الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصُّحْبَة لِأَجْلِ الْمَيِّتِ أَوْ الثَّالِثِ لَهُ أَوْ تَمَامِ الشَّهْرِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْفَرَحِ كَالْعَقِيقَةِ وَغَيْرِهَا كَالسَّلَامِ عَلَى الْغَائِبِ وَالتَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَنْدُوبًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الدَّرْسِ إذَا سَلِمَ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ مَعَ إظْهَارِ تَقْبِيحِهِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَى فَاعِلِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ مَاشِيًا عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ انْسَدَّتْ بِهِ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يُبْطِلُونَ الدُّرُوسَ لِبِدْعَةِ الصُّبْحَةِ أَوْ الثَّالِثِ أَوْ التَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةِ خُطَّةٍ أَوْ السَّلَامِ عَلَى غَائِبٍ قَدِمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَيَتْرُكُونَ الْوَاجِبَ وَيَصِيرُ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ مَا فِيهِ، وَيَمْضُونَ إلَى بِدْعَةٍ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ فَعَلُوهَا وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِحَسْبِ مَا يَخْطِرُ لَهُ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَأْبَاهَا قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ.
مِثَالُهُ أَنْ يَتْرُكَ الدَّرْسَ وَيَرُوحَ إلَى تَهْنِئَةِ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَنْصِبَ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَرْجُوهُ لِمَنْصِبٍ آخَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ
[فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي المدرسة إذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ]
(فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي الْمَدْرَسَةِ إذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ هَلْ هِيَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ فَلَا بَأْسَ إذَنْ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شُبْهَةٍ فَالْعُلَمَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ الشُّبُهَاتِ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمْ.
وَقَدْ يَصِيرُ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ فِي حَقِّهِمْ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُمْ الْقُدْوَةُ وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ، فَإِذَا اقْتَحَمُوا الشُّبُهَاتِ اقْتَدَى بِهِمْ النَّاسُ فِي تَنَاوُلِهَا، وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَعْلُومِ الَّذِي قُرِّرَ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْغَصْبُ، وَأَمَّا مَعَ التَّعْيِينِ فَلَا يَحِلُّ وَقَدْ كَثُرَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَغْصِبُ الْمَوَاضِعَ، وَكَذَلِكَ الْآلَاتُ مِثْلَ الْأَعْمِدَةِ وَالرُّخَامِ وَالشَّبَابِيكِ. وَقَدْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ
ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَبَعْضِ الْبُيُوتِ وَبَعْضِ الْحَمَّامَاتِ عَلَى يَقِينٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُغْضِبُونَ النَّاسَ مِنْ الصُّنَّاعِ وَغَيْرِهِمْ فِي بِنَائِهَا بِذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ قَلَّمَا يُوضَعُ الْأَسَاسُ إلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ الْخُطْبَةُ فِي طَلَبِ تَوْلِيَةِ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ، وَلَا يَصِلُ إلَى تَوْلِيَتِهَا إلَّا مَنْ لَهُ الشَّوْكَةُ الْقَوِيَّةُ فَكَيْفَ يَقَعُ السَّعْيُ فِي مَوْضِعٍ وَقَعَ بِنَاؤُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ شَيْءٌ فَلْيَأْتِ لَقَامَ نَاسٌ يَدَّعُونَ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُثْبِتُونَ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ تَصَرُّفُ هَذَا الْعَالِمِ فِي مِلْكِ النَّاسِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، وَهَذَا أَمْرٌ قَبِيحٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يُقْدِمُ عَلَيْهِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَثِيرٌ مِنْ الْمَدَارِسِ بُنِيَتْ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَرَامًا بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ عَلَى مَدْرَسَةٍ قَدِيمَةٍ فَيَقُولُ: كُلُّ مَنْ غُصِبَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ فَلْيَأْتِ يَأْخُذُ مَا غُصِبَ مِنْهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ لِانْقِرَاضٍ صَاحِبِهَا وَانْقِرَاضِ وَرَثَتِهِ أَوْ الْجَهْلِ بِهِمْ فِي الْغَالِبِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ مَجْهُولًا لَا تُعْرَفُ جِهَاتُهُ وَلَا أَرْبَابُهُ فَيَرْجِعُ إذْ ذَاكَ إلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ مُرْصَدٌ فِيهِ لِمَصَالِحِهِمْ وَمِنْ أَهَمِّهَا إقَامَةُ وَظِيفَةِ إلْقَاءِ الْعِلْمِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَتَحْصِيلِهِ، فَقَدْ افْتَرَقَا فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَذَا عَلَى جَوَاز التَّصَرُّفِ فِي الْحَرَامِ الْبَيِّنِ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَارَ فِي الذِّمَّةِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُعَيَّنًا، فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِصَاحِبِهِ وَالْغَاصِبُ لَهُ مَأْمُورٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِرَدِّهِ لِمُسْتَحِقِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذِمَّةَ هَذَا الْغَاصِبِ مُسْتَغْرَقَةٌ لِكَثْرَةِ غَصْبِهِ وَكَثْرَةِ الْحُقُوقِ الْمُرَتَّبَةِ فِيهَا، فَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَإِنْ كَثُرَتْ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَرْبَابِهَا، وَتَبْقَى الْفَضَلَاتُ الْكَثِيرَةُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا فِي يَدِهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ الضَّرُورَاتِ أَلْجَأَتْ إلَى أَخْذِ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَالْمَوَاضِعِ لِكَثْرَةِ الْعَائِلَةِ وَالْمَلَازِمِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مَأْخُوذٌ
مِمَّا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ وَصَرَّحَ بِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] ذَكَرَ سبحانه وتعالى ذَلِكَ فِي مَعْرَضِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ عَدَا الرُّسُلَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - فَإِنَّهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ. وَمَعَ كَثْرَةِ عَائِلَتِهِمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْإِقَامَةِ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، فَكُلٌّ فِي ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ. وَقَدْ كَانَ عَيْشُهُمْ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَاشْتُهِرَ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ وَخَشِنِ الْمَلْبَسِ وَقِلَّةِ الْجِدَّة، تَكْرِيمًا لَهُمْ وَتَرْفِيعًا لِمَنَازِلِهِمْ السَّنِيَّةِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُحِبُّونَ الْفَقْرَ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ وَيَهْرُبُونَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، لَا جَرَمَ أَنَّا لَمَّا أَخَذْنَا فِي الضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ جَاءَ الْخَوْفُ مِنْ الْفَقْرِ وَالِاعْتِلَالِ بِالْعَائِلَةِ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِالضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَأَحْوَالِ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: مَا أَتَى عَلَى مَنْ أَتَى فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا مِنْ الضَّرُورَاتِ الْمُعْتَادَاتِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ، فَكَانَ رحمه الله يَقُولُ: هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهَا. مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْفَقِيهُ: لَا بُدَّ مِنْ فَوْقَانِيَّةٍ عَلَى صِفَةٍ، لَا بُدَّ مِنْ عِمَامَةٍ عَلَى صِفَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ كُتُبٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَابَّةٍ، فَإِذَا جَاءَتْ الدَّابَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ غُلَامٍ وَكُلْفَةٍ فِي الْغَالِبِ، وَلَا بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَغْلَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ لِغُلَامِهِ بَغْلَةً أَيْضًا، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْغُلَامُ إلَى زَوْجَةٍ، فَلَا يَزَالُ هَكَذَا فِي ضَرُورَاتٍ حَتَّى يَرْجِعَ فِي الدُّنْيَا مُتَّسِعَ الْحَالِ وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مَضْرُورٌ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ فِي الْوَقْتِ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقُول: أَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ نَظَرًا مِنْهُ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَأَشْبَاهِهِ مِنْ الْمَسْكَنِ عَلَى صِفَةٍ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ وَالْأَوَانِي وَالْجَوَارِي وَالْخَدَمِ وَالْغِلْمَانِ، فَتَأْتِي الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَهُوَ مَهْمُومٌ تَجِدُهُ يَشْكُو مِنْ كَثْرَةِ الضَّرُورَاتِ الَّتِي يَدَّعِيهَا، فَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله -