الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ. فَجُمْلَةُ مَا تَحْصُلُ فِي خُرُوجِهِ إلَى السُّوقِ مِنْ النِّيَّاتِ وَالْآدَابِ يَنُوفُ عَنْ خَمْسِينَ خَصْلَةً وَهِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ لِمَا عَدَاهَا فَلْيَتَنَبَّهْ مَنْ يَتَنَبَّهُ مِمَّنْ يُوَفَّقُ لِذَلِكَ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُ الْجَمِيعَ بِمَنِّهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النِّيَّاتِ إلَى الْمَسْجِدِ يَخْرُجُ بِهِ إلَى السُّوقِ وَمَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَحْدَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَذْكُورٌ قَبْلَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ. وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ وَجَدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ النُّورِ وَالْحُضُورِ
[فَصْلٌ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ السُّوقِ إلَى بَيْتِهِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ]
ِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى السُّوقِ وَمِنْهُ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ وَالتَّعَلُّمُ مِنْ عَالِمِهِمْ وَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ فَيَكُونُ مَأْجُورًا فِي خُطَاهُ إلَى الْخَلْوَةِ وَإِذَا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى أَهْلِهِ بِنِيَّةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حِينَ دُخُولِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ عِنْدَ خُرُوجِهِ وَلَا تَقَعُ التَّفْرِقَةُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إلَّا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَبَيْتِ الْخَلَاءِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ الْفَضَلَاتِ وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى حِينَ دُخُولِهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي الدُّعَاءِ الْوَارِدِ حِينَ الدُّخُولِ إلَى الْبَيْتِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ (اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا) ثُمَّ يَتَعَوَّذُ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلَى آخِرِهَا.
وَيَنْوِي حِينَ دُخُولِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يَنْوِي بِذَلِكَ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ لِسَانِهِ وَنَظَرِهِ وَسَمْعِهِ وَبَطْشِهِ وَسَعْيِهِ وَحَسَدِهِ وَبَغْيِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الرَّدِيئَةِ إذْ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ بَابِ رَبِّهِ تَعَالَى كَانَ أَسْوَأَ ظَنًّا بِنَفْسِهِ كَمَا قَدْ
حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ لَمَّا انْعَزَلَ فِي خَلْوَتِهِ عَنْ النَّاسِ وَانْفَرَدَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ وَجَدْت لِسَانِي كَلْبًا عَقُورًا قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ مَنْ خَالَطَهُ فَحَبَسْت نَفْسِي لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَآفَتِهِ. وَفِي هَذِهِ النِّيَّاتِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا أَنَّهَا تَحْتَوِي عَلَى عَدَمِ الدَّعْوَى وَعَلَى عَدَمِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الرَّدِيئَةِ فَبِنَفْسِ هَذِهِ النِّيَّةِ تَنْدَفِعُ كُلُّهَا وَفِي الْخَلْوَةِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ تَحْصُلُ لَهُ دُونَ كُلْفَةٍ يَتَكَلَّفُهَا وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ حَالِ الْمُرِيدِ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُ بِالْجَمِيعِ بِمَنِّهِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْوِيَ بِالْخَلْوَةِ سَلَامَتَهُ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاءٌ عُضَالٌ وَالْعَطَبُ فِيهِ مَوْجُودٌ إذْ أَنَّ فِيهِ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِغَيْرِهِ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا حِينَ رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَيْتِهِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ بَعْضُ ذَلِكَ هُنَا زِيَادَةَ تَنْبِيهٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ، فَإِنْ احْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى أَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِمَّا خَرَجَ إلَيْهِ فَلَا يَعُودُ إلَى السُّوقِ وَيَتْرُكُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَخَافُ فَوَاتَ أَمْرٍ، مِثْلُ مَرِيضٍ يَحْتَاجُ إلَى فَصَادٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غِذَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَمْضِيَ عَلَيْهِ الزَّمَانُ فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْأَهْلَ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مَهْمَا أَعْوَزَهُمْ شَيْءٌ يُقْضَى لَهُمْ تَكْثُرُ حَوَائِجُهُمْ وَيَضِيعُ عَلَيْهِ وَقْتُهُ فَإِذَا عَلِمُوا مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً جَمَعُوا لَهُ الْحَوَائِجَ كُلَّهَا فِي خُرُوجِهِ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَإِذَا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَبَنِيهِ فَأَجْرُ الْخَلْوَةِ حَاصِلٌ لَهُ، فَإِنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ بِحَضْرَتِهِمْ أَوْ مَعَ عِلْمِهِمْ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَهُ تَضْعِيفُ الثَّوَابِ فِيهِ إذْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ قَالُوا ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا تَخْرُجُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ، وَإِنْ عُمِلَتْ فِي الْجَهْرِ وَهِيَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ إذَا مَرَّ التَّالِي بِسَجْدَةٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي سِرِّهِ فَيَسْجُدُ لَهَا بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ صَائِمًا فَدُعِيَ إلَى طَعَامٍ، فَقَالَ إنِّي صَائِمٌ، وَإِذَا كَانَ مَعَ أَهْلِهِ يَعْمَلُ عَمَلًا وَهُمْ مَعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَا عَنْ الْخَلْوَةِ. أَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ إذَا مَرَّ
بِسَجْدَةٍ يَسْجُدُ لَهَا فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَتْرُكُهَا لِأَجْلِ الْغَيْرِ إذْ أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ وَالرِّيَاءُ مَمْنُوعٌ فِعْلُهُ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ إذَا خَافَ التَّشْوِيشَ عَلَى مَنْ دَعَاهُ حَتَّى يُرْفَعَ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يَتَوَقَّعُ مِنْ تَشْوِيشِ خَاطِرِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِحَضْرَةِ أَهْلِهِ فَلَوْ كُلِّفَ أَنْ لَا يَعْمَلَ الْعَمَلَ إلَّا بِغَيْبَتِهِ عَنْهُمْ لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ وَفَتْحُ بَابٍ لِتَرْكِ الْعَمَلِ، لَكِنْ إذَا أَرَادَ جَمْعَ خَاطِرِهِ وَقَدَرَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْزِلٍ عَنْ الْأَهْلِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ الَّذِي يُخِلُّ بِحَالِهِ الِاجْتِمَاعُ.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي التَّنَفُّلِ فِي الْبَيْتِ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي الْمَسْجِدِ يَعْنِي لِفَضِيلَةِ عَمَلِ السِّرِّ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَوْلَادٌ أَوْ مَنْ يُفَرِّقُ خَاطِرَهُ فِي عِبَادَتِهِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ انْتَهَى.
وَأَمَّا أَهْلُ التَّمْكِينِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رضي الله عنهم إذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَّرَهُ أَهْلُهُ وَاحْتَرَمُوهُ كَثِيرًا فَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَثُرَ لَغَطُهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَخْتَارُونَ فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَسْمَعُ مَا نَقُولُ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ تَنْصَرِفُ هِمَّتُهُ لِرُؤْيَةِ الْأَوْلَادِ مُمَازَجَتِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَكُونُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ الْحَرَكَةُ الْكَثِيرَةُ وَالْبُكَاءُ الْكَثِيرُ مِنْ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ الْخَاطِرَ فَلَا أَسْمَعُهُ وَلَا أَعْرِفُ بِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِي وَبَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَشْعُرُ بِهِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا بِحَسَبِ الْحُضُورِ وَالتَّفْرِقَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي تِلَاوَتِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَبَعْضُ الْأَيَّامِ أُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ أَسْتَفْتِحُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَمَا يَجِيءُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَلِيلٍ إلَّا وَأَنَا قَدْ خَتَمْت، وَبَعْضُ الْأَيَّامِ لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحُضُورِ فَإِنْ كُنْت حَاضِرًا كَانَ ذَلِكَ وَبِحَسَبِ التَّفْرِقَةِ يَكُونُ الْبُطْءُ فِي الْخَتْمِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوِيَّ وَالضَّعِيفَ لَا يَسْتَوِيَانِ، فَعَلَى هَذَا فَالْخَلْوَةُ عَنْ الْأَهْلِ مُشْتَرَطَةٌ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