المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في ذكر آداب المتعلم] - المدخل لابن الحاج - جـ ٢

[ابن الحاج]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ بَعْض مَا يَفْعَلهُ النِّسَاء فِي المولد النبوي]

- ‌[فَصْلٌ مفاسد الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ]

- ‌[فَصْلٌ عَمَلُ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ جَمْعِ الدَّرَاهِمِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي خصوصية مولد الرَّسُول بشهر ربيع الْأَوَّل]

- ‌[فَصَلِّ المرتبة الثَّالِثَةُ فِي ذِكْر بَعْض مَوَاسِم أَهْل الْكتاب]

- ‌[مِنْ المواسم يَوْم النيروز]

- ‌[فَصْل مِنْ الْمَوَاسِمِ خميس العدس]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ المواسم الْيَوْمِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سَبْتُ النُّورِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ المواسم مَا يفعلوه فِي مَوْلِدِ عِيسَى عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ المواسم عِيدِ الزَّيْتُونَةِ]

- ‌[فَصْلٌ بَعْضِ عَوَائِدَ اتَّخَذَهَا بَعْضُ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ أخلت بِبَعْضِ الْفَرَائِضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صَوْمِ أَيَّامِ الْحَيْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ أَسْبَابِ السِّمَنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ وَاسْتِنَابَتِهِ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ السُّوقِ إلَى بَيْتِهِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ]

- ‌[أَخْذُ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ]

- ‌[فَصْلٌ للعالم أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ مِنْ أبناء الدنيا]

- ‌[فَصْلٌ تُرُكَ الْعَالم الدَّرْسَ لِعَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِنَازَةٍ أَوْ غَيْرهَا]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي المدرسة إذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَكُونَ آكد الأمور وَأَهَمُّهَا عِنْدَهُ الْقَنَاعَةَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ فِي الدُّرُوسِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاجْتِمَاعِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَوْرَادِ طَالِبِ الْعِلْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَحَفُّظِ طَالِبِ الْعِلْمِ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى الْمَنَاصِبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعَدَالَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ أَحْكَامَ الْغُسْلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِ الرَّجُلِ الْحَمَّامَ]

- ‌[آدَاب النوم]

- ‌[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْجِمَاعِ]

- ‌[فَصْلٌ إذَا رَأَى مِنْ زَوْجَته أَمَارَاتِ طَلَبِ الْجِمَاع]

- ‌[فَصْلٌ إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الرَّجُلَ إذَا رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ وَأَتَى أَهْلَهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمَنْع مِنْ إفشاء سُرّ الِاجْتِمَاع بزوجته]

- ‌[فَصْلٌ فِي آدَاب الْقِيَام مِنْ النوم]

- ‌[فَصْلٌ فِي طَالِب الْعِلْم يتحفظ مِنْ أُمُور]

- ‌[فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَآدَابِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرِ بِتَغْيِيرِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الْكُرْسِيُّ الْكَبِيرُ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَامِعِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّبْلِيغِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ اتِّخَاذُ الْمِنْبَرِ الْعَالِي]

- ‌[فَصْلٌ الْبِئْر الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ مَوْضِعُ الْفَسْقِيَّةِ وَالْحَظِيرِ الَّذِي عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهَا]

- ‌[فَصْلٌ مَوْضِعُ الدِّيوَانِ مِنْ الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ الزَّخْرَفَةِ فِي الْمِحْرَابِ]

- ‌[فَصْلٌ الْبِنَاء فَوْق سَطْح الْمَسْجِد]

- ‌[فَصْلٌ الْوُضُوءَ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمَرَاوِح وَاِتِّخَاذَهَا فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاة الْعَصْر]

- ‌[فَصَلِّ كَرَاهَة الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد]

- ‌[فَصْلٌ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[النَّهْي عَنْ قص الشعر فِي الْمَسْجِد]

- ‌[فَصْلٌ يَنْهَى الزَّبَّالِينَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ]

- ‌[النَّهْي عَنْ وُقُوفِ الدَّوَابِّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ]

- ‌[النَّهْي عَنْ الْإِتْيَانِ لِلْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَلَا تَغْيِيرِ هَيْئَةٍ]

- ‌[فَضِيلَةِ الْمُؤَذِّنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَوْضِعِ الْأَذَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَذَانِ جَمَاعَةً]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ بِالْأَلْحَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الطَّوَافِ بِالْمُؤَذِّنِ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذَا مَاتَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَذَانِ الشَّابِّ عَلَى الْمَنَارِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَمَّا أَحْدَثُهُ الْمُؤَذِّنُونَ بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّسْحِيرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ فِي التَّسْحِيرِ]

- ‌[فَصْلٌ نهي الْمُؤَذِّنِينَ عَنْ التَّذْكَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَرْتِيب الْمُؤَذِّنِينَ فِي آذان الظُّهْر]

- ‌[فَصْلٌ فِي حِكْمَةِ تَرْتِيبِ الْأَذَانِ]

