الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ فِي التَّسْحِيرِ]
ِ اعْلَمْ أَنَّ التَّسْحِيرَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عَوَائِدُ أَهْلِ الْأَقَالِيمِ فَلَوْ كَانَ مِنْ الشَّرْعِ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ عَوَائِدُهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّسْحِيرَ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْجَامِعِ يَقُولُ الْمُؤَذِّنُونَ تَسَحَّرُوا كُلُوا وَاشْرَبُوا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ؟ وَيَقْرَءُونَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَيُكَرِّرُونَ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً ثُمَّ يَسْقُونَ عَلَى زَعْمِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الإنسان: 5] إلَى قَوْلِهِ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلا} [الإنسان: 23] وَالْقُرْآنُ الْعَزِيزُ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ مَوْضِعِ بِدْعَةٍ أَوْ عَلَى مَوْضِعِ بِدْعَةٍ، ثُمَّ يَقُولُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ إنْشَادِ الْقَصَائِدِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُسَحِّرُونَ أَيْضًا بِالطَّبْلَةِ يَطُوفُ بِهَا أَصْحَابُ الْأَرْبَاعِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْبُيُوتِ وَيَضْرِبُونَ عَلَيْهَا هَذَا الَّذِي مَضَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَأَهْلُ الْيَمَنِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فَيُسَحِّرُونَ بِدَقِّ الْأَبْوَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْبُيُوتِ وَيُنَادُونَ عَلَيْهِمْ قُومُوا كُلُوا، وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الْبِدَعِ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ فَإِنَّهُمْ يُسَحِّرُونَ بِدَقِّ الطَّارِ وَضَرْبِ الشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ وَالْهُنُوكِ وَالرَّقْصِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَهَذَا شَنِيعٌ جِدًّا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ عليه الصلاة والسلام لِلصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِيَامِ قَابَلُوهُ بِضِدِّ الْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ قَرِيبًا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الشَّامِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ وَقْتُ السُّحُورِ عِنْدَهُمْ يَضْرِبُونَ بِالنَّفِيرِ عَلَى الْمَنَارِ وَيُكَرِّرُونَهُ
سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ بَعْدَهُ يَضْرِبُونَ بِالْأَبْوَاقِ سَبْعًا أَوْ خَمْسًا فَإِذَا قَطَعُوا حُرِّمَ الْأَكْلُ إذْ ذَاكَ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ بِالنَّفِيرِ وَالْأَبْوَاقِ فِي الْأَفْرَاحِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَهُمْ وَيَمْشُونَ بِذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ فَإِذَا مَرُّوا عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ سَكَتُوا وَأَسْكَتُوا وَيُخَاطِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقَوْلِهِمْ احْتَرِمُوا بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُفُّونَ حَتَّى يُجَاوِزُونَهُ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ يَأْخُذُونَ فِيهِ النَّفِيرَ وَالْأَبْوَاقَ وَيَصْعَدُونَ بِهَا عَلَى الْمَنَارِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَيُقَابِلُونَهُ بِضِدِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ فِعْلَ التَّسْحِيرِ بِدْعَةٌ بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، إذْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَأْثُورَةً لَكَانَتْ عَلَى شَكْلٍ مَعْلُومٍ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا فِي بَلْدَةٍ دُونَ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ قَدَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا التَّغْيِيرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ خُصُوصًا كُلٌّ مِنْهُمْ يُغَيِّرُ مَا فِي إقْلِيمِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ بِشَرْطِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي بَلَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي مَسْجِدِهِ. {تَنْبِيهٌ} وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَغْتَرَّ أَوْ يَمِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ بِسَبَبِ مَا مَضَتْ لَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ وَتَرَبَّى عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ سُمٌّ وَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ آفَاتِهَا. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمَغَارِبَةِ وَكَانَ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي يُسَحِّرُونَ فِيهِ بِالنَّفِيرِ وَالْأَبْوَاقِ لَمَّا أَنْ سَمِعَ الْمُسَحِّرِينَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ يَقُولُونَ تَسَحَّرُوا كُلُوا وَاشْرَبُوا قَالَ مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ وَأَنْكَرَهَا لِاسْتِئْنَاسِهِ بِمَا تَرَبَّى عَلَيْهِ، وَمَا تَرَبَّى عَلَيْهِ هُوَ أَكْثَرُ شَنَاعَةً وَقُبْحًا وَأَقْرَبُ إلَى الْمَنْعِ مِمَّا أَنْكَرَهُ هُنَا، فَالْعَوَائِدُ قَلَّ أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ مَعَهَا إلَّا بِتَأْبِيدٍ وَتَوْفِيقٍ مِنْ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى. وَلِأَجَلِ الْعَوَائِدِ وَمَا أَلِفَتْ النُّفُوسُ مِنْهَا أَنْكَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَعِنَادِهِمْ بِقَوْلِهِمْ {إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110] {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]{سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24] . {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] . {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [ص: 7] . {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37]
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بِسَبَبِ مَا تَرَبَّوْا عَلَيْهِ وَنَشَئُوا فِيهِ. فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ هَذَا السُّمِّ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ وَمِلْ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا لِخَلَاصِ مُهْجَتِكَ بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَاقْبَلْ نَصِيحَةَ أَخٍ مُشْفِقٍ، فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ أَفْضَلُ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْمَرْءُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاكَ لِمَا يَرْضَاهُ بِمَنِّهِ فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِ.
سُؤَالٌ وَارِدٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ التَّسْحِيرَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَحَبَّاتِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبِدَعَ قَدْ قَسَّمَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
بِدْعَةٌ وَاجِبَةٌ وَهِيَ مِثْلُ كَتْبِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ فِي صُدُورِهِمْ وَكَشَكْلِ الْمُصْحَفِ وَنَقْطِهِ.
الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ: بِدْعَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ قَالُوا: مِثْلُ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَتَنْظِيفِ الطُّرُقِ لِسُلُوكِهَا وَتَهْيِئِ الْجُسُورِ وَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
الْبِدْعَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ الْمُبَاحَةُ كَالْمُنْخُلِ وَالْأُشْنَانِ وَمَا شَاكَلَهُمَا.
الْبِدْعَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ الْمَكْرُوهَةُ مِثْلُ الْأَكْلُ عَلَى الْخُوَانِ وَمَا أَشْبَهَ.
الْبِدْعَةُ الْخَامِسَةُ: وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ. مِنْهَا مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ اللَّاتِي وَصَفَهُنَّ عليه الصلاة والسلام فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ «نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا» وَمِمَّا يَقْرَبُ مِنْهُ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ طَرِيقًا وَمِنْهَا اتِّخَاذُهَا لِلدُّيُونِ وَكُلّ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَسْأَلَةُ التَّسْحِيرِ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى فِعْلِهَا إذْ إنَّ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ شَرَعَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لِلصُّبْحِ دَالًّا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالثَّانِي دَالًا عَلَى تَحْرِيمِهِمَا فَلَمْ يَبْقَ أَنْ يَكُونَ مَا يُعْمَلُ زِيَادَةً عَلَيْهِمَا إلَّا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ إذَا أَذَّنُوا مَرَّتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ انْضَبَطَتْ الْأَوْقَاتُ وَعُلِمَتْ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى النَّاسُ عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْفَوَانِيسِ الَّتِي جَعَلُوهَا عَلَمًا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مَا دَامَتْ مُعَلَّقَةً مَوْقُودَةً وَعَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلُوهَا، وَذَلِكَ يُمْنَعُ فِعْلُهُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