الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
698 - (12) باب فضائل الخضر عليه السلام
-
6113 -
(170) حدَّثنا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الناقِدُ وَإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنظَلِي وَعُبَيدُ الله بْنُ سَعِيدٍ وَمُحَمدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّي. كُلهم عَنِ ابْنِ عُيَينَةَ (وَاللفظُ لابْنِ أَبِي عُمَرَ)، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَينَةَ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَار، عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ. قَال: قُلْتُ لابنِ عَباسٍ: إِن نَوْفًا الْبِكَالي يَزْعُمُ أن مُوسَى، عليه السلام، صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ، عليه السلام
ــ
698 -
(12) باب فضائل الخضر عليه السلام
6009 -
(2359)(114)(حدثنا عمرو بن محمد) بن بكير بن شابور (الناقد) البغدادي (وإسحاق بن إبراهيم) بن راهويه (الحنظلي) المروزي (وعبيد الله بن سعيد) بن يحيى اليشكري مولاهم أبو قدامة السرخسي النيسابوري، ثقة، من (10) روى عنه في (8) أبواب (ومحمد) بن يحيى (بن أبي عمر المكي) العدني (كلهم) أي كل هؤلاء الأربعة رووا (عن) سفيان (بن عيينة) الأعور الكوفي المكي (واللفظ لابن أبي عمر) قال:(حدثنا سفيان بن عيينة) بصيغة السماع وبتصريح اسمه (حدثنا عمرو بن دينار) الجمحي المكي (عن سعيد بن جبير) الوالبي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه من (3) روى عنه في (7) أبواب (قال) سعيد (قلت لابن عباس) رضي الله عنه. وهذا السند من سداسياته لأنه من مسند أبي بن كعب كما سيأتي، وفيه رواية صحابي (إن نوفًا) بفتح النون وسكون الواو (البكالي) بكسر الباء الموحدة وتخفيف الكاف المفتوحة، وهي الرواية المشهورة الصحيحة، وقد ضبطه الخشني وأبو بكر بفتح الباء والكاف وتشديدها، والأول هو الصواب نسبة إلى بكال بن دعمي بن سعد بطن من حمير، وقيل من همدان، وإليهم يُنسب نوف هذا وهو نوف بن فضالة على ما قاله ابن دريد وغيره، يكنى بأبي زيد، وكان عالمًا فاضلًا قاصًا من قُصاص أهل الكوفة وإمامًا لأهل دمشق، ويقال إنه ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل ابن أخيه، وهو تابعي صدوق قاله الحافظ في الفتح [8/ 413](يزعم) أن يقول قولًا فاسدًا بلا دليل، والزعم هنا القول الفاسد (أن موسى عليه السلام صاحب بني إسرائيل) ورسولهم (ليس هو موسى صاحب الخضر عليه السلام) أي الذي لازمه للتعلم منه وإنما هو غيره، ووقع في رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عند النسائي قال: كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب فقال بعضهم: يا أبا عباس إن نوفا يزعم عن كعب الأحبار أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن ميشا أي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ابن أفراثيم بن يوسف عليه السلام لا موسى بن عمران، فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قلت: نعم، قال: كذب نوف.
وقوله: (صاحب الخضر عليه السلام) بفتح الخاء وكسر الضاد وهذا لقبه وقد ثبت في وجه تسميته بذلك حديث مرفوع أخرجه البخاري في الأنبياء [3402] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء وفروة الحشيش الأبيض" وما أشبهه كما فسره بذلك عبد الرزاق، وقال ابن الأعرابي: الفروة أرض بيضاء ليس فيها نبات، وقال الحربي: الفروة من الأرض قطعة يابسة من حشيش، وقد اختلف العلماء في اسمه ونسبه اختلافًا كثيرًا فروى الدارقطني بسند ضعيف إلى مقاتل بن سليمان أنه ابن آدم، وذكر أبو حاتم عن بعض مشايخه أنه ابن لقابيل بن آدم، وذكر وهب بن منبه أنه بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن أَرْفَخْشَذِ بن سام بن نوح، وحكى ابن قتيبة أنه ابن عمائيل بن النون بن العَيصِ بن إسحاق، وروى الكلبي أنه من سبط هارون أخي موسى، وقال ابن إسحاق: إنه أرميا بن خلفيا، ورُوي عن ابن لهيعة أنه ابن بنت فرعون، وحكى النقاش عن بعضهم أنه ابن فرعون لصلبه، وحُكي عن مقاتل أيضًا أنه اليسع عليه السلام، وروى الطبري عن ابن شوذب أنه من ولد فارس، وقيل: كان أبوه فارسيًا وأمه رومية، وقيل: بالعكس اهـ من الإصابة [1/ 428] وليس لشيء من هذه الأقوال مستند يعتمد عليه.
واختلف العلماء أيضًا في كونه نبيًا والجمهور على أنه نبي لأن الله تعالى في خبره مع موسى عليه السلام حكاية عنه {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ظاهره أنه فعله بأمر الله تعالى، والأصل عدم الواسطة، ويحتمل أن يكون بواسطة نبي آخر لم يُذكر وهو بعيد ولا سبيل إلى القول بأنه إلهام لأن ذلك لا يكون حجة حتى يُعلل به ما عمل من قتل النفس وتعريض الأنفس للغرق وأيضًا فكيف يكون غير النبي أعلم من النبي، وكيف يكون النبي تابعًا لغير النبي، وقال بعض أكابر العلماء إن إنكار نبوته أول درجة من الزندقة لأن الزنادقة يستدرجون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي.
واختلفوا أيضًا هل هو نبي مرسل أو غير مرسل؟ والجمهور على الثاني، قال أبو حيان في تفسيره: والجمهور على أنه نبي وكان علمه معرفة بواطن أوحيت إليه وعلم موسى الحكم بالظاهر، وحاصله أن نبوته نبوة تكوين لا نبوة تشريع والله سبحانه وتعالى أعلم.
فَقَال: كَذَبَ عَدُو الله. سَمِعْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ يَقُولُ: سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَامَ مُوسَى عليه السلام خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَسُئِلَ: أَي الناسِ أَعلَمُ؟ فَقَال: أَنا أَعْلَمُ
ــ
واختلفوا أيضًا هل هو حي أو مات؟ فذهبت جماعة من العلماء إلى أنه أُعطي عمرًا طويلًا وهو حي إلى اليوم ولكنه محجوب عن الأبصار ويبقى حيًّا إلى خروج الدجال، قال النووي: جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا، وأنكر ذلك بعض المحدثين وقالوا: إنه مات.
وبالجملة فلم يثبت في القرآن ولا في السنة دليل يعتمد عليه في حياته أو موته وليست المسألة من العقائد التي يجب الاهتمام بها والبحث عن أدلتها والاشغال بها ضياع زمن فيما لا ينبغي ولا يعتنى به والمطلوب التوقف والسكوت عنها لأنها ليست مما يجب علينا البحث عنها. (فقال) ابن عباس رضي الله عنه: (كذب عدو الله) يعني نوفا البكالي وهذا قول أصدره غضب على من يتكلم بما لم يصح فهو إغلاط وردع، وقد صار غير نوف إلى ما قاله نوف لكن الصحيح ما قاله ابن عباس في الحديث لا أنه يعتقد أنه عدو الله حقيقة إنما قاله مبالغة في إنكار قوله لمخالفته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في حال غضب ابن عباس لشدة إنكاره وفي حال الغضب تطلق الألفاظ ولا تراد حقائقها، والظاهر أنه لم يقل هذا الكلام في نوف البكالي وإنما قال ذلك في كعب الأحبار كما تدل عليه رواية النسائي التي ذكرناها آنفًا ولفظها (يا أبا عباس إن نوفًا يزعم عن كعب الأحبار .. إلخ) وقد تدل بعض الروايات عن أن جماعة من الصحابة كانوا في شك في أمره فإني (سمعت أبي بن كعب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول قام موسى عليه السلام خطيبًا في بني إسرائيل) وتفصيل هذا السماع ما أخرجه البخاري في العلم عن ابن عباس بلفظ (أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، قال ابن عباس: هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: نعم، فذكر الحديث)(فسئل) موسى (أي) أفراد (الناس أعلم) أي أكثر علمًا من غيره (فقال) موسى: (أنا أعلم) أهل زماني ممن أُرسلت إليه ولم يكن موسى أرسل إلى الخضر، قاله الحافظ في الفتح [1 /
قَال: فَعَتَبَ الله عَلَيهِ إِذْ لَم يَرُد العِلْمَ إِلَيهِ. فَأوْحَى الله إِلَيهِ: أَن عَبدًا مِن عِبَادِي بِمَجمَعِ الْبَحرَينِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ
ــ
219] قال المازري (فإن قلت): النبي لا يقع منه الكذب وقد أوحى الله سبحانه إليه أن له عبدا هو أعلم منه. (فالجواب): أن قوله أنا أعلم معناه في اعتقادي بما ظهر لي من مقتضى الحال فإن النبوة بالمكان الرفيع والعلم من أرفع المراتب فقد ظهر من هذه الجهة أنه أعلم الناس فهو خبر صدق لأنه عن مقتضى علمه، وقد وقع في طريق آخر قيل له: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا، فهذا لا يكون عليه به عتب إذ أخبر عما يعلم فالأولى كذلك لأنه في معناه، قال القاضي عياض: وقيل: يعني بقوله أنا أعلم أي بما تقتضيه النبوة وأمور الشريعة وسياسة الأمة، ويدل عليه قول الخضر فيما يأتي "أنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه" وإذا كان كذلك فخبره عن ذلك صدق اهـ من الأبي (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فعتب الله) سبحانه موسى عليه السلام ولامه (عليه) أي على قوله: أنا أعلم، والعتاب في حقنا لوم الحبيب حبيبه على ما لا يليق به، وأما العتاب في حق الله سبحانه صفة ثابتة له نثبتها ونعتقدها لا نكيفها ولا نمثلها ولا نعطلها ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، واذ في قوله:(إذ لم يرد العلم إليه) تعالى معللة للعتاب أي وإنما عتبه لعدم رده العلم بالأعلم إليه تعالى لأن رد العلم إليه تعالى هو الأدب، وقال المازري: معنى عتبه لم يرض قوله شرعًا، وقال القاضي عياض: ومعنى عتبه أخذه وعنفه وأصل العتب المؤاخذة، وقال ابن العربي: قول موسى عليه السلام صدق لأنه شهد بما علم ولكنه لما كان فيه نوع من الافتخار لشرف منزلته عتبه اهـ من الأبي، قال الأبي: وصورة رد العلم إليه تعالى أن يقول في الجواب الله أعلم أو يقول أنا والله أعلم اهـ (فأوحى الله) سبحانه (إليه) أي إلى موسى عليه السلام (أن عبدًا) بفتح الهمزة أي بأن، وفي رواية للبخاري إن بكسر الهمزة على تقدير فقال: إن عبدًا والمراد به الخضر أي أوحي إليه بأن عبدًا (من عبادي بمجمع البحرين) أي بملتقى بحري فارس والروم من جهة المشرق وهذا أقرب ما قيل لأن موسى كان بالشام وقيل: هما بحري الأردن والقلزم (وهو أعلم منك) أي بأحكام مفصلة وحكم نوازل معينة لا مطلقًا بدليل قول الخضر لموسى "إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت" وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما ولا يعلمه الآخر فلما سمع موسى هذا تشوقت وعشقت نفسه الفاضلة وهمته العالية لتحصيل علم ما لم يعلم واللقاء من قيل فيه
قَال مُوسَى: أَي رَبِّ، كَيفَ لِي بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احملْ حُوتا فِي مِكتَلٍ، فَحَيثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ. وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ
ــ
أنه أعلم فسأل سؤال الذليل كيف السبيل إليه إذ (قال موسى) عليه السلام (أي رب) أي يا ربي ويا مالك أمري (كيف) يحصل (لي) الاتصال (به) واللقاء له دلني يا رب على طريق الوصول إليه (فقيل له) أي لموسى من جهة الله سبحانه أي أوحى إليه بأن (احمل) معك (حوتًا) أي سمكة مالحة كما صُرح به في الرواية الثانية (في مكتل) أي في زنبيل، والمكتل بكسر الميم وسكون الكاف وفتح التاء القفه وهو الزنبيل، وفي رواية يعلى عند البخاري (خذ نونًا ميتًا حيث يُنفخ فيه الروح)(فحيث تفقد) من باب ضرب أي ففي أي محل فقدت (الحوت) فيه بذهابه منك (فهو) أي فذلك العبد الأعلم منك (ثم) أي موجود هناك، وفي الحديث اتخاذ الزاد في السفر والرحلة في طلب العلم والتزويد منه ومعرفة من له زيادة علم، وقيل: إنما لجأ للخضر للتأديب لا للتعليم (فانطلق) أي ذهب موسى لطلب الخضر (وانطلق) أي ذهب (معه) أي مع موسى (فتاه) أي صاحبه وخادمه (وهو) أي ذلك الفتى (يوشع بن نون) ظاهره أن هذا التفسير جزء من الحديث، ولكن وقع بعده في رواية ابن جريج عند البخاري (ليست عن سعيد) وأوله الحافظ بأن الذي نفاه صورة السياق لا التسمية فإنها وقعت في رواية عمرو بن دينار والله أعلم.
وفي الحديث من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم وكان ذلك دأب السلف الصالح وبذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح وحصلوا على السعي الناجح فرسخت في العلوم لهم أقدام وصح لهم من الذكر والأجر أفضل الأقسام ثم إن موسى أزعجه القلق فانطلق مغمورًا بما عنده من الشوق والحرق يمشي مع فتاه على الشط ولا يبالي بمن حط لا يجد نصبًا ولا يخطئ سببًا إلى أن أويا إلى الصخرة فناما في ظلها، قال بعض المفسرين: وكانت على مجمع البحرين وعندها ماء الحياة حكى معناها الترمذي عن سفيان بن عيينة فانتضح منه على الحوت فحيي واضطرب فخرج من المكتل حتى سقط في الماء فأمسك الله جرية الماء عن موضع دخوله حتى كان مثل الطاق وهو النقب الذي يدخل منه اهـ من المفهم.
ويوشع بن نون عليه السلام هو الذي قام في بني إسرائيل بعد موت موسى، ونقل
فَحَمَلَ مُوسَى، عليه السلام، حُوتًا فِي مِكتَلٍ. وَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ حَتى أَتَيَا الصخْرَةَ. فَرَقَدَ مُوسَى، عليه السلام، وَفَتَاهُ. فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، حَتَّى خَرَجَ مِنَ المكْتَلِ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ. قَال: وَأَمْسَكَ الله عَنْهُ جِزيَةَ الْمَاءِ حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطاقِ،
ــ
ابن العربي أنه كان ابن أخت موسى، وزعم ابن العربي أن ظاهر القرآن يقتضي أن الفتى ليس هو يوشع وكأنه أخذه من لفظ الفتى أو أنه خاص بالرقيق وليس بجيد لأن الفتى مأخوذ من الفتى بفتح الفاء وسكون التاء وهو الشباب وأطلق ذلك على من يخدم سواء كان شابًّا أو شيخًا اهـ فتح الباري.
(فحمل موسى عليه السلام حوتًا في مكتل) وفي رواية الربيع بن أنس عند ابن أبي حاتم أنهما اصطاداه (وانطلق هو) أي موسى (وفتاه) يوشع بن نون حالة كونهما (يمشيان) بالرجل على ساحل البحر لطلب الخضر (حتى أتيا) ووصلا (الصخرة فرقد) أي نام (موسى عليه السلام وفتاه) يوشع بن نون؛ أي رقدا في ظل الصخرة أخذًا للراحة من تعب السير، وفي رواية يعلى عند البخاري (فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان أي مبلول إذ تضرب الحوت أي سار وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره وتضرب الحوت حتى دخل البحر فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر) (فاضطرب الحوت) أي تحرك وارتعش (في المكتل حتى خرج من المكتل فسقط في البحر) وفي رواية سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عند البخاري في التفسير [4727] قال سفيان وفي حديث غير عمرو قال وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصب من مائها شيء إلا حيي فأصب الحوت من ماء تلك العين قال: فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر واستظهر الحافظ في الفتح [8/ 415] أن سفيان بن عيينة سمعه من قتادة فإن ابن أبي حاتم أورد قصة العين من طريقه وقد أنكر الداودي هذه الزيادة وقال: فإن كان محفوظًا فهو من خلق الله وقدرته والله أعلم (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأمسك الله) سبحانه (عنه) أي عن السمك أي عن مسلكه (جرية الماء) أي رجوعه وانصبابه في مسلكه وطريقه فبقي مسلكه مفتوحًا (حتى كان) مسلكه (مثل الطاق) والكوة في الجدار، والطاق في الأصل عقد البناء وجمعه طيقان وأطواق وهو الأزج وما عقد أعلاه من البناء وبقي ما تحته خاليًا اهـ نووي، قال قتادة: جمد الماء فصار كالسرب
فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا. وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا. فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَومِهِمَا وَلَيلَتَهُمَا، وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى أَن يُخبِرَهُ، فَلَما أَصبَحَ مُوسَى، عليه السلام، {قَال لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62]. قَال:
ــ
وفي رواية أبي إسحاق الآتية صار مثل الكوة وهو بنفس المعنى، وفي رواية ابن جريج عند البخاري حتى كان أثره في جحر، قال لي عمرو: هكذا كان أثره في جحر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما، وحاصل الجميع أنه صار في الماء يشبه الطاق أو النفق (فكان) ذلك المسلك (للحوت سربًا) أي نفقًا، والسرب: المسلك والحفير تحت الأرض والقناة يدخل منها الماء (وكان) ذلك المسلك الذي أمسك الله عنه الماء (لموسى وفتاه) يوشع (عجبًا) أي متعجبًا يتعجبان منه أي لما تذكرا فرجعا تعجبًا من قدرة الله تعالى على إحياء الحوت ومن إمساك جري الماء حتى صار بحيث يسلك فيه (فانطلقا) أي انطلق موسى ويوشع (بقية يومهما) أي بقية اليوم الذي رقدا فيه (وليلتهما) المستقبلة لذلك اليوم، ويجوز في الليلة النصب على أنه معطوف على بقية، والجر على أنه معطوف على يومهما كذا قالوا، والأول أولى لأن الليلة ليس لها بقية يعني بعد أن قاما من نومهما ونسيا حوتهما أي غفلا عنه ولم يطلباه لاستعجالهما، وقيل: نسي يوشع الحوت وموسى أن يأمره فيه بشيء، وقيل: نسي يوشع فنسب النسيان إليهما للصحبة لقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22] وعلى هذا القول يدل قوله في الحديث: (ونسي صاحب موسى أن يخبره) ويظهر منه أن يوشع أبصر ما كان من الحوت ونسي أن يخبر موسى في ذلك الوقت (فلما أصبح موسى عليه السلام) أي دخل في صباح الليلة التي مشيا فيها بعد بقية اليوم (قال لفتاه) أي لرفيقه يوشع بن نون: (آتنا غداءنا) أي هات لنا غدائنا لنأكله، والغداء ما يؤكل أول النهار وهذا يدل على أنهما كانا تزودا، وقيل: كان زادهما الحوت وكان مملحًا (قلت): والظاهر من الحديث أنه إنما حمل الحوت معه ليكون فقده دليلًا على موضع الخضر كما تقدم من قوله تعالى لموسى: احمل معك حوتًا في مكتل فحيث تفقد الحوت فهو ثَم، وعلى هذا فيكونان تزودا شيئًا آخر غير الحوت، والله (لقد لقينا) أي قاسينا (من سفرنا هذا نصبًا) أي تعبًا، وقيل جوعًا، وفيه دليل على جواز إخبار الإنسان بما يجده من الأمراض والألم وأن ذلك لا يقدح في الرضا ولا في التسليم بالقضاء لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا تسخط (قال) رسول الله صلى الله
وَلَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ المكَانَ الذِي أُمِرَ بِهِ. {قَال أَرَأَيتَ إِذْ أَوَينَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلا الشَّيطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف:
ــ
عليه وسلم: (ولم ينصب) موسى أي لم يجد موسى ألم النصب والتعب (حتى جاوز المكان الذي أُمر به) أي أمر بطلب العبد الأعلم فيه وهو مجمع البحرين أي إلا بعد أن جاوز موضع فقد الحوت وكان الله تعالى جعل وجدان النصب بسبب طلب الغداء سبب تذكر ما كان من الحوت، ومن هنا قيل: إن النصب هو الجوع فـ (قال) فتاه يوشع بن نون في جواب قول موسى: آتنا غدائنا (أرأيت) يا موسى أي أخبرني والمراد أخبرك يا موسى، والظرف في قوله:(إذ أوينا) وانضممنا (إلى الصخرة) ونزلنا عندها متعلق بقوله: (فإني نسيت الحوت) والمعنى أخبرك يا موسى أني نسيت الحوت وقت إيوائنا ونزولنا عند الصخرة، وهذا قول يوشع جوابًا لموسى وإخبارًا له عما جرى ومعنى أوينا انضممنا ونزلنا وهي هنا بقصر الهمزة لأنه لازم ونسبة الفتى النسيان إلى نفسه نسبة عادية لا حقيقة (وما أنسانيه) أي وما أنساني الحوت بكسر الهاء في رواية غير حفص على القياس، وبضمها على روايته على الأصل كما بسطنا الكلام عليه في تفسيرنا حدائق الروح والريحان فراجعه (إلا الشيطان أن أذكره) أي أن اذكر الحوت وأخبر فقدانه لك، وأن المصدرية مع الفعل في تأويل مصدر منصوب على أنه بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه وهو من إبدال الظاهر من المضمر أي وما أنساني ذكر فقدان الحوت عندما سقط في البحر إلا الشيطان، وكان موسى عليه السلام ألزمه أول سفرهما بأن يخبره حين يفقد الحوت كما وقع صريحًا في رواية البخاري فلذلك اعتذر يوشع بهذا القول، ولفظ البخاري أن موسى قال لفتاه:(لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت) فاعتذر بذلك القول ويعني الفتى بذلك أن الشيطان سبب للنسيان والغفلة عن الشيء بما يورده على القلب من الخوض في غير المعنى المطلوب، ومن المعلوم أن النسيان لا صنع فيه للإنسان وأنه مغلوب عليه ولذلك لم يؤاخذ الله تعالى به، وإنما محل المؤاخذة الإهمال والتفريط والانصراف عن الأمور المهمة إلى ما ليس بمهم حتى ينسى المهم وهذا هو فعل الشيطان المذموم أن يُشغل ذكر الإنسان بما ليس بمهم ويزينه له حتى ينصرف عن المهم فيذم على ذلك ويُعاقب فيحصل مقصود الشيطان من الإنسان (واتخذ) الحوت (سبيله في البحر عجبًا) أي اتخذ الحوت طريقه في البحر سربًا يابسًا، تعجب منه يوشع
63]. قَال مُوسَى: {قَال ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]. قَال: يَقُصَّانِ آثارَهُمَا، حَتَّى أتَيَا الصخْرَةَ فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى عَلَيهِ بِثَوْبٍ، فَسَلمَ عَلَيهِ مُوسَى، فَقَال لَهُ الْخَضِرُ: أَنَّى بِأرْضِكَ السلامُ؟
ــ
ويتعجب به غيره ممن شاهده أو سمع قصته، قال النووي: قيل: إن لفظة عجبًا يجوز أن تكون من تمام كلام يوشع، وقيل: من كلام موسى أي قال موسى: عجبت من هذا عجبًا، وقيل: من كلام الله تعالى ومعناه واتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا اهـ (قال موسى) لفتاه: (ذلك) الموضع الذي نفقد فيه الحوت هو (مما كنا نبغي) أي هو الموضع الذي جئنا نطلبه لأن مطلوبنا فيه، وقوله: نبغي بإثبات الياء وقفًا ووصلًا في رواية ابن كثير ويعقوب (فارتدا) أي فرجع موسى وفتاه وراءهما، وقوله:(على آثارهما) جمع أثر وهو موضع القدم متعلق بقوله: (قصصًا) وعلى بمعنى اللام أي رجعا وراءهما، حالة كونهما يقضان قصصًا أي قاصين متتبعين لآثار أقدامهما وباحثين عن موطئهما (قال) النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره:(يقصان آثارهما) أي يتتبعان آثار أقدامهما (حتى أتيا الصخرة) التي رقدا في ظلها وانسل الحوت عندها من المكتل (فرأى) موسى (رجلًا مسجى عليه) أي ملتفًا عليه (بثوب) مغطى به كتغطية الميت، وقد جاء مفسرًا في رواية البخاري قال:(جعل طرف ثوبه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه) وفي رواية (مستلقيًا على قفاه) أي مباشرًا بظهره وقفاه الأرض مستقبلًا بوجهه السماء كهيئة الميت الملفوف بالكفن وليس بنائم، ولذلك لما سلم عليه موسى كشف الثوب عن وجهه وقال: عليك السلام من أنت؟ (فسلم عليه) أي على الخضر (موسى) عليه السلام، قال القاضي عياض: فيه تسليم الماشي والمجتاز على القاعد والمضطجع اهـ (فقال له) أي لموسى: (الخضر أنى) اسم استفهام خبر مقدم، وقوله:(بأرضك) متعلق بقوله: (السلام) وهو مبتدأ مؤخر أي وكيف سلامك عليّ بأرضك التي أنت فيها الآن أي من أين حصل لك السلام في هذه الأرض التي لا يُعرف فيها السلام وهو استفهام استبعاد، وقال القرطبي: وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن ذلك الموضع كان قفرًا لم به أحد يصحبه ولا أنيس يكلمه، ويحتمل أن يكون أهل ذلك الموضع لا يعرفون السلام الذي سلم به موسى إما لأنهم ليسوا على دين موسى وإما لأنه ليس من كلامهم، وأنى تأتي بمعنى حيث وكيف وأين ومتى حكاه القاضي عياض، وفيه من الفقه تسليم القائم على المضطجع وهذا
قَال: أنا مُوسَى. قَال: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَال: نَعَم. قَال:
ــ
القول من الخضر كان بعد أن رد عليه السلام لا قبله، قال القاضي: وهذا الكلام من الخضر يدل على أن السلام لم يكن عندهم معروفًا إلا في الأنبياء والأولياء إذا كان موضع لقاءهم بأرض كفر اهـ أبي.
