الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُخَالَفَتِهِمْ لِمَا أُمِرُوا بِهِ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَمِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النِّسَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُنَّ إذَا كَانَتْ حَائِضًا لَا تَكْتَالُ الْقَمْحَ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَلَا تَحْضُرُ مَوْضِعَهُ لِأَجْلِ حَيْضِهَا، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الدَّوَاءَ لَا يَغْسِلُ الْآنِيَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الدَّوَاءُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَبِدَعٌ أَخْتَرَعْنَهَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِنَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ
[فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ وَاسْتِنَابَتِهِ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ]
َ ثُمَّ نَرْجِعُ لِذِكْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَالِمُ فِي تَصَرُّفِهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ فِي حَمْلِ سِلْعَتِهِ بِيَدِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ عَاقَهُ عَنْ ذَلِكَ عَائِقٌ شَرْعِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ مَنْ لَهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ ذَلِكَ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَبْحَثُ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَالْأَحْكَامِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الدُّرُوسِ وَيَسْتَدِلُّ وَيُجِيزُ وَيَمْنَعُ وَيَكْرَهُ فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ أَرْسَلَ إلَى السُّوقِ مَنْ يَقْضِي لَهُ الْحَاجَةَ صَبِيًّا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ عَجُوزًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَفِي السُّوقِ الْيَوْمَ مَا قَدْ عُهِدَ وَعُلِمَ مِنْ جَهْلِ أَكْثَرِ الْبَيَّاعِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ فِي سِلَعِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَفِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا جُمْلَةً. فَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الكشكاك وَالْمُحَبَّبَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوهًا مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي فِيهِمَا إنْ كَانَ لَحْمُ الْبَقَرِ الْيَوْمَ فَهُوَ مُمَكَّسٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شِرَائِهِ إلَّا مِنْ الْمَكَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِإِعَانَةِ الْمَكَّاسِ بِالشِّرَاءِ
مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا إذْ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ ضَمِنَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ يَتَحَرَّى ذَلِكَ لَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ وَفَسَدَ عَلَى الْمَكَّاسِ مُرَادُهُ. هَذَا إنْ كَانَ شِرَاؤُهُ فِي غَيْرِ النَّيْرُوزِ.
وَأَمَّا فِي النَّيْرُوزِ فَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ لِشِرَاءِ لَحْمِ الْبَقَرِ مُطْلَقًا لِزِيَادَةِ تَعْظِيمِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى زَعْمِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِمْ فِي النَّيْرُوزِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا وَجْهٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي مَا يَدْخُلُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْمُغَابَنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ اللَّحْمَ وَالدُّهْنَ أَكْثَرَ مِنْ الْقَمْحِ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ الْقَمْحَ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ وَالدُّهْنِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَالْجَهَالَةُ فِي ذَلِكَ حَاصِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ وَزْنُ اللَّحْمِ وَالدُّهْنِ وَلَا كَمْ وَزْنُ الْقَمْحِ لِإِمْكَانِ إعْطَاءِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْهَرِيسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا إذْ أَنَّ اللَّحْمَ وَالْقَمْحَ صَارَا مَعًا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطَى أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ وَلَا أَقَلَّ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَكِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ جِهَةِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ سَلِمَ اللَّحْمُ مِنْ الْمَكْسِ فَهِيَ جَائِزَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ فَيُمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّصَارَى فَيُحَذِّرُ الْعَالِمُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعَالِمُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ صَارَ هَذَا الْأَمْرُ الْيَوْمَ بَيْنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فَتَرَاهُمْ يَوْمَ النَّيْرُوزِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْهُمْ بِالزُّبْدِيَّةِ فِي يَدِهِ لِشِرَاءِ الْهَرِيسَةِ وَمِنْ فَاتَتْهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَكَأَنَّهُ فَاتَهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا أَشْتَرِي الكشكاك وَالْمُحَبَّبَةَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِذَا حَصَلَ فِي الْوِعَاءِ وَعَايَنْته أَخَذْته مِنْهُ جِزَافًا إذْ أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْجِزَافَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَمَّا أَنْ دَخَلَهُ الْوَزْنُ قَبْلَ شِرَائِهِ مِنْهُ جِزَافًا انْتَفَتْ الْجَهَالَةُ لِعِلْمِهِمَا بِحَمْلَتِهِ وَزْنًا وَبَقِيَتْ الْجَهَالَةُ وَالْمُغَابَنَةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَيُمْنَعُ
شِرَاؤُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً فَيُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَالِمٌ بِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِغْرَفَةَ الَّتِي بِيَدِهِ يَعْلَمُ بِهَا مِقْدَارَهُ وَزْنًا فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَغْرِفَ لَهُ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ لَحْمِ السَّمِيطِ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَالشِّوَاءُ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} [الأنعام: 145] قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ الْبُرْمَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الصُّفْرَةَ لَتَعْلُوَهَا مِنْ الدَّمِ انْتَهَى. تَعْنِي بِتِلْكَ الصُّفْرَةِ فَضْلَةَ مَا فِي الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَهُوَ غَيْرُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَهُمْ الْيَوْمَ يَذْبَحُونَ فَيَخْرُجُ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فَتَتَخَبَّطُ الذَّبِيحَةُ فِيهِ وَيَمْتَلِئُ رَأْسُهَا وَبَعْضُ جِلْدِهَا.
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُمْ ذَبَائِحُ جُمْلَةٌ أَلْقَوْا ذَلِكَ فِي دَسْتٍ وَاحِدٍ فِيهِ مَاءٌ يَغْلِي فَيَحِلُّ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ كُلَّهُ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَكَيْ يُنْتَفَ لَهُمْ الصُّوفُ وَهُوَ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَمْتَلِئَ الْأَعْضَاءُ الْبَاطِنَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَتَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ مَعَ أَنَّ حَلْقَهَا مَفْتُوحٌ وَدُبُرَهَا فَتَدْخُلُ النَّجَاسَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَتَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا أَخَذُوا الصُّوفَ وَعَلَّقُوا الذَّبِيحَةَ فِي مَوْضِعٍ وَقَدْ تَمَكَّنَتْ النَّجَاسَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا مِنْهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَيُطَهِّرُونَهَا عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتُمَسُّ النَّجَاسَةُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتَجْمُدُ فِي بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ وَالْمَسَامِّ فَيَبْقَى مُتَنَجِّسًا فِي الشَّاهِدِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ ثُمَّ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَيَبِيعُونَهُ فِيهِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ تِلْكَ النَّجَاسَاتِ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ بِهِ مَاءً قَرَاحًا لَكَانَ فِيهِ شَبَهُ مَا فِي التَّطْهِيرِ فَكَيْفَ وَالْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ بِهِ فِي الْغَالِبِ تَرَاهُ مُتَغَيِّرًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا.
وَالشِّوَاءُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَمِيطٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ أَوْ يَبِيعَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَوَامُّ النَّاسِ لَكَانَ مَذْمُومًا وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى حَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ وَيُرْسِلُ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بَلْ يُبَاشِرُ بَعْضُهُمْ شِرَاءَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مَعَ مَنْ لَهُ أَمْرٌ لَكَانَ يُغَيِّرُهُ بِأَيْسَرَ شَيْءٍ إذْ أَنَّهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ فِي أَنْ يَغْسِلُوا الْمَنْحَرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُدْلُونَهُ فِي الدَّسْتِ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَشَقَّةٍ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ مَوْجُودَةً لَوَجَبَ فِعْلُهَا لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى التَّسَاهُلِ فِي ارْتِكَابِ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ إلَّا أَنَّهَا عَادَةٌ اُتُّخِذَتْ وَوَقَعَ التَّسَامُحُ فِيهَا لِغَفْلَةِ بَعْضِ مَنْ غَفَلَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ لَهُمْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ.