- ‌[فَصْلٌ وُقُوف الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَقَوْلِهِمْ الصَّلَاةَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِمَا لَا يَنْبَغِي]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْي عَنْ مَشْيِ الْمُؤَذِّنِينَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَهَيُّئِ الْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا فِي نَفْسِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ صَلَاة الْمُؤَذِّن عَلَى النَّبِيّ عِنْد خُرُوج الْإِمَام]

- ‌[فَصْلٌ فِي هيئة الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي فَرْشِ السَّجَّادَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إسْلَامِ الْكَافِرِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ إذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَدَعَا فِيهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّة دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْجَهْر بِالنِّيَّةَ]

- ‌[التَّنَفُّلُ فِي الْمَسَاجِدِ بِتَوَابِعِ الْفَرَائِضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الْمُصَلَّى]

- ‌[فَصْلٌ فِي سَلَامِ الْعِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ إثْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي صفة الْإِمَام فِي قِيَام رَمَضَان]

- ‌[فَصْلٌ فِي الذِّكْرِ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُفْعَلُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صِفَةِ قِيَامِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْخُطْبَةِ عَقِبَ الْخَتْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ الْخَتْمِ بِسَجَدَاتِ الْقُرْآنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي قِيَامِ السَّنَةِ كُلِّهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ الْخَتْمِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي]

- ‌[فَصْلٌ فِي وُقُودِ الْقَنَادِيلِ لَيْلَةَ الْخَتْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُؤَدِّبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَسْبَابِ أَوْلِيَاءِ الصِّبْيَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صِفَةِ تَوْفِيَتِهِ بِمَا نَوَاهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ مِنْ الْآدَابِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْصِرَافِ الصِّبْيَانِ مِنْ الْمَكْتَبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَزْوِيقِ الْأَلْوَاحِ]

الفصل: ‌[فصل في ذكر آداب المتعلم]

فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَكَانَ لَهُ مَكَانٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ]

ِ قَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ ذِكْرُ بَعْضِ آدَابِ الْعَالِمِ، وَفِي ذِكْرِهِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ إذْ أَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا ذُكِرَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي ذَلِكَ، لَكِنْ قَدْ يَخْتَصُّ الْمُتَعَلِّمُ بِبَعْضِ نُبَذٍ يَسِيرَةٍ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي التَّعْلِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يُظْهِرَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ هُوَ فِي حَقِّ الْمُتَعَلِّمِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ فَيَحْرِصُ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ مِنْ الشَّوَائِبِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِأَجْلِ أَنْ يَرْتَفِعَ قَدْرُهُ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ يُعْرَفَ بِالْعِلْمِ، أَوْ لِمَعْلُومٍ يَأْخُذُهُ بِهِ، أَوْ لَأَنْ يَرْأَسَ بِهِ عَلَى الْجُهَّالِ، أَوْ لَأَنْ يُشَارَ إلَيْهِ، أَوْ لَأَنْ يُسْمَعَ قَوْلُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا الَّتِي تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَفْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عز وجل لَا يُرِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عز وجل حَيْثُ يَقُولُ سبحانه وتعالى لِمَنْ اتَّصَفَ بِبَعْضِ مَا ذُكِرَ:«أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ اذْهَبْ فَخُذْ الْأَجْرَ مِنْ غَيْرِي»

، وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عز وجل.

وَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ فَيَتَعَيَّنُ تَخْلِيصُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْتَدِئُهُ أَوَّلًا بِالْإِخْلَاصِ الْمَحْضِ، حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ طَيِّبًا فَتَأْتِيَ الْفُرُوعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ فَيُرْجَى خَيْرُهُ، وَتَكْثُرَ بَرَكَتُهُ، وَالْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ أَنْفَعُ وَأَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ تَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ

ص: 122

وَمِنْ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِوَجْهِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُعَانًا، وَمَنْ طَلَبَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُهَانًا انْتَهَى هَذَا إذَا كَانَ هُوَ الدَّاخِلُ بِنَفْسِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ هُوَ الَّذِي يُرْشِدُهُ لِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَلِّمَهُ النِّيَّةَ فِيهِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْشِدَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِسَبَبِ أَنْ يَرْأَسَ بِهِ، أَوْ يَأْخُذَ مَعْلُومًا عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنَّ هَذَا سُمٌّ قَاتِلٌ يُخْرِجُ الْعِلْمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ يَقْرَأُ، وَيَجْتَهِدُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.