قال العيني: قوله: (أنى بأرضك السلام) فيه وجهان: أحدهما: أن يكون بمعنى كيف للتعجب والمعنى السلام بهذه الأرض عجيب وكأنها كانت دار كفر أو كانت تحيتهم بغير السلام، والثاني: أن يكون بمعنى من أين كقوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} فهي ظرف مكان، والسلام مبتدأ مؤخر، وأنى خبره مقدمًا، وموضع بأرضك نصب على الحال من السلام، والتقدير من أين استقر السلام حال كونه بأرضك اهـ باختصار.
ومساق هذه الرواية يدل على أن اجتماع موسى بالخضر عليهما السلام كان في البر عند الصخرة وهو ظاهر قوله: (حتى إذا أتى الصخرة رأى رجلًا مسجى بثوب) وفي بعض طرق البخاري (حتى أتى الصخرة فإذا رجل مسجي) فعطفه بالفاء المعقبة وإذا المفاجئة غير أنه قد ذكر البخاري ما يقتضي أنه رآه في كبد البحر وذلك أنه قال فيها: (فوجدا خضرًا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجي بثوبه وجعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه) أخرجها البخاري في رقم [4726] وكبد البحر وسطه وهذا يدل على أنه اجتمع به في البحر، ويحتمل أن موسى مشى على الماء وتلاقيا عليه وهذا لا يستبعد على موسى والخضر فإن الذي خرق لهما من العادة أكثر من هذا وأعظم وعلى هذا فهذه الزيادة تضم إلى الرواية المتقدمة ويجمع بينهما بأن يقال إن وصول موسى للصخرة واجتماعه مع الخضر كان في زمان متقارب أو وقت واحد لطي الأرض وتسخير البحر والقدرة صالحة، وهذه الحالة خارقة للعادة ولما كان كذلك عبر عنها بصيغة التعقيب في الاتصال اهـ من المفهم.
(قال) موسى للخضر حين استبعد سلامه عليه في تلك الأرض التي أهلها كفار (أنا موسى، قال) الخضر له أنت (موسى بني إسرائيل؟ قال) موسى: (نعم) أنا موسى بني إسرائيل، وكلمة نعم هي حرف جواب في الإيجاب فكأنه قال: أنا موسى بني إسرائيل فهذا نص في الرد على نوف وعلى من قال بقوله: وهم أكثر اليهود، وفي هذه الرواية حذف تقديره (قال مجيء ما جاء بك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدًا) فـ (قال)
إِنَّكَ عَلَى عِلمٍ مِن عِلْمِ الله عَلمَكَهُ الله لَا أَعلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْم مِن عِلمِ الله عَلمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ. قَال لَهُ مُوسَى، عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا
ــ
الخضر لموسى: (إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه) أنا؛ وهو علم الظواهر والشرائع (وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه) أنت يا موسى وهو علم المغيبات، قال الأبي: قوله تعالى لموسى إن لي عبدًا هو أعلم منك فإذا كان علمهما مختلفًا فكيف يبنى أفعل التفضيل مما لا شركة فيه؟ قلت بأن الخضر كان مكلفًا فكان يعلم بعض الشرائع فشارك موسى بها واختص بكثير من أمور التكوين فصار أعلم منه والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم قص الله سبحانه ما جرى بين موسى والخضر بعد اجتماعهما فقال: (قال له) أي لذلك العبد الأعلم (موسى هل أتبعك) هذا كلام مستأنف مبني على سؤال نشأ من السياق كأنه قيل فماذا جرى بينهما من الكلام بعد اجتماعهما؟ فقيل: قال له أي للخضر موسى عليهما السلام: (هل أتبعك) أي هل أصحبك، والاستفهام فيه للاستئذان (على) شرط (أن تعلمني) والجار والمجرور في موضع الحال من الكاف أي حال كونك ملتبسًا بتعليمي وهو استئذان منه في اتباعه له على شرط التعليم ويكفيك دليلًا في شرف الاتساع (مما علمت رشدًا) أي على شرط أن تعلمني علمًا ذا رشد وإصابة أرشد به في ديني كائنًا مما علمك الله سبحانه وتعالى، وفي هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في حسن الأدب لأنه استأذنه أن يكون تابعًا له على أن يعلمه مما علمه الله تعالى من العلم، قال الإمام: والآية تدل على أن موسى راعى أنواع الأدب حيث جعل نفسه تبعًا له بقوله: (هل أتبعك) واستأذنه في إتيانه هذه التبعية وأقر على نفسه بالجهل ولأستاذه بالعلم في قوله: (على أن تعلمني) ومن في قوله: (مما علمت) للتبعيض أي لا أطلب مساواتك في العلوم وإنما أريد بعضًا من علومك كالفقير يطلب من الغني جزءًا من ماله، وفي قوله:(مما علمت) اعتراف بأنه أخذ العلم من الله، والرشد الوقوف على الخير وإصابة الصواب، وفي الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى فقد يأخذ الفاضل من المفضول وقد يأخذ الفاضل من الفاضل إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر فقد كان علم موسى علم الأحكام
قَال إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَال سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)} [الكهف: 66 - 69]
ــ
الشرعية والقضاء بظاهرها وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن اهـ من الحدائق، فأجاب الخضر لموسى إلى ما سأله بما يقتضي أن ذلك ممكن لولا المانع الذي من جهتك وهو عدم صبرك ف (قال) جازمًا في قضيته لما علمه من حاله (إنك) يا موسى (لن تستطيع معي صبرًا) أي لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك فإني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمكه لا أعلمه أنا، ثم أكد ذلك مشيرًا إلى علة عدم الاستطاعة فقال:(وكيف تصبر) يا موسى وتسكت (على ما لم تحط به خبرًا) أي علمًا، وخبرًا تمييز محول عن الفاعل أي لم يحط به خبرك أي علمك أو منصوب على أنه مصدر معنوي لتحط لأن قوله لم تحط معناه لم تخبر فكأنه قال لم تخبره خبرًا وإليه أشار مجاهد، والخبر بضم الخاء وسكون الباء العلم بالشيء والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يحتاج إلى الاختبار منها، والاستفهام فيه إنكاري بمعنى النفي أي لا تصبر على ذلك أي وكيف تصبر وأنت نبي على ما أقول من أمور ظواهرها منكرة وبواطنها مجهولة، والرجل الصالح العالم لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك بل يبادر بالإنكار اهـ من الحدائق (قال) موسى للخضر:(ستجدني إن شاء الله) تعالى صبري معك (صابرًا) معك ملتزمًا طاعتك (و) ستجدني (لا أعصي لك أمرًا) أي لا أخالف أمرًا لك تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله وشرعه. فجملة قوله: (لا أعصي) معطوفة على (صابرًا) فيكون التقييد بقوله: (إن شاء الله) شاملًا للصبر ونفي المعصية كما أشرنا إليه في الحل أي ستجدني صابرًا وغير عاص أي لا أخالفك في شيء ولا أترك أمرك فيما أمرتني به اهـ من الحداثة، وقوله:(إن شاء الله) تفويض أمره إلى الله تعالى في الصبر وجزم بنفي المعصية وإنما كان منه ذلك لأن الصبر أمر مستقبل ولا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه والله تعالى أعلم اهـ من المفهم، ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبًا لنا بخلاف فعل المعصية وتركها فإن ذلك كله مكتسب لنا اهـ من المفهم، وفي الحدائق وتعليق الوعد بالمشيئة إما طلبًا لتوفيقه في الصبر ومعونته أو تيمنًا أو علمًا منه بشدة الأمر وصعوبته فإن الصبر من مثله عند مشاهدة الفساد شديد جدًا لا يكون إلا بتأييد الله تعالى، وقبل: إنما استثنى لأنه لم يكن على ثقة فيما التزم من الصبر وهذه عادة الصالحين اهـ منه.
قَال لَهُ الخضِرُ: {قَال فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70]. قَال: نَعَم. فَانطَلَقَ الخضِرُ وَمُوسَى يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ البحرِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَة، فَكَلَّمَاهُم أَن يَحْمِلُوهُمَا، فَعَرَفُوا الخضِرَ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيرِ نَولٍ
ــ
(قال له الخضر) لموسى: (فإن اتبعتني) أي فإن صحبتني لأخذ العلم وهو إذن له في الاتباع، والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من التزامه للصبر والطاعة (فلا تسألني عن شيء) تشاهده من أفعالي وتنكره مني في نفسك أي لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته فضلًا عن المناقشة والاعتراض (حتى أحدث) وأخبر (لك منه) أي من حكمة ذلك الشيء الذي فعلته (ذكرًا) أي إخبارًا أي حتى ابتدئ لك ببيانه، وفيه إيذان بأن كل ما صدر منه فله حكمة وغاية حميدة ألبتة، وهذا من آداب المتعلم مع العالم والتابع مع المتبوع، وهذه الجمل المعنوية (قال): و (قال) مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها اهـ من الحدائق، قال القرطبي: هذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة ووعد بأنه يعرفه بأسرار مايراه من العجائب فلو صبر ودأب لرأى العجب لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والإعراض اهـ من المفهم، والمعنى: قال له الخضر: إن سرت معي فلا تفاتحني في شيء أنكرته علي حتى ابتدئ بذكره فأبين له وجه صوابه فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم اهـ من الحدائق (قال) موسى للخضر: (نعم) لا أسألك عن شيء فعلته حتى تخبرني عنه ذكرًا فتوافقا على ذلك الشرط فانطلقا، والفاء في قوله:(فانطلق) للإفصاح لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفت ما شرط الخضر على موسى وقبول موسى ذلك الشرط وأردت بيان ما فعلا بعد ذلك فأقول لك: انطلق (الخضر وموسى) أي ذهبا بعد اتفاقهما حالة كونهما (يمشيان) بأرجلهما (على ساحل البحر) وجانبه طلبًا للسفينة ليركباها، وأما يوشع فقد صرفه موسى إلى بني إسرائيل أوكان معهما، وإنما لم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى فاكتفى بذلك المتبوع من ذكر التابع اهـ منه (فمرت بهما سفينة فكلماهم) أي كلم الخضر وموسى أهل السفينة وسألاهم (أن يحملوهما) ويركبوهما على السفينة (فعرفوا الخضر فحملوهما) أي أركبوهما (بغير نول) أي بغير أجرة، والنول
فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِن أَنوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ. فَقَال لَهُ مُوسَى: قَوم حَمَلُونَا بِغَيرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِم فَخَرَفتَهَا لِتُغرِقَ أَهْلَهَا. {جِئْتَ شَيئًا إِمْرًا (71) قَال أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَال لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ
ــ