وَهَذَا بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْبَيْضَ الْكَثِيرَ إذَا صُلِقَ وَوُجِدَتْ فِيهِ بَيْضَةٌ فِيهَا فَرْخٌ فَإِنَّ الْبَيْضَ كُلَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَا يُؤْكَلُ إذْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ مَعَ أَنَّ قِشْرَةَ الْبَيْضِ لَيْسَ لَهَا مَسَامُّ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فِيهَا شَيْءٌ أَوْ يَخْرُجَ فَمَا بَالُك بِاللَّحْمِ الَّذِي بَاشَرَ الدَّمَ الْعَبِيطَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ غَسْلِهِمْ لَهُ أَنَّهُمْ يَغْسِلُونَهُ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ مِمَّا تَعُمُّ فِي الْغَالِبِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَذْبَحُونَ فِيهِ مُسْتَدْبَرٌ فَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ الَّذِي يَكُونُ ذَبْحُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَمِنْ تَعَمَّدَ الذَّبْحَ إلَى غَيْرِهَا فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً يُكْرَهُ أَكْلُ الْمَذْبُوحِ بِسَبَبِ تَرْكِهَا، وَسَبَبُ وُجُودِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا تَرْكُ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ وَتَرْكُ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ مَبْدَأِ أَمْرِهَا فَاسْتَحْكَمَتْ الْمَفَاسِدُ وَمَضَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ فَيُطْعِمُونَ النَّاسَ الطَّعَامَ الْمُتَنَجِّسَ وَأَجَازُوا بَيْعَهُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَالسُّكُوتِ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الْعَامَّةُ فَبِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَبِالْكَلَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ
فِي هَذَا كَبِيرُ أَمْرٍ.
وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ خُصُوصًا عَلَى أَرْبَاب الْأُمُورِ وَعَلَى مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّهُمْ يَعْجِنُونَ التُّرَابَ الَّذِي يَسُدُّونَ بِهِ التَّنُّورَ الَّذِي فِيهِ الذَّبَائِحُ بِالْمَاءِ الَّذِي صَارَ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ فَيَتَنَجَّسُ التُّرَابُ بِهِ إنْ كَانَ طَاهِرًا وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَيُضِيفُونَ نَجَاسَةً إلَى مِثْلِهَا فَإِذَا أَحَسَّ بِحَرَارَةِ النَّارِ عَرِقَ وَقَطَرَ مِنْهُ عَلَى الشِّوَاءِ وَغَيْرِهِ مَا يُنَجِّسُهُ ظَاهِرًا أَنْ لَوْ كَانَ طَاهِرًا فَكَيْف وَبَاطِنُهُ مُتَنَجِّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَكَذَلِكَ يَقْطُرُ فِي نَفْسِهِ هُوَ وَالشِّوَاءُ عَلَى الْجَذَّابَةِ الَّتِي تَحْتَهُ فَتَتَنَجَّسُ بِذَلِكَ فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ مُتَنَجِّسًا، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ مَرْئِيٌّ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْرِجُونَهُ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَكَذَلِكَ تَعَدَّتْ هَذِهِ النَّجَاسَةُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَذْبَحُونَ الدَّجَاجَ وَغَيْرَهُ وَيَأْتُونَ بِهِ إلَى الْمَسْمَطِ فَيُدْلُونَهَا فِي الْمَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَتَنَجَّسُ كُلُّ ذَلِكَ.
وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ انْضَمَّ إلَيْهِ مُحَرَّمٌ آخَرُ اتِّفَاقًا وَهُوَ إضَاعَةُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَا تَنَجَّسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عُمِلَ بِتِلْكَ الدَّجَاجَةِ الْمَسْمُوطَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَغَيْرِهَا مِنْ السَّمِيطِ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ فِي الْبُيُوتِ أَوْ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ أَوْ عِنْدَ الطَّبَّاخِينَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ كُلُّهُ مُتَنَجِّسًا لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَيَجِبُ غَسْلُ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا نِيئًا كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا وَيَغْسِلُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ مِنْ بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ مَكَان أَوْ وِعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ النَّجَاسَةُ مِثْلُ السُّمِّ يَعْنِي فِي سُرْعَةِ سَرَيَانِهَا وَأَنْتَ تَرَى ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بَعْدَ تَطْهِيرِهِ، وَاللَّحْمُ وَالْأَطْعِمَةُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهَا وَلَا بَيْعُهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ اللَّحْمَ بَعْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا عُمِلَ فِيهِ وَلَا تَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى بَاطِنِهِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يَرُدُّهُ الشَّاهِدُ؛ لِأَنَّك إذَا عَمِلْت اللَّحْمَ فِي مَاءٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مِلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَاءِ مِلْحٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ أَوْ فُلْفُلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ تَجِدُ طَعْمَهُ
فِي اللَّحْمِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي قَلْبِ الْقِطْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ. فَإِنْ قِيلَ إنَّ طَعْمَ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا بَعْدَ النُّضْجِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي اللَّحْمِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ يَغْلِي فَقَدْ سَرَى إلَى بَاطِنِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ سَوَاءٌ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ مَا أُلْقِيَ فِيهِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ قَدْ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ بَعْدَ نُضْجِهِ وَطَبْخِهِ فَيَكْفِي فِيهِ التَّطْهِيرُ بِالْمَاءِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْمَسَامِّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَهُ سَحْنُونَ فِي زَيْتُونِ مِلْحٍ ثُمَّ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَضِجَ فِي الْمِلْحِ فَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْضَجْ بَعْدُ فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ لَا يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ وَلَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَا وَقَعَ فِيهِ قَبْلَ نُضْجِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللَّحْمِ سَوَاءٌ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَدَّعِي الِاضْطِرَارَ إلَى اسْتِعْمَالِ السَّمِيطِ وَالشِّوَاءِ لِوَصْفِ طَبِيبٍ لِمَرِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ إذْ أَنَّ لَحْمَ الْمَاعِزِ مَوْجُودٌ لِلْأَصِحَّاءِ نِيئًا وَمَشْوِيًّا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ سَلِيخًا لَا سَمِيطًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ السَّمِيطِ إنْ جُعِلَ مَعَهُ فِي التَّنُّورِ أَوْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ التُّرَابِ أَوْ الطِّينِ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي يُسَدُّ بِهِ التَّنُّورُ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ لَحْمَ الضَّأْنِ الصَّغِيرِ السَّلِيخِ مَوْجُودٌ أَيْضًا. وَأَمَّا لَحْمُ السَّمِيطِ الطَّاهِرِ فَمَوْجُودٌ لِلْمَرْضَى وَلِمَنْ احْتَاجَهُ مِنْ الْأَصِحَّاءِ فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الشِّوَاءَ سَالِمًا مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ مِمَّا يَعْتَرِي الْمُسْلِمِينَ فِي سِمْطِ ذَلِكَ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ أَجْدَرَ وَأَوْلَى فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَشْنَعَهُ أَنْ يَمْتَازَ الْيَهُودُ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلرَّشَادِ بِمَنِّهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَلَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ هُوَ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَنْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا تَنَاوَلَهُ بِهِ مِثْلُ الْجَزَّارِ يَكُونُ عِنْدَهُ سَلِيخٌ أَوْ سَمِيطٌ فَإِنَّهُ إذَا مَسَّ السَّمِيطَ بِيَدِهِ أَوْ سِكِّينِهِ تَنَجَّسَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ وَاللَّحْمُ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ أَوْ سِكِّينُهُ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا
مِنْ السَّمِيطِ وَبَعْضُ مَنْ يَحْتَرِزُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ السَّمِيطِ قَدْ يَقَعُ فِي هَذَا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِ الْوِعَاءِ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ إلَى الْبُيُوتِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ مَا يُطْبَخُ فِيهَا أَوْ يُؤْكَلُ فِيهَا فَظَهَرَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّجَاسَةَ كَالسُّمِّ لِسُرْعَةِ سَرَيَانِهَا. وَأَمَّا الرُّءُوسُ فَهِيَ جَائِزَةٌ إذَا سَلِمَتْ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ فِي السَّمِيطِ وَقَدْ جُمِعَتْ الْمَفَاسِدُ الَّتِي فِي السَّمِيطِ وَزَادَتْ عَلَيْهِ الْمَكْسُ الَّذِي اُخْتُصَّتْ بِهِ دُونَ السَّمِيطِ إذْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شِرَائِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُكَّاسِ وَالْأَكَارِعُ كَذَلِكَ تَنْجِيسُهَا وَمَكْسُهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا النَّقَانِقُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا لِلْجَهَالَةِ بِمَا فِي بَاطِنِهَا. هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنْ يَشُقَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى دَاخِلَهَا كُلَّهَا وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ إذَا رَأَى وَاحِدَةً مِنْهَا وَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهَا وَأَخَذَ الْبَاقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْخُشْكِنَانِ. هَذَا لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ وَهِيَ الْآنَ مُمَكَّسَةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا إنْ كَانَ بَيْعُهَا بَعْدَ نُضْجِهَا، وَأَمَّا إنْ كَانَ يَبِيعُهَا نِيئَةً وَيَزِنُهَا لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذُهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَقْلِيهَا لَهُ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي السَّمَكِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ وَزْنًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ مَقْلُوًّا بَعْضَ قَلْيٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ نِيئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ كَذَلِكَ فَفِيهِمَا وُجُوهٌ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَلَاهُ لَهُ بَعْدَ وَزْنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا يَعْرِفُ كَمْ وَزْنُهُ بَعْدَ الْقَلْيِ فَهُوَ مَجْهُولٌ هَذَا وَجْهٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى مِنْهُ الدُّهْنَ الَّذِي قَلَاهُ لَهُ بِهِ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
الثَّالِثُ: مَا أَوْقَدَ بِهِ تَحْتَهُ كَذَلِكَ مَجْهُولٌ.
