الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ايضا عند ذوى المعارف واولى الألباب الناظرين في لب القرآن فحينئذ قد فزت بحظك منه ونلت نصيبك من هدايته وإرشاده على قدر استعدادك واستجماع وسعك رب هب لي من فضلك من خزائن جودك التي او دعتها في كتابك الكريم انك أنت الوهاب والملهم بالخير والصواب
[سورة القصص]
فاتحة سورة القصص
لا يخفى على من تحقق بوحدة الحق وانكشف باستقلاله وتوحده في التحقق والوجود وشهد حضوره في الأكوان كلها. بلا مزاحمة ضد وشريك ومظاهرة مثل وظهير ان وحدة الحق تستدعى نفى الكثرة والتعدد مطلقا ولهذا ما ظهر في فضاء الوجود الا ما لمع عليه بروق تجلياته الحبية حسب أوصافه وأسمائه الذاتية ومن انكشف له هذا المشهد العظيم لم يسمع من احد ان يدعى الوجود لنفسه فكيف ان يدعى الألوهية والربوبية والاستقلال بالآثار والتصرفات الواردة في عالم الغيب والشهادة ومن ظهر على الله الواحد الأحد الفرد الصمد بأمثال هذه الدعوى الكاذبة وترقى فيها جهلا وعتوا الى ان قال أنار بكم الأعلى فمن كمال غيرة الله وحميته على نفسه ان يطرد من يدعى أمثال هذه الدعوى عن ساحة عز حضوره ويهلكه باشد العذاب وأسوأ العقاب في النشأة الاولى والاخرى لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بما خاطب وأخبره في هذه السورة من نبأ أخيه موسى عليه السلام مع من تكبر واستعلى على الأرض الى حيث قد استعبد من عليها مدعيا الألوهية والربوبية لنفسه لذلك قد اخذه الله نكال الآخرة والاولى ان في ذلك لعبرة لمن يخشى من قهر الله وغضبه فقال سبحانه متيمنا باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بجمعيته في الأكوان على مقتضى الأوصاف والأسماء الحسان الرَّحْمنِ بعموم المكونات بافاضة الوجود على سبيل السواء بلا تفاوت في خلقه وإظهاره لعموم الوراء الرَّحِيمِ لخواص عباده يوصلهم الى توحيد ذاته بافاضة انواع الرشد واصناف الهدى
[الآيات]
طسم يا طالب السعادة المؤبدة المخلدة ويا طيب الطينة ويا سالم السر والسريرة المنزه المقدس عن المكدرات الطبيعية المورثة لانواع الجهالات والضلالات المنافية لصفاء مشرب التوحيد
تِلْكَ الآيات المتلوة عليك يا أكمل الرسل في هذه السورة الحاكية عن قصص اخوانك من الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ اى نبذ مما ثبت في لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي الظاهر احاطته وشموله لجميع ما لاح عليه شروق شمس الوجود
نَتْلُوا عَلَيْكَ ونحكى لك يا أكمل الرسل مِنْ نَبَإِ مُوسى أخيك الكليم وَفِرْعَوْنَ المستكبر المستعلى المفرط في العتو والعناد انما أنزلناه إليك هذا ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع مع كونك خالي الذهن عنه وعن أمثاله لكونك اميا لا تقدر على مطالعة كتب التواريخ وانما أنزلناه إليك لتكون آية ودليلا لك على صدقك في دعواك الرسالة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بك ويصدقون رسالتك ونبوتك وذلك
إِنَّ فِرْعَوْنَ المفسد المسرف قد عَلا وأفرط فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر وترقى امره الى حيث تفوه بانا ربكم الأعلى وَمن كمال عتوه واستكباره قد جَعَلَ أَهْلَها اى اهل مصر ومن يسكنون حولها شِيَعاً اى فرقا وأحزابا يشايعون له لدى الحاجة ويزدحمون عليه عند الارادة طوعا وكرها وبعد ما قد رأى فرعون في منامه ليلا ان نارا تخرج من دور بنى إسرائيل وتقع على داره وتحرقه وما حولها من دور القبط ولم تضر بدور بنى إسرائيل أصلا فأصبح وامر بإحضار الكاهن العليم فاستعبر عنه الرؤيا فقال له الكاهن
سيخرج من بنى إسرائيل رجل يستولى عليك ويستأصلك ومن معك وبعد ما سمع من الكاهن ما سمع صار يَسْتَضْعِفُ اى يضعف طائِفَةً مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل وقد بالغ في أضعافهم الى حيث يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ يعنى امر بشرطته ووكلائه ان يقتلوا من ولد منهم ذكرا لئلا يتقووا على قتاله ولم يحدث بينهم من أخبر به الكاهن وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ليتزوجهن القبط ظلما ويزداد ويلحق العار والصغار على بنى إسرائيل وبالجملة إِنَّهُ كانَ مِنَ أعظم الْمُفْسِدِينَ في الأرض يريد ان يظهر على الله بقتل ما أوجده سبحانه عتوا واستكبارا
وَبعد ما بالغ في الإفساد والفساد وتمادى في الجور والعناد زمانا نُرِيدُ بمقتضى جودنا وسعة رحمتنا أَنْ نَمُنَّ منة عظيمة عَلَى عبادنا الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ اى ارض العمالقة وهم بنوا إسرائيل الإسراء المظلومون في أيدي القبط وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وقدوة كراما كبراء عظماء اعزة متبوعين بعد ما كانوا اتباعا أذلاء صاغرين وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ من ظالميهم يرثون منهم ارضهم وديارهم وأموالهم
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ اى نقررهم ونوطنهم فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر والشأم بعد ما كانوا مضطربين متزلزلين في أيدي العدو وَنُرِيَ بمقتضى قهرنا وجلالنا فِرْعَوْنَ المفرط في العتو والعناد وَظهيره هامانَ المفتخر على اهل الزمان بنيابته ووزارته وَجُنُودَهُما من القبط مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ منه وهو ظهور مولود منهم يذهب به دولة القبط وصار سببا لهلاكهم بالمرة
وَبعد ما ولد موسى وظهر من أراد به سبحانه زوال ملك فرعون واستوحشت امه من وقوف الشرطة عليه وقتله قد أَوْحَيْنا عناية منا إياه وإظهارا لحكمتنا المتقنة المثبتة في حضرة علمنا ولوح قضائنا وألهمنا حينئذ إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ مهما أمكنك ارضاعه واخفاؤه فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من وقوفهم إياه ضعيه في التابوت فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ اى النيل وَلا تَخافِي من هلاكه وغرقه وَلا تَحْزَنِي من فراقه إِنَّا من وفور لطفنا وعطفنا إياه وإياك قد رَادُّوهُ إِلَيْكِ لتحصنه وتحفظه أنت الى وقت فطامه وكبره البتة وَبعد ما استوى وبلغ أشده ورشده جاعِلُوهُ مِنَ جملة الْمُرْسَلِينَ المؤيدين من لدنا بالوحي والإلهام وظهور انواع المعجزات والخوارق من يده وبعد ما قد تفرست امه بوقوف الشرطة وتجسسهم بعد ما أرضعته ثلاثة ايام وضعته في التابوت على الوجه المأمور والقته في اليم مفوضة امره الى الله المتكفل بحفظه فذهب البحر بتابوته الى حذاء دار فرعون فرآه من فيها
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فأخذوه وأخرجوه من اليم واحضروه وبعد ما كشفوا عنه ستره رأوا فيه وليدا في غاية الحسن والجمال بحيث تبهر عيون الناظرين اليه يمضغ إبهامه فلما رآه فرعون وامرأته وجميع من في بيته من الخدمة احبوه واعجبوا حسنه وصفاءه وبهاءه وقد ألقينا محبته في قلوبهم جميعا الى ان اتفقوا لحفظه غافلين عن مكرنا معهم لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً اى موجب حزن طويل وعداوة شديدة مستمرة وبالجملة إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ مجبولين موافقين على الخطأ في عموم أفعالهم وأعمالهم كأنهم مجسمون متخذون من الخطأ ومن جملته محافظة العدو الموجب لانواع العذاب والنكال الواقع عليهم في النشأة الاولى والاخرى
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ آسية رضى الله عنها من كمال محبتها له وتحننها نحوه لفرعون مشيرة الى الوليد هذا قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ مثل أبناء بنى إسرائيل على ظن انه منهم بل نحفظه عَسى أَنْ يَنْفَعَنا اى رجاء ان ينفع بنا نفعا كليا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً خلفا لنا ويصير ولى عهدنا ان ظهر على رشد تام وعقل كامل كافل وَبالجملة هُمْ لا يَشْعُرُونَ انه عدوهم الذي يذهب به دولتهم وملكهم وبيده زوالهم وهلكهم
وَبعد القائه في البحر قد أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً صفرا من العقل ومن مقتضياته بل قد صارت قلقة هائمة حائرة حاسرة خاسرة بحيث قد اضمحلت عنها امارات الحياة تحننا الى ولدها وشوقا اليه وخوفا من قتله سيما قد سمعت بالتقاط آل فرعون إياه ووقوعه بأيديهم إِنْ كادَتْ اى انها قد صارت من غاية الحزن والأسف الى ان قربت لَتُبْدِي بِهِ اى لتظهر وتبوح بامره صائحة عليه فجيعة في شأنه من التقاط عدوه لَوْلا أَنْ رَبَطْنا وألقينا عَلى قَلْبِها السكينة والطمأنينة لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين لما وعدنا إياها برد ولدها إليها بلا ضرر من العدو
وَبعد ما سكنت من البوح والنوح وقصد الإظهار قالَتْ لِأُخْتِهِ اى مريم اخت موسى قُصِّيهِ اى اتبعى اثره وتتبعى امره كي تدركى وتدرى ما فعلوا معه فذهبت هي بأمرها فَبَصُرَتْ بِهِ اى بموسى عَنْ جُنُبٍ بعد واخفت حالها عنهم وَهُمْ بحيث لا يَشْعُرُونَ بقرابتها إياه وهم بعد ما اتفقوا على حفظه وتركوا قتله أرادوا ان يرضعوه فطلبوا المرضعة لحضانته ورضاعته
وَقد كنا من متانة حكمتنا وحكمنا قد حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ اى قبل القائه في البحر وحين عهدنا مع امه برده إياها بقولنا انا رادوه إليك فاحضروا مراضع كثيرة فأبى موسى عن مص الكل فتحيروا في امره فَقالَتْ مريم بعد ما انتهزت الفرصة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ان أردتم له مرضعة وَهُمْ اى اهل ذلك البيت لَهُ ناصِحُونَ حافظون الى ان كبر بحيث لا يغفلون عن تربيته وحفظه فلما سمع هامان منها ما سمع قال انها قد تعرفه واهله ومنشأه خذوها حتى تخبر ما حاله ومن أى قوم منشأه قالت انما أردت وهم للملك قوم ناصحون فأمرها فرعون باحضارها فأتت مريم بأمه وموسى على يد فرعون يبكى ويصيح فلما شم ريح أمه استأنس والتقم ثديها ومص بلا إباء فقال له فرعون من أنت منه فقد أبى من كل ثدي الا ثديك قالت انى امرأة طيبة الريح واللبن لم أوت بصبى إلا قبلني فدفعه إليها وعين اجرة حضانتها ورضاعتها فذهبت به الى بيتها من يومه كما قال سبحانه