والنوال: العطاء اهـ نووي (فـ) لما ركبا (عمد الخضر) أي قصد (إلى) نزع (لوح) أي إلى قلع لوح (من ألواح السفينة فنزعه) أي قلع ذلك اللوح من السفينة أي ثقبها الخضر وشقها لما بلغوا اللج أي معظم الماء حيث أخذ فأسًا فقلع بغتة أي على غفلة من القوم من ألواحها لوحين مما يلي الماء فجعل موسى يسد الخرق بثيابه وأخذ الخضر قدحًا من زجاج ورقع به خرق السفينة أي سده بخرقة، رُوي أنه لما خرق السفينة لم يدخلها الماء (فقال له) أي للخضر (موسى) عليهما السلام هم (قوم حملونا بغير نول) أي بغير أجر، قال القرطبي: وفيه قبول الرجل الصالح ما يكرمه به من يعتقد فيه صلاحًا ما لم يتسبب هو بإظهار صلاحه لذلك فيكون قد أكل دينه وذلك محرم وربا اهـ مفهم (عمدت) أي قصدت (إلى سفينتهم فخرقتها لتنرق أهلها) أي لتهلك ركابها بالماء فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها وهم قد أحسنوابنا حيث حملونا بغير أجرة وليس هذا جزاءهم، فاللام لام العاقبة، وقيل: لام العلة اهـ من الحدائق، والله {لَقَدْ جِئْتَ شَيئًا إِمْرًا} أي والله لقد أتيت وفعلت يا خضر شيئًا عجيبًا عظيمًا شديدًا على القوم، قال في القاموس: أمر إمر منكر عجيب، يقال: أمر الأمر إذا كبر، والأمر الاسم منه، وقال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة {قَال} الخضر لموسى: {أَلَمْ أَقُلْ} الاستفهام فيه للتقرير أي قد قلت لك {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} أي لا تقدر صبرًا معي فيما ترى مما أفعل وهو تذكير لما قاله أولًا متضمن للإنكار على عدم الوفاء بوعده، وفي رواية الربيع بن أنس عند ابن أبي حاتم إن موسى لما رأى ذلك امتلأ غضبًا وشد ثيابه وقال: أردت إهلاكهم ستعلم أنك أول هالك، فقال له يوشع: ألا تذكر العهد، فأقبل عليه الخضر فقال: ألم أقل لك، فأدرك موسى الحلم فـ (قال) موسى للخضر:{لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} وإن الخضر لما خلصوا قال لصاحب السفينة: إنما أردت الخير فحمدوا رأيه وأصلحها الله على يديه ذكره الحافظ في الفتح، والمعنى أي لا تؤاخذني بنسياني وصيتك بعدم السؤال من حكمة الأفعال قبل البيان فإنه لا مؤاخذة على الناس فما مصدرية، ويحتمل كونها موصولة أي لا تؤاخذني بالذي نسيته وهو قول الخضر: {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ
وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)} [الكهف: 71 - 73]، ثُم خَرَجَا مِنَ السفِينَةِ، فَبَينَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى الساحِلِ إِذَا غُلام يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ. فَأخَذَ الْخَضِرُ بِرَأسِهِ، فَاقتَلَعَهُ بِيَدِهِ، فَقَتَلَهُ. فَقَال مُوسَى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَال أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً
ــ
شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} {وَلَا تُرْهِقْنِي} أي لا تكلفني يا خضر ولا تحملني {مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} أي ما لا أقدر عليه من التحفظ عن النسيان حيث وقع، والمعنى قال موسى للخضر: لا تؤاخذني بما غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك ولا تكلفني مشفة ولا تضيق على أمري ولا تعسر علي متابعتك بل يسرها بالإغضاء وترك المناقشة فإني أريد صحبتك ولا سبيل لي إليها إلا بذلك (ثم خرجا) أي خرج الخضر وموسى (من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل) أي على ساحل البحر وجانبه، فكلمة بينما هي بين زيدت فيها ما فلزمت الإضافة إلى الجملة كما مر بسط الكلام فيها في أوائل كتاب الإيمان، جملة (إذا غلام يلعب مع الغلمان) جوابها، وإذا فجائية رابطة لجوابها؛ والمعنى فبينما أوقات مشيهما على الساحل فاجأهما غلام يلعب مع الغلمان، قال القرطبي: الغلام من الرجال من لم يبلغ وتقابله الجارية في النساء، قال الكلبي: اسم هذا الغلام شمعون، وقال الضحاك: حيسون، وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رُحمى، وقال ابن عباس: كان شابًّا يقطع الطريق فلعل هذا القول لم يصح عن ابن عباس، بل الصحيح عنه أنه كان لم يبلغ (فأخذ) هـ (الخضر) من بينهم وهم عشر صبيان يلعبون بين قريتين وكان وضيء الوجه (برأسه فاقتلعه) الخضر (بيده) أي قلع رأسه من جسده بيده (فقتله) الخضر أي فقتله بذبحه مضطجعًا بالسكين أو بفتل عنقه، وقال الحافظ ابن حجر: يجمع بين الروايتين بأنه ذبحه ثم اقتلع رأسه، وقيل معنى قتله أشار باصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثم خرجا من السفينة فبينما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب من الغلمان فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله" كذا في الصحيحين برواية أبي بن كعب رضي الله عنه ولكن لم يبين القرآن كيف قتله؛ أحز رأسه أم ضرب رأسه بالجدار أم بطريق آخر؟ وعلينا أن لا نهتم بذلك إذ لو علم الله فيه خيرًا لنا لذكره ولكن بينته السنة كما ذكرنا آنفًا (فقال موسى) للخضر: (أقتلت) يا خضر؟ والاستفهام فيه للتوبيخ المضمن للإنكار أي هل قتلت يا خضر (نفسًا زاكية) أي طاهرة من الذنوب لأنها صغيرة لم تبلغ
بِغَيرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيئًا نُكْرًا (74) قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} [الكهف: 74 - 75]؟ قَال: وَهذِهِ أَشَدُّ مِنَ الأُولَى. {قَال إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي
ــ
الحنث أي الإثم والذنب وهو قول الأكثرين {بِغَيرِ} مقابلة {نَفْسٍ} أخرى قتلتها هذه النفس المقتولة لك أي بغير قتلها نفسًا محرمة يعني لم تقتل نفسًا فيقتص منها، وخص هذا من بين مبيحات القتل كالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان لأنه أقرب إلى الوقوع بالنظر إلى حال الغلام اهـ من الحدائق، وفي قراءة (زكية) بإسقاط الألف وتشديد الياء وهي بمعناها لكنها أبلغ من زاكية لأن فعيلًا المحول عن فاعل يدل على المبالغة، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا" متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
والله {لَقَدْ جِئْتَ} وفعلت يا خضر {شَيئًا نُكْرًا} أي شيئًا منكرًا أنكر من الأول لأن ذلك كان خرقًا يُمكن تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه؛ والمعنى أي والله لقد فعلت شيئًا تنكره العقول وتنفر منه النفوس وإنما قال هنا: {نُكْرًا} وقال هناك: (إمرًا) لأن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن ذلك لم يكن إهلاكًا لنفس إذ ربما لا يحصل الغرق وفي هذا إتلاف النفس قطعًا فكان أنكر اهـ من الحدائق (قال) الخضر لموسى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} يا موسى، والهمزة فيه للاستفهام التقريري المضمن للتوبيخ لموسى على ترك الوصية، زاد هنا لفظة {لَكَ} على سابقه لتشديد العتاب على رفض الوصية لأنه قد نقض العهد مرتين. قال القرطبي: ذكر {لَكَ} في هذه المرة ولم يذكرها في المرة الأولى مقابلة له على قلة احترامه في هذه المرة فإن مقابلته بـ {لَكَ} مع كاف خطاب المفرد يُشعر بقلة احترامه والله أعلم اهـ من المفهم. {إِنَّك لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَال} النبي صلى الله عليه وسلم: (وهذه) المقالة الثانية يعني قوله: ألم أقل لك (أشد) أي أوكد (من) المقالة (الأولى) يعني ألم أقل بلا زيادة لك، في العتاب بزيادة لفظة {لَكَ} في هذه دون الأولى حين تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار مع عدم الارعواء بالتذكير أول مرة، قال البغوي: رُوي أن يوشع كان يقول لموسى: اذكر العهد الذي أنت عليه، وفي البخاري قال: لا يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما" {قَال} موسى للخضر: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيءٍ بَعْدَهَا} أي بعد هذه المرة أو بعد هذه النفس المقتولة {فَلَا تُصَاحِبْنِي}
قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَال لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيهِ أَجْرًا (77)} [الكهف: 76 - 77]، يَقُولُ مَائِلٌ، قَال الْخَضِرُ بِيَدِهِ هكَذَا، فَأقَامَهُ،
ــ
ولا ترافقني أي لا تجعلني صاحبًا لك ولا تكن مرافقًا معي بل أبعدني عنك وإن سألت صحبتك، نهاه عن مصاحبته مع حرصه على التعليم لظهور عذره ولذا قال:{قَدْ بَلَغْتَ} ووجدت {مِنْ لَدُنِّي} أي من قبلي {عُذْرًا} أي سببًا تعتذر به في فراقي وطردي حيث خالفتك مرة بعد أخرى أي قد كنت عندي معذورًا في فراقي، وهذا كلام نادم أشد الندم قد اضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف، والعذر بضمتين وسكون الذال في الأصل تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه بان يقول لم أفعل أو فعلت لأجل كذا أو فعلت فلا أعود، وهذا الثالث هو التوبة فكل توبة عذر بلا عكس، والاعتذار عبارة عن محو أثر الذنب اهـ من الحدائق {فَانْطَلَقَا} أي فانطلق الخضر وموسى عليهما السلام بعد المرتين الأوليين بعدما شرطا ذلك (حتى إذا أتيا) ووصلا (أهل قرية) لئام أي بخلاء، قال قتادة: القرية أيلة أو أنطاكية، وقيل برقة، وقيل قرية من قرى أذربيجان، وقيل قرية من قرى الروم أي وصلاهم بعد الغروب في ليلة باردة (استطعما أهلها) أي طلبا من أهلها أن يطعموهما ضيافة، قيل: لم يسألاهم ولكن نزولهما عندهم كالسؤال منهم، ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التأكيد أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة أو لزيادة التشنيع على أهل القرية بإظهارهم (نأبوا) أي فأبى أهل القرية وامتنعوا {أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} أي أن يطعموهما {فَوَجَدَا} أي فوجد الخضر وموسى عليهما السلام {فِيهَا} أي في تلك القرية {جِدَارًا} أي حائطًا مائلًا {يُرِيدُ} أي يوشك أن ينقض أي أن يسقط فمسحه الخضر بيده (فأقامه) أي أقام الخضر الجدار بالإشارة بيده فاستقام أو هدمه ثم بناه، وفسر الراوي قوله:(يريد أن ينقض) بقوله: (يقول): أي يريد الله سبحانه أي يعني الله بقوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} هو (مائل) أي ذلك الجدار مائل قريب إلى السقوط، فـ {قَال} الخضر) أي أشار الخضر إليه (بيده هكذا فأقامه) أي أثبته، قال القرطبي: الجدار الحائط، وينقض يسقط، ووصفه بالإرادة مجاز مستعمل لأن الجدار ليس له حقيقة الإرادة ومعناه قرب إلى الانقضاض وهو السقوط، وقد فسره في الحديث بقوله:(يقول مائل) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن وهو مذهب الجمهور، ومما يدل على
قَال لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَينَاهُم فَلَمْ يُضَيِّفُونَا وَلَمْ يُطْعِمُونَا، لَو شِئتَ لَتَخِذتَ عَلَيهِ أجْرًا
ــ
استعمال ذلك المجاز وشهرته قول الشاعر:
يريد الرمح صدر أبي براء
…
ويرغب عن دماء بني عقيل
وقال آخر:
إن دهرًا يلف شملي بسلمى
…
لزمان يهم بالإحسان
وقال آخر:
في مهمه فلقت به هاماتنا
…
فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
والنصول هنا: الثبوت في الأرض من قولهم نصل السهم إذا ثبت في الرمية فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض الشديدة فإن الفأس يقع فيها ويثبت ولا يكاد بخرج، والمجاز موجود في القرآن والسنة كما هو موجود في كلام العرب لأنهما عربيان وقد استوفينا مباحث هذه المسألة في الأصول اهـ من المفهم.
وقوله: (قال الخضر) أي أشار إلى الجدار (بيده هكذا) أي إلى الاستقرار وعدم السقوط (فأقامه) أي فأثبته ومنعه من السقوط ففيه تعبير عن الفعل بالقول وهو شائع اهـ نووي، وقوله:(قال بيده هكذا فأقامه) يعني به أشار إليه بيده فقام، فيه دليل على كرامات الأولياء وكذلك كل ما وُصف من أحوال الخضر في هذا الحديث وكلها أمور خارق للعادة هذا إذ تنزلنا على أنه ولي لا نبي، وقد اختلف فيه أئمة أهل السنة والظاهر من مساق القصة واستقراء أحواله مع قوله:(وما فعلته عن أمري) أنه نبي يوحى إليه بالتكليف والأحكام كما أوحي إلى الأنبياء غيره غير أنه ليس برسول وهذا هو القول الراجح فيه لأن خير الأمور أوسطها اهـ من المفهم.
