المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[أخذ الدرس في البيت والمدرسة] - المدخل لابن الحاج - جـ ٢

[ابن الحاج]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ بَعْض مَا يَفْعَلهُ النِّسَاء فِي المولد النبوي]

- ‌[فَصْلٌ مفاسد الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ]

- ‌[فَصْلٌ عَمَلُ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ جَمْعِ الدَّرَاهِمِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي خصوصية مولد الرَّسُول بشهر ربيع الْأَوَّل]

- ‌[فَصَلِّ المرتبة الثَّالِثَةُ فِي ذِكْر بَعْض مَوَاسِم أَهْل الْكتاب]

- ‌[مِنْ المواسم يَوْم النيروز]

- ‌[فَصْل مِنْ الْمَوَاسِمِ خميس العدس]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ المواسم الْيَوْمِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سَبْتُ النُّورِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ المواسم مَا يفعلوه فِي مَوْلِدِ عِيسَى عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ المواسم عِيدِ الزَّيْتُونَةِ]

- ‌[فَصْلٌ بَعْضِ عَوَائِدَ اتَّخَذَهَا بَعْضُ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ أخلت بِبَعْضِ الْفَرَائِضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صَوْمِ أَيَّامِ الْحَيْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ أَسْبَابِ السِّمَنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ وَاسْتِنَابَتِهِ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ السُّوقِ إلَى بَيْتِهِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ]

- ‌[أَخْذُ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ]

- ‌[فَصْلٌ للعالم أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ مِنْ أبناء الدنيا]

- ‌[فَصْلٌ تُرُكَ الْعَالم الدَّرْسَ لِعَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِنَازَةٍ أَوْ غَيْرهَا]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي المدرسة إذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَكُونَ آكد الأمور وَأَهَمُّهَا عِنْدَهُ الْقَنَاعَةَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ فِي الدُّرُوسِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاجْتِمَاعِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَوْرَادِ طَالِبِ الْعِلْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَحَفُّظِ طَالِبِ الْعِلْمِ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى الْمَنَاصِبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعَدَالَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ أَحْكَامَ الْغُسْلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِ الرَّجُلِ الْحَمَّامَ]

- ‌[آدَاب النوم]

- ‌[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْجِمَاعِ]

- ‌[فَصْلٌ إذَا رَأَى مِنْ زَوْجَته أَمَارَاتِ طَلَبِ الْجِمَاع]

- ‌[فَصْلٌ إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الرَّجُلَ إذَا رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ وَأَتَى أَهْلَهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمَنْع مِنْ إفشاء سُرّ الِاجْتِمَاع بزوجته]

- ‌[فَصْلٌ فِي آدَاب الْقِيَام مِنْ النوم]

- ‌[فَصْلٌ فِي طَالِب الْعِلْم يتحفظ مِنْ أُمُور]

- ‌[فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَآدَابِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرِ بِتَغْيِيرِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الْكُرْسِيُّ الْكَبِيرُ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَامِعِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّبْلِيغِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ اتِّخَاذُ الْمِنْبَرِ الْعَالِي]

- ‌[فَصْلٌ الْبِئْر الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ مَوْضِعُ الْفَسْقِيَّةِ وَالْحَظِيرِ الَّذِي عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهَا]

- ‌[فَصْلٌ مَوْضِعُ الدِّيوَانِ مِنْ الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ الزَّخْرَفَةِ فِي الْمِحْرَابِ]

- ‌[فَصْلٌ الْبِنَاء فَوْق سَطْح الْمَسْجِد]

- ‌[فَصْلٌ الْوُضُوءَ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمَرَاوِح وَاِتِّخَاذَهَا فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاة الْعَصْر]

- ‌[فَصَلِّ كَرَاهَة الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد]

- ‌[فَصْلٌ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[النَّهْي عَنْ قص الشعر فِي الْمَسْجِد]

- ‌[فَصْلٌ يَنْهَى الزَّبَّالِينَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ]

- ‌[النَّهْي عَنْ وُقُوفِ الدَّوَابِّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ]

- ‌[النَّهْي عَنْ الْإِتْيَانِ لِلْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَلَا تَغْيِيرِ هَيْئَةٍ]

- ‌[فَضِيلَةِ الْمُؤَذِّنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَوْضِعِ الْأَذَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَذَانِ جَمَاعَةً]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ بِالْأَلْحَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الطَّوَافِ بِالْمُؤَذِّنِ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذَا مَاتَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَذَانِ الشَّابِّ عَلَى الْمَنَارِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَمَّا أَحْدَثُهُ الْمُؤَذِّنُونَ بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّسْحِيرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ فِي التَّسْحِيرِ]

- ‌[فَصْلٌ نهي الْمُؤَذِّنِينَ عَنْ التَّذْكَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَرْتِيب الْمُؤَذِّنِينَ فِي آذان الظُّهْر]

- ‌[فَصْلٌ فِي حِكْمَةِ تَرْتِيبِ الْأَذَانِ]

- ‌[فَصْلٌ وُقُوف الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَقَوْلِهِمْ الصَّلَاةَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِمَا لَا يَنْبَغِي]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْي عَنْ مَشْيِ الْمُؤَذِّنِينَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَهَيُّئِ الْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا فِي نَفْسِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ صَلَاة الْمُؤَذِّن عَلَى النَّبِيّ عِنْد خُرُوج الْإِمَام]