فَرَدَدْناهُ يوم القائه في البحر إِلى أُمِّهِ إيفاء لوعدنا إياها كَيْ تَقَرَّ وتنور عَيْنُها بولدها وَبعد ما قد رددناه إليها ألهمنا لها ان لا تَحْزَنَ بعد اليوم وتثق بوعدنا إياها وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ القادر المقتدر على إيفاء مطلق العهود حَقٌّ ثابت محقق مطابق للواقع فكما اوفى سبحانه وعد رده إليك يوفى ايضا وعد رسالته ونبوته ايضا بلا خلف منه فعليك ان تثقى بالله وتفوضى امره اليه سبحانه فانه سبحانه يكفى ويكف عنه مؤنة شرور أعدائه ويوصله الى منتهى ما جبله لأجله إذ هو سبحانه قادر مقتدر غالب على عموم ما أراد وشاء وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس لا يَعْلَمُونَ كمال قدرته وحكمته سبحانه
وَلَمَّا ربته امه وأحسنت تربيته بمعاونة عدوه الى ان بَلَغَ أَشُدَّهُ وكمال قوته في نشوه ونمائه وَاسْتَوى اى كمل وتم عقله ورشده الى ان صلح لحمل أعباء الرسالة قد آتَيْناهُ من كمال جودنا إياه إيفاء لما وعدنا له في سابق علمنا المحيط وكتبنا لأجله في لوح قضائنا المحفوظ حُكْماً نبوة ورسالة ليضبط به ظواهر الاحكام من الأنام وَعِلْماً لدنيا متعلقا بمعرفة نفسه وبمعرفة ذات الحق المتصف بجلائل الأوصاف والأسماء وكذا بمعرفة توحده وتنزهه في ذاته عن سمة الكثرة
والتعدد مطلقا وَكَذلِكَ اى مثل ما جزينا موسى بأحسن الجزاء نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ من خلص عبادنا البالغين رتبة الإحسان معنا وهم الذين يعبدون الله كأنهم يرونه. وانما اتى بلفظ الماضي مع انه انما أرسل بعد ما هاجر من بينهم الى مدين وتلمذ شعيبا عليه السلام تنبيها على تحقق وقوعه
وَبعد ما قد بلغ موسى أشده قد دَخَلَ الْمَدِينَةَ اى مصر يوما من الأيام عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها لأنهم لا يترقبونه في تلك الوقت قيل هو وقت القيلولة وقيل وقت العشاء فَوَجَدَ موسى حين دخل فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ قتالا شديدا هذا اى احد المقاتلين مِنْ شِيعَتِهِ اى بنى إسرائيل وَهذا الآخر مِنْ عَدُوِّهِ يعنى القبط وبعد ما وصل موسى إليهما فَاسْتَغاثَهُ اى طلب منه الغوث والإعانة الرجل الَّذِي هو مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الرجل الَّذِي هو مِنْ عَدُوِّهِ إذ القبطي غالب على السبطى وبعد ما وجد موسى صديقه مظلوما مغلوبا فَوَكَزَهُ اى العدو مُوسى يعنى ضم أصابعه مجتمعة مقبوضة فضرب بها العدو مرة فَقَضى عَلَيْهِ وهلك وانفصل روحه عنه بوكزة واحدة دفعة فخجل موسى من فعله هذا واسترجع الى الله مستحييا منه سبحانه حيث قالَ هذا اى ما جئت به من الفعلة الشنيعة مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إذ هو يغرينى ويغويني باغرائه واغوائه إِنَّهُ اى الشيطان المغرى المغوى عَدُوٌّ لأهل الحق وارباب اليقين مُضِلٌّ لهم يضلهم عن الطريق المستبين مُبِينٌ ظاهر العداوة والإضلال سيما بالنسبة الى ارباب الرشد والكمال
قالَ موسى حينئذ متضرعا نحو الحق آئبا اليه تائبا عما صدر عنه مناجيا له عن محض الندم والحياء رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم بين يدي عدوى وخلصني من البلية العامة بمقتضى جودك إِنِّي بالاقدام على هذا الأمر الشنيع قد ظَلَمْتُ نَفْسِي وعرضتها على عذابك بالخروج عن مقتضى حدودك بقتل هذا الشخص بلا رخصة شرعية فَاغْفِرْ لِي يا ربي زلتى بعد ما تبت إليك وأنبت نحوك ورجعت عن ذنبي نادما والتجأت الى بابك راجيا فَغَفَرَ لَهُ ربه زلته بعد ما رجع اليه مخلصا إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْغَفُورُ
لذنوب عباده بعد ما رجعوا نحوه متذللين خائبين خاسرين الرَّحِيمُ يقبل توبتهم بعد ما أخلصوا فيها وبعد ما تاب ورجع عما قد عمله خطأ
قالَ مقسما رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرامات أقسمت بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ اى بعموم نعمك العظيمة الواصلة الى فَلَنْ أَكُونَ بعد اليوم وبحال من الأحوال ظَهِيراً مغيثا ومعينا لِلْمُجْرِمِينَ الذين قد أدت اغاثتهم الى جرم كبير وذنب عظيم وبعد ما صدر من موسى ما صدر
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً من اولياء المقتول يَتَرَقَّبُ منهم الاستقادة والقصاص فَإِذَا اى فاجأ موسى بغتة بالرجل الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ واستغاث منه بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ويستغيث منه ايضا مرة بعد اخرى لقبطى آخر يخاصم معه ويتغلب عليه قالَ لَهُ اى للمستغيث مُوسى على وجه الردع إِنَّكَ مع غاية ضعفك وقلة قوتك لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ظاهر الغواية والضلال
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى بعد ما رأى غاية ضعف صديقه ومغلوبيته من العدو وان نسب الصديق الى الغواية أَنْ يَبْطِشَ غيرة وحمية عليه بِالَّذِي اى بالقبطي الذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما اى لموسى والإسرائيلي المغلوب إذ كل قبطى عدو لكل سبطي لاستمرار العداوة فيما بينهم قالَ القبطي يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي ظلما وعدوانا كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ جبرا بلا رخصة شرعية إِنْ تُرِيدُ وما تقصد بفعلك هذا وظهورك هكذا
إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً قتالا فِي الْأَرْضِ ظلما وعدوانا بطرا مباهيا بقدرتك وقوتك وَبالجملة ما تُرِيدُ وما تقصد أنت بهذه الجرأة والجريمة أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين المتخاصمين بل ما أنت الا من المفسدين أشد إفساد
وَبعد ما انتشر الخبر بين العوام وشاع بين الأنام الى ان وصل الى فرعون وملائه فحضر اولياء المقتول على باب السلطان طالبين القود من القاتل فهم فرعون وملاؤه بقتل موسى بعد ما قد شاوروا في شأنه مشاورة عظيمة قد جاءَ رَجُلٌ مؤمن بموسى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ نحوه وهو ابن عمه حال كونه يَسْعى يسرع ويتبختر قالَ باكيا يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ اى فرعون واشراف قومه يَأْتَمِرُونَ بِكَ ويتشاورون في شأنك واستقر رأيهم لِيَقْتُلُوكَ قصاصا فَاخْرُجْ من المدينة في هذه الساعة وبالجملة إِنِّي من كمال عطفي ومرحمتى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ أنصحك بالخروج من بينهم لئلا يلحقك شرهم وضرهم وبعد ما سمع موسى من المؤمن الناصح ما سمع
فَخَرَجَ مِنْها اى من المدينة على الفور خائِفاً يَتَرَقَّبُ ادراكهم من الخلف قالَ حين خروجه منها ملتجأ الى الله مناجيا معه مستعينا مغيثا اليه رَبِّ يا من رباني بكنف حفظك وجوارك ونجاني من انواع الفتن والمحن نَجِّنِي بلطفك اليوم ايضا مِنَ ادراك الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ القاصدين لمقتي وقتلى
وَلَمَّا تَوَجَّهَ موسى تِلْقاءَ مَدْيَنَ اى جهة قرية شعيب النبي صلوات الله عليه وسلامه قالَ راجيا الى الله ذاكرا سوابق نعمه عليه من كمال فضله وكرمه عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي حسب جوده العميم سَواءَ السَّبِيلِ اى الطريق المستقيم المنجى عن العدو الموصل الى الصديق المشفق المرشد ليهدينى الى صراط الله الأقوم الأعدل الذي هو التوحيد المخلص عن وساوس التقليد فعن له يومئذ ثلاث طرق فاختار أوسطها بالهام الله إياه وجاء الطلاب عقيبه فاختاروا الآخرين فنجى من شرورهم
وَلَمَّا وَرَدَ ووصل بعد ما سار ثمانية ايام بلا زاد يأكل الكلأ ماءَ مَدْيَنَ اى بئرا قرب مدين قد كان أهلها يسقون منها مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً اى فرقة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وأنعامهم بالدلو وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اى في مكان ابعد منهم وأسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ معهما أغنام كثيرة وهما تَذُودانِ تطردان وتصرفان غنمهما عن اختلاط غنمهم وتبعدان عن الماء قالَ موسى سائلا عنهما بعد ما شاهد حالهما وذودهما ما خَطْبُكُما واى شيء شأنكما وأمركما واى شيء مقصودكما من الذود مع ان اغنامكما في غاية العطش قالَتا مع كمال الاستحياء والتحفظ من مكالمته في جوابه لا نَسْقِي أغنامنا مع هؤلاء الرجال إذ نحن من اهل بيت النبوة لا نجتمع معهم في السقي بل نصبر حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ويخلو الدلو ويخرجوا مواشيهم الى المرعى عن رأس الماء. الرعاء جمع راع كتجار جمع تاجر هذا على قراءة يصدر بضم الياء وكسر الدال واما على قراءة يصدر بفتح الياء وضم الدال اى يذهب الرعاة والحفظة بمواشيهم مرتوية وينصرفوا عن شفير البئر إذ نحن لا نختلط باجانب الرجال وَبالجملة نحن من غاية اضطرارنا وضرورتنا قد جئنا للسقي إذ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ فاقد البصر وما لنا أخ وعم وليس لأبينا ظهير وهو شيخ ضرير وبعد ما سمع موسى منهما ما سمع ورأى ما رأى من كمال العفة والعصمة قام مع انه في غاية الضعف من شدة الجوع والعطش وفي رأس البئر حجر عظيم يقلبه عند الاستقاء جمع كثير فقلبه وحده
فَسَقى لَهُما جميع اغنامهما فانصرفتا وذهبتا باغنامهما الى بيتهما ثُمَّ تَوَلَّى وانصرف موسى إِلَى الظِّلِّ وازداد جوعه وعناه من فرط
الحركة فَقالَ ملتجأ الى ربه رَبِّ إِنِّي من شدة جوعى وضعفى لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ ورزقتني من موائد افضالك وإنعامك مِنْ خَيْرٍ طعام وصل الى فَقِيرٌ مريد محتاج وأنت اعلم لحالي منى وبعد ما تم مناجاته مع ربه ورفع حاجاته اليه سبحانه
فَجاءَتْهُ فجاءة إِحْداهُما اى احدى المرأتين تَمْشِي نحوه عَلَى اسْتِحْياءٍ تام منه وكمال تحفظ وتحصن فلما وصلت حوله سلمت عليه خافضة صوتها ناكسة رأسها ثم قالَتْ له مستحية إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ ويكافئ معك أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا تبرعا فأجابها موسى تبركا برؤية شعيب عليه السلام لا طمعا لاجرته. روى انه لما دخل عليه قد أتى أولا بالطعام فامتنع موسى ولم يأكل وقال نحن من اهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا قال شعيب عليه السلام هذا من عادتنا مع كل من ينزل علينا وان من أوتى بمعروف واهدى له لم يحرم أكله في عموم الأديان فقبل قوله موسى واشتغل بأكل الطعام فَلَمَّا جاءَهُ اى لما وصل موسى شعيبا عليهما السلام وتبرك بشرف صحبته وقد لاح على شعيب عليه السلام حاله وشأنه بنور النبوة وَبعد ما ظهر على موسى ايضا انه قد لاح عليه قَصَّ موسى عَلَيْهِ الْقَصَصَ عن آخرها اى عموم ما جرى عليه من اوله الى آخره وسمع منه الشيخ على التفصيل وبعد ما سمع شعيب عليه السلام قالَ لا تَخَفْ بعد اليوم فقد نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى فرعون وملئه وبعد ما قد جلس موسى عند شعيب عليه السلام وقص عليه ما جرى عليه من الخوف والحزن والكآبة وانواع الملال والضلال وتشتت الحال وتفرق البال
قالَتْ إِحْداهُما اى احدى ابنتين وهي التي استدعته للضيافة يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ لرعى الغنم وأنت تريد الأجير إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ من الرجال هو لأنه الْقَوِيُّ القادر شديد القوة الْأَمِينُ ذو الامانة والديانة قال لها أبوها حمية وغيرة من اين عرفت قوته وأمانته فذكرت لأبيها ما رأت من إقلال الحجر العظيم وحده من رأس البئر مع ان الناس قد يقلون بجمع كثير فهذا دليل قوته واما دليل أمانته فانى بعد ما دعوته بإذنك قام ومشى قدامي وأمرني بالمشي خلفه صيانة على عن النظر الى فقال لي دلينى على الطريق ان ضللت ولما سمع شعيب عليه السلام من ابنته ما سمع من امارات أمانته ومروءته مع انه قد شاهد منه ولاح عليه بنور النبوة نجابة طينته وفطرته رغب الى ألفته ومؤانسته حيث
قالَ شعيب عليه السلام بموسى إِنِّي بعد ما وجدتك شابا صالحا سويا نسيبا حسيبا ذا رشد وامانة أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ بصداق معين وهو عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً كاملا فَمِنْ عِنْدِكَ تبرعا وإحسانا وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بان أحملك أزيد من ذلك سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ للخدمة والمصاحبة والمواخاة في أداء الحقوق والعهود
قالَ موسى مجيبا له راغبا لقبول ما ألقاه من الكلام ذلِكَ الوقت الذي عينته ملزما على أولا بَيْنِي وَبَيْنَكَ معهود ثابت مقرر معقود عليه كما أمرتم وحكمتم والذي قلتم ثانيا تبرع منى ان قدرت على إتيانه بتوفيق الله وتيسيره كما قررتم أنتم ايضا وبالجملة أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ يعنى أجل الالتزام او أجل التبرع قَضَيْتُ يقع المعهود بلا تردد فَلا عُدْوانَ ولا تعدى عَلَيَّ بعد انقضاء كل واحد من الأجلين وَاللَّهُ الشهيد المطلع على عموم احوال عباده عَلى ما نَقُولُ من المشارطة والمعاهدة وَكِيلٌ حفيظ يحفظها على وجهها
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ اى أقصى الأجلين ومكث عنده عشرا أخر بعد ما تزوج ابنته للاسترشاد والاستكمال وكسب
الأخلاق والأطوار بعد ما قد كمل بصحبة المرشد الكامل المكمل وشرف بشرف تربيته أراد ان يرجع الى قومه بل أراد الحق ان يظهر منه ما جبله لأجله وهو زوال ملك فرعون وسلطنته بسببه فخرج من عنده باذنه عليه السلام وَسارَ بِأَهْلِهِ نحو مصر وهي حاملة فجاءها الطلق في ليلة شاتية مظلمة وهم على جناح السفر ضالين عن الطريق آنَسَ وأبصر موسى مِنْ جانِبِ الطُّورِ اى من الجهة التي تجاه الطور ناراً ففرح من رؤيتها حيث قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ساعة إِنِّي قد آنَسْتُ وأبصرت ناراً ومن هذا يعلم ان اهله لم يروها اذهب نحوها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ من الطريق استخبر من عندها أَوْ جَذْوَةٍ اى عود غليظ مع شيء مِنَ النَّارِ ان لم أجد عندها أحدا لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ بها وتستدفئون من البرد فمكثوا فبادر موسى نحوها سريعا مسرعا
فَلَمَّا أَتاها وقرب منها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ اى شفيره وجانبه الْأَيْمَنِ ذي اليمن والكرامة الواقعة فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ التي قد كثر الخير والبركة فيها مِنَ الشَّجَرَةِ التي توقد عليها النار نداء عجيبا معربا عن اسمه مصرحا به أَنْ يا مُوسى المتحير في بيداء الطلب القلق الحائر في فيافى التعب إِنِّي مع كمال اطلاقى وان ظهرت على صورة النار وتقيدت بها متنزلا عن كمال تنزهى وعلو شأنى عن عموم الصور والتعينات أَنَا اللَّهُ الجامع لعموم الأسماء والصفات المتجلى بجميع الصور والشئون وبعموم الهياكل والتماثيل الظاهرة من آثار أوصافي وأسمائي المحسوسة من عكوس شئوني وتجلياتى حسب تطوراتى بمقتضى كمالاتى المتعالي عن الحلول في الشيء منها والاتحاد معه فاطلبنى تجد عموم حوائجك عندي لأنى رَبُّ الْعالَمِينَ اى مربى الكل ومدبره بعد ما قد أظهرت الأشياء واوجدتها من كتم العدم حسب رش نوري ومد ظلي عليها وبعد ما سمع موسى ما سمع قد استوحش بل قد هام ووله من هذا النداء الهائل وارتعد من هيبة هذا الصداء المهول إذ هو في أول انكشافه وابتداء شهوده وبعد ما ظهر منه ما ظهر من الرعب المفرط آنس معه ربه ازالة لرعبه ووحشته فقال مخاطبا له آمرا
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ التي في يدك حتى ترى عجائب صنعتنا وبدائع حكمتنا ويزول استبعادك عن ظهورنا على صورة النار فألقاها على الفور فإذا هي حية تسعى فَلَمَّا رَآها موسى عليه السلام تَهْتَزُّ وتتحرك على وجه السرعة كَأَنَّها جَانٌّ حية صغيرة سريعة السير قد وَلَّى موسى وانصرف عنها مُدْبِراً خائفا مرعوبا متنفرا إذ لم يرها قبل ذلك كذلك وَبعد ما أدبر هائلا هاربا لَمْ يُعَقِّبْ اى لم يرجع ولم يقبل نحوه ولم يلتفت الى اخذه خائفا منها هائبا قلنا له حينئذ مناديا ازالة لرعبه يا مُوسى أَقْبِلْ نحو عصاك وخذها بيدك وَلا تَخَفْ من صورتها المحدثة إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من ضرر ما ظهر عليك من الصور الحادثة المهيبة فانا سنعيدها سيرتها الاولى وصورتها الاصلية ثم امر سبحانه ثانيا تأكيدا لتأنيسه بقوله
اسْلُكْ وادخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مضيئة منيرة محيرة المعقول مفرقة الأبصار من كمال إشراقها وإضاءتها مع انها مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ومرض من برص وبهق وغيرها فادخل واخرج على الفور فرأى ما رأى وَبعد ما قد رأى موسى يده في غاية البياض والصفاء واستوحش ايضا منها واسترهب عن عروض المرض إليها بمقتضى بشريته امره سبحانه ثالثا ازالة لحزنه وتمرينا له بقوله اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ واطو كشحك واجمع شملك ويديك ولا تنشره مِنَ الرَّهْبِ والخوف والرعب المفرط وهذا كناية عن الطمأنينة والوقار وعدم اخطار الخوف مطلقا بالبال فَذانِكَ اى فاعلم
ان العصا واليد البيضاء بُرْهانانِ واضحان وشاهدان صادقان على دعواك النبوة والرسالة ومعجزتان باهرتان لك لمن يعارض معك وأنكر عليك وعلى رسالتك وذانك البرهانان منتشآن مِنْ رَبِّكَ موهوبان لك من عنده تأييدا لك ولأمرك وشأنك حين رسالتك وإتيانك إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ لتدعوهم الى توحيد الحق وصراطه المستقيم وتنذرهم عماهم عليه من الإفراط والتفريط إِنَّهُمْ من غاية انهماكهم في الغفلة والغرور كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة في شرائع الأنبياء الماضين والرسل المنقرضين ثم لما سمع موسى من ربه ما سمع
قالَ معتذرا مستظهرا رَبِّ يا من رباني بسوابق النعم الجليلة أنت اعلم منى بحالي إِنِّي قد قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً خطأ بإغراء الشيطان على واغوائه فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ويبادرون الى قتلى قبل دعوتهم الى دينك وتوحيدك لو اذهب نحوهم وحيدا فريدا بلا ظهير ومعين
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً وأوضح بيانا وأتم تقريرا وتبيانا فَأَرْسِلْهُ مَعِي واشركه في امرى ليكون رِدْءاً الى معاونا على يعينني في امرى يُصَدِّقُنِي قولي لدى الحاجة إِنِّي من كمال عداوتهم معى وشدة شكيمتهم وضغينتهم على أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ دفعة ولا ينطلق لساني بمجادلتهم ودفعهم بسبب لكنتى فافوت بلكنتى حكمة رسالتي واحكام دعوتي ونبوتي
قالَ له سبحانه على سبيل التأييد والتعضيد سَنَشُدُّ عَضُدَكَ ونقوى ظهرك وأمرك بِأَخِيكَ وَمع ذلك لا تيأس من توفيقنا لك وتأييدنا إليك واعلما انا بعد ارسالكما الى فرعون وملائه نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً برهانا واضحا وحجة قاطعة بها تغلبان أنتما إليهم فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بسوء قطعا بل لا يمكن لهم ان ينظروا نحوكما بقهر واستيلاء سيما بعد اتيانكما مؤيدا مصحوبا بِآياتِنا التي قد آتيناكما وبالجملة لا تخافا من غلبتهم عليكما حسب شوكتهم وكثرتهم عددا بل أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا وآمن لكما الْغالِبُونَ المقصورون على الغلبة والاستيلاء وهم المغلوبون المنحصرون على المغلوبية والمهزومية لا يتجاوزون عنها أصلا حسب ما أثبتنا في لوح قضائنا وحضرة علمنا المحيط
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى مؤيدا بِآياتِنا الدالة على صدقه في دعواه مع كون تلك الآيات بَيِّناتٍ ظاهرات واضحات في انها من لدنا بلا ريب وتردد ومع ذلك قالُوا من شدة قسوتهم وانهماكهم في الضلال ما هذا الذي قد اتى على صورة المعجزة والبرهان إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً قد اختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى ربه تغريرا وترويجا لباطله في صورة الحق وَمن شدة حرصه على ترويج ما قد زخرفه من عند نفسه سماه دينا وهداية ورشدا ودراية ونسبه الى الوحى والإنزال من الإله الواحد الأحد الموهوم مع انا ما سَمِعْنا بِهذا اى بوحدة الإله الواحد الأحد المرسل الرسل المنزل الكتب بالوحي والإلهام الواضع الأديان والشرائع بين الأنام وما كان هذا ايضا كائنا ثابتا معروفا مشهورا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ بل ما هو الا افك وافتراء ولبس على الأنام امره تغريرا عليهم وتضليلا لهم
وَبعد ما قد أبصروا بالآيات القاطعة والبراهين الساطعة ونسبوها من غاية غيهم وضلالهم الى السحر والشعبذة مع انها بعيد بمراحل عنها قالَ مُوسى بعد ما قنط عن ايمانهم وصلاحهم رَبِّي الذي رباني بأنواع الكرامات أَعْلَمُ منى بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى ومن اتصف بالرشد والهداية المنزلة مِنْ عِنْدِهِ حسب وحيه والهامه ومن اهتدى واسترشد به من عباده وَمَنْ تَكُونُ وتحصل لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعنى العاقبة الحميدة المترتبة على هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار في النشأة الآخرة التي هي نشأة الجزاء
والعطاء وبالجملة إِنَّهُ اى الشأن والأمر حسب ارادة الله سبحانه وبمقتضى عدله وحكمته لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية ولا يفوزون بما فاز به المتقون من المثوبة العظمى والدرجة العليا
وَبعد ما قد أتم موسى كلامه الصادر من محض الحكمة قالَ له فِرْعَوْنُ مستكبرا عليه مستحيا عمن حوله من الأنام لئلا ينسبوه الى العجز والافحام مناديا لهم على سبيل العظمة والكبرياء يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويستحق للعبادة غَيْرِي ومن اين يدعى هذا الكذاب ان في السماء الها سواي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ يعنى مر يا هامان للعملة على الفور ان يتخذوا من الطين لبنا ويوقدوها بالنار حتى صارت متحجرة آجرا فَاجْعَلْ لِي وابن لي منها صَرْحاً رفيعا وقصرا مشيدا منيعا سمكه متصل الى السماء فاستعلى انا عليها لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى فان اقبل بالقتال اغلب عليه واحطه على الأرض صاغرا مهانا وَبالجملة إِنِّي لَأَظُنُّهُ في هذه الدعوى مِنَ الْكاذِبِينَ القائلين بقول لا منشأ له في الواقع ولا اصل ولا مستند له لا في العقل ولا في العادة قيل قد بنى رصدا ليطلع على نظرات الكواكب هل يجد فيها نظرا يدل على زوال دولته باستيلاء موسى عليه
وَمن غاية غفلته وسكرته ونهاية عمهه وقسوته قذ اسْتَكْبَرَ هُوَ اى فرعون اصالة وَجُنُودُهُ ايضا تبعا له إذ هم على دين ملكهم وطوره فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ والاستحقاق وترقوا في عتوهم وعنادهم الى ان قد ظهروا على الله بأمثال هذه الهذيانات الباطلة وَظَنُّوا بل تيقنوا وجزموا بالاقدام والجرأة على أمثال هذه الخرافات أَنَّهُمْ بعد انخلاعهم عن لوازم عالم الناسوت إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ رجوع الاظلال الى الأضواء المنعكسة من شمس الذات وصور الأمواج الحادثة على سطح الماء الى الماء وبعد ما بالغوا في العتو والعناد وظهروا على وجه الأرض بأنواع الجور والفساد
فَأَخَذْناهُ اى فرعون حسب قهرنا وجلالنا إياه وَجُنُودَهُ ايضا بأنواع العذاب فَنَبَذْناهُمْ اى قد طرحنا الكل فِي الْيَمِّ وغطيناهم بالماء واغشيناهم مثل غشى وجوداتهم الباطلة بالوجود المطلق البحث الإلهي فَانْظُرْ يا أكمل الرسل وتأمل كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ومآل أمرهم وما يئول اليه حالهم وشأنهم
وَمن كمال ابتلائنا إياهم ومكرنا معهم قد جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً وقدوة للضلال المستوجبين بأنواع الخسار والبوار بحيث يَدْعُونَ من تبعهم ويقتفى أثرهم إِلَى النَّارِ اى اسبابها وموجباتها إذ مآل الكل إليها تابعا ومتبوعا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ اى لا يدفع عنهم العذاب ولا يخفف بشفاعة احد
وَكيف ينصرون أولئك الضلال الهالكون في تيه الضلال مع انا قد أَتْبَعْناهُمْ والزمنا عليهم فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً مستمرة جارية على ألسنة من على الأرض وَيَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للجزاء هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ المطرودين عن ساحة عز القبول والحضور المسوقين بسياط العنف والجبر نحو جهنم البعد والخذلان صاغرين مهانين
وَبعد ما قد نبذنا فرعون وجنوده في اليم لَقَدْ آتَيْنا وأعطينا مُوسَى الكليم الْكِتابَ العظيم اى التوراة المحتوية الجامعة على ظواهر الاحكام مِنْ بَعْدِ ما قد أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى واستأصلنا آثارهم وأحكامهم بحيث لم يبق حينئذ من شرائع المتقدمين وضوابطهم وقواعدهم وحدودهم وأحكامهم شيء بين الأنام كنوح وهود وصالح وابراهيم وغيرهم صلوات الرحمن عليهم دائما وانما آتيناه ليكون بَصائِرَ لِلنَّاسِ يعنى ينور باحكامه وأوامره عيون بصائرهم ويستيقظون به عن منام الجهل والغفلة ويشتغلون بسببه لطلب الحق وَهُدىً يهديهم الى
سلوك مسالك التوحيد وَرَحْمَةً تبشرهم الى البقاء الأبدي السرمدي بعد انخلاعهم عن خلعة تعيناتهم العدمية وافنائهم عن هوياتهم الباطلة الناسوتية لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا ويتنبهوا من المواعظ والاحكام التي ذكرت فيه الى ما جبلوا لأجله من المعارف والحقائق والرموز والإشارات والمكاشفات والمشاهدات ومع ذلك لم يتنبهوا ولم يتفطنوا ولم يتعظوا بها الا قليلا. ثم لما قص سبحانه حبيبه ما قص من قصة موسى الكليم وكيفية انكشافه من النار الموقدة على الشجرة المذكورة وكيفية عروجه منها مترقيا من العلم الى العين ثم الى الحق أراد ان يمن عليه سبحانه بما اصطفاه وفضله من بين البرايا للرسالة العامة وأخبره من المغيبات بطريق الوحى والإلهام ما ليس في وسعه لولا وحيه والهامه سبحانه إياه فقال
وَما كُنْتَ يا أكمل الرسل حين انكشف أخوك موسى بالواد المقدس وقد شهد من فضل الله عليه ما شهد بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ اى وادي الذي على شفيره الشجرة المعهودة بالطرف الغربي من مكان موسى وبالجملة ما كنت حينئذ حاضرا عنده وقت إِذْ قَضَيْنا وأوحينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ الذي هو انكشاف مطلوبه الحقيقي من مطلوبه الصوري وَما كُنْتَ أنت حينئذ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين المطلعين على شهوده وشأنه
وَلكِنَّا من كمال لطفنا وجودنا قد اخبرناك بما قد جرى بينه وبيننا في تلك الليلة كما قد أخبرنا لك عن احوال امم كثيرة قد أَنْشَأْنا من بعد موسى ومن قبلك قُرُوناً وامما كثيرة في ازمنة متطاولة وأمد بعيد فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ومكثوا في الدنيا كثيرا ودار عليهم الدول وطال الحول وحدثت الفتن والمحن ووقع ما وقع من التغييرات والتحريفات الكلية في الشرائع والأديان الماضية واندرست معالم الهدى وفشا انواع الجدال والطغيان بين اشخاص الإنسان وبالجملة قد استولت الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة على اهل الأعصار والأزمان السالفة والقرون الماضية ولقد أخبرنا لك يا أكمل الرسل ما في كتابك هذا من وقائعهم وأحوالهم وأطوارهم ومعاملاتهم ومقالاتهم مع رسل الله وخواص عباده ليكون تذكرة لك وعبرة للمؤمنين بك وَايضا ما كُنْتَ يا أكمل الرسل ثاوِياً مقيما متوطنا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على كمال القسط والعدالة بلسان نبينا شعيب عليه السلام وذلك عند انحرافهم عن جادة الاعتدال في المكيلات والموزونات واشتغلوا بالبخس والتطفيف وانواع التنقيص والتخسير وَلكِنَّا قد كُنَّا مُرْسِلِينَ مخبرين لك موحين إليك ما جرى عليهم من الأحوال
وَما كُنْتَ ايضا حاضرا بِجانِبِ الطُّورِ الذي هو موعد موسى معنا وقت إِذْ نادَيْنا موسى لاخذ التوراة ووقت وحينا اليه وَلكِنْ قد علمناك به ليكون رَحْمَةً لك نازلة إليك مِنْ رَبِّكَ تأييدا لك وتقوية لشأنك بل انما اوحيناك عموم ما اوحيناك لِتُنْذِرَ أنت به قَوْماً ضلالا ظالمين قد بقوا على فترة من الرسل إذ ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ من لدن عيسى عليه السلام وهي خمسمائة وخمسون سنة او من لدن جدك إسماعيل عليه السلام وهي بأضعاف هذه المدة المذكورة بناء على ان دعوة بنى إسرائيل مختصة بهم لا يتعدى الى غيرهم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ويتعظمون بما في كتابك ويتنبهون من حكمه وأحكامه الى مبدئهم ومعادهم ويفوزون منها الى المعارف والحقائق التي جبلوا لأجلها. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع
وَلَوْلا كراهة أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ عظيمة جالبة موجبة لنزول انواع العذاب والنكال بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ اى بشؤم ما اقترفوا من المعاصي فَيَقُولُوا حينئذ محتجين علينا مجادلين بنا بعد ما
قد أخذناهم عليها رَبَّنا لَوْلا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا من عندك مؤيدا من لدنك بالآيات البينات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ حينئذ البالغة إلينا برسالته ونصدقها ونعمل بمقتضاها وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدانيتك المخلصين في إيمانك وتوحيدك المخلصين من عذابك ما أرسلناك ولكن قد أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب لذلك
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ اى الرسول المرسل مِنْ عِنْدِنا ملتبسا بالحق مؤيدا بالآيات الساطعة والبراهين القاطعة قالُوا من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم لَوْلا هلا أُوتِيَ بهذا الرسول المرسل إلينا من الدلائل والمعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى حتى نصدقه ونؤمن به وبالجملة ما هذا الا من غاية غيهم وضلالهم وغلظ حجبهم وكثافة غشاوتهم ولذا لو اوتى لك مثل ما اوتى موسى لكفروا لك البتة أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ حيث قالُوا بعد ما شاهدوا دلائل معجزاته مبالغين في رده وإنكاره سِحْرانِ او ساحران على القرائتين تَظاهَرا يعنون هارون وموسى مع ان ما أتيا به بعيد بمراحل عن السحر وأنتم ايضا ايها الضالون من بقية من كفروا بدلائل موسى ونسبوها الى السحر ولو آتينا محمدا صلى الله عليه وسلم مثل ما أتينا موسى لكفرتم به البتة كما كفر اسلافكم بآيات موسى ومعجزاته مع ان دلائل محمد صلى الله عليه وسلم أقوى من دلائل موسى عليه السلام وكتابه اجمع من كتابه أتم نظما وأكمل معرفة وأعم حكما واشمل فائدة وَبعد ما سمعوا ما دل على خباثة فطرتهم قالُوا
مظهرين ما في نفوسهم من الشرك والنفاق إِنَّا بِكُلٍّ ممن يدعى الرسالة والنبوة والإرشاد والهداية كافِرُونَ منكرون وبالجملة نحن لا نقبل مطلقا من أبناء جنسنا أمثال هذه المفتريات التي قد اختلقوا عن تلقاء أنفسهم ونسبوها ترويجا الى ما لا وجود له في الواقع وسموه الها واحدا أحدا صمدا فردا وترا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا
قُلْ يا أكمل الرسل على سبيل التعجيز والتوبيخ بعد ما قد عاينت منهم الكفر على ابلغ وجه وآكده فَأْتُوا ايها المفسدون المسرفون بِكِتابٍ نازل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المنزل الكتب لإرشاد عباده هُوَ أَهْدى مِنْهُما اى من التوراة والقرآن أَتَّبِعْهُ اى ذلك الكتاب وما فيه من الاحكام وامتثل لأوامره واجتنب عما نهى فيه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في نسبتنا الى السحر
فَإِنْ عجزوا عن الإتيان ولَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ما طلبت منهم فَاعْلَمْ يا أكمل الرسل يقينا أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ اى انهم ما يتبعون الا أهواءهم الفاسدة وآراءهم الباطلة بلا متابعة منهم الى ملة من الملل السالفة ودين من الأديان السابقة وَمَنْ أَضَلُّ طريقا وأشد غيا وأسوأ حالا ومآلا مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ حال كونه بِغَيْرِ هُدىً ولا توفيق وارشاد ناش مِنَ اللَّهِ الميسر لأمور عباده وكيف يوفقهم الحق ويهديهم إِنَّ اللَّهَ الحكيم المتقن في أفعاله لا يَهْدِي الى الطريق المستبين الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات أوامره ونواهيه إذ هم منهمكون في بحر الغفلة والضلال بحيث لا يرجى نجاتهم منها أصلا
وَلَقَدْ وَصَّلْنا وفصلنا لَهُمُ الْقَوْلَ بان قد اتبعنا الاحكام بالحكم والأوامر بالمواعظ والتذكيرات والنواهي بالعبر والأمثال وقد أوضحنا الكل بالقصص والوعيدات الهائلة الواردة على اصحاب الغفلة والنسيان وبتنزيل انواع العذاب والنكال على اهل الكفر والإنكار كل ذلك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيتعظون منها ويؤمنون بها ويقبلون ما فيها ومع ذلك لم يتعظوا ولم يتأثروا ولم يقبلوا ولم يؤمنوا. ثم قال سبحانه
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى التوراة ووفقناهم على امتثال ما فيها من الأوامر والنواهي وعموم الأمور المتعلقة بالمعتقدات الدينية مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزول القرآن هُمْ بِهِ اى بالقرآن او بمحمد عليه السلام يُؤْمِنُونَ
إذ هم مصدقون بعموم ما في كتابهم ومن جملة الأمور المثبتة فيه إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن اليه وهم يؤمنون به قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن بمدة متطاولة
وَبعد نزول القرآن إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا مسلمين مصدقين آمَنَّا بِهِ واعتقدنا إِنَّهُ الْحَقُّ المطابق للواقع النازل المنزل مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزوله مُسْلِمِينَ منقادين لجميع ما فيه مصدقين له مؤمنين بمن انزل اليه إذ الايمان به من جملة المعتقدات المثبتة في كتابنا فالآن لم لم نؤمن مع انا قد وجدناه مطابقا لما علمناه وحفظناه في كتابنا وعلى الوجه الذي تلوناه فيه وبالجملة
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله يُؤْتَوْنَ ويعطون أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ وضعفين مرة على الايمان السابق بالقرآن وبمحمد حسب ما ثبت في كتابهم ومرة على الايمان اللاحق بعد ما عاينوا ما وصف لهم في كتابهم وانما ضعّفوا في جزائهم بِما صَبَرُوا وثبتوا على ما نزل عليهم من قبل الحق ولم يتركوا امتثاله لا سابقا ولا لاحقا وَهم بسبب دوامهم وثباتهم على ما أمروا في كتابهم يَدْرَؤُنَ يسقطون ويدفعون بِالْحَسَنَةِ اى الخصلة الحميدة الجميلة الموجبة لانواع الإفضال والانعام السَّيِّئَةَ الجالبة لانواع العذاب والخذلان وَهم ايضا من كمال اتصافهم بالإيمان والإحسان مِمَّا رَزَقْناهُمْ واقدرناهم على اقترافه وكسبه يُنْفِقُونَ في سبيلنا طلبا لمرضاتنا
وَايضا هم من كمال تحفظهم وصيانتهم عن نواهينا إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ اى الكلام الخالي عن المصلحة الدينية أَعْرَضُوا عَنْهُ اتقاء وتحرزا عن وصمة المداهنة والمراضاة بما لا يرضى به سبحانه وَقالُوا من سلامة نفوسهم وكمال علمهم للمرتكبين به بعد ما لم يقدروا على نهيهم لَنا أَعْمالُنا التي قد اقترفناها بسعينا واجتهادنا اى جزاؤها وما يترتب عليها وَلَكُمْ ايضا أَعْمالُكُمْ التي أنتم عليها مصرون وبجزائها متربصون وقالوا لهم حين توديعهم والذب عنهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعنى سلمكم الله العفو الرحيم عن عوائد ما كنتم عليه ووفقكم على التوبة والانابة عنه ومالنا معكم مطالبة ومجادلة سوى انا لا نَبْتَغِي ولا نطلب مصاحبة الْجاهِلِينَ بسوء عواقب الخصائل الذميمة الغير المرضية عند الله وعند خلص عباده. ثم لما احتضر ابو طالب ودنا ان يخرج من الدنيا جاءه رسول الله صلّى الله عليه مهتما بإيمانه وتوحيده فقال له قل يا عمى مرة لا اله الا الله انا أحاج بها لك عند ربي فأخرجك بها عن زمرة المشركين قال يا ابن أخى والله لقد علمت يقينا انك لصادق صدق صدوق في جميع ما جئت به لكن اكره ان يقال قد جزع ابو طالب عند الموت اى ضعف وجبن لذلك آمن بابن أخيه انزل سبحانه هذه الآية تأديبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم وردعا عن طلب شيء لا يرجى حصوله فقال
إِنَّكَ يا أكمل الرسل من شدة حرصك واهتمامك لا تَهْدِي ولا ترشد الى طريق الحق وسبيل توحيده عموم مَنْ أَحْبَبْتَ وأردت إيمانه وَلكِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده يَهْدِي ويوفق على الايمان والإطاعة بدين الإسلام مَنْ يَشاءُ هدايته واثبت سعادته وتوحيده في لوح قضائه وَهُوَ سبحانه أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِالْمُهْتَدِينَ من عباده بعد ما بلغت لهم ما قد أمرك الحق بتبليغه وبالجملة ما عليك الا البلاغ والهداية والرشد والإرشاد الى سبيل السداد انما هو بإرادته سبحانه وبمقتضى اختياره ومشيئته ومن الاعراب قوم جاءوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وَقالُوا انا قد علمنا يقينا انك على الحق والهداية والرشد لكنا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ ونؤمن بك ونعمل بدينك ونمتثل بجميع ما قد جئت به من عند ربك على الوجه الذي اعتقدناك نُتَخَطَّفْ ونخرج مِنْ أَرْضِنا التي كنا مستقرين عليها بمخالفتنا
العرب إذ نحن معاشر العرب أكلة رأس متفقين في عموم الخطوب ومتى خالفناهم في امر لم يرضوا عليه قد أخرجونا من بينهم البتة صاغرين مهانين فرد الله سبحانه عليهم عذرهم هذا بقوله أَيخافون أولئك الخائفون وَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ فيما مضى ولم نجعل مكانهم الذي يستقرون فيه حَرَماً ذا حرمة عظيمة آمِناً ذا أمن وأمان من عموم المكاره جالبا لانواع الخيرات والبركات إذ يُجْبى إِلَيْهِ ويجمع فيه ويحمل نحوه ويجر اليه ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ونفائسه من كل أمد بعيد وفج عميق لتكون رِزْقاً لهم مِنْ لَدُنَّا نحوهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس المجبولين على الجهل والنسيان لا يَعْلَمُونَ كمال لطفنا معهم ووفور رحمتنا إياهم
وَقل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا تغرنكم الحياة الدنيا وامهالنا إياكم فيها مترفهين متنعمين إذ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من اهل قرية أهلكناهم مع انهم قد بَطِرَتْ مَعِيشَتَها وكان أهلها بطرين فيها من سعة عيشها ووفور نعمها ومعيشتها أمثالكم فدار عليهم الدول فأخذناهم بأنواع النقم بدل نعمنا وانعامنا إياهم بشؤم كفرهم وكفرانهم فأهلكناهم واستأصلناهم صاغرين فانظر كيف كان عاقبة البطرين المفسدين فَتِلْكَ الاطلال الخربة والآثار الكربة الكئبة التي تجاه وجوهكم مَساكِنُهُمْ وأوطانهم التي كانوا يتمكنون فيها مترفهين بطرين انظروا كيف اندرست وخربت وتفتتت بحيث لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ في بلادهم وأماكنهم إِلَّا قَلِيلًا من اهل السفر والعبور ينزلون فيها ساعة ويرحلون بلا اقامة فيها ووراثة لها هكذا حال الدنيا وحياتها والاستقرار عليها والتمتع بمتاعها دائما عند العارف المحقق المتحقق ببطلان حقيقتها وماهيتها وَبعد ما أهلكناهم وخربنا بلادهم ودورهم قد كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم لا نمكن فيها خلفاء من أبناء نوعهم من شؤم آثامهم وجرائمهم التي قد كانوا عليها مصرين غير ممتنعين وان أرسلنا عليهم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب
وَبالجملة ما كانَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل مُهْلِكَ الْقُرى وما ينبغي وما يليق بشأن الحكيم العليم ان يأخذهم بغتة بلا منبه منذر بل ما أخذناهم على ظلمهم وعدوانهم حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها اى البلدة التي هي أم القرى الهالكة ومعظمها إذ أهلها اقبل للرشد والهداية من اصحاب حواليها ونواحيها وهم يتبعون لهم في معظمات أمورهم أولا رَسُولًا مؤيدا من لدنا مرسلا إليهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال قدرتنا على وجوه الانعام والانتقام ويدعوهم الى توحيدنا والتدين بالدين الموضوع من عندنا فتلا عليهم آياتنا فدعاهم الى توحيدنا وديننا فلم يقبلوا قوله ولم يستجيبوا له بل قد كذبوه وجميع ما جاء من الرشد والهداية مصرين على ما هم عليه من الغواية فاستحقوا العذاب والهلاك فلذلك أهلكناهم وَبالجملة ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ يعنى ما كنا مبادرين على إهلاك القرى الهالكة بلا سبق اسباب قد صدرت عنهم واستوجبت إهلاكهم بل انما أخذناهم بعد ما ظلموا أنفسهم بالخروج عن مقتضى حدودنا الموضوعة فيهم ظلما وعدوانا وصاروا مصرين مفتخرين بطرين بما آتيناهم من زخرفة الدنيا المستعارة الفانية التي قد الهاهم عن اللذات الاخروية الباقية
وَالحال انه ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ في هذه النشأة فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الدنية التي هي على طرف التمام مشرفة على التقضي والانصرام مبنية على السقوط والانهدام وَزِينَتُها الزائلة الذاهبة بلا قرار ولا دوام وَما عِنْدَ اللَّهِ من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المعدة الموعدة
لأرباب المراتب العلية والمناصب السنية من المنقطعين نحو الحق بعد انخلاعهم عن لوازم هوياتهم الباطلة البشرية العائقة عن التلذذ باللذات الاخروية الروحانية خَيْرٌ محض لا يتخلل بينه شر ونفع صرف ولا يطرؤ عليه ضرر وَأَبْقى وأدوم إذ لا يلحقه انصرام ولا انقضاء ولا زوال ولا فناء أَتستبدلون أنتم ايها الحمقى الأدنى الفاني بالأعلى الباقي بل تختارون اللذة الجسمانية على اللذات الروحانية فَلا تَعْقِلُونَ ولا تستعملون عقولكم الموهوبة لكم بمقتضاها ليتميز عندكم ما هو الأليق بحالكم والاولى بمآلكم
أَتستوون وتعدلون الآجل الباقي بالعاجل الزائل الفاني مع ان الكل من عندنا وتحت قدرتنا فَمَنْ وَعَدْناهُ من لدنا وعهدنا معه وَعْداً حَسَناً اى موعدا ذا حسن وكرامة وبهجة وبهاء فَهُوَ لاقِيهِ ومدركه وموصل اليه البتة إذ لا خلف لوعدنا الموعود من عندنا ولا نقض لعهدنا المعهود من لدنا أصلا أتظنون وتعتقدون ايها الجاهلون ان منزلة هذا السعيد الموفق على السعادة من عندنا كَمَنْ مَتَّعْناهُ كالشقى الذي متعناه في هذه النشأة مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الدنية الامكانية الظلمانية التي هي مكدرة بأنواع الكدورات مشوبة بأصناف الآلام والحسرات منغمسة بالخبائث والقاذورات ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بعد انقراض النشأة الاولى مِنَ الْمُحْضَرِينَ عند الله يوم العرض الأكبر للحساب والجزاء على ما قد تمتعوا به في النشأة الاولى. ثم قال سبحانه
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله واثبت شريكا في الوجود سواء يَوْمَ يُنادِيهِمْ الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء حين ظهر على مظاهره باسم القهار المفنى لأظلال السوى والأغيار مطلقا فَيَقُولُ بمقتضى غيرته وجلاله مخاطبا لمن قد أشرك له شيأ من عكوسه واظلاله مع ان الكل مطموس مقهور تحت حوله وقوته أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ايها الزاعمون المشركون المثبتون لي شركاء وتعبدونهم مثل عبادتي عدوانا وظلما. ثم أظهرهم الحق وأوجدهم جميعا تابعا ومتبوعا عابدا ومعبودا بعد ما قد قهرهم واعدمهم جميعا إظهارا للقدرة الكاملة وإلزاما للحجة البالغة وبعد ما أظهرهم وسألهم
قالَ الَّذِينَ حَقَّ اى ثبت وتوجه عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ والسؤال من الله أولا وهم المعبودون مناجين نحو الحق متضرعين قائلين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد كيف تصدر منا أمثال هذه الجرأة بل هؤُلاءِ الغواة الهالكون في تيه الغي والضلال هم الَّذِينَ قد أَغْوَيْنا عن منهج الاستقامة والسداد بأنواع التذلل والانقياد والإطاعة والعبادة إيانا بمقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة مع انا لا نستحق بها بل فعلوا ذلك على توهم منهم انا قادرون على إنجاح ما في نفوسهم وطباعهم من الأماني والشهوات ونحن ايضا قد أَغْوَيْناهُمْ بأنواع التغريرات والتضليل كَما غَوَيْنا 7 هؤلاء إيانا بعباداتهم وطاعاتهم إلينا فتعارض اغواؤنا باغوائهم وحين ظهر الحق قد تساقطا فالآن قد تَبَرَّأْنا عنهم وعن عبادتهم والتجأنا إِلَيْكَ تائبين آئبين مع انهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ حين ادعوا عبادتنا بل انما عبدوا اهوية نفوسهم وأماني قلوبهم وتوسلوا بنا فيها وكذا العابدون الضالون يتبرءون عن معبوداتهم باشد من ذلك متلائمين متعارضين
وَقِيلَ حينئذ من قبل الحق للمشركين على سبيل التهكم والاستهزاء ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين كنتم تطمعون وتدعون شفاعتهم إياكم فَدَعَوْهُمْ صائحين متضرعين فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ من كمال عجزهم وحيرتهم في أنفسهم وَبعد ما قد رَأَوُا الْعَذابَ النازل على أربابهم قالوا متمنين على سبيل التلهف والتحسر لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ في النشأة الاولى لينقذوا أنفسهم عن العذاب اليوم فكيف إنقاذهم بنا
وَبعد ما قد سأل سبحانه عن جريمة شركهم وسألهم ايضا عن تكذيب رسلهم اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يُنادِيهِمْ الحق فَيَقُولُ سبحانه معاتبا عليهم ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ حين دعوتكم الى الايمان والتوحيد والعمل الصالح والاجتناب عن المحضورات وترك المنكرات
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ يعنى قد ضلوا وتحيروا عن جميع طرق الكلام وسدت عليهم عموم سبل الاجوبة والتنطق والاخبار مطلقا وما ذلك الا من نهاية دهشتهم وحيرتهم وشدة ولههم وسكرتهم وبالجملة فَهُمْ حينئذ من غاية الهيبة والوحشة والهيمان لا يَتَساءَلُونَ ولا يتقاولون ولا يسأل بعضهم بعضا شيأ مجهولا حتى يعلمه بل كلهم حينئذ حيارى سكارى تائهون هائمون لا يسع لهم ولا يتأتى منهم الالتفات والتلقي أصلا
فَأَمَّا مَنْ تابَ من عموم ما جرى من المعاصي وَآمَنَ بالله بمقتضى ما امره الحق بلسان رسله وأنبيائه وَعَمِلَ عملا صالِحاً امتثالا بما نطق به الكتب والرسل فَعَسى أَنْ يَكُونَ هذا التائب السعيد مِنَ الْمُفْلِحِينَ الفائزين بالتوبة العظمى والدرجة العليا عند الله ومن المبشرين من لدنه سبحانه بشرف اللقاء والوصول الى دار البقاء وسدرة المنتهى
وَرَبُّكَ يا أكمل الرسل يَخْلُقُ ويظهر حسب تجلياته الحبية الجمالية جميع ما يَشاءُ من المظاهر وَيَخْتارُ منها ما يختار فالكل مجبور محكوم تحت قدرته ومشيته ما كانَ وما صح وما جاز وما ثبت لَهُمُ الْخِيَرَةُ والتخير والاختيار مطلقا حتى يريدوا لأنفسهم ما هو الأصلح لهم بل عموم أمورهم وشئونهم وأطوارهم مفوضة الى الله أولا وبالذات مستندة اليه سبحانه اصالة وهم مقهورون مجبورون تحت حكمه وقضائه حسب الارادة والاختيار وكيف لا يكونون مجبورين إذ هم في أنفسهم من عكوس أسمائه وظلال أوصافه ما لهم وجود في أنفسهم وتحقق في ذاتهم سُبْحانَ اللَّهِ المنزه عن المثل والشبه في الوجود وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من الشريك والنظير من الوجود
وَرَبُّكَ يا أكمل الرسل يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما تُكِنُّ وتخفى صُدُورُهُمْ اى ضمائرهم وقلوبهم وَما يُعْلِنُونَ اى يظهرون بجوارحهم وآلاتهم
وَكيف يخفى عليه شيء إذ هُوَ اللَّهُ الواجب لذاته المستقل في وجوده وظهوره المستوي على عروش عموم مظاهره ومصنوعاته بالاستقلال التام والاستيلاء الكامل لا إِلهَ في الوجود سواه ولا موجود غيره يعبد ولا عالم لعموم ما ظهر وما بطن إِلَّا هُوَ لذلك قد ثبت لَهُ الْحَمْدُ والثناء على الإطلاق الصادر من ألسنة ذرائر الأكوان والمظاهر وعموم من رش عليه من رشحات جوده ولمعات وجوده فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ من نشأتى الظهور والخفأ والبروز والكمون والقبض والبسط وَلَهُ الْحُكْمُ والأمر في الصعود والهبوط والنزول والعروج وكذا في عموم الشئون والتطورات وَبالجملة إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود ولا شيء سواه في عين الشهود تُرْجَعُونَ وتحشرون كما انه منه تبدؤن وتنشئون. ثم أشار سبحانه الى معظم ما أنعم على عباده من تجدد الملوين وتعاقب الجديدين امتنانا لهم وحثا على مواظبة شكره ومداومة ذكره والتذكر بانعامه وإحسانه وتعريضا للمشركين على كفرهم وكفرانهم فقال آمرا لحبيبه صلى الله عليه وسلم
قُلْ يا أكمل الرسل للناس الناسين توالى نعمنا المتوالية المترادفة عليهم مستفهما إياهم مستخبرا عنهم على سبيل التنبيه والتذكير أَرَأَيْتُمْ اى أخبروني ايها المغموزون بموائد نعمى إِنْ جَعَلَ اللَّهُ المحول للأحوال المدبر لعموم التدابير والأطوار عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ المظلم والعدم الصرف سَرْمَداً ممتدا مستمرا بلا تخلل ضوء الوجود بينه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
مَنْ إِلهٌ
قادر على إيجاد الضوء في خلال الظلمة واظهار الوجود على العدم غَيْرُ اللَّهِ على زعمكم الفاسد يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ تفوزون أنتم الى امور معاشكم بسببه أَفَلا تَسْمَعُونَ أمثال هذه التذكيرات ولا تفهمون معناها ولا تنكشفون عن الحكم والمصالح المدرجة فيها ايها المجبولون على الفهم والاستكشاف. ثم قال سبحانه
قُلْ لهم يا أكمل الرسل أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ المصلح لعموم أحوالكم وحالاتكم عَلَيْكُمُ النَّهارَ المضيء وشمس الوجود على صرافتها وإشراقها سَرْمَداً مستمرا دائما بلا طريان الضد عليها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ وتستريحون من تعبكم اللاحق من اشغالكم ومن لذات تجدداتكم وتطوراتكم أَفَلا تُبْصِرُونَ آلاء الله الفائضة عليكم على التعاقب والتوالي لإصلاح أحوالكم ليلا ونهارا حتى تواظبوا على شكرها وتداوموا لأداء حقها سرا وجهارا
وَمِنْ كمال رَحْمَتِهِ ووفور مرحمته قد جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ متجددين متعاقبين لِتَسْكُنُوا فِيهِ اى في الليل وتستريحوا عما عرض عليكم في النهار من المتاعب والمشاق وَلِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده في النهار وَبالجملة انما أفاض عليكم سبحانه كل ذلك لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه سبحانه كي تفوزوا الى ما أعدلكم من موائد كرمه ولا تشركوا معه شيأ من مظاهره ومصنوعاته ولا تنظروا نحو الوسائل والأسباب العادية ولا تنسبوا الأفعال الحادثة في الآفاق على غيره سبحانه بل نزهوه عن مطلق المشاركة والمماثلة وقدسوه عن جميع ما لا يليق بشأنه
وَاذكر للمشركين ايضا يا أكمل الرسل يَوْمَ يُنادِيهِمْ الحق فَيَقُولُ مغاضبا عليهم مستفهما على سبيل التوبيخ والتقريع أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ايها الحمقى شركاء معى احضروهم حتى يظهر الحق ويقمع الباطل الزاهق الزائل
وَبعد ما سكتوا وبهتوا من الجواب قد نَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد عليهم جميع ما صدر عنهم وجرى عليهم في دار الاختبار. والشهيد الشاهد العادل العدل السوى هو النبي المبعوث إليهم حين انحرافهم عن طريق السلامة وسبل الاستقامة فَقُلْنا للأمم بعد ما نزعنا شهداءهم منهم هاتُوا ايها الضالون المسرفون المفرطون بُرْهانَكُمْ مستندكم ودليلكم الذي أنتم تضلون لأجله وتشركون بسببه وتنحرفون عن جادة العدالة بواسطته وتنصرفون عن سبل السلامة بمتابعته فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ واللياقة المطلقة والاستحقاق التام على العبادة ثابتة لِلَّهِ الحقيق بالحقية الجدير بالالوهية اللائق بالربوبية ليس كمثله شيء يعبد له ويرجع اليه وَبعد ما جاء الحق وزهق الباطل قد ضَلَّ غاب وخفى حينئذ عَنْهُمْ عموم ما كانُوا يَفْتَرُونَ المعبودية اليه وينسبون الألوهية والربوبية نحوه جهلا وعنادا ويدعون اشتراكه مع الله في استحقاق العبادة والرجوع اليه لدى الحاجة. ثم قال سبحانه تذكيرا للمؤمنين وعبرة لهم عن تفظيع حال من تكبر على الله وعلى كليمه وخرج عن ربقة الايمان وقلادة الإخلاص وعروة العبودية بسبب ما قد بسط الله عليه من حطام الدنيا ومزخرفاتها ابتلاء وفتنة
إِنَّ قارُونَ المتجبر المتكبر الذي قد ظهر على الله وعلى رسوله مفتخرا بماله وجاهه كانَ أولا مِنْ قَوْمِ مُوسى ومن جملة من آمن له وصدقه قيل هو ابن عمته وقيل ابن خالته وكان أميرا بين بنى إسرائيل قد امره عليهم فرعون وبعد ما قد ظهر موسى وهارون آمن له وحفظ التوراة واحسن حفظه بحيث يقرأه عن ظهر القلب ثم لما استولى موسى واخوه على مملكة العمالقة وانقرض الفراعنة رأسا؟؟؟
حسد لهما قارون وأنكر جاههما اتكاء بما عنده من الدفائن والكنوز فقال يوما لموسى لك الرسالة والنبوة ولأخيك الحبورة وانا في غير شيء الى متى اصبر فَبَغى عَلَيْهِمْ وقصد مغالبتهم وَما ذلك الا ان قد آتَيْناهُ وأعطينا له مكرا عليه وافتنانا له مِنَ الْكُنُوزِ اى الأموال والامتعة التي قد عهد ادخارها من الذهب والفضة وغيرهما وقد بلغت أمواله وخزائنه من الكثرة الى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ اى الى حد ومرتبة قد كان مفاتح أقفال أبواب مخازنه وأقفال الصناديق الموضوعة فيها المختومة المقفولة لَتَنُوأُ وتثقل من الكثرة بِالْعُصْبَةِ بالجماعة الكثيرة من الحفظة أُولِي الْقُوَّةِ والقدرة أقوياء على حمل الأثقال جدا وقد كان مفتخرا بها بطرا فرحانا يمشى على وجه الأرض خيلاء اذكر وقت إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ اى بعض من أقربائه وقرنائه بعد ما قد أبصروا بطره المفرط ردعا له وتشنيعا عليه وحثا له على الانفاق والصرف في سبيل الخيرات وبناء المبرات لا تَفْرَحْ بما عندك من الزخارف الفانية يا قارون فإنها عن قريب سيفوت وأخرج حبها من قلبك إِنَّ اللَّهَ المطلع الغيور لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ من عباده سيما بحطام الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الروحانية
وَابْتَغِ واطلب وترقب واكسب فِيما آتاكَ اللَّهُ المنعم المفضل من الرزق الصوري الزائل الغير القار الدَّارَ الْآخِرَةَ وما فيها من الرزق المعنوي القار المستمر في دار القرار وذلك لا يحصل لك الا بإنفاق ما في يدك من الرزق الصوري في سبيل الله لفقراء الله طلبا لمرضاته بلا شوب المن والأذى وبصرفها الى سد الثغور وبناء المساجد والقناطير والخانات وغير ذلك من بقاع الخيرات والمبرات من الأمور المتعلقة بمصالح عموم العباد من التسهيل عليهم ورفع العسرة عنهم وَان أردت ان تكون من اهل الثروة والجاه المخلد في النشأتين لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ألا وهو اجتهادك ان تتمكن في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية بمقتضى كريمة وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه الآية إذ العبد وما في يده انما هو لمولاه واعلم يقينا ان التصرفات الحادثة في عالم الكون والفساد انما هي مستندة الى الله أولا وبالذات وَبعد ما قد علمت ان حظك ونصيبك ما هو من الدنيا وما معك وليس قرينك منها في أخراك الا الإحسان والانفاق أَحْسِنْ مما قد جعلك الحق خليفة عليه ونائبا كَما أَحْسَنَ اللَّهُ المنعم المحسن إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ ولا تطلب بحال من الأحوال الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ اتكالا على ما في يدك من أسبابه التي هي الأموال المؤدية الى اصناف الفسادات وارتكاب انواع المحظورات والمنكرات إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم احوال عباده لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ منهم سيما بمظاهرة حطام الدنيا الدنية وبعد ما قد سمع قارون منهم المواعظ والتذكيرات المتعلقة بإصلاح حاله النافعة له في النشأة الاولى والاخرى اعرض عنهم وانصرف عن مقالتهم عتوا واستكبارا حيث
قالَ متعظما بشأنه مستبدا برأيه إِنَّما أُوتِيتُهُ يعنى ما أوتيت عموم ما أوتيت من الرزق الصوري الا عَلى عِلْمٍ حاصل عِنْدِي يعنى منشأ اجتماع الأموال على وحصولها عندي اتصافى بعلم كامل كافل موجب لحصولها وتحصيلها وبالجملة ما هي وجمعها الا بحولي وقوتي وعلمي بطرق تحصيلها وانما قال ما قال بطرا واستغناء وكبرا وخيلاء قيل انه عالم بعلم الكيمياء قال سبحانه ردا عليه على سبيل التعيير والتقريع أَيتفوه ويقول هذا الطاغي الباغي الهالك في تيه الغي والضلال أمثال هذه الخرافات وَلَمْ يَعْلَمْ بالتواتر وبمطالعة كتب التواريخ ومن القصص المثبتة في التوراة أَنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء قَدْ أَهْلَكَ واستأصل كثيرا مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اهل الْقُرُونِ الماضية مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً
بحسب الأولاد والاتباع وَأَكْثَرُ جَمْعاً لحطام الدنيا اما يستحى هذا الطاغي المسرف حتى ظهر على الله ولم يخف من بطشه وانتقامه بغتة وَمن سرعة نفوذ قضاء الله وقت ارادة إنفاذه عند الغضب على أعدائه لا يُسْئَلُ حينئذ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ إذ اطلاعه سبحانه على حالهم وضلالهم يكفى في انتقامهم فلا يحتاج الى سؤالهم وبعد ما ذكروا عنده من الزواجر والعبر فلم ينزجر ولم يعتبر بل ما زاد الا بطرا وخيلاء
فَخَرَجَ يوما من الأيام من بيته بطرا مباهيا عَلى قَوْمِهِ مستكبرا عليهم مغرورا مستغرقا فِي زِينَتِهِ الكاملة إذ هو على بغلة شهباء وهي الأبلق الذي كثر بياضه على سواده وعليه ثياب فاخرة حمر كلها تسر الناظر إليها من صفاء لونها وبهائها وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه اربعة آلاف على زيه وقيل تسعون الفا كلهم على زيه وعلى خيولهم ومراكبهم ايضا اكسية حمراء وخرج الناس معه صافين حوله ناظرين نحوه متعجبين من حاله متمنين من الله رتبته وزينته حيث قالَ المفسدون المسرفون الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وزينتها وهمهم مقصورة إليها وغاية متمناهم حصول مثلها لهم متمنين متحسرين يا لَيْتَ لَنا من حظوظ الدنيا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ونصيب كامل من الدنيا وهو في دهره وحيد عصره فريد زمانه وشأنه
