب: بدا لي شخص في طريقي أي: ظهر. قال الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (1) . أي: ظهر لهم، ومتى ظهر لله تعالى ذكره من عبد صلة لرحمه زاد في عمره. ومتى ظهر له منه قطيعة لرحمه نقص من عمره"(2) .

فهذا عودة منه لتقرير ذلك المنكر في معتقدهم في البداء، بعد تلون وتقلب.

وزيادة عمر من وصل رحمه ليست من باب البداء، وظهور ما لم يكن في علم الله، بل صلة الرحم سبب لطول العمر، والله قدر الأجل وسببه فهو سبحانه "قدر أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إلى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية، ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا"(3) .

ولكن شيخ الطائفة الطوسي يسلك في تأويل البداء طريقًا أسلم من طريق ابن بابويه، حيث يقول:"قوله: بدا لله فيه معناه بدا من الله فيه، وهكذا القول في جميع ما يروي من أنه بدا لله في إسماعيل معناه أنه بدا من الله، فإن الناس كانوا يظنون في إسماعيل بن جعفر أنه الإمام بعد أبيه، فلما مات علموا بطلان ذلك"(4) .

= بينهما: الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: ص44، المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري: 1/368-369، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي القيسي: ص98-99، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 4/68-69، الآمدي/ الإحكام في أصول الأحكام: 3/109-112، دراسات الأحكام والنسخ في القرآن/ محمد حمزة: ص59

(1)

الزمر، آية: 47

(2)

التوحيد: ص336

(3)

شرح الطحاوية: ص92

(4)

الغيبة للطوسي: ص55

ص: 946

هذا اعتذار الطوسي، ولا شك بأن البداء إذا كان للخلق بأن يقع لهم ما لم يحتسبوا، فليس فيه ما يمس العقيدة الإسلامية.

وقد تابع الطوسي في الاعتذار نفسه أحد مراجع الشيعة في هذا العصر وهو محمد حسين آل كاشف الغطا فقال: "البداء وإن كان في جوهر معناه هو ظهور الشيء بعد خفائه، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشيء لله جل شأنه وأي ذي حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة، بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم، وقولنا: (بدا لله) أي بدا حكم الله أو شأن الله"(1) .

ولكن المطلع على رواياتهم لا يرى أنها تتفق مع هذا التأويل، إذ تدل على نسبة البداء إلى الله لا إلى الخلق، ولذلك اعتذر أئمتهم عن الإخبار بالمغيبات خشية البداء.. ونسبوا إلى نبي الله لوط أنه كان يستحث الملائكة لإنزال العقوبة بقومه خشية أن يبدو لله، ويقول:"تأخذونهم الساعة فإني أخاف أن يبدو لربي فيهم. فقالوا: يا لوط إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب"(2) . فهل مثل هذا "الإلحاد" يقبل التأويل؟!.

وجاء في الكافي ".. عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام بعد مضي ابنه أبو جعفر وإني لأفكر في نفسي أريد أن أقول كأنهما أعني: أبا جعفر وأبا محمد في هذا الوقت كابي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمد عليهم السلام، وإن قصتهما كقصتهما، إذ كان أبو محمد المرجي بعد أبي جعفر عليه السلام، فأقبل علي أبو الحسن قبل أن أنطق فقال: نعم يا أبا هاسم بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر عليه السلام ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله وهو كما حدثتك نفسك

(1) الدين والإسلام: ص173

(2)

فروع الكافي: 5/546

ص: 947

وإن كره المبطلون" (1) .

فانظر إلى قوله "بدا لله.. ما يكن يعرف له.." تجد أنهم ينسبون "البداء" إلى الله صراحة، فهؤلاء القوم لا يرجون لله وقارًا، وقد اتخذوا من عقيدة البداء وسيلة لإبقاء فرصة الاختيار في أهل البيت، والرجوع عن الاختيار بدون تثريب عليهم من أتباعهم.. ولم يراعوا في هذه الحيلة حق الله جل شأنه، لأن واضعي هذه النصوص قد فرغت نفوسهم من خوف الله ورجائه. ثم إن التأويل للبداء بظهور الأمر للناس من الله لا يسوغ كل هذه المغالاة في البداء وجعله من أعظم الطاعات وأصول الاعتقادات، كما أن لفظ البداء يحمل معنى باطلاً في لغة العرب التي نزل بها القرآن، فكيف يعد أصل في الدين وهو بهذه المثابة، ويلتمس له تأويل ومخرجٌ؟!

(1) أصول الكافي: 1/327

ص: 948