الرَّابِعُ: أُجْرَةُ قَلْيِهِ مَجْهُولَةٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَجْهُولٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ عَمِلُوا عَلَيْهِ الدَّقِيقَ كَثِيرًا لَمْ يُعْلَمْ كَمْ وَزْنُ الدَّقِيقِ وَلَا كَمْ
وَزْنُ السَّمَكِ الَّذِي يُؤْخَذُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ وَلَوْ قَلَاهُ لَهُ قَبْلَ الْوَزْنِ إذْ أَنَّ الْجَهَالَةَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ قَبْلَ الْقَلْيِ وَبَعْدَهُ فَهَذِهِ خَمْسَةُ وُجُوهٍ مِنْ الْمَوَانِعِ فَكَيْفَ يُرْتَكَبُ ذَلِكَ. وَالتَّوَصُّلُ إلَى أَكْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ شَرْعًا سَهْلٌ يَسِيرٌ بِأَنْ يُنْضِجَهُ الْبَائِعُ بِالْقَلْيِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ يَبِيعَهُ لِلْمُشْتَرِي وَزْنًا أَوْ جِزَافًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الدَّقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ يَسِيرًا مُحْتَاجًا إلَيْهِ.
وَأَمَّا الْكُبُودُ فَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ لَكَانَتْ جَائِزَةً وَهِيَ الْآنَ مُمَكَّسَةٌ فَيُمْنَعُ شِرَاؤُهَا. وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كُلُّ مَا هُوَ مُمَكَّسٌ وَيُسْتَغْنَى بِغَيْرِهِ عَنْهُ مِثْلَ النَّشَا وَالسِّمْسِمِ الْمَقْشُورِ وَلَحْمِ الْجَمَلِ وَلَحْمِ النَّعَامِ وَأَمَّا اللِّسَانُ الْبَلَدِيُّ وَالْقُدُورُ الْبَلَدِيَّةُ وَالْكِيزَانُ الْبِيضُ أَيْضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ فَكَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الشِّرَاءَ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْمُحَرَّمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَدْ اتَّصَفَ بِتَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْقُلُ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صُورَةَ الْمَكْسِ أَنْ يَحْتَكِرَ شَخْصٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ سِلْعَةً أَوْ سِلَعًا لَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَوْ غَيْرُهُمْ أَوْ مَنْ يَخْتَارُهُ أَوْ يَخْتَارُونَهُ وَإِنْ كَثُرُوا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا السِّلْعَةَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُ، وَالظُّلْمُ هُوَ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَ فَعَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا لَا يُمْتَنَعُ مِنْ شِرَائِهِ وَلَا بَيْعِهِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ إعَانَةٌ انْتَهَى. وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا يُرْضِيهِ بِمَنِّهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ.
وَأَمَّا الْمَنْفُوشُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ إذَا اشْتَرَى الْفَطِيرَ عَلَى حِدَةٍ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَاللَّطُوخُ مِثْلُهُ. وَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَيُمْنَعُ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ مُخْتَلِفَانِ فِي ذَلِكَ فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ اللَّطُوخِ أَكْثَرَ مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ أَكْثَرَ مِنْ اللَّطُوخِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الْمُغَابَنَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَمْ وَزْنُ الْفَطِيرِ وَلَا كَمْ وَزْنُ اللَّطُوخِ. وَالْبِيَاعَاتُ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَكِيلٌ وَمَوْزُونٌ
وَجُزَافٌ، وَهَذَا غَيْرُ مَكِيلٍ وَقَدْ اشْتَرَاهُ عَلَى الْوَزْنِ وَأَخَذَهُ مَجْهُولًا وَلَوْ أَخَذَهُ جُزَافًا مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ بَعْدَ تَعْيِينِ ذَلِكَ لَهُ لَمُنِعَ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَعْرِفُ مِقْدَارَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ اللَّطُوخِ غَالِبًا وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْمُحَبَّبَة وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا بَيْعُ الْفُقَّاعِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا وَذَلِكَ إذَا صَبَّ مَا فِي الْكُوزِ فِي وِعَاءٍ وَعَايَنَهُ الْمُشْتَرِي وَعَلِمَ قَدْرَهُ وَصِفَتَهُ. وَأَمَّا عَلَى مَا يَبِيعُونَهُ الْيَوْمَ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلِ أَنَّ كُوزَ الْفُقَّاعِ مِنْ الْأَوَانِي الَّتِي نُهِيَ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِيهَا مِثْلُ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ لِسُرْعَةِ التَّخْمِيرِ الَّذِي يَسْرِي إلَيْهَا بِسَبَبِ سَدِّ مَسَامِّهَا وَكُوزُ الْفُقَّاعِ كَذَلِكَ وَقَدْ يَبِيتُ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَبِيعُهُ لِلنَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَفَقَّدُهُ وَقَدْ يُسْرِعُ إلَيْهِ التَّخْمِيرُ فَيَشْتَرِيهَا الْمُشْتَرِي وَقَدْ صَارَتْ خَمْرًا هَذَا وَجْهٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَسُدُّ فَمَ الْكُوزِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَضَعُهُ عَلَى فَمِهِ فَقَدْ يَكُونُ فَمُهُ لَمْ يُسَدَّ كُلُّهُ فَيَنْزِلُ مَا فِي الْكُوزِ أَوْ بَعْضُهُ فَإِنْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا فِيهِ فَيَظُنُّهُ مَلْآنًا وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي الْمُحَقَّرَاتِ، وَهَذَا مِنْهَا فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُك وَالْمُشْتَرِي قَدْ اشْتَرَيْت أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ مِمَّا نَقَلُوهُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله فَيَجُوزُ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ إذَا فَرَغَ مَا فِي الْكُوزِ وَعَايَنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ مَوْضِعِ سُؤْرِ الْكُفَّارِ مَكْرُوهٌ وَالْفُقَّاعُ يَشْرَبُهُ النَّصْرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَكُونُ فَمُهُ مُتَنَجِّسًا فَيُنَجِّسُهُ وَقَدْ لَا يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْغُسْلَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ مَلْئِهِ ثَانِيًا ثُمَّ يَأْتِي الْمُسْلِمُ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ النَّصْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَةِ. وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ خَاصًّا بِالْفُقَّاعِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُشْبِهُهُ، مِثْلُ السِّقَاءِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْقُونَ مَنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَمَنْ تَعَافُهُ النُّفُوسُ، مِثْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ وَالْيَهُودِيِّ
وَالنَّصْرَانِيِّ ثُمَّ يَأْتِي غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَصِحَّاءِ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ ثُمَّ مَعَ هَذَا فَقَدْ عَرِيَ عَنْ أَقْسَامِ الْبِيَاعَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَلَا جُزَافٍ إذْ أَنَّ الْجُزَافَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا مَحْزُورًا يُحِيطُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي بِقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَهَذَا غَائِبٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا صِفَتُهُ وَلَا يَأْخُذُهُ حَزْرٌ فَهَذِهِ وُجُوهٌ عَدِيدَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُحَقَّرَاتِ وَغَيْرَهَا فِي شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ سَوَاءٌ إلَّا مَا اُغْتُفِرَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيهَا وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ الْمَيْلِ إلَى فَتْوَى مُفْتٍ يَطْرَأُ عَلَيْهِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ فَيَأْنَسُ بِالْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ فَيَخْرُجُ بِسَبَبِهَا عَنْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ بِسَبَبِ اسْتِمْرَارِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاءُ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَشِرَاءُ الْخُبْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وَزْنًا أَوْ جُزَافًا. وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ وَأَنْتَ تَرَى بَعْضَهُمْ يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ أَنَّهُ يَزِنُ الْخُبْزَ فَيَجِدُهُ يَشِحُّ عَنْ الْوَزْنِ فَيُخْرِجُهُ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَيُعْطِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَيَدْفَع لَهُ عِوَضًا عَمَّا نَقَصَ مِنْ وَزْنِهِ كِسْرَةً جُزَافًا فَقَدْ خَرَجَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ الْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ وَزْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ نَاقِصًا وَلَا قَدْرَ الْكِسْرَةِ الَّتِي دَفَعَهَا إلَيْهِ جُزَافًا فَقَدْ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَخَذَ مَجْهُولًا وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ فَلَوْ زَادَ الْكِسْرَةَ أَوْ الْخُبْزَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى حَقَّقَ كَمَالَ الْوَزْنِ لَكَانَ جَائِزًا وَإِنْ رَجَحَ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ لَوْ وَفَّى لَهُ الْوَزْنَ وَدَفَعَ لَهُ الْكِسْرَةَ جُزَافًا لَجَازَ وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ فِي وَزْنِ الْخُبْزِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مَجْهُولًا خَاصًّا بِهِ بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي أَكْثَرِ الْبِيَاعَاتِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي الْخُبْزِ مِنْ الْمَحْذُورِ فَلْيُحْذَرْ
مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ الثَّمَنَ مِنْ حِلِّهِ وَيَأْكُلُهُ حَرَامًا بِتَصَرُّفِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَةِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ شِرَاءِ الْمَائِعَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى يَتَدَيَّنُونَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا هِيَ دَمُ الْحَيْضِ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَا عَدَاهُ طَاهِرٌ عَلَى زَعْمِهِمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يَبُولُ فِي دُكَّانِهِ وَيَتَنَاوَلُ الْمَائِعَ وَغَيْرَهُ بِيَدِهِ وَلَا يُطَهِّرُهَا، وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ الْمَقْلُوُّ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُكْثِرُ مُبَاشَرَتَهُ لَهُ حَتَّى قَدْ يَصِلُ ذَلِكَ إلَى تَعْيِينِ النَّجَاسَةِ يَقِينًا فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا مَكْرُوهٌ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا يَأْكُلُهُ حَتَّى يَغْسِلَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ غَسْلُهُ هَذَا وَجْهٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ شِرَاءَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَكْرُوهٌ لَوْ كَانَ طَاهِرًا بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُمْ مَنْفَعَةً لَهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ أَحَقُّ بِالنَّفْعِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ بِإِعَانَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ.
وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ أَنَّ مَالِكًا ذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْبُلْدَانِ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَسْوَاقِهِمْ صَيَارِفَةً وَجَزَّارِينَ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ مَالِكٌ رحمه الله وَأَرَى لِلْوُلَاةِ أَنْ يَفْعَلُوا فِي ذَلِكَ فِعْلَ عُمَرَ. قَالَ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْصِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ دِينِهِمْ مَجْزَرَةً عَلَى حِدَةٍ وَيُنْهَوْنَ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُنْهَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُمْ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ رَجُلُ سَوْءٍ لَا يُفْسَخُ شِرَاؤُهُ وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْيَهُودِيِّ مِثْلَ الطَّرِيفَةِ وَشِبْهِهَا مِمَّا لَا يَأْكُلُونَهُ فَيُفْسَخُ عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى. وَالطَّرِيفَةُ هِيَ مَا يُوجَدُ مِنْ الرِّئَةِ مَلْصُوقَةً بِالشَّحْمِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَذْكِيَتِهِمْ لِهَذِهِ وَكُلِّ ذِي ظُفُرٍ وَالشُّحُومِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ. فَحَكَى اللَّخْمِيُّ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا: قَوْلٌ بِالْجَوَازِ وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ وَقَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ وَقَوْلٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ فَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقِيلَ
لَا يُؤْكَلَانِ وَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا يُؤْكَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ انْتَهَى. فَإِذَا تَرَكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَاشْتَرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الشِّرَاءِ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَشْتَرُونَ الْخِرَقَ مِمَّنْ يَجْمَعُهَا مِنْ الطُّرُقِ وَالْكِيمَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَثَرِ الْحَيْضِ أَوْ مِنْ أَثَرِ مَنْ يُعَافُ أَثَرُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاءِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا أَيْدِيَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ الْأَوْعِيَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ.
وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ سِيَّمَا الصَّلَاحِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ هُوَ أَنْظَفُ وَجْهًا؛ لِأَنَّ النَّظَافَةَ وَالْوَضَاءَةَ غَالِبًا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْوُضُوءِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْوَضِيءِ فَالْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبْلِيَّاتِ وَالدِّكَكِ الْمُسْتَدِيمَةِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَقْعُدُ فِي طَرِيقِهِمْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَمُرَّ فِي حَاجَتِهِ أَوْ يَقِفَ قَدْرَ ضَرُورَتِهِ وَلَا يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ دُكَّانٌ يَبِيعُ فِيهِ وَيَشْتَرِي؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ مُتَّسِعَةً فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَا سِيَّمَا وَالطُّرُقُ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَدْ ضَاقَتْ عَنْ الطَّرِيقِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلنَّاسِ وَذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَمُرَّ جَمَلَانِ مَعًا مُحَمَّلَانِ تِبْنًا فِي الطَّرِيقِ لَا يَمَسُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى حَدِّ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ وَإِلَى مَا عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْيَوْمَ فَكَيْفَ يَجُوزُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ فِي وَقْتِ مُنْصَرَفِ النَّاسِ إلَى الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ أَوْ إلَى تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ بِالطَّبْلِيَّاتِ عَلَى أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ فَيُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَهُمْ إلَى بَيْتِ رَبِّهِمْ فَهُمْ غَاصِبُونَ لِذَلِكَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ
إلَيْهِ. وَكُلُّ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْغَصْبِ فَهُوَ شَرِيكٌ مَعَهُمْ فِي الْإِثْمِ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهَا الشَّيْءُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالْحَبْلَقَةِ فَإِنَّهُ يَنْضَافُ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ مَفْسَدَةٌ أَكْبَرُ مِنْهَا تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي السِّقَاءِ وَالْفُقَّاعِ وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ الْمِلْعَقَةَ الَّتِي يَغِطُّهَا لِلنَّاسِ لَا يَرُدُّ عَنْهَا أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ كَالْأَجْذَمِ وَالْأَبْرَصِ وَالصَّبِيِّ وَالصَّغِيرِ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ اللِّفْتَ وَاللُّوبِيَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ فِيهِمَا النَّشَادِرَ حَتَّى يَخْضَرَّا بِذَلِكَ وَهُوَ نَجِسٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ غَيْرُهُمَا مِنْ الْمَائِعَاتِ فَكُلُّ مَا يُبَاشِرُهُ مِنْهَا تَنَجَّسَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّمِيطِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَمِنْ بَابٍ أَحْرَى إذْ أَنَّهُ لَا يُتَحَرَّزُ مِنْ بَوْلِ نَفْسِهِ فِي طَعَامِهِ فَضْلًا عَمَّا يَعْمَلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِمَّنْ يَجْلِسُ فِي الْمَقَاعِدِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ فَشَا هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ حَتَّى قَدْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ يُكْرِي تِلْكَ الْمَقَاعِدَ الَّتِي تَلِي بَيْتَهُ أَوْ مِلْكَهُ أَوْ مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ أُجْرَةَ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَضِيَا مَعًا بِذَلِكَ فَالشَّرْعُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالْمَقَاعِدِ لَيْسَ إلَّا بَلْ كُلُّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ فَلَا يَنْبَغِي مُعَامَلَتُهُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بُدٌّ كَهَذِهِ الدَّكَاكِينِ الَّتِي يَعْمَلُونَ بِهَا مَسَاطِبَ يَقْطَعُونَهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَةً عَنْ حَوَانِيتِهِمْ قَدْ ضَاقَ الطَّرِيقُ بِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ عَدَمُ النَّظَرِ إلَى مَا كُلِّفَهُ الْمَرْءُ مِنْ مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ وَغَفْلَةُ مَنْ غَفَلَ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَتَرْكُ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَ الشِّرَاءُ مِنْ الْمُكَّاسِ مَوْجُودٌ فِي الشِّرَاءِ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إذْ أَنَّهُ لَوْ تَحَامَى الْمُسْلِمُونَ الشِّرَاءَ مِنْهُ لِأَجْلِ مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ غَصْبِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَنَزَعَ عَنْ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ، وَذَلِكَ
لَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَصِيرُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي إثْمِ غَصْبِهِمْ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ.