- ‌[فَصْلٌ فِي هيئة الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي فَرْشِ السَّجَّادَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إسْلَامِ الْكَافِرِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ إذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَدَعَا فِيهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّة دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْجَهْر بِالنِّيَّةَ]

- ‌[التَّنَفُّلُ فِي الْمَسَاجِدِ بِتَوَابِعِ الْفَرَائِضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الْمُصَلَّى]

- ‌[فَصْلٌ فِي سَلَامِ الْعِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ إثْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي صفة الْإِمَام فِي قِيَام رَمَضَان]

- ‌[فَصْلٌ فِي الذِّكْرِ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُفْعَلُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صِفَةِ قِيَامِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْخُطْبَةِ عَقِبَ الْخَتْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ الْخَتْمِ بِسَجَدَاتِ الْقُرْآنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي قِيَامِ السَّنَةِ كُلِّهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ الْخَتْمِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي]

- ‌[فَصْلٌ فِي وُقُودِ الْقَنَادِيلِ لَيْلَةَ الْخَتْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُؤَدِّبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَسْبَابِ أَوْلِيَاءِ الصِّبْيَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صِفَةِ تَوْفِيَتِهِ بِمَا نَوَاهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ مِنْ الْآدَابِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْصِرَافِ الصِّبْيَانِ مِنْ الْمَكْتَبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَزْوِيقِ الْأَلْوَاحِ]

الفصل: ‌[أخذ الدرس في البيت والمدرسة]

وَفِي وَقْتِ التَّفْرِقَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُمْ حَظَّهُمْ مِنْهُ فِي وَقْتِ مَا وَيُؤَاكِلُ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ وَجَوَارِيَهُ وَعَبِيدَهُ مِنْ صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَفْضَلَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ خَلَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا مِنْ الْخَيْرِ مِنْهَا امْتِثَالُ السُّنَّةِ وَالتَّوَاضُعُ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ وَقَوْلُهُ هَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلْبَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مُحْتَمَلٌ لِدُخُولِهَا إلَّا مَنْ اُسْتُثْنِيَ فَالْكَلْبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَفِي الْأَكْلِ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ تَرْكُ رُعُونَةِ النَّفْسِ وَتَرْكُ رِيَاسَتِهَا وَالتَّعَاظُمِ وَالْفَخْرِ وَاتِّصَافِهَا بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ لِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ بَيِّنٌ وَاضِحٌ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ النَّاجِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُنْجِيَنَا مِنْ جَمِيعِ الْمَهَالِكِ بِفَضْلِهِ أَجْمَعِينَ. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْخَلْوَةِ مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِ فَهُوَ عَلَى جَادَّةِ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَمَذْهَبُ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ عَمَلَ السِّرِّ هُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِهِ الْمَلَكَانِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ آدَابِ الْعَالِمِ فِي أَخْذِهِ الدَّرْسَ فِي الْمَسْجِدِ

[أَخْذُ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ]

ِ وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى أَخْذِهِ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَدْرَسَةِ فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ لِضَرُورَةٍ مَا أَعْنِي لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ لِأَجْلِهَا فَأَخْذُهُ الدَّرْسَ فِي الْبَيْتِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ فِيهِ ضَرَرٌ فِي الْغَالِبِ عَلَيْهِ وَعَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَالْأَدَبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ يَخْتَصُّ الْبَيْتُ بِبَعْضِ الْآدَابِ، وَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ فِي الْبَيْتِ تَتَأَكَّدُ، فَمِنْهَا كَثْرَةُ تَوَاضُعِهِ لِلدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي تَلَقِّيهمْ بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ التَّلَقِّي إذْ أَنَّ الْبَيْتَ مَحَلُّ انْقِبَاضِهِمْ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَبْسُطْ لَهُمْ الْأُنْسَ وَإِلَّا كَانَ

ص: 97

سَبَبًا لِانْقِبَاضِهِمْ أَوْ عَدَمِ مَجِيئِهِمْ أَوْ يَقِلُّ فَهْمُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ وَمِنْهَا أَنْ يَأْذَنَ لِلطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ أَوْ التَّعْلِيمِ أَوْ لِيَسْمَعَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْخَلِيفَةِ أَدْرَكْت الْعُلَمَاءَ وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ انْتَهَى.

وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَا يُوَفَّقُونَ لِلْعَمَلِ بِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ ثَوَابَ الْعِلْمِ يَكْثُرُ بِانْتِشَارِهِ، فَكُلَّمَا انْتَشَرَ زَادَ الثَّوَابُ لِمُعَلِّمِهِ وَحَصَلَ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ. وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِصَاصُ بِهِ امْتَنَعَ انْتِشَارُهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ انْتِشَارُهُ ذَهَبَ بَعْضُ ثَوَابِهِ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يُحْرَمَ الْخَاصَّةُ فَهْمَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَعَانِيهَا؛ لِأَنَّ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ نَوْعَ تَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ وَبُخْلٍ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقُوهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَحُرِمُوا الْفَهْمَ فِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] الْآيَةَ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَبِّرِينَ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَلَكِنَّهُمْ مَنَعُوا فَائِدَتَهُ وَهِيَ الْفَهْمُ فِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فَبَقِيَ الْعَوَامُّ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَعَانُ.

وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنَ مَشْهُورًا مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِهَارِهِ سَبَبٌ لِقِلَّةِ انْتِشَارِ الْعِلْمِ أَوْ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ كَتْمٍ لَهُ. وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ أَخْذِ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ حِسٌّ وَلَا كَلَامٌ خِيفَةً مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يُشْعَرُ بِهَا. وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَقَعَ الضَّرَرُ بِهِ وَبِمَنْ يَأْتِي إلَيْهِ إذْ أَنَّ وَقْتَ الْإِذْن بَقِيَ غَيْرَ مَضْبُوطٍ لَهُمْ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ فِي أَثْنَاءِ الدَّرْسِ قَطَعَ وَقَامَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ. فَإِذَا خَرَجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إلَى الْمَسْجِدِ ظَهَرَتْ بِذَلِكَ الشَّعَائِرُ وَاقْتَدَى بِهِ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَحَصَلَ لَهُمْ بَرَكَةُ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِمَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ مِنْ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ

ص: 98

وَالثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. أَلَا تَرَى إلَى وَصَفَ الْوَاصِفُ لِبَعْضِ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ فَيَحْصُلُ لِلْعَالِمِ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى الْخَيْرَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْعَالِمِ فِي الْبَيْتِ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ طَلَبَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ يَحُوزُونَ بِهَا فَضِيلَةَ الِاجْتِمَاعِ لَكِنْ يَذْهَبُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ إذَا صَلَّوْا فِي الْبَيْتِ الْفَضَائِلَ وَالْأُجُورَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ وَيَكُونُ مَا وَقَعَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً إذْ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِهِ وَبِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى تَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ أَوْ بَعْضِهَا مِنْ الْجَمَاعَاتِ. إذْ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَعْدَمُونَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُمْ فِي الْبُيُوتِ فَيَجِدُونَ السَّبَبَ لِلْقُدْوَةِ بِالْعَالِمِ فِي تَرْكِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَرُورَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِهَا فَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنَّهُ مَضْرُورٌ لِتَرْكِ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكَ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى.

وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَافِظُونَ عَلَى آدَابِ الشَّرِيعَةِ كَمَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ مِنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ إلَى الْمَسْجِدِ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ يَتَهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ لِأَجْلِ شُهُودِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِيَشْهَدَ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِنَامَ بَرَكَتِهِمْ وَالصَّلَاةَ مَعَهُمْ وَخَلْفَهُمْ إذْ الْغَالِبُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رَغْبَةً مِنْهُ فِي فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَإِذَا امْتَلَأَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِيه، وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى آخِرِ النَّاسِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَمَّا سَبْقِي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلِأَحُوزَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَعَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَمَّا انْتِقَالِي إلَى مَا سِوَاهُ فَلَعَلَّ أَنْ أُصَلِّيَ خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ فَيُغْفَرَ لِي سِيَّمَا

ص: 99

إنْ كَانَ الْمَغْفُورُ لَهُ إمَامًا فَبَخٍ عَلَى بَخٍ. فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَمُهِمَّاتِهِ.

وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ أَعْتَقَ رَقَبَةً. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ لِلْعَالِمِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ فِي الْبَيْتِ عَنْ الْمَسْجِدِ فَلْيَأْذَنْ لِمَنْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ إظْهَارِ شَعِيرَةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُمْسِكُهُمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ وَيُصَلِّي هُوَ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إنْ أَمْكَنَ فَإِذَا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ رَجَعُوا إلَيْهِ إنْ كَانَ بَقِيَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ وَظِيفَتِهِمْ إنْ شَاءُوا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ فِي الْبَيْتِ صَلَّى فَذَا فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَبْرَكُ لِأَجْلِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي إذْنِهِ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِإِظْهَارِ السُّنَّةِ وَالشَّعِيرَةِ كَمَا سَبَقَ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَثْرَةَ الْمَسَاجِدِ وَقِلَّةَ الْمُصَلَّيْنَ فِيهَا. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ كَثْرَةَ الْمَسَاجِدِ فِي الْمَحَلَّةِ الْوَاحِدَةِ. رُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ جَعَلَ كُلَّمَا خَطَا خُطْوَتَيْنِ رَأَى مَسْجِدًا، فَقَالَ مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ كُلَّمَا كَثُرَتْ الْمَسَاجِدُ قَلَّ الْمُصَلَّوْنَ أَشْهَدُ لَقَدْ كَانَتْ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ وَكَانَ أَهْلُ الْقَبِيلَةِ يَتَنَاوَبُونَ الْمَسْجِدَ الْوَاحِدَ فِي الْحَيِّ مِنْ الْأَحْيَاءِ. وَاخْتَلَفُوا إذَا اتَّفَقَ مَسْجِدَانِ فِي مَحَلَّةٍ فِي أَيِّهِمَا يُصَلَّى. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي أَقْدَمِهِمَا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم قَالَ: وَكَانُوا يُجَاوِزُونَ الْمَسَاجِدَ الْمُحْدَثَةَ إلَى الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا انْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ فَلَمْ يُوجَدْ تَعْطِيلٌ بِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ. وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ بِمَنِّهِ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ أَوْ يَغْتَرَّ بِبَعْضِ عَوَائِدِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَذَلِكَ أَنَّك تَجِدُ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى يَسْمَعُ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يُزَعْزِعُهُ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَرَّكُ لِلْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَوْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ وَيَنْتَظِرُ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّلَبَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيُصَلِّيَ مَعَهُ

ص: 100

الْفَرْضَ وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ السِّيَاسَةِ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ دُونَ خُرُوجٍ وَحَرَكَةٍ إلَى الْمَسْجِدِ وَدُونَ مُخَالَطَةِ الْعَوَامّ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فِي الْوَقْتِ وَخَشِيَ خُرُوجَهُ صَلَّى مَعَ أَهْلِهِ إنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَإِلَّا صَلَّى فَذًّا، وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْجِدُ عَلَى بَابِهِ أَوْ بِجِوَارِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ وَقَدْ يُصَلِّي فِيهِ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا لَكَانَ الْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَهْرَعُ إلَيْهِ حِينَ قَرَعَ سَمْعَهُ النِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَكْثَرَكُمْ أَجْرًا أَبْعَدُكُمْ دَارًا» مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْجَمَاعَةِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْبَرَكَاتِ وَالْكُنُوزِ فِي الْغَالِبِ لَا يُبَادِرُ إلَيْهَا إلَّا مَنْ يَعْرِفُهَا.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ ثَلَاثًا. رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَلَمْ يُجِبْ.» انْتَهَى. ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ تَجِدُ الْجَامِعَ الْأَعْظَمَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ إذَا صَلَّى الْإِمَامُ يَسْتُرُهُ عَوَامُّ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ، وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ سَهْوٌ، فَلَا يَجِدُ مِنْ يُسَبِّحُ لَهُ وَلَا مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ إنْ جَرَى عَلَيْهِ أَمْرٌ يُحْوِجُهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِإِفْسَادِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ، ثُمَّ إنَّك إذَا نَظَرْت إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَا تَجِدُ فِيهِ فِي الْغَالِبِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» انْتَهَى، وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْهُمْ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ إلَى آخِرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ مِنْهُمْ كَانُوا أَسْرَعَ سَبْقًا لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ أُمِيتَتْ وَتُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَكِنْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ بَقِيَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ قَائِمَةٌ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّك تَجِدُ بِهَا الْمَسَاجِدَ مُصَانَةً مُرَفَّعَةً عَظِيمَةً لَا تُرْفَعُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ، وَلَا تُدْخَلُ إلَّا لِلصَّلَاةِ أَوْ لِمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّرْتِيبِ

ص: 101

فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِ، فَهُمْ مَاشُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ.

وَلَهُمْ عَادَةٌ حَسَنَةٌ قَدْ مَضَى ذِكْرُهَا وَهِيَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ الصُّفُوفَ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ لَكِنَّ الَّذِينَ يَسْتُرُونَ الْإِمَامَ هُمْ أَكْثَرُ امْتِيَازًا مِنْ غَيْرِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَهُمْ مَعْلُومُونَ قَلَّ أَنْ يَغِيبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ غَابَ لِضَرُورَةٍ قَدَّمُوا مَوْضِعَهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ، فَيُصَلِّي الْإِمَامُ وَهُوَ مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ، إذْ أَنَّهُمْ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يَغْفُلُونَ عَنْ حَرَكَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَهَذَا عَكْسُ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ حَتَّى إنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ الْيَوْمَ فِي الْمَسْجِدِ لَرَأَيْته بَعِيدًا مِنْ الْإِمَامِ، وَقَدْ لَا يُصَلِّي فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَتَقَدَّمُهُ السَّجَّادَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ.

فَهَذَا بَعْضُ الْآدَابِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْعَالِمِ إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ يَأْخُذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ فَآدَابُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ، لَكِنَّ الْمَسْجِدَ لَهُ آدَابٌ تَخُصُّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَالْمَدْرَسَةُ لَهَا آدَابٌ تَخُصُّهَا سَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ لِأَجْلِ كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ لِمَنْ قَصَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، بِخِلَافِ الْمَدْرَسَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي إلَيْهَا غَالِبًا إلَّا مَنْ قَصَدَ الْعِلْمَ أَوْ الِاسْتِفْتَاءَ فَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَقَلُّ رُتْبَةً فِي الِانْتِشَارِ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَكْثَرُ انْتِشَارًا مِنْهُ فِي الْبَيْتِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ أَخْذَ الدَّرْسِ فِي الْمَدْرَسَةِ إلَّا لِأَجْلِ الْمَعْلُومِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي الْمَدْرَسَةِ أَنْ يَأْخُذَ بِتِلْكَ النِّيَّاتِ الَّتِي وُصِفَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَتِلْكَ الْآدَابِ. بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي إخْلَاصِ نِيَّتِهِ وَيَدْفَعَ الشَّوَائِبَ عَنْ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِالْمَعْلُومِ أَوْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ

ص: 102

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» .

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» انْتَهَى، فَإِذَا جَاءَهُ الْمَعْلُومُ دُونَ سُؤَالٍ وَلَا اسْتِشْرَافِ نَفْسٍ فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ.

هَذَا عَلَى جَادَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيمُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَعَلَامَةُ صِدْقِهِ فِيمَا وَصَفَ مِنْ تَعْلِيمِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ عَنْهُ الْمَعْلُومَ لَا يَتْرُكُ التَّعْلِيمَ وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَتَبَرَّمُ وَلَا يَتَضَجَّرُ، بَلْ يَكُونُ فِي وَقْتِ قَطْعِ الْمَعْلُومِ أَكْثَرَ تَعْلِيمًا وَأَشَدَّ حِرْصًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْلُومُ قَدْ قُطِعَ عَنْهُ اخْتِبَارًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَرَى صِدْقَهُ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ بِهِ، فَإِنَّ رِزْقَهُ مَضْمُونٌ لَهُ مُطْلَقًا لَا يَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي جِهَةٍ دُونَ أُخْرَى.

قَالَ: عليه الصلاة والسلام «تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِ طَالِبِ الْعِلْمِ» انْتَهَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، لَكِنَّ حِكْمَةَ تَخْصِيصِ طَالِبِ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ أَنَّ ذَلِكَ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ كَمَا سَبَقَ، فَجَعَلَ نَصِيبَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ فِي الدَّرْسِ وَالْمُطَالَعَةِ وَالتَّفَهُّمِ لِلْمَسَائِلِ وَإِلْقَائِهَا، وَذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ بِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ.

وَهَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الْعُلَمَاءِ أَعْنِي فَهْمَ الْمَسَائِلِ وَحُسْنَ إلْقَائِهَا وَالْمَعْرِفَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ فِي تَعْلِيمِهَا، كَمَا أَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهَا أَشْيَاءُ أُخَرُ يَطُولُ تَعْدَادُهَا مِثْلَ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ هَذَا الْمَنْصِبَ الشَّرِيفَ مِنْ التَّرَدُّدِ لِمَنْ يُرْجَى أَنْ يُعِينَ عَلَى إطْلَاقِ الْمَعْلُومِ أَوْ التَّحَدُّثِ فِيهِ أَوْ إنْشَاءِ مَعْلُومٍ عِوَضُهُ. وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي مَدْرَسَةٍ فَانْقَطَعَ الْمَعْلُومُ عَنْهُ وَعَنْ طَلَبَتِهِ أَوْ نُقِصَ مِنْهُ، فَقَالُوا لِلْمُدَرِّسِ: لَعَلَّك أَنْ تَمْشِيَ إلَى فُلَانٍ وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِتَجْتَمِعَ بِهِ

ص: 103

عَسَى أَنْ يَأْمُرَ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ، فَقَالَ: نَعَمْ مِرَارًا إلَى أَنْ عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَسْتَحْيِ مِنْ رَبِّي عز وجل أَنْ تَكْذِبَ هَذِهِ الشَّيْبَةُ عِنْدَهُ، فَقَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنِّي أُصْبِحُ كُلَّ يَوْمٍ أَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت فَأَقُولُ هَذَا وَأَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ مَخْلُوقٍ أَسْأَلُهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهِ لَا فَعَلْته فَلَمْ يَمْشِ إلَيْهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ قَطْعَ الْمَعْلُومِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يُشْهِرُهُ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الضَّجَرِ وَقِلَّةِ الثِّقَةِ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّعَرُّضِ إلَى اطِّلَاعِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَثِقُ بِرَبِّهِ فِي الْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ، بَلْ الْمَنْعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ هُوَ عَطَاءٌ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، إذْ أَنَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ.

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَدْرَسَةِ عَلَى مَا وُصِفَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَالْقُرْبِ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِغْلَاقُ بَابِ الْمَدْرَسَةِ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ عَنْ الْعَامَّةِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِلْعِلْمِ وَالتَّبَرُّكِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْبَوَّابُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِجَابٌ عَنْ الْعِلْمِ أَيْضًا وَاخْتِصَاصٌ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ يَفْتَحُ الْبَابَ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الدُّخُولَ كَمَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا جُعِلَ الْبَوَّابُ لِأَجْلِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَامّ إذَا دَخَلُوا الْمَدْرَسَةَ تَشَوَّشَ الْمَوْضِعُ وَكَشَفُوا عَوْرَاتِهِمْ عِنْدَ الْفَسْقِيَّةِ، وَقَدْ يَسْرِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَقْدَامِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ يَكْثُرُ لَغَطُهُمْ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْبَوَّابَ الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ أَوْ غَيْرِهِ يَكُونُ وَاقِفًا عِنْدَ أَخْذِهِمْ الدَّرْسَ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا أَنْ يَقْرُبَ مِنْ نَاحِيَةِ أَقْدَامِهِمْ، وَإِنْ رَأَى أَحَدًا يُرِيدُ أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ نَهَاهُ وَزَجَرَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ.

وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَتَّخِذَ نَقِيبًا بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِمًا كَانَ أَوْ جَالِسًا، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ الْيَوْمَ مِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي لَيْسَتْ لِمَنْ

ص: 104

مَضَى؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يَكُنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَفِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اتِّخَاذِ الْحَاجِبِ وَالْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ: إمَّا مُتَكَبِّرٌ فِي نَفْسِهِ مُتَجَبِّرٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَهُ الِاتِّسَامُ بِالْعِلْمِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمُتَكَبِّرِينَ، وَإِمَّا رَجُلٌ جَاهِلٌ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ بِجَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ حَالَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي تَوَاضُعِهِمْ لَتَشَبَّهَ بِهِمْ إنْ سَلِمَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ. وَالثَّالِث وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَأَعْظَمُ ثُبُوتًا فِي الصُّدُورِ وَهِيَ الْعَوَائِدُ الْمُسْتَمِرَّةُ، حَتَّى إنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْوَهْمُ فِي تِلْكَ الْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَقَدْ يَجْعَلُهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ إنْ سَلِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إلَى مَا أَنِسَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ فَوَجَدَهَا مَعْمُولًا بِهَا، وَالْعُلَمَاءُ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفِي فِعْلِ مَنْ يُسْكِتُ الطَّلَبَ إخْمَادٌ لِلْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون بَعْضُ الطَّلَبَةِ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَيُرِيدُ أَنْ يَبْحَثَ فِيهَا حَتَّى تَبِينَ لَهُ، أَوْ عِنْدَهُ سُؤَالٌ وَارِدٌ يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَهُ حَتَّى يُزِيلَ مَا عِنْدَهُ، فَيُسْكَتَ إذْ ذَاكَ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الْمَقْصُودِ.