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني والمعرفة الكاملة المتعلقة منهم بالله وبالنشأة الاخرى ردا عليهم وازالة لتحسرهم وردعا لهم عن متمناهم على ابلغ وجه وآكده وَيْلَكُمْ اى يلزمكم ويلكم ويحل عليكم هلاككم ايها القاصرون عن معرفة الحق وما يترتب عليها من المكاشفات والمشاهدات التي هي مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الحاصلة لأرباب المحبة والولاء الوالهين في بيداء الألوهية طالبين الفناء فيها ليصلوا الى شرف البقاء واللقاء بل ثَوابُ اللَّهِ المحسن المفضل ورضاه من عبيده الحاصل لأرباب المعاملات من الأبرار والأخيار المحسنين الأدب مع الله في عموم أحوالهم خَيْرٌ من الدنيا وما فيها بل من اضعافها وآلافها لِمَنْ آمَنَ له احتسابا على نفسه وَعَمِلَ عملا صالِحاً يعنى قرن إيمانه بالعمل الصالح إحسانا منه بالنسبة اليه سبحانه وطلبا لمرضاته وَبالجملة لا يُلَقَّاها ولا يصل الى تلك المثوبة العظمى والدرجة العليا التي قد أعدها الله لعباده إِلَّا الصَّابِرُونَ على عموم ما جرى عليهم من البليات وعلى مشاق الطاعات ومتاعب العبادات والرضوان بما اعطاهم الحق ورزقهم من الحظوظ بلا تمن منهم ولا تحسر على مرتبة احد من اصحاب الجاه والثروة بل هم بما عندهم راضون وبما اعطاهم الحق بمقتضى قسمته الازلية متمكنون مطمئنون ألا انهم هم المؤمنون حقا وأولئك هم الفائزون المفلحون. ربنا اجعلنا من زمرتهم بمنك العظيم وجودك الكريم وبعد ما قد أمهلنا قارون زمانا ورفهناه نشطا فرحانا قد أخذناه غضبانا
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ صاغرا مهانا يعنى قد طبقنا الأرض عليه وعلى أمواله وخزائنه بعد ما أخذتها وابتلعتها الأرض امتثالا بأمر نبينا موسى الكليم صلوات الله عليه وسلامه وذلك انه قد كان يؤذى موسى عليه السلام دائما حسدا عليه وكان موسى يداريه صيانة لقرابته ثم لما نزلت الزكاة صالح معه من كل ألف بواحد من اى جنس كان فحاسبه فبلغ مبلغا عظيما فاستكثره فمنعه فعمد الى ان يفضح موسى بين بنى إسرائيل بغيا عليه وعدوانا فبرطل بغيّة واعطى لها رشوة لترمى موسى بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيبا فقال في خطبته من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه فقال قارون لو أنت يا موسى قال ولو كنت انا قال ان بنى إسرائيل يزعمون انك قد فجرت مع فلانة قال موسى
فاحضروها فاحضروها فناشدها موسى بالله الذي قد فلق البحر وانزل التوراة ان تصدقي أيتها المرأة فقالت بإلقاء الله في قلبها كرامة لموسى وتنزيها له عما لا يليق بشأنه وتفضيحا لقارون يا نبي الله ان قارون جعل لي جعلا كذا على ان أرميك بنفسي فخر موسى ساجدا وقال في سجدته الهى ان كنت نبيك ورسولك فانصرني واخذل عدوى فأوحى الله عليه في سجدته ان مر الأرض ان شئت فتجيبك يا موسى فرفع رأسه من سجدته مرتعدا غيورا غضبانا فقال يا ارض خذيه فابتلعته على الفور الى ركبته فأخذ يتضرع يا موسى ارحمني فانا حميمك وقرابتك ثم قال موسى مغاضبا على الأرض خذيه فأخذته الى وسطه فزاد في تضرعه وتفزعه ثم قال خذيه فأخذته الى عنقه فتضرع وصرخ نحو موسى من أول اخذه الى خسفه سبعين مرة لم يرحم عليه ثم قال خذيه فخسفت به وطبقت عليه فلم يرحمه موسى حتى عاتبه سبحانه بقوله ما افظك وما أبغضك يا موسى حتى استرحم منك فلم ترحمه ولم ترعه فو عزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته وبعد ما خسف قارون قال بنو إسرائيل انما قتله ليرث أمواله فاشعر به فأمر الأرض بخسف داره وأمواله وخزينته بحيث لم يبق من منسوباته شيء على وجه الأرض فَما كانَ لَهُ حينئذ مِنْ فِئَةٍ وأعوان وأنصار يَنْصُرُونَهُ ويدفعون عذاب الله عنه مِنْ دُونِ اللَّهِ القادر المقتدر على دفع أمثاله والحال انه هو برىء من الله لذلك لم يلتجئ اليه ولم يتضرع نحوه حين أخذت الأرض إياه وَلذلك ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ الممتنعين من العذاب لا بنفسه ولا بمعاونيه وانصاره
وَبعد ما قد خسف قارون بشؤم أمواله التي قد جعلها وسيلة الى انواع الفسادات من جملتها رمى كليم الله وأخلص رسله بالزنا التي هي بعيدة بمراحل عن طهارة زيله ونجابة طينته إذ معاشر الأنبياء كلهم معصومون عن الكبائر مطلقا قد أَصْبَحَ وصار الفقراء الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ ومنزلته بِالْأَمْسِ اى في الزمان الذي هو اقرب زمان بخسفه متحسدين بما عنده من التوراة والجاه أخذوا يَقُولُونَ متمنين على عكس ما قد تمنوا في الزمان السابق متعجبين من كمال علم الله ومتانة حكمته قائلين كل منهم لصاحبه وَيْكَأَنَّ المعنى على الانفصال بين ويك وان والاتصال بينهما انما هو بمتابعة المصحف يعنى ويل لك وهلاكك لازم عليك بمتمناك الذي قد تمنيته بالأمس واعلم ان اللَّهَ الحكيم المتقن في عموم أفعاله يَبْسُطُ الرِّزْقَ بمقتضى حكمته لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بمقتضى استعداداتهم وَيَقْدِرُ ويقبض عمن يشاء ايضا على وفق قابليته وما لنا اطلاع على احاطة علمه ومتانة حكمته لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ المصلح لمفاسدنا عَلَيْنا بمنعنا عن متمنانا لَخَسَفَ بِنا ايضا من شؤم مبتغانا ومتمنانا مثل ما قد خسف بذلك الطاعى المغرور وانما من سبحانه علينا بما من سبحانه لايماننا به سبحانه واخلاصنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ولا يصلح أحوالهم وأعمالهم وهم لا يفوزون بالنجاة من عذابه سبحانه بل يوقعهم سبحانه على ما يوقعهم في عذابه افتنانا فيه إياهم وانتقاما لهم. ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين المتواضعين وتنشيطا للمتقين الموقنين
تِلْكَ الجنة التي قد سمعتم ايها المؤمنون الموقنون وصفها وبلغكم نعتها وخبرها في كتب الله والسنة رسله وأنبيائه وأوليائه المنكشفين بها الفائزين بمقاماتها بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر التي هي مقر ارباب المحبة والولاء الباذلين مهجم في سبيل الفناء ليصلوا الى دار البقاء هي هذه الدَّارُ الْآخِرَةُ المعهودة الموصوفة بهذه الصفات المعروفة المشهورة بها إذ لا مقر لأهل الحق سواها لذلك سمينا بها نَجْعَلُها بمقتضى فضلنا وجودنا مقرا لِلَّذِينَ اى للمؤمنين الموحدين الذين لا يُرِيدُونَ من كمال حلمهم وعلمهم
عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ جاها وثروة تفوقا وتكبرا على من عليها من عباد الله ولا يمشون عليها خيلاء غافلين عن تزود الآخرة وَلا يقصدون فيها فَساداً مؤديا الى هتك محارم الله والخروج عن مقتضى حدوده وَبالجملة الْعاقِبَةُ الحميدة التي قد عبر عنها بلفظ الجنة ودار الآخرة ودار السلام ودار الخلود وغير ذلك من الألفاظ والعبارات المتداولة في ألسنة الكتب والرسل انما هي معدة مهيأة لِلْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن ارتكاب المنهيات والمحظورات مطلقا ويجتنبون عن عموم ما يؤدى الى إسقاط المروات رأسا ويتصفون بجميع ما جاء به الرسل ونطق به الكتب من الأمور المشعرات للهداية والصلاح والفوز بالفلاح والنجاة جملة فأولئك السعداء المقبولون هم الواصلون الى درجة القرب والشهود الوالهون بشرف مطالعة لقاء الخلاق الودود ثم أشار سبحانه اشارة جملية محتوية على اصول عموم المواعظ والتذكيرات المتعلقة بجميع عباده فقال
مَنْ جاءَ في النشأة الاولى بِالْحَسَنَةِ والخصلة المقبولة عند الله المستحسنة عند عموم عباده ابتغاء لمرضاته سبحانه وأداء لحقوق عباده فَلَهُ عند الله في النشأة الاخرى جزاء عليها حسنة مستحسنة هي خَيْرٌ مِنْها بل بأضعافها وآلافها تفضلا وإحسانا وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ والخصلة الذمية ايضا فيها المستقبحة عقلا وشرعا المستهجنة عند الله وعند عموم عباده عرفا وعادة فَلا يُجْزَى من قبل الحق في يوم الجزاء المسيئون الَّذِينَ قد عَمِلُوا السَّيِّئاتِ التي لا يرضى بها الله ولا خلص عباده إِلَّا مثل ما كانُوا يَعْمَلُونَ عدلا منه سبحانه. ثم لما اغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر من مكة بسبب مكر المشركين ووصل الى جحفة واشتد اشتياقه الى مولده وموطن آبائه فتحزن حزنا شديدا بحيث أراد ان يعود منها إليها فنزلت تسلية له صلى الله عليه وسلم وازالة لحزنه
إِنَّ الله القادر المقتدر الَّذِي قد فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وقدر لك انزاله وأقدرك على الامتثال بعموم ما فيه من الأوامر والنواهي وكشف عليك جميع ما فيه من الحقائق والمعارف والرموز والإشارات المتعلقة بصفاء مشرب التوحيد وذكر لك فيه من القصص والعبر والأمثال إرشادا لك الى مقامك الذي قد وعد لك الحق تفضلا وامتنانا وسماه من عنده مقاما محمودا لَرادُّكَ ومعاودك البتة إِلى مَعادٍ معهود فهو مولدك ومحتدك الأصلي وكذا موطن آبائك واسلافك على احسن وجه وأكمله وبعد ما عدت ورجعت إليهم بعد هجرتك من بينهم ان اضلوك وخيلوك على ما هو عادتهم وأساؤا الأدب معك ونسبوك الى ما لا يليق بشأنك قُلْ لهم على سبيل المجاراة رَبِّي الذي قد وسع كل شيء علما أَعْلَمُ منى بعلمه الحضوري مَنْ جاءَ بِالْهُدى منا انا او أنتم وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ منا ومنكم
وَعليك يا أكمل الرسل ان تفوض بعموم أمورك إلينا اتكالا علينا واعتصاما بحولنا وقوتنا ولا تلتفت الى المشركين وايمانهم ولا تداريهم ايضا خوفا او مداهنة ولا تك في رعب منهم انا قد كفيناك ونكف عنك مؤنة شرورهم إذ ما كُنْتَ أنت في حال من احوالك تَرْجُوا وتأمل أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ الجامع لفوائد جميع الكتب المنزلة من عندنا لكن ما انزل إليك هذا إِلَّا رَحْمَةً ناشئة نازلة مِنْ رَبِّكَ تفضلا عليك وتلطفا معك بلا تطلب منك وترقب من قبلك فكذلك يكفيك ربك عموم مهامك على الوجه الأصلح الأحسن فاتكل عليه واتخذه وكيلا وفوض أمورك كلها اليه واجعله حسيبا وكفيلا ومتى سمعت نبذا من شأنك الذي أنت عليه في ابتداء حالك فَلا تَكُونَنَّ أنت بعد اليوم ظَهِيراً معاونا ومعينا لِلْكافِرِينَ ولا مستظهرا ولا