أَلَا تَرَى إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ شَيْخٌ مِنْ الصُّلَحَاءِ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ وَكَانَ الْإِمَامُ يُعَظِّمُهُ لِخَيْرِهِ وَبَرَكَتِهِ ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ الشَّيْخَ لَيَّسَ جِدَارَ بَيْتِهِ بِالطِّينِ مِنْ الْخَارِجِ فَتَرَكَهُ الْإِمَامُ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ إلَيْهِ أَجْلَسَهُ إلَى جَانِبِهِ وَرَحَّبَ بِهِ فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُ عَنْهُ ذَلِكَ تَرَكَهُ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا فَسَأَلَ الشَّيْخُ أَصْحَابَ الْإِمَامِ عَنْ سَبَبِ إعْرَاضِهِ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّك لَيَّسْت جِدَارَ بَيْتِك بِالطِّينِ مِنْ خَارِجِ فَجَاءَ الشَّيْخُ إلَى الْإِمَامِ فَسَأَلَهُ عَنْ مُوجِبِ هِجْرَانِهِ لَهُ فَأَخْبَرَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ لِي ضَرُورَةٌ فِي تَلْيِيسِ الْجِدَارِ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فِي حَقِّ الْمَارِّينَ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ: ذَلِكَ غَصْبٌ فِي طَرِيقِهِمْ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: هُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ الْيَسِيرُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَفْعَلُ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تُزِيلَ التَّلْيِيسَ وَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَ الْجِدَارَ وَتُدْخِلَهُ فِي مِلْكِك قَدْرَ التَّلْيِيسِ فَتَبْنِيهِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تُلَيِّسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ الْإِمَامُ حَتَّى امْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَوْ كَمَا قَالَ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِجَانِبِ قَمْحٍ قَدْ سَنْبَلَ فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَدَهُ عَلَى السُّنْبُلِ ثُمَّ نَزَعَهَا فِي الْوَقْتِ فَرَآهُ الشَّيْخُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صَاحِبِ الْقَمْحِ وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْفَقِيرُ: يَا سَيِّدِي أَلَيْسَ السُّنْبُلُ قَدْ وَقَفَ كَمَا هُوَ وَمَا ضَرَّهُ مَا فَعَلْت بِهِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَرَأَيْت لَوْ مَرَّ بِهِ أَلْفُ رَجُلٍ أَوْ أَكْثَرُ فَفَعَلُوا مَا فَعَلْت أَكَانَ يَرْقُدُ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ لَك فِي ذَلِكَ حِصَّةٌ مِنْ الظُّلْمِ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ، وَلَمْ يَصْحَبْهُ حَتَّى اسْتَحَلَّ مِنْهُ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَرَكَةِ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ لِلْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي زَمَانِهِمْ كَيْفَ يَتَلَقَّوْنَهَا بِهَذَا التَّلَقِّي الْحَسَنِ الْجَمِيلِ. فَلَوْ بَقِيَ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَرَفٍ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَوَادُّ تَنْحَسِمُ أَوْ يَقِلُّ فَاعِلُهَا وَلَكِنَّ السُّكُوتَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَعَدَمَ السُّؤَالِ مِنْ
الْعَامَّةِ لَهُمْ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَصَارَ مُتَزَايِدًا وَفَّقَنَا اللَّهُ لِمَرْضَاتِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَبْصِرَتِهِ: وَأَمَّا مَا يَكُونُ بَيْنَ الدِّيَارِ مِنْ الرِّحَابِ وَالشَّوَارِعِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْهَا إلَى دَارِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ وَبِأَهْلِ الْمَوَاضِعِ مُنِعَ، وَإِنْ فَعَلَ هُدِمَ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ. فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْجَوَازُ وَالْكَرَاهَةُ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ يُهْدَمُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ اقْتَطَعَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْنِيَتِهِمْ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَرَّ بِكِيرِ حَدَّادٍ بِالسُّوقِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ وَقَالَ تُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا تَشَاحُّوا فِي الطَّرِيقِ فَسَبْعَةُ أَذْرُعٍ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ انْتَهَى.
فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ.
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِي قَضَاءِ مَآرِبِهِ إنْ قَدَرَ خِيفَةً مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلِوُجُوهٍ أُخْرَى نَذْكُرُ بَعْضَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةً جَلِيَّةً لِغَيْرِ الْعَالِمِ فَكَيْفَ لِلْعَالِمِ.
فَمِنْهَا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَيَنْوِي بِذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي الْخُرُوجِ إلَى السُّوقِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ التَّوَاضُعِ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَنِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِمْ إذْ أَنَّ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فِي جُلِّ بِيَاعَاتِهِمْ.
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَفَ لِجَرِّ الْمَنْفَعَةِ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنْتَ تَرَى كَثْرَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يُعَامِلُ الْآخَرَ فَيَشْتَرِي مِنْهُ السِّلَعَ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ ثُمَّ إنْ أَعْوَزَهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ ثَمَنَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَامِلْهُ مَا أَقْرَضَهُ حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ السِّلْعَةَ
الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ لَتَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يُقْرِضُهُ ثَمَنَ ذَلِكَ إلَّا بِكُرْهٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً. وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَفَاسِدِ مِثْلُ عَدَمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله مِنْ دُخُولِ الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ عَلَيْهِمْ وَالسَّلَفِ وَالصَّرْفِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرُهَا كَثِيرَةٌ بَيْنَهُمْ فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يُبَاشِرُهُمْ فِي ذَلِكَ انْحَسَمَتْ مَادَّةُ الْمَفَاسِدِ وَقَلَّ وُقُوعُهَا بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَهُمْ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ تَرْكَ التَّكَبُّرِ وَتَرْكَ التَّجَبُّرِ وَتَرْكَ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ إذْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْأَسْوَاقَ وَحَمَلَ سِلْعَتَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه دَخَلَ إلَى السُّوقِ فِي خِلَافَتِهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا النَّبَطَ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِهِ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَعَذَلَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ السُّوقَ، فَقَالَ لَهُ إنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَغْنَانَا عَنْ الْأَسْوَاقِ بِمَا فَتَحَ بِهِ عَلَيْنَا، فَقَالَ رضي الله عنه وَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَيَحْتَاجَنَّ رِجَالُكُمْ إلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُكُمْ إلَى نِسَائِهِمْ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رحمه الله إذَا رَأَى النَّبَطَ يَقْرَءُونَ الْعِلْمَ يَبْكِي إذْ ذَاكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْعِلْمَ إذَا وَقَعَ لِغَيْرِ أَهْلِهِ يَدْخُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا أَنْتَ تَرَاهُ وَاَللَّهُ يُرْشِدُنَا لِمَا فِيهِ السَّدَادُ بِمَنِّهِ. وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ مِنْ إرْشَادِ الضَّالِّ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالسَّلَامِ عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّوقِ إنْ شَاءَ سِرًّا، وَإِنْ شَاءَ جَهْرًا فَالسِّرُّ فِيهِ فَائِدَةٌ كُبْرَى وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْرُ فِيهِ ذَلِكَ وَزِيَادَةُ تَنْبِيهٍ لِلنَّاسِ عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِمْ وَحَدُّ الْجَهْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمِنْ يَلِيهِ وَفَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِحَيْثُ إنَّهُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ وَيُضِيفُونَ إلَيْهِ التَّلْحِينَ وَالتَّرْجِيعَ، وَذَلِكَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَحَدُّ السِّرِّ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ بِمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ أَنْ يَتَشَهَّدَ فَيَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ التَّامَّةَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ هَذَا السُّوقِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ بِذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ فَيَغْتَنِمُ بَرَكَةَ الِامْتِثَالِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَعْتَبِرُ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنه يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ وَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَيُسَلِّمَ عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا.