(قال له): أي للخضر (موسى) هم (قوم أتيناهم فلم يضيفونا ولم يطعمونا) الطعام {لَوْ شِئْتَ} يا خضر {لَاتَّخَذْتَ} بوزن علمت أي لأخذت هذه قراءة ابن كثير وأبي عمرون ويعقوب وقراءة غيرهم {لَاتَّخَذْتَ} وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ وهذه المقالة صدرت من موسى سؤالًا على سبيل العرض وهو الطلب برفق ولين لا على سبيل الاعتراض {عَلَيهِ} أي على عملك هذا الذي هو إقامة الجدار بالإشارة {أَجْرًا} أي أجرة
قَال: {قَال هَذَا فِرَاقُ بَينِي وَبَينِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْويلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيهِ صَبْرًا (78)} [الكهف: 78]. قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَرحَمُ الله مُوسَى، لَوَدِدتُ أنهُ كَانَ صَبَرَ حَتى يُقَصَّ عَلَينَا مِن أَخبَارِهِمَا". قَال: وَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا". قَال: "وَجَاءَ عُصفُور حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، ثم نَقَرَ فِي الْبَحرِ. فَقَال
ــ
حتى تشتري بها طعامًا أي كان ينبغي لك أن تأخذ منهم أجرًا على عملك لتقصيرهم فينا مع حاجتنا وليس لنا في إصلاح الجدار فائدة فهو من فضول العمل فـ (قال) الخضر لموسى: (هذا) الوقت (فراق بيني وبينك) أي وقت الفراق بيني وبينك أو هذا الاعتراض الثالث منك سبب الفراق الموعود بقولك: (فلا تصاحبني){سَأُنَبِّئُكَ} أي سأخبرك والسين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة {بِتَأْويلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيهِ صَبْرًا} أي بعاقبة ومآل ما لم تقدر يا موسى صبرًا عليه من الأفعال الثلاثة التي صدرت مني وهي: خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، ومالمها خلاص السفينة من اليد الغاصبة، وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز ببدل حسن، واستخراج اليتيمين الكنز، وذكر الثعلبي أن الخضر قال لموسى: أتلومني على خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ونسيت نفسك حين ألقيت في البحر، وحين قتلت القبطي، وحين سقيت أغنام ابنتي شعيبًا احتسابًا ذكره الحافظ في فتح الباري، قال أبي بن كعب بالسند السابق (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى) ويسامح له عن استعجاله والله (لوددت) وأحببت (أنه كان صبر) على ما فعله الخضر (حتى) يتعلم منه علومًا كثيرة عجيبة فـ (بقص) بالبناء للمجهول أي فيقص الله سبحانه (علينا) في كتابه (من أخبارهما) قصصًا كثيرة عجيبة (قال) أبي بن كعب أيضًا (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت) المعارضة (الأولى من موسى نسيانًا) لعل مراده أن اعتراض موسى على الخضر عليهما السلام في خرق السفينة كان نسيانًا لما تعاهد عليه من قوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} وأما اعتراضه الثاني على قتل الغلام فلم يكن نسيانًا للعهد بل حينما رأى الخضر يرتكب القتل لم يتمالك نفسه وأنكر عليه، وأما الثالث فكان مشورة (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وجاء عصفور) من الطير (حتى وقع) وقام (على حرف السفينة) وطرفها (ثم نقر) العصفور أي أدخل منقاره (في) ماء (البحر) ليشرب من مائه (فقال له) أي لموسى:
لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلمِ الله إِلا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ"
ــ
(الخضر ما نقص علمي وعلمك) يا موسى (من علم الله) سبحانه (إلا مثل ما نقص) أي إلا قدر ما نقص (هذا العصفور) بمنقاره (من) ماء (البحر) فكان علمنا كالهباء المنثور بالنسبة إلى علم الله تعالى، ولفظ النقص ليس على ظاهره لأن علم الله تعالى لا يدخله النقص وإنما هو تمثيل للتقريب إلى الأفهام والمراد أن علم المخلوقات بالنسبة إلى علم الله تعالى شيء لا يعتد به، وقد وقع في رواية ابن جريج ما هو صريح في هذا المعنى ولفظه عند البخاري في التفسير (والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر) والروايات يُفسر بعضها بعضًا وهذا التوجيه هو الظاهر المتبادر من غير تكلف فلا حاجة إلى التوجيهات الأخرى التي تكلف بها الشراح وذكرها الأبي والحافظ في كتاب العلم من الفتح.
قوله: (يرحم الله موسى لو صبر) قال الأبي: لا يقال القطع إنما كان من الخضر فكيف يقال من موسى لو صبر وإنما القياس أن يقال ذلك في الخضر لأنا نقول إن موسى هو المشروط عليه الصبر ولم يتفق له التمادي عليه اهـ وقال أيضًا: (قوله: ما نقص علمي وعلمك) .. إلخ من المعلوم أن نقر العصفور ينقص من البحر وإن لم يظهر النقص لعظم ماء البحر وحينئذٍ يشكل التشبيه لأنه يقتضي أن النقص يعرض لعلم الله سبحانه وذلك مستحيل فيتعين التأويل، قال القاضي وتأويله أن يكون المراد بالعلم هنا المعلوم وأنه على سبيل التمثيل والتقريب للأفهام فالمعنى ما نسبة معلومي ومعلومك إلى معلومات الله تعالى إلا كنسبة ما نقصه العصفور إلى ماء البحر ولفظ النقص مجاز اهـ وقال النووي: هذا على التقريب للأفهام وإلا فنسبة علمهما أقل وأحقر اهـ، وقال القرطبي: والمراد من التمثيل نفي الأثر والنسبة، والمعنى أن معلومي ومعلومك لا نسبة له إلى معلومات الله تعالى كما أن الذي أخذ العصفور لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر.
(قلت): يعني لا أثر لنسبة تظهر وإلا فلما أخذ نسبة في نفس الأمر، والأولى أن يقال إنه على وجه التقريب للأفهام لأن التشبيه إنما يكون بين أمرين متناهيين وما نقص العصفور وماء البحر متناهيان ومعلومات الله تعالى غير متناهية فلا تعقل النسبة إليها، قال القرطبي: أيضًا أو يكون ذلك بالنسبة إلينا أي ما نقص معلومنا مما جهلناه من معلومات
قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ: وَكَانَ يَقْرَأ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا. وَكَانَ يَقرَأُ: وَأَما الْغُلامُ فَكَانَ كَافِرًا.
6010 -
(00)(00) حدثني مُحَمدُ بْنُ عَبْدِ الأَعلَى القَيسِي. حَدَّثَنَا الْمُعتَمِرُ بْنُ سُلَيمَانَ
ــ
الله تعالى إلا كما نقص هذا العصفور من ماء البحر في التقدير والقلة، وقد جاء ما أشرنا إليه من التمثيل في البخاري قال:(ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ العصفور بمنقاره من البحر) فأوقع العلم موقع المعلوم والمصدر يقع موقع المفعول ومنه قولهم هذا درهم ضرب الأمير أي مضروبه اهـ من الأبي.
(قال سعيد بن جبير) الوالبي الكوفي بالسند السابق (وكان) أبي بن كعب رضي الله عنه (يقرأ وكان أمامهم) بدل وراءهم (ملك يأخذ كل سفينة صالحة) بزيادة لفظة صالحة {غَصْبًا} أي بغير حق وهذه قراءة شاذة، ولعلها تفسيرية فإن الإدراجات التفسيرية ربما يسمى قراءآت شاذة، واللفظ الواقع في القرآن الكريم {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} وقد ذكر ابن جريج في روايته عند البخاري أن اسم ذلك الملك هُدَدَ بن بُدَد، وجاء في تفسير مقاتل أن اسمه منولة بن الجلندي بن سعيد الأزدي وهو أول من أظهر الفساد في البحر كما بيناه في الحدائق تحت قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِي النَّاسِ} والله سبحانه وتعالى أعلم (وكان) أبي بن كعب أيضًا (يقرأ وأما الغلام فكان كافرًا) بزيادة لفظة كافرًا وهذه قراءة شاذة أيضًا، ولا يجوز تسميتها قرآنًا وهي أيضًا قراءة تفسيرية والله أعلم.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث أحمد [5/ 117]، والبخاري في مواضع عديدة منها في التفسير باب فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما .. إلخ [4726]، وأبو داود في السنة باب القدر [4705 إلى 4707]، والترمذي في التفسير باب ومن سورة الكهف [3149 و 3150].
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه فقال:
6010 -
(00)(00)(حدثني محمد بن عبد الأعلى القيسي) أبو عبد الله الصنعاني ثم البصري، ثقة، من (10) روى عنه في (4) أبواب (حدثنا المعتمر بن سليمان) بن
التيمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ أَبِي إِسحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ قَال: قِيلَ لابنِ عَبَّاسٍ: إِن نَوفًا يَزْعُمُ أَن مُوسَى الذِي ذَهَبَ يَلْتَمِسُ العِلْمَ لَيسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَال: أَسَمِعْتَهُ يَا سَعِيدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَال: كَذَبَ نَوْف.
حدَّثنا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنهُ بَينَمَا مُوسَى،
ــ
طرخان (التيمي) أبو محمد البصري، ثقة، من (9) روى عنه في (10) أبواب (عن أبيه) سليمان بن طرخان التيمي أبي المعتمر البصري، ثقة، من (4) روى عنه في (13) بابا (عن رقبة) بفتحات بن مصقلة العبدي الكوفي، ثقة، من (6) روى عن أبي إسحاق السبيعي في ذكر موسى والخضر والقدر، ونافع في القدر، ويروي عنه (خ م دت س) وسليمان التيمي ومحمد بن فضيل وأبو عوانة وابن عيينة، قال أحمد: شيخ ثقة من الثقات مأمون، وقال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال العجلي: ثقة، وكان مفوهًا يعد من رجالات العرب، وقال الدارقطني: ثقة إلا أنه كان له دعابة ومزاح، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب: ثقة مأمون، وكان يمزح، من السادسة، وليس في مسلم من اسمه رقبة إلا هذا الثقة (عن أبي إسحاق) السبيعي عمرو بن عبد الله الكوفي، ثقة، من (3)(عن سعيد بن جبير) الوالبي الكوفي، ثقة، من (3) (قال) سعيد:(قيل لابن عباس) رضي الله عنهما، والقائل له هو نفس سعيد بن جبير كما هو مصرح في الرواية الأولى ولكنه أبهم هنا (إن نوفًا) بن فضالة الحميري البكالي الشامي ابن امرأة كعب الأحبار (يزعم) أي يقول قولًا بلا دليل (أن موسى الذي ذهب) مع الخضر (يلتمس) أي يطلب (العلم) أي تعلم العلم منه (ليس بموسى) بن عمران الذي أرسل إلى (بني إسرائيل) بل هو موسى بن ميشا بن أفراثيم بن يوسف عليه السلام (قال) ابن عباس:(أسمعته) أي هل سمعت نوفًا يقول ذلك (يا سعيد) قال سعيد: (قلت) لابن عباس: (نعم) سمعته يقول ذلك (قاال) ابن عباس: (كذب نوف) بن فضالة فيما يقول: وذلك لأنه (حدثنا أبي بن كعب) بن قيس بن عبيد الأنصاري الخزرجي أبو المنذر المدني، سيد القراء، كاتب الوحي، وكان ربعة نحيفًا أبيض الرأس واللحية لا يخضب الصحابي المشهور رضي الله عنه، روى عنه في (5) أبواب. وهذا السند من ثمانياته، وفيه رواية صحابي عن صحابي وتابعي عن تابعي، غرضه بيان متابعة أبي إسحاق لعمرو بن دينار (قال) أبي بن كعب:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه) أي إن الشأن والحال (بينما موسى) بن
عَلَيهِ السلامُ، فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأيامِ الله. وَأَيامُ الله نَعْمَاؤُهُ وَبَلاؤُهُ. إِذ قَال: مَا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ رَجُلًا خَيرًا أَوْ أَعْلَمَ مِني. قَال: فَأوْحَى الله إِلَيهِ. إِني أَعلَمُ بِالْخَيرِ مِنْهُ. أَوْ عِنْدَ مَن هُوَ. إِنَّ فِي الأَرْضِ رَجُلا هُوَ أَعْلَمُ مِنكَ
ــ
عمران (عليه السلام) قائم (في قومه) بني إسرائيل، حالة كونه (يذكرهم) ويعظهم (بأيام الله) تعالى التي كانت لهم وعليهم أي يأمرهم بالشكر على نعمه وبالصبر على نقمه، وفسر الراوي أيام الله بقوله:(وأيام الله) هي (نعماوه) وإحساناته التي كانت لهم كالمن والسلوى وإنجاءهم من استبعاد فرعون وقومه (وبلاؤه) التي ابتلاهم كاستبعاد القبطين لهم وذبح أبناءهم، وكلمة إذ في قوله:(إذ قال) موسى فجائية رابطة لجواب بينما المحذوف كما دلت عليه الرواية السابقة، والتقدير بينما أوقات تذكير موسى قومه بأيام الله إذ سئل موسى من أفضل أهل الأرض ومن أعلمهم؟ فـ (قال) موسى في جواب سؤال السائل أي فاجأه سؤال سائل من قومه فأجابه بقوله:(ما أعلم) أنا بصيغة المضارع المسند إلى المكلم أي مما أعلم في زماني هذا (في) أرجاء (الأرض) ونواحيها (رجلًا خيرًا) مني أي أفضل مني منزلة عند الله (أو) قال موسى: لا أعلم في الأرض رجلًا (أعلم مني) والشك من الراوي فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن دونه، وفي أغلب النسخ كنسخة الأبي والسنوسي والنسخة الطويلة المصرية (ما أعلم في الأرض رجلًا خيرًا وأعلم مني) بلا شك، قال الأبي في هذا الطريق:(إذ قال ما أعلم في الأرض) .. إلخ بلا ذكر سؤال سائل له وفي الطريق الأول (سئل أي الناس أعلم قال: أنا) فترد هذه الرواية المطلقة عن ذكر السؤال فيها إلى تلك المقيدة بذكر السؤال فيها كما قدرناه في حلنا على القاعدة الأصولية من رد المطلق إلى المقيد، وتقدم أن العتاب في تلك السابقة إنما وقع من حيث أنه لم يقيد نفي الأعلم ولم يقل في علمي لأن المخبر عن الشيء بمقتضى علمه وظنه ليس بكاذب ولكن حملت تلك الرواية السابقة المطلقة على ما في هذه لأن هذه قيدت بذلك لقوله هنا ما أعلم في الأرض .. إلخ اهـ حيث نفى الأعلم بالنسبة إلى ظنه وعلمه (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فأوحى الله) سبحانه (إليه) أي إلى موسى حين قال ذلك الجواب (إني أعلم بـ) الرجل (الخير) والأفضل (منه) أي من موسى يعني قال الله تعالى: إني أعلم بمن هو خير منه أي من موسى عليه السلام (أو) قال الله: إني أعلم (عند من هو) أي الخير أو العلم، وأو هنا للشك من الراوي والتقدير أو قال الله تعالى: إني أعلم عند من هو؟ أي العلم الأكثر من علم موسى أو الخير الأكثر من خير موسى، ثم قال الله تعالى:(إن في الأرض رجلًا هو أعلم) أي أكثر علمًا (منك) يا