وَكَذَلِكَ الْمُدَرِّسُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسْكِتَ أَحَدًا إلَّا إذَا خَرَجَ عَنْ الْمَقْصُودِ أَوْ كَانَ سُؤَالُهُ وَبَحْثُهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فَيُسْكِتُهُ الْعَالِمُ بِرِفْقٍ وَيُرْشِدُهُ إلَى مَا هُوَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ مِنْ السُّكُوتِ أَوْ الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَقُومُ عَلَى الطَّلَبَةِ شَخْصٌ سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْ الْعَوَامّ النَّافِرِينَ عَنْ الْعِلْمِ فَيُؤْذِيهِمْ بِبَذَاءَةِ لِسَانِهِ وَزَجْرِهِ بِعُنْفٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى نُفُورِ الْعَامَّةِ أَكْثَرَ سِيَّمَا وَمِنْ شَأْنِهِمْ النُّفُورُ فِي الْغَالِبِ مِنْ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهِمْ، وَالنُّفُوسُ فِي الْغَالِبِ تَنْفِرُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهَا، فَإِذَا رَأَى الْعَوَامُّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمَذْمُومَ يُفْعَلُ مَعَ الطَّلَبَةِ أَمْسَكَتْ الْعَامَّةُ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَتْمًا لِلْعِلْمِ وَاخْتِصَاصًا بِهِ كَمَا سَبَقَ.

وَشَأْنُ الْعَالِمِ سَعَةُ الصَّدْرِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ عَنْ سُؤَالِ الْعَامَّةِ وَجَفَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ؛ إذْ أَنَّهُ مَحَلُّ الْكَمَالِ

ص: 105

وَالْفَضَائِلِ وَقَدْ عَلِمَ مَا فِي سَعَةِ الْخُلُقِ مِنْ الثَّنَاءِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنَاقِبِ الْعُلَمَاءِ مَا لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فَتَخْصِيصُهُ سبحانه وتعالى الْخُلُقَ بِالذِّكْرِ فِيهِ تَخْصِيصٌ عَظِيمٌ وَإِرْشَادٌ بَلِيغٌ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ، وَالِاتِّصَافِ بِهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ الْمَمْدُوحَةِ شَرْعًا. فَإِنْ قَالَ الْعَالِمُ مَثَلًا: إنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُسْكِتَهُمْ فَأَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَنْ يُسْكِتُهُمْ عَنْهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى هَلُمَّ جَرًّا.

أَمَّا فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ حَجّ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى نَاقَتِهِ، وَهَذَا يَسْأَلُهُ، وَهَذَا يُحَدِّثُهُ، وَهَذَا يُنَادِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ ثَمَّ حَاجِبٌ وَلَا طَرَّادٌ وَلَا إلَيْك إلَيْك وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ» . وَإِنَّمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام ذَلِكَ لِلتَّشْرِيعِ لِأُمَّتِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ الْكُبْرَى وَالْمَنْزِلَةِ الْمُنِيفَةِ الْعُظْمَى عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل. وَقَدْ كَانَ عليه الصلاة والسلام يَقْعُدُ لِلنَّاسِ عُمُومًا وَيَتَكَلَّمُ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهِ مِنْ التَّبْلِيغِ وَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَالَ: عليه الصلاة والسلام «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاَللَّهُ يُعْطِي» انْتَهَى. فَأَخْلَصَ صلى الله عليه وسلم الْعَطِيَّةَ وَالْهِبَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ.

وَكَلَامُهُ كَانَ عَامًّا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ بِإِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ إذْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَسَاوَوْا فِي الْأَحْكَامِ وَبَقِيَتْ الْمَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ فِي أَمْرٍ أَنَّهُ لَا يَنْجَحُ، وَمِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَنْ يَخْتَارَ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّعْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِمْ.

وَأَمَّا فِعْلُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ فَكَثِيرٌ فِي هَذَا

ص: 106

الْبَابِ بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ أَنْ يَنْوِيَ بِجُلُوسِهِ إظْهَارَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ عَادَتْ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بَرَكَةُ تِلْكَ النِّيَّةِ السُّنِّيَّةِ فَيُوَفَّقُ وَيُسَدَّدُ وَيُعَانُ وَيُحْمَلُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا يَتَوَقَّعُهُ غَيْرُهُ، أَوْ يُصِيبُهُ مِنْ الْمَلَلِ وَالسَّآمَةِ وَالضَّجَرِ وَالْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَيَحْتَمِلُهُمْ كَاحْتِمَالِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، بَلْ هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً مِنْ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ مَعَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا عَنْ حَظِّ النَّفْسِ، وَشَفَقَتُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ لَهُ فِيهَا حَظُّ الْبَشَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ فَكَانَ احْتِمَالُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْبَرَكَةُ حَاصِلَةٌ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ بَابِ الْمَدْرَسَةِ وَأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَبْوَابِهِمْ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِالْحَاجِبِ وَالنَّقِيبِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ بِفَتْوَى إلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ يَجِدُ الْحَاجِبَ وَالْبَوَّابَ وَغَيْرَهُمَا يَمْنَعُونَهُ، بَلْ يَمْتَنِعُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْبِغَالَ وَالْغِلْمَانِ الَّذِينَ عَلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَنْ يَصِلَ الْبَابَ بَلْ يَنْصَرِفُ وَيَتْرُكُ مَا جَاءَ بِسَبَبِهِ.

وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الرُّكُوبَ عَلَى الدَّوَابِّ مَكْرُوهٌ، بَلْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ جَائِزًا فَمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ، وَهُوَ صَحِيحُ الْبَدَنِ فَرُكُوبُهُ مِنْ الْقِسْمِ الْجَائِزِ، وَمَنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَكَانَ أَخْذُ الدَّرْسِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَيَزِيدُ مَرَضُهُ بِهِ زِيَادَةً تَضُرُّهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَاجِبًا. وَأَمَّا مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَرِيبَ الدَّارِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمَشْيَ فِي حَقِّ هَذَا أَفْضَلُ، إذْ أَنَّهُ مَاشٍ إلَى أَصْلِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَجَاءَ إلَى بَيْتِ الْمَدْرَسَةِ وَجَدَ الْحُجَّابَ أَغْلَظَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْبَابِ وَجَدَ مَنْ يَمْنَعُ وُصُولَ خَبَرِهِ إلَى الْعَالِمِ حَتَّى إنَّهُ قَدْ يَبْذُلَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يُوصِلَ الْفَتْوَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يُكَلِّمَهُ. وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، فَلَوْ كَانَ

ص: 107

الْعَالِمُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَكَانَ النَّاسُ يَتَوَصَّلُونَ إلَى قَضَاءِ أَغْرَاضِهِمْ مِمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا خَرَجَ مِنْهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ عَلَى صِفَةٍ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ يَخْرُجُ بَعْضُهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ نَقِيبٍ وَلَا غَيْرِهِ وَهُوَ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيلُ هَذَا يَطُولُ وَبِالْجُمْلَةِ فَفِيمَا أُشِيرُ إلَيْهِ غُنْيَةٌ عَنْ الْبَاقِي.

وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا جَاءَتْهُ الْفَتْوَى أَنْ يَسْأَلَ عَمَّنْ وَقَعَتْ لَهُ حَتَّى يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِهِ إنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ يُسَهِّلَ حُضُورَهُ وَيَتَثَبَّتَ فِي فَهْمِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَسْمَعُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَرَقَةَ قَدْ يُكْتَبُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ فَيُفْتِي عَلَى وَهْمٍ أَوْ غَلَطٍ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ صَوَابًا عَلَى مَا رَآهُ مَكْتُوبًا، فَإِنْ تَعَذَّرَ حُضُورُ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ النَّازِلَةُ فَشَأْنُ الْعَالِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ جَهْدَهُ وَأَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَتَى بِالْفَتْوَى أَنَّهُ يُعَاوِدُ صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ إنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يُفْتِيَ إلَّا بَعْدَ التَّحَرُّزِ الْكُلِّيِّ وَالتَّحَفُّظِ الْعَظِيمِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ وَيَنْشَرِحَ صَدْرُهُ، ثُمَّ بَعْدَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ لِذَلِكَ وَالْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِ الْفَتْوَى لَا يُعَجِّلُ بِالْكَتْبِ عَلَيْهَا بَلْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى وَقْتِ الدَّرْسِ، فَيَعْرِضُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَرَى رَأْيَهُ وَرَأْيَهُمْ فِيهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فَإِنْ وَافَقَ مَا عِنْدَهُ مَا قَالُوهُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ خَالَفُوهُ بَحَثَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَبْدَى لَهُمْ مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ كَتَبَ عَلَيْهَا بِمَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَهُ وَلْيَحْذَرْ مِنْ الْعَجَلَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ وَيُفْتِي بِمَا تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يُسْتَدْرَكَ.

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِالزَّيَّاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَاسْتَفْتَتْهُ فَأَجَابَهَا ثُمَّ مَضَتْ لِسَبِيلِهَا فَمَا هُوَ إلَّا قَلِيلٌ، وَإِذَا بِالشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَهُ فِي فَمِهِ وَخَرَجَ يَجْرِي حَافِيًا إلَى أَنْ لَحِقَ الْمَرْأَةَ فَأَخَذَ الْفَتْوَى

ص: 108

مِنْهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ، فَقَالَ: ذَكَرْت أَنِّي وَهَمْت فِي جَوَابِهَا فَأَسْرَعْت لِئَلَّا تَفُوتَنِي، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ أَمَرْتنَا لَفَعَلْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا هِيَ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَكَانَ أَحَدُكُمْ يَقُومُ عَلَى هَيِّنَتِهِ، وَحَتَّى يَلْبَسَ نَعْلَيْهِ، وَحَتَّى يَمْشِيَ الْمَشْيَ الْمُعْتَادَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قَلِيلًا، فَقَدْ تَفُوتُ الْمَرْأَةُ وَلَا تُعْلَمُ جِهَتُهَا، وَاَلَّذِي تَتَعَلَّقُ الْمَسْأَلَةُ بِذِمَّتِهِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا جَرَى عَلَيْهِ فَيُبَادِرُ إلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ.

وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا جَاءَتْهُ الْفَتْوَى يَقُولُ لِمَنْ أَتَى بِهَا: مَا يُمَكِّننِي أَنْ أَكْتُبَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخَطَّ قَدْ يُزَادُ فِيهِ وَيُنْقَصُ فَيَقَعُ مُخَالِفًا لِمَا الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ، فَلَا يُفْتِي حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ النَّازِلَةِ، فَإِذَا حَضَرَ سَأَلَهُ عَمَّا وَقَعَ لَهُ فَيُخْبِرُهُ بِهِ فَيَقُولُ لَهُ: إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ يَحْضُرُ الْجَوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا جَاءَ مِنْ الْغَدِ يَسْأَلُهُ الْجَوَابَ يَقُولُ لَهُ الشَّيْخُ: أَعِدْ عَلَيَّ الْمَسْأَلَةَ فَإِذَا أَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ بَحَثَ فِيهَا مَعَ مَنْ حَضَرَهُ ثُمَّ أَفْتَاهُ أَوْ كَتَبَ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ خَالَفَ مَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ قَالَ لَهُ الشَّيْخُ: أَيُّمَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي بِالْأَمْسِ أَوْ الَّذِي بِالْيَوْمِ فَيَرُدُّهَا وَلَا يُفْتِي لَهُ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَيَقُولُ لَهُ: لَا أَعْلَمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ حَتَّى أُفْتِيَ عَلَيْهِ، هَكَذَا هُوَ حَالُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّحَرُّزِ عَلَى ذِمَمِهِمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً لَا تَحْتَاجُ إلَى بَحْثٍ وَلَا تَطْوِيلِ نَظَرٍ، فَلَا بَأْسَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلسَّدَادِ بِمَنِّهِ.

فَلَوْ مَشَى الْعَالِمُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ الْقَوِيمِ لَحَصَلَ لَهُ فَائِدَتَانِ عَظِيمَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ.

وَالثَّانِي: انْتِفَاعُ مَنْ حَضَرَهُ وَتَعْلِيمُهُمْ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ سَهْلٌ يَسِيرٌ فِي الْغَالِبِ إذْ النُّبَهَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ قَدْ طَالَعُوا عَلَيْهِ غَالِبًا، وَهُمْ قَدْ عَرَفُوا مَأْخَذَهُ وَمُرَادَهُ وَمُشْكِلَاتِهِ وَالْجَوَابَ عَنْهَا وَحَلَّهَا وَالْفَتَاوَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا نَوَازِلُ تَنْزِلُ عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ وَلَا أُهْبَةٍ، وَفِيهَا تَظْهَرُ نَبَاهَةُ طَلَبَتِهِ وَتَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا الْفَائِدَةُ الْجَمَّةُ وَالتَّثَبُّتُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَعُ لَهُمْ مِنْهَا.

وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ قَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَيُؤْخَذُ مِمَّنْ سِوَاهُمْ:

لَا يُؤْخَذُ مِنْ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ، وَلَا سَفِيهٍ

ص: 109

مُعْلِنٍ بِسَفَهِهِ، وَلَا مِمَّنْ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّأْنَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ وَلَا يَكُونُ إمَامًا أَبَدًا، ثُمَّ قَرَأَ {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] انْتَهَى، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ أَوْ يَسْعَى فِي طَلَبِ التَّدْرِيسِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ مَدْرَسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْلِسُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعَلِّمُ وَيَتَعَلَّمُ وَيُفِيدُ وَيَسْتَفِيدُ لِكَيْ يَظْهَرَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَرَّمَهُ أَوْ كَرِهَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، فَمَا كَانَ أَصْلُهُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا جَانَسَهَا فَيَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلِطَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْذَارِ الدُّنْيَا.

وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَعَالِي الْأُمُورِ وَأَكْمَلِهَا إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ وَهُدًى لِلْمُهْتَدِينَ، فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَتَسَبَّبُ فِيمَا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي طَلَبِ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَالْغَالِبُ أَنَّ النُّفُوسَ تَأْنَسُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ ذَمُّهُ مَوْجُودًا فِي الْكُتُبِ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ، رضي الله عنهم لَكِنَّ شَأْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ فِي وَقْتِهِمْ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ إيثَارًا لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَغْرَاضِهِمْ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ وَإِقَامَةً لِحُرْمَتِهِ، بَلْ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلْيَتَرَبَّصْ وَلْيَسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْتَشِرْ وَلَا يَعْجَلْ، فَإِنَّ الْعَجَلَةَ مِنْ الشَّرَاهَةِ، وَالشَّرَاهَةُ مَذْمُومَةٌ لِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «إنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» انْتَهَى.

وَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ وَكَانَ أَخْذُهُ لِذَلِكَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِشْرَافٍ مِنْهُ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَالْبَرَكَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ وَالْمَأْمُولُ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الْقَلِيلِ أَغْنَتْ عَنْ الْكَثِيرِ وَأَعَانَتْ عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا سَأَلَهُ كَانَتْ يَدُهُ سُفْلَى، وَلَيْسَ هَذَا مَنْصِبَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعُلَمَاءِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعُلْيَا، وَلَا

ص: 110