الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(9) حكم الموسيقا والغناء
للشيخ محمد عبد الله الخطيب حفظه الله
السؤال: ما حكم الأغاني ودخول السينما ومشاهدة التمثيليات وسماع الموسيقا
…
؟
الجواب: هناك إجماع بين المؤرخين على أن اللهو بصوره المختلفة هو من أخطر الأسباب التي تعرض الأمم للهلاك والزوال. وصدق الله العظيم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *} [الإسرَاء: 16] .
ولو درسنا تاريخ الأمم ما وجدنا أمة أغرقت في الترف إلا زالت وهلكت.
والإسلام لا يحرم الطيبات، ولا يكبت مشاعر الإنسان وغرائزه، وقد خلقه الله وفطره على الميل إلى الطيبات. فتراه ينشرح صدره ويرتاح حين يشاهد منظراً جميلاً أو حديقة منسقة أو جدولاً رقراقاً تلعب أمواجه، كما ينشط حين يشم رائحة زكية أو وردة فواحة. والقرآن لا يكتفي بالدعوة إلى اتخاذ الزينة والتمتع بالطيبات فحسب ولكنه يستنكر أن يحرم أحد هذا، قال تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعرَاف: 32] وقال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *} [الأعرَاف: 31] .
ومن قديم عرف الإنسان الأناشيد يرددها وهو يكافح ليستعين بها على الأعمال الشاقة، والعرب كانوا يستعينون «بالحداء» في أسفارهم
بقصد أنس النفس، وحث الإبل على السير.
والمسلمون من الرعيل الأول كانوا يرددون وهم يحفرون الخندق حول المدينة هذا النشيد:
والله لولا الله ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبت الأقدام إن لاقينا
ويرى الرسول صلى الله عليه وسلم نسوة من نساء الأنصار في زفاف عروس فيأمر السيدة عائشة أن ترسل معهن من يردد هذا النشيد:
أتيناكم أتيناكم
…
فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمراء
…
ما جئنا بواديكم
وما استقبل به الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخوله المدينة (1) وهو النشيد الخالد:
طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة
…
مرحباً ياخير داع
أناشيد أو أغانٍ كلها عفة ونقاء وطهارة، اللفظ طيّب والمعنى في غاية السمو، يطرب لها القلب وتستريح لها النفس.
فهذه الصور وأمثالها أقرها الإسلام واستحبها في المناسبات السارة كأيام العيد والعرس وقدوم الغائب. وفي وقت الوليمة والعقيقة بعد
(1) يقول ابن القيم رحمه الله: والصحيح أن ذلك حين عاد الرسول من غزوة تبوك، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة. (زاد المعاد ج3 ص 551) .
ولادة المولود، واتفق الفقهاء على إباحة ما كان في هذا المستوى لإثارة الشوق إلى الحج، وفي تحريض المجاهدين على القتال.
وفي حديث السيدة عائشة: «إن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى - عيد الأضحى - تغنيان وتضربان. والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه. فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه وقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد» (1) .
وذلك هو موقف الإسلام من الغريزة: موقف الاعتدال والقصد، من غير قضاء عليها ولا مصادرة لها، ولكنه يوجهها إلى الاستقامة ويهذبها ويقف بها عند حد الاعتدال. فيأخذ الإنسان القدر الذي يحتاجه وينفعه في حدود الانضباط بالشرع وأحكامه التي حددت هذا المجال.
الفن الفاسد:
1 -
…
إن السماع الدائم للموسيقى يجعل النفس البشرية في حالة ارتخاء مستمر، فتقوى بها نوازع الهوى والإخلاد إلى الراحة وكراهية التكاليف والمشقات، وهذا خطر من الأصل على وجود الأمة وشعورها بواجبها، واستعدادها للتضحية له، وهذه أول عقوبة فطرية تترتب على هذا الانحراف.
2 -
…
الموسيقا ذروة اللهو. واللهو ذروة الحياة الدنيا، فاستغراق الإنسان في الموسيقا والأنغام وإقباله الدائم عليها يجعله في موضع عمل ينصرف عن الآخرة ومشاعره مخدرة وكل همه الدنيا.
وأما ما يستدل به بعضهم على حِل الأغاني والموسيقا مما قرؤوه
(1) متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها؛ أخرجه البخاري، كتاب: العيدين، باب: إذا فاته العيد يصلي ركعتين برقم (987) . ومسلم؛ كتاب: صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه أيام العيد، برقم (892) .
في بعض الكتب مثل كتاب الأغاني فلا يصح، فهو كتاب أدب لا يصلح دليلاً على الحل والحرمة، وما ورد فيه وفي أمثاله لا يحتج به، ودين الله هو الحجة على الناس، وكل مخلوق يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
3 -
…
وقت المسلم هو أثمن وأغلى من أن يُنفق في هذه التفاهات، لأن العمر هو الزمن وهو أغلى شيء في الحياة وكل شيء له عوض إلا العمر، والحسن البصري يقول:«ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي فيه ملك: يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزوّد مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة» .
4 -
…
إن وقت الإنسان في العادة موزع بين العمل والإنتاج والنوم والطعام وغيره. وما يتبقى بعد ذلك من الوقت ينبغي أن يصرفه الإنسان على إصلاح ذات نفسه، باستكماله فضائلها وكمالاتها. ومجتمع يقضي وقت فراغه في مثل هذا يرجى له خير.
أما إذا شغلت أوقات الفراغ هذه بوسائل اللهو والتسلية والباطل، أصبح الإنسان يعيش حياة الحيوان التي ليس للمخلوق فيها هدف سوى طعامه وشرابه ومتعته. والبحث عما يؤدي إلى هذا. قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محَمَّد: 12] .
5 -
…
فإذا أضيف إلى هذا كله الغناء الذي ينبع عن تصور فاسد، وعن عواطف خسيسة، وعن فكر رديء، وعن مشاعر منحرفة، فإن هذا كله قتل للأمة وروحها ومسخ لحقيقتها. اهـ.
إن ما قرره العلماء من حرمة لهذه الآفات التي نراها - وقد
ارتبطت تاريخياً وواقعياً بالترف ومجالس الشرب - لهي الحقيقة التي لا تقبل الجدال.
وفي عصرنا هذا قوي سلطان ما يسمى بالفنون على النفوس واتسع وانتشر، لانتشار الشاشة الصغيرة في البيوت والنوادي والملاهي فيكفي أن يحرك الإنسان مفتاحاً صغيراً ليرى ويسمع ما شاء من أقوال وأفعال ومشاهد أكثرها مسخ وانتكاس عن الفطرة وانقلاب في الموازين، لا ضوابط ولا رقابة بل كلهم يتسابقون في أن يصبحوا حديث المراهقين والمراهقات ليحققوا أكبر قدر من المال والشهرة، إسفاف في ألفاظ الأغنية وميوعة في الحركة واتخاذ الجنس وسيلة للجذب، دُور للعرض مكدسة بالشباب وغير الشباب في اختلاط وتبرج. كلها حيل ماكرة لجذب الشباب إلى الباطل. وتدريبهم على الاستخفاف والاستهزاء والتجريح، وكأنما أغلقت كل السبل وسُدت كلّ الأبواب أمام الفنانين والمؤلفين والمخرجين ولم يبق إلا مستوى الحب الرخيص والاستهانة بكل القيم. والواقع يشهد على صدق ما نقول.
أين العمل الفني الهادف، الذي نتوصل إليه بالوسائل النظيفة مع تقدير الآداب العامة. وتقدير أخلاق هذه الأمة وعقيدتها، وإسلامها، أما غير هذا مما نرى ونشاهد في واقعنا فهذا هو الذي حذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال:«ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير» . (1)
وليس بضروري أن يكون مسخ هؤلاء مسخاً للشكل والصورة،
(1) أخرجه ابن ماجه؛ كتاب: الفتن، باب: العقوبات، برقم (4020) ، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
وإنما هو مسخ النفس والروح، وحلول البلادة والجبن فيحملون بين ضلوعهم نفس القردة وروح الخنازير، من كثرة إدمانهم الشر وحرصهم على الفساد وجرأتهم على الله عز وجل.
وفي ضوء المقاييس التي قدمناها نستطيع أن نفهم حكم الإسلام في دخول السينما ومشاهدة المسرح وسماع الأغنية، والانشغال بالموسيقا، والضوابط لكل حالة ونظرة الإسلام إلى الإنسان وتقديره لوقته وحرصه على سلامة عقيدته وإيمانه، وقد يعجب بعض الناس من هذا ويقول إن هذه الأشياء من المقومات الكبرى لدى سائر الأمم المتحضرة في هذا العصر.
ونقول: إن الإسلام لم يقف من هذه الأشياء هذا الموقف إلا لأنها مستوردة من حضارة غير حضارته، ونابعة من تصور غير تصوره. وللإسلام منطلق حضاري آخر مستقل بذاته لا يتفق أبداً ومنطلقات هذه الحضارة التي فرضت على الأمة الإسلامية نتيجة للغزو الثقافي، ثم حدث التقليد الأعمى، فللفن في الإسلام مضمون آخر نابع من العقيدة الإسلامية، مضمون يتناسق مع أدب المسلم وعفته وأخلاقه وحدوده الشرعية، مضمون هادف يربي بالكلمة وبالنشيد وبالتمثيلية وبالموقف، يربي الرجل والمرأة ويبث فيهما أخلاق الإسلام ويربيهما على طبيعة الجهاد والكفاح والإيثار والبذل، والتضحية والوفاء، ورحمة الصغير وتوقير الكبير، فن إسلامي لا علاقة له بهذا العري وهذا الانتكاس وهذه البهيمية، وهذا التبجح الذي بلغ الذروة في كل مكان. قال تعالى:[الذّاريَات: 53-54]{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ *} (1) .
(1) فتاوى حول الدين والدنيا، محمد عبد الله الخطيب، مرجع سابق، ص 110 - 114.