وَالْخُرُوجُ إلَى السُّوقِ مِنْ شِعَارِ الصُّلَحَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ يَخْرُجُونَ إلَى السُّوقِ وَيَقْعُدُونَ فِيهِ انْتَهَى. وَمَا سُمِّيَ السُّوقُ سُوقًا إلَّا لِنَفَاقِ السِّلَعِ فِيهِ فِي الْغَالِبِ وَأَكْبَرُ سِلَعِ الْمُؤْمِنِ الَّتِي يَطْلُبُ رِبْحَهَا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَإِرْشَادُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي الْغَالِب مَوْجُودٌ فِي الْأَسْوَاقِ لِكَثْرَةِ وُجُودِ إخْوَانِهِ فِيهَا وَفِيهِمْ الْعَالِمُ بِمَا يُحَاوِلُهُ وَالْجَاهِلُ بِذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فِي الْأَسْوَاقِ يَتَّجِرُونَ وَفِي حَوَائِطِهِمْ يَعْمَلُونَ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَسَلَفُهَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يُمْكِنُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَذَلِكَ امْتِهَانٌ لِحَقِّ الْعِلْمِ وَنَقْصٌ لِحُرْمَةِ الْعَالِمِ وَاسْتِهَانَةٌ بِقَدْرِهِمَا وَأَهْلُ الْأَسْوَاقِ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْأَلُونَ فِي الْغَالِبِ وَبَذْلُ الْعِلْمِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا سُئِلَ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْعَالِمَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ وَتَرْكَ التَّعْلِيمِ مِنْ الْمُنْكَرِ الْبَيِّنِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَنْصَحَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّلَطُّفِ لَهُمْ وَامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَالتَّعْلِيمُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ بَيَانًا مِنْ غَيْرِهَا لِوُجُودِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَعًا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ الْبَائِعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ فِي السِّلَعِ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَنْسَاهُ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «ارْجِعْ
فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَعَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ حَتَّى يُسْأَلَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ تِلْكَ لَا تَجُوزُ فَغَيَّرَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنَّ يُغَيِّرَ عَلَى النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَإِذَا غَيَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ سَأَلُوهُ فَأَجَابَهُمْ وَإِنَّمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ مَعَ الْأَعْرَابِيِّ ثَلَاثًا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْأَلَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالثَّانِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ مِرَارًا قَبْلَ الْإِلْقَاءِ ثَبَتَ الْعِلْمُ بَعْدَهُ كَمَا «قَالَ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَا مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ فَأَلْقَى إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ» .
وَحِكْمَةُ تَنْبِيهِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثَيْنِ ثَلَاثًا أَعْنِي حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَحَدِيثَ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ لَهُ قَدْرٌ وَبَالٌ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الِاعْتِقَادِ وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَمَحَلُّ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَحَلُّ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ كَرَّرَهُمَا صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ كَرَّرَ مَا نَاسَبَهُمَا وَمَا لَمْ يَتَأَكَّدْ أَمْرُهُ يَكْتَفِي فِيهِ مِنْ التَّنْبِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَنْ عَقَلَ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ يَزِيدُ لَهُ فِي التَّنْبِيهِ حَتَّى يَعْقِلَ. وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إذْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَالْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مَا أَكَّدَ هَذَا الْأَمْرَ وَبَيَّنَهُ وَأَثْبَتَهُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَالْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ الْأُمَّةُ إلَى هَلُمَّ جَرًّا.
أَلَا تَرَى
إلَى مَا جَرَى لِلْإِمَامِ الطُّرْطُوشِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمَّا أَنْ وَرَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لِيَحُجَّ فَلَمَّا أَنْ حَجّ وَرَجَعَ وَجَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ شَاغِرَةً مِنْ الْعِلْمِ وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فِي مَسْأَلَةٍ جِهَارًا وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُمْسِكَ فِي يَدِهِ كِتَابًا لِغَلَبَةِ الْأَمْرِ مِنْ السَّلْطَنَةِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لِبِدْعَةٍ كَانَتْ فِيهِمْ تَدَيَّنُوا بِهَا فَلَمَّا أَنْ رَأَى الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ رحمه الله هَذَا الْحَالَ وَدَّعَ رَفِيقَهُ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَأَرْسَلَ السَّلَامَ إلَى وَلَدِهِ بِالْمَغْرِبِ، وَقَالَ: هَذِهِ بِلَادٌ لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْهَا لِمَا غَلَبَ فِيهَا مِنْ الْجَهْلِ فَجَعَلَ رحمه الله يَقْعُدُ عَلَى دُكَّانِ بَيَّاعٍ فَيُعَلِّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَقِيدَتِهِ وَفَرَائِضِ وُضُوئِهِ وَسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ، وَكَذَلِكَ تَيَمُّمُهُ وَغُسْلُهُ وَصَلَاتُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ السِّلَعِ فَيُعَلِّمُهُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَكَيْفِيَّةَ تَعَاطِيهِ بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا وَكَيْفِيَّةَ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِ وَالسَّلَامَةَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ يَقُولُ لَهُ عَلِّمْ جَارَك ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى دُكَّانٍ آخَرَ حَتَّى قَامَ الْعِلْمُ عَلَى مَنَارِهِ وَزَالَ الْجَهْلُ فِي حِكَايَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا فَكَانَ السَّبَبَ لِانْتِشَارِ الْعِلْمِ وَظُهُورِهِ فِي الْأَسْوَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يُطْلَبَ مِنْهُ التَّعْلِيمُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِبَرَكَةِ التَّوَاضُعِ وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ السَّلَفِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ وَمُرَاجَعَةِ الْعَوَامّ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ الْعِلْمِ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ لِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَانَ النَّاسُ مُعْرِضِينَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ الْمُكَرَّمَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ لِيَتَّبِعُوهُ وَيَنْصُرُوهُ إذْ أَنَّ الْغَنِيمَةَ عِنْدَهُمْ إرْشَادُ شَارِدٍ عَنْ بَابِ رَبِّهِ أَوْ ضَالٍّ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ فَيَرُدُّونَهُمْ إلَى بَابِ مَوْلَاهُمْ وَيُوقِفُونَهُمْ عَلَى بِسَاطِ كَرَامَتِهِ بِاتِّبَاعِ
أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ.
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي حَسَنٌ الزُّبَيْدِيُّ رحمه الله يَقُولُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَحَدًا مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَأْتِينِي إذْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِي وَلَا حَاجَةَ لِي بِهِمْ وَإِنَّمَا أُرِيدُ مَنْ هُوَ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَأَرُدَّهُ إلَيْهِ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ قَعَدَ فِي السُّوقِ، وَلَمْ يَأْتِ الْعُلَمَاءَ وَالصُّلَحَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ سِيَاسَةُ مَنْ هَذَا حَالُهُ حَتَّى يُوقِفَهُ بِبَابِ رَبِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى نِيَّةِ الْعُلَمَاءِ إذَا صَلُحَتْ كَيْفَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا مَعَ الْبَاعَةِ وَمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْبُعْدِ وَالْجَهْلِ فَيَرُدُّونَهُمْ بِالْعِلْمِ إلَى أَسْنَى الْأَحْوَالِ وَأَرْفَعِهَا لَا جَرَمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْمُبَارَكِ انْتَفَعُوا وَنَفَعُوا وَعَمَّتْ بَرَكَتُهُمْ لِأَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ مَا يُعْهَدُ مِنْ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ مَعَ أَنَّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يَعْدَمْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ إذْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمَغْرِبِ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ بُعْدُ الزَّمَانِ وَلَا مُخَالَطَةُ غَيْرِ الْجِنْسِ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ فَانْتَفَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِمْ وَعَمَّتْ بَرَكَتُهُمْ عَلَى النَّاسِ كَافَّةَ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ.
وَقَدْ نَصَّ عليه الصلاة والسلام عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ تَعْيِينُ جِهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «طَائِفَةٌ بِالْمَغْرِبِ» . وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ» فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقِيَ الْخَيْرُ مُتَّصِلًا وَبِسَبَبِ وُجُودِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ارْتَدَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَلَّ ظُهُورُهَا وَأَهْلُهَا وَنَزَلَتْ الْبَرَكَاتُ وَجَاءَتْ الْخَيْرَاتُ وَبَقِيَ النَّاسُ فِي خَفَارَتِهِمْ مَحْمُولِينَ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ عَكْسُ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ فِي الْوَقْتِ فَتَجِدُ بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ يَتَشَبَّهُ بِالْمُلُوكِ فِي الْبَوَّابِينَ وَالْحُجَّابِ وَمَنْ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الطَّرَّادِينَ حَتَّى قَلَّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ إلَى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلْمِ فَيَتَحَيَّلُونَ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ بِوَسَائِطَ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ
وَهَذَا الْحَالُ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ هُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْغَالِبُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَامّ الْيَوْمَ الشُّرُودُ عَنْ الْعِلْمِ وَالنُّفُورُ عَنْ أَهْلِ الْخَيْرِ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْهِمَمِ لِغَيْرِ سَبَبٍ فَكَيْفَ بِهِمْ إذَا وَجَدُوا السَّبَبَ وَيَعْسَرُ عَلَيْهِمْ أَمْرُ السُّؤَالِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ فَيَقَعُ الْفِرَارُ وَالشُّرُودُ أَكْثَرُ فَكَانَ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ جَمِيعُهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فِي ذِمَّةِ مَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا مَنَعَهُمْ بِهِ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ.
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ بَقِيَّةِ فِعْلِ الْعَالِمِ فِي السُّوقِ وَأَدَبِهِ فَإِذَا مَشَى فِي السُّوقِ فَيَضَعُ بَصَرَهُ حَيْثُ يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ قَدَمَهُ وَيَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ رَفْعِ بَصَرِهِ لِئَلَّا يَقَعَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ رُؤْيَتُهُ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَفَعَ بَصَرَهُ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَا رَفَعَهُ إلَّا وَيَنْظُرُ إلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ إذْ أَنَّ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ نِسَائِهِمْ الْجُلُوسُ فِي الطَّاقَاتِ وَأَبْوَابِ الرِّيحِ، وَذَلِكَ عَلَى الْأَسْوَاقِ وَالطَّرَقَاتِ فِي الْغَالِبِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ كَمَا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ.
وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ النَّاسِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ يَا سَيِّدِي أَمَا تَخَافُ أَنْ تَقْعُدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى السُّقُوطِ، فَقَالَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ خَشَبَةٌ مَكْسُورَةٌ فِي سَقْفِهِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ مَا أَكْثَرَ فُضُولَك لِي الْيَوْمَ أَرْبَعُونَ سَنَةً فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا رَأَيْت سَقْفَهُ وَأَنْتَ مِنْ حِينِك رَأَيْته أَوْ كَمَا قَالَ وَقَدْ مَكَثَ بَعْضُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت لَهُمْ مُحِبًّا
إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّا قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فَيَتَأَكَّدُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ صَارَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ مِثْلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ اللَّغَطِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ فَيُنَبِّهُ الْعَالِمُ عَلَى هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ، إذْ الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَيُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ
كُلُّ ذَلِكَ مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ مِنْهُمْ وَزِيَارَةِ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَالدِّينُ أَهَمُّ.
وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ عِيَادَةَ الْمَرْضَى عَلَى وَجْهِهَا إنْ وَجَدَ لِذَلِكَ سَبِيلًا. وَقَدْ يَجِدُ بَعْضُهُمْ فِي سُوقِهِ فَتَحْصُلُ لَهُ النِّيَّةُ وَالْعَمَلُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةٍ إنْ وَجَدَهَا عَلَى السُّنَّةِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ وَالْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَا عَلَى وُضُوءٍ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِسِلَاحِهِ فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ غَالِبًا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَ عِدَّةً تَكُونُ مَعَهُ إذْ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ شَاةً أَوْ غَيْرَهَا تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ صَاحِبِهَا مَا يَذْبَحُهَا بِهِ فَيُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا.
وَقَدْ يَجِدُ دَابَّةً قَدْ انْخَنَقَتْ بِحَبْلٍ فَيَقْطَعُهُ بِمَا مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْآلَةِ فَإِنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ هَذَا حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِنِيَّةِ السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ جُيُوشِهِمْ وَمَا يَجْرِي لَهُمْ فَيُسَرُّ لِخَيْرٍ إنْ سَمِعَهُ عَنْهُمْ وَيَحْزَنُ لِضِدِّهِ فَيَكُونُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ يَسْأَلُ عَمَّنْ غَابَ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَيُسَرُّ وَيَحْزَنُ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ شَرِيكًا لِلْوَاقِعِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا عَمَلٍ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى السُّوقِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ إذَا خَرَجَ وَلَيْسَ السَّلَامُ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ فَكَانُوا مُشْتَغِلِينَ فِي خَيْرٍ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِيهِ، وَإِنْ خَاضُوا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي خَرْجِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى ثُمَّ يَسْتَعِيذُ فَيَقُولَ (اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلُ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ثُمَّ
يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ خُرُوجِهِ فَإِنْ كَانَ لِلسُّوقِ طَرِيقَانِ فَلْيَخْتَرْ أَقْرَبَهُمَا يَمْشِي فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخُطَى الزَّائِدَةَ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهَا وَكَوْنُهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ لِإِلْقَاءِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ الْخُطَى الزَّائِدَةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُرِيحُ بَدَنَهُ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَبِ.
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ الْمَشْيِ فِي ثَنِيَّاتِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِ بَعْضِهِمْ فِيهَا بَلْ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ فَإِنَّ فِيهَا السَّلَامَةَ، وَإِنْ بَعُدَتْ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أَنْ يَتَرَبَّصَ قَلِيلًا فِي الْبَيْتِ حَتَّى يُفَكِّرَ أَهْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِكَيْ يَكُونَ مَشْيُهُ إلَى السُّوقِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِئَلَّا يَحْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَوَائِجَ أُخَرَ فَيَحْتَاجَ أَنْ يَتَكَرَّرَ إلَى السُّوقِ مِرَارًا فَيَكُونَ ذَلِكَ ضَيَاعًا لِلْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنْ حُضُورِ الْأَسْوَاقِ فَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقُ إلَى السُّوقِ بَعِيدَةً يَصْعُبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ لِبُعْدِهَا أَوْ كَانَ ضَعِيفًا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، وَإِنْ قَرُبَ فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ التَّوَاضُعِ، فَإِذَا رَكِبَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الذِّكْرِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْت عَلِيًّا أُتِيَ لَهُ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَك إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْت، فَقَالَ «إنَّ رَبَّك لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ» انْتَهَى. وَيَعْتَبِرُ عِنْدَ رُكُوبِهِ عَلَيْهَا إذْ أَنَّ الدَّابَّةَ لَا تَحْمِلُ نَفْسَهَا فَكَيْفَ تَحْمِلُ غَيْرَهَا {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] فَالْأَرْضُ مُمْسَكَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى فَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْ إمْسَاكِ
نَفْسِهَا فَكَيْفَ تُمْسِكُ غَيْرَهَا فَيَسْتَصْحِبُ هَذَا النَّظَرَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَيَشْهَدُ بِذَلِكَ رُؤْيَةَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ وَاسِطَةٍ فَيَقْوَى بِذَلِكَ إيمَانُهُ وَيَقِينُهُ وَيَرْجِعُ لَهُ الْإِيمَانُ حَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقَالًا، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَمْشِيَ بِالدَّابَّةِ عَلَى رِفْقٍ وَلَا يُزْعِجُهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ» .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَصَّلُونَ بِذَلِكَ إلَى سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ مَعَ تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ.
ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ لِلْمُكَارِي فَيَشْتَرِطُ أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْمُكَارِيَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الْعَنِيفِ الَّذِي اعْتَادُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ إذَا رَأَى قِرْطَاسًا فِي سِكَّةِ الطَّرِيقِ رَفَعَهُ وَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ وَلَا يُقَبِّلْهُ وَلَا يَضَعْهُ عَلَى رَأْسِهِ إذْ إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ كَانَ مَكْتُوبًا أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبٍ فَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا فَقَدْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الثَّوَابِ مَا فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ فَيَكُونُ أَخْذُهُ لِذَلِكَ تَوْقِيرًا وَتَعْظِيمًا لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ إنَّ الْوَرَقَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النَّشَا، وَإِنْ قَلَّ، وَكَذَلِكَ يَنْوِي إذَا وَجَدَ خُبْزًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ مِمَّا يُؤْكَلُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ وَلَا يَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلَا يُقَبِّلُهُ تَحَرُّزًا مِنْ الْبِدْعَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا جَاءَهُ الْقَمْحُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِنْ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّاوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَعْمَلُ عَمَلًا حَتَّى يَلْتَقِطُوا مَا وَقَعَ مِنْ الْحَبِّ عَلَى الْبَابِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَهَذَا الْبَابُ مُجَرَّبٌ كُلُّ مَنْ عَظَّمَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَإِنْ وَقَعَتْ الشِّدَّةُ بِالنَّاسِ جَعَلَ اللَّهُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت ذَا حَزْمٍ.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ أَنْ يَحْمِلَ الْحَوَائِجَ كُلَّهَا بِنَفْسِهِ
أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ فَهُوَ بِهِ أَوْلَى لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَاكِبَهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَالِامْتِثَالِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ.
وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَأَحَدٌ يَمْشِي مَعَهُ إلَى السُّوقِ أَنْ يُرْدِفَهُ خَلْفَهُ لِيَكْمُلَ لَهُ امْتِثَالُ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَاضُعُ فَيُذْهِبُ عَنْهُ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِمَّنْ يَتَحَامَى ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى مَنْ يَحْمِلُ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْحَوَائِجِ فَيَسْتَأْجِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعْطِي لِغَيْرِهِ أَنْ يَحْمِلَ بِلَا أُجْرَةٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إبْرَارُ قَسَمِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنْ لَا يَحْلِفَ بَعْدُ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ خَوْفًا أَيْ يَتَعَجَّلُ أَجْرَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَكَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَتَحَرَّزُونَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرًا وَقَدْ رَأَيْت الشَّيْخَ الْجَلِيلَ أَبَا إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ التِّنِّيسِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَهْلِ تِلِمْسَانَ وَكَانَ فَاضِلًا فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ إلَى خَارِجِ الْبَلَدِ فَعَطِشُوا وَاشْتَدَّ عَطَشُهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَاءٌ فَرَأَوْا عِمَارَةً فَجَاءُوا إلَيْهَا يَطْلُبُونَ الْمَاءَ فَإِذَا بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَكَانَ قَدْ قَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فَذَهَبَ فَأَتَى بِلَبَنٍ فِيهِ سُكَّرٌ فَأَعْطَاهُ لِلشَّيْخِ لِيَشْرَبَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ وَلِمَ وَهُوَ مِنْ وَجْهٍ حِلٍّ؟ فَقَالَ لَهُ؛ لِأَنَّك قَرَأْت عَلَيَّ وَلَا يُمْكِنِّي أَنْ آخُذَ مِنْكَ شَيْئًا لِئَلَّا أَتَعَجَّلَ ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَرَغَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَسْتَقْضِي حَاجَةً مِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ، وَذَلِكَ خِيفَةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَرَجَ إلَى السُّوقِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَوَائِجِهِ فِي وَقْتٍ فَأَخَذَ جُمْلَةَ حَوَائِجِهِ فَأَشْغَلَ يَدَيْهِ مَعًا فَنَزَلَ الْبَيَّاعُ مِنْ الدُّكَّانِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ بَعْضَ الْحَوَائِجِ فَأَبَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَعْطَاهُ شَيْئًا حَمَلَهُ لَهُ ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ الْبَيَّاعُ رُؤْيَا رَآهَا فَسَكَتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا سَيِّدِي أَمَا تُعَبِّرُهَا لِي، فَقَالَ لَهُ لَا يُمْكِنِّي ذَلِكَ وَأَنْتَ تَحْمِلُ لِي شَيْئًا فَيَكُونُ ذَلِكَ أُجْرَةً عَلَى الْعِلْمِ فَرَغَّبَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ حَاجَتَهُ
يَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ فَمِنْ رَغْبَةِ الرَّجُلِ فِي تَعْبِيرِ تِلْكَ الرُّؤْيَا أَعْطَاهُ حَوَائِجَهُ فَحَمَلَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَبَّرَ لَهُ رُؤْيَاهُ وَمَضَى لِسَبِيلِهِ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى تَحَرُّزِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِيهَا فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَيَكُونُ الْعَالِمُ مُتَيَقِّظًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْهُ إرْشَادٌ مَا أَوْ تَعْلِيمٌ مَا فَيَتَحَفَّظُ مَنْ هَذَا جَهْدَهُ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ.
فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ إمَّا لِضَعْفٍ مِنْ كِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ شَغْلٍ مَعَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَوْ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ الضَّرُورِيِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَالنِّيَابَةُ إذْ ذَاكَ لَهُ أَفْضَلُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فِي وَقْتِهِ إذْ أَنَّ إلْقَاءَ الْعِلْمِ لِأَهْلِهِ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ لِلْعَمَلِ بِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا لَوْ تَوَالَتْ بِهِ الْأَشْغَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ إحْيَاءِ هَذِهِ السُّنَّةِ أَعْنِي الْخُرُوجَ إلَى السُّوقِ وَلَوْ مَرَّةً فِي وَقْتٍ مَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ عَلَيْهِ فَلْيَخْرُجْ إلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَشْتَغِلُونَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَذْمُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي وَطْءِ الْأَعْقَابِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَا خَرَجُوا مَعَهُ إلَّا لِضَرُورَةِ تَعْلِيمِهِمْ وَخَرَجَ هُوَ لِإِظْهَارِ سُنَّةٍ وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا كَلَامُ الْبَشَرِ، نَعَمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي طَرِيقِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتَعَيَّنُ احْتِرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ.
وَكَذَلِكَ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَشْيِ مَعَهُ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ إنَّمَا هُوَ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ فِتْنَةِ وَطْءِ عَقِبِهِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُ خَوْفٌ مَا مِنْ هَذِهِ السَّيِّئَةِ فَتَرْكُ هَذِهِ السُّنَّةِ أَوْلَى بِهِ أَوْ يَخْرُجُ لِفِعْلِهَا وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يَقْضِي لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مُحَاوَلَةِ مَا خَرَجَ إلَيْهِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا يُكْرَهُ إلَى