قَال: يَا رَب، فَدُلنِي عَلَيهِ. قَال: فَقِيلَ لَهُ: تزَوَّدْ حُوتًا مَالِحًا، فَإنهُ حَيثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ. قَال: فَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ حَتى انْتَهَيَا إِلَى الصخْرَةِ، فَعُمِّيَ عَلَيهِ. فَانطَلَقَ وَتَرَكَ فَتَاهُ فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الماءِ. فَجَعَلَ لَا يَلتَئِمُ عَلَيهِ. صَارَ مِثلَ الْكُوَّةِ
ــ
موسى (قال) موسى: (يا رب فدلني عليه) أي على ذلك الأعلم مني أي دلني على طريق الوصول إليه (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقيل له) أي لموسى من جهة الله تعالى (تزود حوتًا مالحًا) أي خذ حوتًا مالحًا زادًا لك لسفرك إليه والحوت المالح هو المقلي بالملح، قال الأبي: وهذا نص في أن الحوت إنما أخذ للتزود وتقدم قول من قال إنما أخذه ليكون دليلًا على لقاء الخضر وكان الزاد غيره اهـ من الأبي (فإنه) أي فإن ذلك الأعلم (حيث تفقد الحوت) أي في المكان الذي فقدت فيه الحوت (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فانطلق هو) أي ذهب موسى (وفتاه) يوشع بن نون لطلب ذلك الأعلم (حتى انتهيا) ووصلا (إلى الصخرة) التي عند ملتقى البحرين (فعُمي عليه) الأمر أي أشكل والتبس عليه أي على موسى الأمر أي أمر ذلك الأعلم وموضعه، قال النووي: قوله: (فعُمي عليه) وقع في بعض الأصول بفتح العين المهملة وكسر الميم المخففة وفتح الياء على صيغة المعلوم، وفي بعضها بضم العين وتشديد الميم المكسورة على صيغة المبني للمجهول والمعنى واحد، وفي بعضها بالغين المعجمة (فـ) لما عُمي وغمي عليه أمر ذلك الأعلم واختفى عنه موضع فلم يجده عند ملتقى البحرين (انطلق) وذهب وحده لطلبه والبحث عنه (وترك فتاه) مع الحوت عند الصخرة (فاضطرب الحوت) أي تحرك وانسل من المكتل ودخل (في الماء فجعل) الماء (لا يلتئم) ولا يجتمع (عليه) أي على الحوت ولا يرجع إلى مسلكه بل (صار) مسلكه ومدخله في الماء (كالكوة) أي (مثل الكوة) والطاق لا يرجع إليه الماء وهي بفتح الكاف وضمها مع تشديد الواو فيهما الطاق ولعل مراد الراوي هنا أن موسى عليه السلام عمي عليه الطريق فانطلق وحده وفارق فتاه وهذا مخالف لما سبق من أن موسى عليه السلام قد نام في ظل الصخرة ولعل تفرقهما وقع بعد استيقاظهما لفترة يسيرة، وقول الراوي هنا:(وترك فتاه واضطرب الحوت في الماء) يدل بظاهره أن اضطراب الحوت وقع في حال تفرقهما ولكن الروايات الأخرى الصحيحة تدل على أنه وقع في حالة نوم موسى، والظاهر أنه قد وقع في هذه
قَال: فَقَال فَتَاهُ: أَلا أَلْحَقُ نَبِيَّ الله فَأخبِرَهُ؟ قَال: فَنُسيَ، فَلَما تَجَاوَزَا قَال لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62]. قَال: وَلَمْ يُصِبهُم نَصَبٌ حَتَّى تَجَاوَزَا. قَال: فَتَذَكَّرَ قَال {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَينَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} [الكهف: 64 - 65]. فَأَرَاهُ مَكَانَ الْحُوتِ. قَال: ههُنَا وُصِفَ لِي. قَال: فَذَهَبَ يَلتَمِسُ فَإِذَا هُوَ بِالخضِرِ مُسَجًّى ثَوْبا، مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْقَفَا، أَوْ قَال: عَلَى حَلاوَةِ الْقَفَا
ــ
الرواية تقديم وتأخير في بيان بعض الواقعات (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقال فتاه: ألا) حرف عرض أي ألا (ألحق نبي الله) موسى (فأخبره) بفقدان الحوت (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فنسي) الفتى إخبار فقدان الحوت بموسى فانطلقا {فَلَمَّا جَاوَزَا} الصخرة {قَال} موسى {لِفَتَاهُ} يوشع بن نون: {آتِنَا} أي أعطنا وقرب لنا {غَدَاءَنَا} ما يؤكل في أوائل النهار، والله {لَقَدْ لَقِينَا} أي قاسينا وذقنا {مِنْ سَفَرِنَاهَذَا نَصَبًا} أي تعبًا ومشقة {قَال} رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ولم يصبهم نصب) ولا تعب (حتى تجاوزا) الصخرة {قَال} رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتذكر) الفتى شأن الحوت وفقدانه فـ {قَال} الفتى لموسى: {أَرَأَيتَ} أي أخبرني يا موسى {إِذْ أَوَينَا إِلَى الصَّخْرَةِ} ونزلنا عندها {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلا الشَّيطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} لك وأخبره (و) قد {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} ومسلكه {فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} أي مسلكًا عجيبًا يُتعجب منه بعدم انطباق الماء عليه {قَال} موسى لفتاه (ذلك) أي فقدان الحوت علامة وجدان {مَا كُنَّا نَبْغِ} ـه ونطلبه من الرجل الأعلم {فَارْتَدَّا} أي ارتد موسى وفتاه ورجعا {عَلَى آثَارِهِمَا} أي على أعقابهما وقصا أي تتبعا لآثار طريقهما {قَصَصًا} أي تتبعا (فأراه) أي فأرى الفتى لموسى (مكان الحوت) ومسلكه في البحر (قال) موسى: (ها هنا) أي هذا المكان الذي قلت لي إنه مكان الحوت هو الذي (وصف) وذكر (لي) من الله سبحانه بأن الرجل الأعلم فيه يعني تحت الصخرة (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذهب) موسى (يلتمس) ويطلب الخضر ويبحث عنه (فإذا هو) أي موسى راء (بالخضر) حالة كونه (مسجى) أي مغطى (ثوبًا) أي بثوب (مستلقيًا) أي مضطجعًا (على القفا) أي على ظهر ومؤخر رأسه أي مباشرًا بظهره وقفاه الأرض مستقبلًا بوجهه السماء كهيئة الميت (أو قال) النبي صلى الله عليه وسلم مستلقيًا (على حلاوة القفا) والشك من الراوي أو ممن
قَال: السَّلامُ عَلَيكُمْ، فَكَشَفَ الثوبَ عَنْ وَجْهِهِ قَال: وَعَلَيكُمُ السَّلامُ. مَنْ أَنتَ؟ قَال: أَنَا مُوسَى. قَال: وَمَنْ مُوسَى؟ قَال: مُوسَى بَنِي إِسرَائِيلَ. قَال: مَجِيءٌ مَا جَاءَ بِكَ؟
ــ
دونه أي على وسط القفا لم يمل عنه يمينًا ولا شمالًا، قال النووي: "حلاوة القفا هي وسط القفا والقفا مؤخر الرأس ومعناه لم يمل على أحد جانبيه وهي بضم الحاء وفتحها وكسرها أفصحها الضم .. إلخ اهـ نووي، ويقال فيه أيضًا حلاواء بفتح الحاء والمد في آخره، وحلاوى بضم الحاء والقصر، وحكى أبو عبيد حلواء بالمد أيضًا، وفيه جواز النوم والاستلقاء كذلك بل استحبه بعضهم للتفكر في الملكوت، وفي بعض روايات البخاري أنه وجده على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجي بثوب وكبد البحر وسطه وكبد كل شيء وسطه، والطنفسة بساط صغير كالنمرقة يقال: بضم الطاء والفاء وبكسرهما وبكسر الطاء وفتح الفاء من الأبي. قال القرطبي (قوله: حلاوة القفا) يعني بها والله أعلم أن هذه الضجعة مما تستحل لأنها ضجعة استراحة فكأنه أو حلاوة ضجعة القفا وكان هذه الضجعة من الخضر كانت بعد تعب عبادة وآثر هذه الضجعة لما فيها من تردد البصر في المخلوقات ورؤية عجائب السماوات فكان الخضر في هذه الضجعة متفرغ عن الخليقة مملوء لاح بما لاح له من الحق والحقيقة، ولذلك لما سلم عليه موسى عليه السلام كشف الثوب عن وجهه وقال: وعليك السلام من أنت؟ اهـ من المفهم فـ (قال) موسى للخضر: (السلام عليكم فكشف) الخضر (الثوب عن وجهه) فـ (قال) الخضر: (وعليكم السلام، من أنت؟ ) فـ (قال) موسى: (أنا موسى) فـ (قال) الخضر: (ومن موسى؟ ) فـ (قال) موسى أنا (موسى بني إسرائيل) فـ (قال) الخضر لموسى: (مجيء) عظيم بالرفع منونًا وبلا تنوين مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بصفة محذوفة و (ما) زائدة للتوكيد، وجملة (جاء بك) خبر المبتدأ أي مجيء عظيم جاء به، والجملة الاسمية مقول قال، قال القاضي عياض: ضبطناه عن أبي بحر بضم الهمزة بدون تنوين، وما حينئذٍ للاستفهام، والمعنى مجيء أي شيء جاء بك أي جئت لماذا؟ وعن غيره منونًا وهو أظهر أي مجيء لأمر عظيم جاء بك وقد تجيء ما للتهويل والتعظيم، ومنه قولهم لأمر ما تدرعت الدروع وجاء بك خبر لهذا المبتدأ اهـ من الأبي، قال القرطبي: قوله: (مجيء ما جاء بك) ضبطه ابن ماهان بالهمز والتنوين وعلى هذا
قَال: جِئتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشدًا. قَال: {قَال إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)} [الكهف: 68]، شَيءٌ أُمِرْتُ بِهِ أَن أَفعَلَهُ إِذَا رَأَيتَهُ لَمْ تَصْبِرْ. قَال:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَال فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا}
ــ
تكون (ما) نكرة تامة صفة لمجيء مسوغة للابتداء به وهي التي تكون للتهويل والتفخيم والتعظيم كقولهم لأمر ما تسوّد من تسوّد، ولأمر ما تدرعت الدروع فيكون معناه مجيء عظيم وأمر مهم حملك على أن تركت ما كنت عليه من أمر بني إسرائيل واقتحمت الأسفار وقطع المفاوز والقفار، وقد زاد فيه بعض الرواة أن الخضر قال له:(وعليك السلام أنى بأرضنا يا نبي بني إسرائيل أما كان لك فيهم شغل؟ قال: بلى، ولكني أُمرت أن أصحبك مستفيدًا منك) فأجاب بجواب المتعلم المسترشد بين يدي العالم المرشد ملازمًا للأدب والحرمة ومعظمًا لمن شرفه الله بالعلم وأعلى رسمه، فـ (قال: جئتـ) ـك (لتعلمني مما علمت رشدًا) قرأه الجماعة بضم الراء وسكون الشين، وقرأه يعقوب وأبو عمرو بالفتح فيهما، وهما لغتان، ويقال: رشد بالفتح يرشد رشدًا بالضم ورشد بالكسر يرشد رشدًا بالفتح من باب فرح، ومعنى الرشد الاستقامة في الأمور وإصابة وجه السداد، والصواب فيها وضده الغي وهو منصوب عن المصدر ويكون في موضع الحال، ويصح أن يكون مفعولًا لأجله، وفيه من الفقه التذلل والتواضع للعالم وبين يديه واستئذانه في سؤاله والمبالغة في احترامه وإعظامه ومن لم يفعل هكذا فليس على سنة الأنبياء ولا على هديهم كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه" رواه أحمد [5/ 323]، والحاكم في المستدرك [1/ 122] وصححه ووافقه الذهبي اهـ من المفهم (قال) الخضر:(انك لن تستطيع معي صبرًا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا) وذلك الذي لا تصبر عليه هو (شيء أُمرت به) أي بفعله من جهة الله، وجملة قوله:(أن أفعله) بدل من ضمير به (إذا رأيته) أي إذا رأيت ذلك الشيء (لم تصبر عليه) لمخالفته الشرع الظاهر الذي أنت عليه (قال) موسى: (ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا، قال) الخضر: (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) الخضر،
[الكهف: 69 - 71]. قَال: انْتَحَى عَلَيهَا. قَال لَهُ مُوسَى، عليه السلام:{أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيئًا إِمْرًا (71) قَال أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَال لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)} [الكهف: 71 - 72 - 73]، فَانْطَلَقَا حَتى إِذَا لَقِيَا غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ. قَال: فَانْطَلَقَ إِلَى أَحَدِهِمْ بَادِيَ الرَّأيِ فَقَتَلَهُ، فَذُعِرَ عِنْدَهَا مُوسَى، عليه السلام، ذَعْرَةَ مُنْكَرَةً. {قَال أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً
ــ
(قال) النبي صلى الله عليه وسلم أو الراوي في تفسير خرقها (انتحى) أي اعتمد الخضر واستند (عليها) أي على السفينة بثقل جسمه وقصد خرقها، والانتحاء في الأصل اعتماد الإبل في سيرها على أيسرها كما في القاموس، ولعل المراد أن الخضر عليه السلام اعتمد على لوح من ألواح السفينة باحد جانبيه لينفصل عنها بثقل جسمه والله أعلم (قال له موسى عليه السلام: أخرقتها لتنرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرًا) أي ضعيف الحجة، يقال رجل إمر أي ضعيف الرأي ذاهبه يحتاج إلى أن يؤمر، قال مجاهد: منكرًا، وقال مقاتل: عجبًا، وقال الأخفش: يقال أمر أمره يأمر أمرًا إذا اشتد، والاسم: الإمر بكسر الهمزة قال الراجز:
لقد لقي الأقران مني نكرًا
…
داهية دهياء إذا إمرًا
وفيه من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بفساد بعضه (قال) الخضر لموسى:(ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا، قال) موسى: (لا تؤاخذني بما نسيت) أي بنسياني وسهوي عهدك، فما مصدرية في تأويل المصدر مع فعلها (ولا ترهقني من أمري عسرًا) أي لا تكلفني ما لا أقدر عليه من التحفظ عن السهو (فانطلقا حتى إذا لقيا غلمانًا يلعبون) بين القريتين (قال) النبي صلى الله عليه وسلم:(فانطلق) الخضر (إلى أحدهم) وقوله: (بادي الرأي) ظرف لقوله: (فقتله) أي ذهب إلى أحدهم مسارعًا فقتله بادي الرأي أي في أول الأمر من غير تفكر ولا تأمل ولا تحقق رأي، وبادي يجوز فيه الهمز وتركه والمعنى عند الهمز أول الرأي وعند تركه ظاهر الرأي أي انطلق إليه مسارعًا إلى قتله من غير فكر (فذُعر) على صيغة المبني للمفعول أي فزع (عندها) أي عند تلك الفعلة التي هي قتله الغلام أي فزع (موسى عليه السلام) عند تلك القتلة (ذعرة منكرة) أي فزعًا شديدًا ودهش دهشًا شديدًا وعند ذلك لم يتمالك موسى أي بادر بالإنكار تاركًا للاعتذار، فـ (قال: أقتلت) يا خضر (نفسًا زاكية) أي طاهرة من الذنب
بِغَيرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيئًا نُكْرًا}. فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عِندَ هَذَا المَكَانِ "رَحْمَةُ اللهِ عَلَينَا وَعَلَى مُوسَى، لَولا أنهُ عَجَّلَ لَرَأَى العَجَبَ. وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ. {قَال إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي
ــ
(بغير) مقابلة (نفس) قتلتها تلك المقتولة هذه قراءة العامة وقرأ الكوفيون وابن عامر (زكية) بغير ألف وتشديد الياء، قال ثعلب: الزكية أبلغ، قال أبو عبيد: الزكية في الدين والزاكية في البدن، قال الكسائي: هما بمعنى واحد كقاسية وقسية، وقال ابن عباس: مسلمة، وقال أبو عمر: الزاكية التي لم تذنب قط والزكية التي أذنبت ثم تابت، وقال ابن جبير: يريد على الظاهر، وقوله:(بغير نفس) يعني لم تقتل نفسًا فتستحق القتل قصاصًا اهـ من المفهم، والله (لقد جئت) وفعلت يا خضر (شيئًا نكرًا) أي منكرًا فاحشًا أشد الفحش (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند) ما وصل (هذا المكان) من القصة (رحمة الله علينا وعلى موسى) عليه السلام، قال النووي: فيه استحباب ابتداء الإنسان بنفسه في الدعاء وشبهه من أمور الآخرة، وأما أمور الدنيا فالأدب فيها الإيثار وتقديم غيره على نفسه اهـ (لولا أنه) أي أن موسى (عجّل) الإنكار على الخضر، فلولا حرف امتناع لوجود، وجملة عجل خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء لأن لولا تلازم المبتدأ والخبر محذوف وجوبًا لقيام جواب لولا مقامه، وجملة قوله: الرأى) موسى (العجب) من أمور الخضر، جواب لولا، واللام رابطة لجواب لولا، والتقدير لولا تعجيل موسى الإنكار على الخضر المستلزم للفراق بينهما موجود لرأى موسى من شؤون الخضر الأمور العجيبة والأفعال الغريبة، وجملة لولا من شرطها وجوابها مقول لقال (ولكنه) أي ولكن موسى (أخذته) وهيجته على الإنكار (من صاحبه) يعني الخضر (ذمامة) بفتح الذال المعجمة، الجار والمجرور في قوله من صاحبه صفة لذمامة مقدمة عليه أي ولكن موسى هيجته على الإنكار ذمامة واقعة من صاحبه أي مخالفة لظاهر الشرع واقعة من الخضر بقتل النفس الزكية والذمامة الاستحياء من كثرة مخالفته للشرع، وقيل: ملامة على ترك إنكار المنكر على صاحبه، والأول أظهر وأشهر، وذكر عياض في بعضهم أن الذمامة هنا من الذمام جمع ذمة وهو ما كان شارطه عليه من الفراق (قال) موسى للخضر: إن سألتك عن شيء) مما فعلته (بعدها) أي بعد هذه الفعلة يعني قتل الغلام (فلا تصاحبني) أي فلا تتركني صاحبًا لك بل فارقني، قال القرطبي:
قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76]، وَلَوْ صَبَرَ لَرَأى العَجَبَ -قَال: وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الأَنْبِيَاءِ بَدَأ بِنَفْسِهِ "رَحمَةُ اللهِ عَلَينَا وَعَلَى أَخِي كَذَا، رَحْمَةُ اللهِ عَلَينَا"- فَانْطَلَقَا حَتى إِذَا أتَيَا أَهْلَ قَريَةٍ لِئَامًا فَطَافَا فِي الْمَجَالِسِ فَاسْتَطعَمَا أَهْلَهَا، {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَال لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيهِ
ــ
هذا القول أبرزه من موسى إستحياؤه من كثرة المخالفة للشرع وتهديده لنفسه عند معاودتها للاعتراض عليه بالمفارقة اهـ من المفهم (قد بلفت) وحصلت (من لدني) أي من جهتي (عذرًا) أي سببًا تعتذر به في فراقي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ولو صبر) موسى على مخالفته الشرع وترك الإنكار عليه (لرأى) من شؤون الخضر وأفعاله الغريبة (العجب) أي الأمور العجيبة التي يتعجب منها كل من رآها أو سمعها (قال) أبي بن كعب رضي الله عنه: (وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا ذكر أحدًا من الأنبياء) بالرحمة والدعاء (بدأ بنفسه) الشريفة فيقول: (رحمة الله علينا وعلى أخي كذا) أي فلان فكذا اسم مبهم يكنى به عن الأسماء في محل الجر بدل من أخي، بدل كل من كل مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا نظر إلى أصله وإلا فهو محكي مجرور بكسرة مقدرة للحكاية، وقوله ثانيًا:(رحمة الله علينا) توكيد لفظي للأول (فانطلقا) أي انطلق الخضر وموسى عليهما السلام بعد قتل الغلام يتماشيان (حتى (ذا أتيا أهل قرية لئامًا) صفة لأهل، جمع لئيم ككريم وكرام، واللئيم هو من كان دنيء النسب خسيس الحسب، والفاء في قوله:(فطافا) زائدة في جواب إذا أي طاف الخضر وموسى عليهما السلام (في المجالس) أي في مجالسهم ومحافلهم طلبًا للضيافة والإطعام أي طافا ودارا وجالا عليهم في مجالسهم (فاستطعما) معطوف على طافا أي طلبا الإطعام من (أهلها) أي من أهل تلك القرية فابوا أي أبي وامتنع أهلها من (أن يضيفوهما) أي من أن يعطوا لهما حق الضيافة، ذكر بعض العلماء أن إضافة المسافرين كان واجبًا في شرعهم فلما تركوا هذا الوجب استحقوا الملامة، وذهب آخرون إلى أن الإطعام لمان لم يكن واجبًا عليهم فإن قرى الضيف من مكارم الأخلاق لا يمنعه إلا اللئام، ولهذا وصفهم باللؤم والله أعلم اهـ من التكملة.
(فوجدا) أي فوجد الخضر وموسى عليهما السلام (فيها) أي في تلك القرية (جدارًا يريد أن ينقض) أي يوشك أن يسقط لتقادم زمانه (فأقامه) أي فأقام الخضر ذلك الجدار ونصبه بالإشارة إليه بيده (قال) موسى للخضر: (لو شئت لاتخدت عليه
أَجْرًا (77) قَال هَذَا فِرَاقُ بَينِي وَبَينِكَ} [الكهف: 77 - 78] وَأَخَذَ بِثَوْبِهِ. قَال: {بِتَأْويلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 78 - 79]. إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَإِذَا جَاءَ الذِي يُسَخِّرُهَا وَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً فَتَجَاوَزَهَا فَأَصْلَحُوهَا بِخَشَبَةٍ. وَأَمَّا الْغُلامُ فَطُبعَ يَوْمَ طُبعَ كَافِرًا. وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيهِ. فَلَوْ أَنهُ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا
ــ
أجرًا، قال) الخضر لموسى:(هذا) الوقت وقت يحصل فيه (فراق بيني وبينك، وأخذ) الخضر (بثوبه) لمفارقة موسى أو المعنى وأخذ الخضر بثوب موسى ليبين له ما أشكل عليه قبل مناجزة الفرات، و (قال) لموسى:(سأنبئك بتأوبل ما لم تستطع عليه صبرًا، أما السفينة) التي خرقتها (فكانت لمساكين يعملون في البحر) اقرأ (إلى آخر الآية) يعني قوله فأردت أن أعيبها، قال القرطبي: القراءة المتواترة بتخفيف السين جمع مسكين سموا بذلك شفقة عليهم، وقرأها ابن عباس بتشديدها جمع مساكٍ سموا بذلك لإمساكهم السفينة وملازمتهم لها، قيل: كانوا عشرة خمسة يعملون في البحر وخمسة زمناء (فإذا جاء) الملك (الذي يسخرها) أي يسخر السفينة ويغصبها ويأخذها والمراد بالذي يسخرها الملك الذي كان يغصب السفن من ملاكها، وقوله:(جاء الذي يسخرها) من التسخير وهو جعل الشيء مطيعًا له ومنقادًا ومذللًا يقال: سخر فلانًا إذا ذلله وكذلك تكليف شخص على عمل بلا أجرة يسمى تسخيرًا يقال: سخره إذا كلفه عملًا بلا أجرة، والمراد بالتسخير هنا الأخذ والضبط بلا بدل والله أعلم اهـ دهني (وجدها منخرتة) أي مخروقة غير صحيحة (فتجاوزها) أي فيجاوزها ويمر عليها بلا أخذ لها بكونها غير صالحة (فـ) إذا جاوزها ومر عليها (فأصلحوها) بلفظ الماضي أي أصلح أهل السفينة السفينة (بـ) سد خرقها بـ (خشبة) ولوحة وانتفعوا بها (وأما الغلام) الذي قتلته (فطُبع) أي خُلق قلبه (يوم طُبع) أي يوم خُلق جسمه (كافرًا) أي على صفة قلب كافر من القسوة والجهل وحب الفساد (وكان أبواه قد عطفا) وأشفقا (عليه) وأحباه (فلو أنه أدرك) وبلغ (أرهقهما) أي كلفهما (طغيانًا وكفرًا) أي حملهما على الطغيان والكفر وألحقهما بهما والمراد بالطغيان هنا الزيادة في الضلال والتمرد فيه، قوله:(وكان أبواه قد عطفا عليه) أي أحباه وأقبلا عليه بشفقتهما وحنوّهما فخاف الخضر لما أعلمه الله تعالى بمآل حاله أنه إن عاش لهما حتى يكبر ويثقل بنفسه جبلهما بحكم محبتهما له أن يطيعاه ويوافقا على ما يصدر منه من
{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَينِ يَتِيمَينِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ} [الكهف: 81 - 82]. إِلَى آخِرِ الآيَةِ
ــ
الكفر والفساد فيكفران بذلك، وقوله:(فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه) أي ولدًا خيرًا لهمما من هذا الغلام (زكاة) أي نماء وصلاحا ودينا ونصبه على التمييز (وأقرب) أي وأوصل (رحمًا) بضم الراء وسكون الحاء بمعنى رحيما بفتح الراء وكسر الحاء، فالمراد بالزكاة هنا معناها اللغوي هو الطهارة والمقصود بها الإسلام أو صلاح الأعمال، وبالرحم الرحمة لوالديه، وبزهما، وقيل: المراد أنهما يرحمانه، وذكر الحافظ في الفتح عن الأصمعي أن الرحم بكسر الحاء القرابة وبسكونها الفرج وبضمها الرحمة، وذكر بعض العلماء أنه أبدلهما الله بنتًا صالحة، قال القرطبي: وحُكي عن ابن عباس أنهما رُزقا جارية ولدت نبيًّا، وقيل: كان من نسلها سبعون نبيًّا، وأخرج النسائي من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أبدلهما جارية فولدت نبيًّا من الأنبياء، وذكر السدي أن اسم هذا النبي شمعون واسم أمه حنة، أخرجه ابن أبي حاتم وعند ابن مردويه من حديث أبي بن كعب أنها ولدت غلامًا يعني أبدلهما الله تعالى غلامًا ولكن إسناده ضعيف اهـ فتح الباري [8/ 421] قال القرطبي: ويفيد هذا الحديث تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعًا من الأكباد، ومن سلّم للقضاء سفرت عاقبته عن اليد البيضاء اهـ (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) اسمهما أصرم وأصيرم، وقد تقدم أن اليتم في الناس من قبل فقد الأب وفي غيرهم من الحيوان من قبل الأم اهـ من المفهم (وكان تحته) أي تحت ذلك الجدار (كنز لهما) وظاهر الكنز أنه مال مكنوز أي مجموع، وقال ابن جبير: كان ذلك الكنز صُحف العلم، وقال ابن عباس: كان لوحًا من ذهب مكتوبًا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟ عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟ عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل؟ عجبت لمن يعرف بالدنيا وتقليبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله (وكان أبوهما صالحًا) قال أهل التفسير: إنه كان جدهما السابع وكان يسمى كاسحًا ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه، وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذويه وعلى هذا يدل قوله تعالى:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} [الأعراف / 196] اقرأ (إلى آخر الآية) يعني قوله. إلخ (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) أي قوتهما وهو
6011 -
(00)(00) وحدثنا عَبْدُ اللهِ بن عَبْدِ الرحْمَنِ الدَّارِمِي. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ. ح وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ. أَخْبَرَنَا عُبَيدُ اللهِ بْنُ مُوسَى. كِلاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أبِي إِسْحَاقَ، بِإسْنَادِ التَّيمِيِّ، عَنْ أبِي إِسْحَاقَ، نَحوَ حَدِيثِهِ.
6012 -
(00)(00) وحدثنا عَمرو النَّاقِدُ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَينَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ،
ــ
ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقد أضاف الخضر قضية استخراج كنز الغلامين إلى الله وأضاف عيب السفينة إلى نفسه تنبيهًا على التأدب في إطلاق الكلمات على الله تعالى فيضاف إليه ما يستحسن ويطلق عليه ولا يضاف ما يستقبح منها إليه تعالى اهـ من المفهم.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه فقال:
6011 -
(00)(00)(وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي) السمرقندي (أخبرنا محمد بن يوسف) بن واقد الضبي الفريابي نسبة إلى فرياب مدينة ببلاد ترك، ثقة، من (9) روى عنه في (6) أبواب (ح وحدثنا عبد بن حميد) الكسي، ثقة، من (11)(أخبرنا عبيد الله بن موسى) العبسي الكوفي، ثقة، من (9) روى عنه في (7) أبواب كلاهما) أي كل من محمد وعبيد الله رويا (عن إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، ثقة، من (7) روى عنه في (8) أبواب (عن) جده (أبي إسحاق) السبيعي، ثقة، من (3) أي روى إسرائيل عن جده (بإسناد) سليمان (التيمي عن أبي إسحاق) يعني عن رقبة، غرضه بيان متابعة إسرائيل لسليمان التيمي في الرواية عن رقبة بن مصقلة عن أبي إسحاق، وساق إسرائيل (نحو حديثه) أي نحو حديث سليمان التيمي والله أعلم.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثالثًا في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: 6012 - 6012 - (00)(00)(وحدثنا عمرو) بن محمد بن بكير (الناقد) البغدادي (حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو) بن دينار الجمحي المكي (عن سعيد بن جبير) الوالبي الكوفي
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعبٍ؛ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ:{لَاتَّخَذْتَ عَلَيهِ أَجْرًا} .
6118 -
(174) حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ عُبَيدِ اللهِ بْنِ عَبدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاس؛ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، عليه السلام. فَقَال ابْنُ عَبَّاس: هُوَ الْخَضِرُ. فَمَرَّ بِهِمَا أُبَي بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ. فَدَعَاهُ
ــ
(عن ابن عباس عن أبي بن كعب) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ لتخذت عليه أجرًا) وهذا السند من سداسياته، غرضه بيان متابعة عمرو بن دينار لأبي إسحاق السبيعي. وقوله:(لتخذت) على وزن سمعت من باب فعل المكسور المتعدي وهو لغة في اتخذت.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة رابعًا في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه فقال:
6013 -
(00)(00)(حدثني حرملة بن يحيى) بن عبد الله التجيبي المصري (أخبرنا) عبد الله (بن وهب) القرشي المصري (أخبرني يونس) بن يزيد الأموي الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري المدني (عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود) الهذلي المدني، ثقة، من (3)(عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (أنه) أي أن ابن عباس (تمارى) وتنازع (هو) أي ابن عباس، وأتى بالضمير تأكيدًا لضمير الفاعل ليعطف عليه قوله:(والحرّ) بضم الحاء وتشديد الراء (بن قيس بن حصن الفزاري) ابن أخي عيينة بن حصن ذكره ابن السكن في الصحابة له ذكر في بعض الأحاديث، وفي الصحيح أنه كان ممن يدنيهم عمر رضي الله عنه اهـ من الإصابة وفتح الباري، أي تماريا وتجادلا (في صاحب موسى) بن عمران (عليه السلام) هل ذلك الصاحب هو الخضر أم غيره (فقال ابن عباس هو) أي صاحب موسى هو (الخضر، فمر بهما) أي على ابن عباس والحر بن قيس (أبي بن كعب الأنصاري) المدني رضي الله عنه. وهذا السند من سباعياته، غرضه بيان متابعة عبيد الله بن عبد الله لسعيد بن جبير (فدعاه) أي فدعا أبي بن كعب (ابن
ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَال: يَا أبَا الطفَيلِ، هَلُمُّ إِلَينَا، فَإِني قَدْ تَمَاريتُ أنا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأنهُ. فَقَال أُبَيُّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَينَمَا مُوسَى فِي ملإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. إِذ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَال مُوسَى: لَا. فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى: بَلْ عَبْدُنَا الْخَضِرُ. قَال: فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ. فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الْحُوتَ آيةَ. وَقِيلَ لَهُ: إِذَا افْتَقَدتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ،
ــ
عباس، فقال) ابن عباس لأبي بن كعب:(يا أبا الطفيل) كنية أبي بن كعب (هلم) أي تعال (إلينا فإني قد تماريت) وتنازعت (أنا وصاحبي هذا) يعني الحر بن قيس (في صاحب موسى الذي سأل) موسى ربه (السبيل) أي الطريق الموصلة له (إلى لقيه) أي إلى لقاء ذلك الصاحب (فهل سمعت) يا أبا الطفيل (رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه) أي شأن ذلك الصاحب وقصته مع موسى (فقال أبي) بن كعب: نعم (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول بينما موسى) بن عمران (في ملأ) أي في جماعة (من بني إسرائيل إذ جاءه) أي جاء موسى (رجل) منهم (فقال) الرجل (له) أي لموسى (هل تعلم) يا موسى (أحدًا) من الناس (أعلم) أي أكثر علمًا (منك؟ قال موسى: لا) أي لا أعلم أحدًا أعلم مني، وهذا نفي لعلمه لا نفي الأعلم (فأوحى الله) تعالى (إلى موسى، بل عبدنا الخضر) أعلم منك (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فسأل موسى) ربه (السبيل) أي الطريق الموصلة (إلى لقيه) أي إلى لقاء ذلك العبد الأعلم، وهو مصدر بمعنى اللقاء نظير عصى عصيا أصله لقوى على وزن دخول فاعل فصار لقيًا أي إلى لقائه ووصوله إليه (فجعل الله) سبحانه (له) أي لموسى (الحوت) أي فقدان الحوت المملح (آية) أي علامة على موضع الخضر، وجملة قوله:(وقيل له) أي لموسى من جهة الله معطوفة على جملة جعل عطف تفسير أي وقيل لموسى بالوحي (إذا افتقدت الحوت) وافتعل هنا بمعنى الثلاثي أي إذا فقدت الحوت الذي أخذته زادًا (فارجع) إلى ورائك (فإنك ستلقاه) أي تلقى الخضر وتراه في الموضع الذي فقدت فيه الحوت (فسار موسى) مع فتاه بعدما ناما عند الصخرة في ساحل البحر قدر (ما شاء الله أن يسير) هو من الزمن والمسافة أي سارا بعدما رقدا عند الصخرة بقية يومهما وليلتهما (ثم) بعدما أصبحا من
فَسَارَ مُوسَى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسِيرَ. ثُم قَال لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا. فَقَال فَتَى مُوسَى، حِينَ سَأَلَهُ الغَدَاءَ:{أَرَأَيتَ إِذْ أَوَينَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلا الشَّيطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]. فَقَال مُوسَى لِفَتَاهُ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]. فَوَجَدَا خَضِرًا. فَكَانَ مِنْ شَأنِهِمَا مَا قَصَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ".
إلَّا أن يُونُسَ قَال: فَكَانَ يَتَّبعُ أَثَرَ الحُوتِ فِي الْبَحْرِ
ــ
تلك الليلة (قال لفتاه) يوشع بن نون: (آتنا غداءنا) لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا (فقال فتى موسى) لموسى (حين سأله) موسى (الغداء أرأيت) أي أخبرني (إذ أوينا إلى الصخرة) أي حين نزلنا عند الصخرة ورقدنا هناك (فإني نسيت الحوت) هناك (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره فقال موسى لفتاه ذلك) أي فقدان الحوت بسبب نسيانك (ما كنا نبغي) ونطلب في سفرنا هذا أي علامة على موضع الرجل الأعلم الذي كنا نطلبه في سفرنا هذا (فارتدا) على رجعا (على آثارهما) وأعقابهما وقصا أي تتبعا آثارهما (قصصًا) أي تتبعا حتى وصلا إلى الصخرة (فوجدا خضرًا) عند الصخرة (فكان من شأنهما) أي من شأن موسى والخضر أي حصل من أمرهما (ما قص الله) سبحانه وأخبر لنا (في كتابه) الكريم من قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} إلى قوله: {ذَلِكَ تَأْويلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيهِ صَبْرًا} (إلا أن يونس) بن يزيد (قال) أي زاد في روايته بعد قوله: (فارتدا على آثارهما قصصًا) أي زاد لفظة (فكان) موسى (يتبع) أي يطلب (أثر الحوت) ومسلكه (في البحر) وينظر إليه عجبًا منه والله سبحانه وتعالى أعلم.
وذكر الحافظ في الفتح [8/ 422] بعض فوائد مستنبطة من هذا الحديث، منها استحباب الحرص على زيادة العلم والرحلة فيه ولقاء المشايخ وتجشم المشاق في ذلك والاستعانة في ذلك بالأتباع واستخدام الحر وطواعية الخادم لمخدومه وعذر الناس وقبول الهبة من غير مسلم، وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضرر بأخفها فمقيد بما لا يعارض منصوص الشرع فلا يجوز الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسًا كثيرة قبل أن يقدم على ذلك وإنما فعل ذلك الخضر لإطلاع الله تعالى إياه على ذلك، وفي القصة جواز الإخبار عن التعب وما يلحق بالمرء من مرض أو ألم بشرط أن لا يكون سخطًا من المقدور، ومنها أن المتوجه إلى ربه يُعان فلا يسرع إليه النصب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والجوع، وفيها حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه وما يستهجن ذكره وإن كان الكل بتقديره وخلقه لقول الخضر عن السفينة فأردت أن أعيبها، وقال عن الجدار فأراد ربك والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب إلا حديث أبي بن كعب ذكره للاستدلال به على الترجمة وذكر فيه أربع متابعات والله أعلم.
وصلت في هذا الكتاب إلى هنا قبيل المغرب في تاريخ 6/ 7 / 1427 هـ.