فَإِنْ جَاءَ شَيْءٌ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ تَعَالَى قَبِلَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ لَا لِأَجْلِ إجَارَةٍ، أَوْ مُقَابَلَةٍ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ أَنَّ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا عِوَضٌ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى رَاوِيَ الْمُوَطَّأِ لَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى مَالِكٍ لِيَقْرَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: اجْتَهِدْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ شَابٌّ فِي سِنِّك فَقَرَأَ عَلَى رَبِيعَةَ، فَمَا كَانَ إلَّا أَيَّامٌ وَتُوُفِّيَ الشَّابُّ فَحَضَرَ جِنَازَتَهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ، وَلَحَدَهُ رَبِيعَةُ بِيَدِهِ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي النَّوْمِ، وَهُوَ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لِي، وَقَالَ لِمَلَائِكَتِهِ: هَذَا عَبْدِي فُلَانٌ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَبْلُغَ دَرَجَةَ الْعُلَمَاءِ فَبَلِّغُوهُ دَرَجَتَهُمْ فَأَنَا مَعَهُمْ أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُونَ.

قَالَ فَقُلْت: وَمَا يَنْتَظِرُونَ قَالَ: الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعُصَاةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْعَى لِطَلَبِ الْمَعْلُومِ، وَلَا فِي زِيَادَتِهِ، وَلَا فِي تَنْزِيلِهِ فِي الْمَدَارِسِ، وَلَا فِي الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ يُرْجَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ الذَّمُّ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَدْرَسَةِ إلَى غَيْرِهَا، وَلَا مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا لِفَائِدَةٍ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ، إمَّا لَأَنْ يَكُونَ مُدَرِّسُ الْمَدْرَسَةِ الْأُخْرَى أَعْلَمَ، أَوْ أَفْيَدَ، أَوْ أَصْلَحَ مِنْ الْأَوَّلِ، أَوْ لَأَنْ تَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْعِلْمِ، وَتَثْبُتَ، وَإِنْ كَانَ

ص: 123

الثَّانِي أَقَلَّ عِلْمًا مِنْ الْأَوَّلِ لَا لِأَجْلِ مَعْلُومٍ، فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ كَانَ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالْمُبْتَدِي يَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُنْتَهِي؛ لِأَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَارِفٌ بِالدَّسَائِسِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ إنْ حَصَلَ لَهُ التَّوْفِيقُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُبْتَدِي

، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّهُ أَخْذُ الْمَعْلُومِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا سَبَقَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ تَعَلُّقِ خَاطِرِهِ بِالْأَسْبَابِ، وَيَأْخُذُ الْمَعْلُومَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَتَرْكُ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي بَحْرٍ مَخُوفٍ، وَالْغَالِبُ فِيهِ الْعَطَبُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام حَيْثُ يَقُولُ:«مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» أَوْ كَمَا قَالَ.

عليه الصلاة والسلام وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَعَلُّمُ الْعِلْمِ فَيُخَافُ عَلَيْهِ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى بِهِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى مَسْأَلَةٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهَا أَهْلَ الْعِلْمِ، وَحِينَئِذٍ يَقْدُمُ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا عَلِمْت عِلْمًا فَلْيُرَ عَلَيْك أَثَرُهُ، وَسَمْتُهُ، وَسَكِينَتُهُ، وَوَقَارُهُ، وَحِلْمُهُ لِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» .

وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ، وَذُكِرَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَهْذِرُونَ الْكَلَامَ هَكَذَا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ شَهْرٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: مِنْ الْعُلَمَاءِ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ: أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمَّا أَنْ قَرَأَ الْعِلْمَ وَجَدَ قَوَاعِدَهُ مَاشِيَةً عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْوَاجِبَ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا فِعْلُهُ، وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمُ عَكْسُهُ، وَالْمَنْدُوبُ مَا لَهُ فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ عِقَابٌ، وَالْمَكْرُوهُ ضِدُّهُ، وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِهِ، وَفِي تَرْكِهِ فَاتَّبَعَ الْعِلْمَ، وَبِاتِّبَاعِهِ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ أَوَّلًا فَوَجَدَ الْعِلْمَ يَمْنَعُهَا

ص: 124

فَتَرَكَهَا.

وَقَدْ نَقَلَ مَعْنَى هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ فَقَالَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَمَلُ لِلَّهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَرُدُّهُ الْعِلْمُ إلَى اللَّهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ انْتَهَى. هَذَا وَجْهٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إنْسَانٌ غُرَّ فَسَلِمَ، وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَغُرَّ بِنَفْسِهِ، وَيَرْجُوَ أَنْ يَسْلَمَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ، وَهُوَ الْغَالِبُ إلَى طَلَبِ الْمَعْلُومِ، وَإِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَدَارِسَ جَمَّةٍ لِأَجْلِ قِيَامِ الْبِنْيَةِ، وَضَرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِنْهُ، وَقَعَ الْخَلَلُ، وَرَجَعَتْ أَعْمَالُ الْآخِرَةِ لِمُجَرَّدِ الدُّنْيَا، وَهُوَ عَطَبٌ عَظِيمٌ إذْ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو طَالِبُ الْعِلْمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَاثِقًا بِرَبِّهِ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَاشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ، وَإِقْبَالُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَنْ يَدُورَ عَلَى الْمَدَارِسِ، أَوْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِهِ خُصُوصًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] فَجَعَلَ الْمَشْيَ سَبَبًا لِلرِّزْقِ، فَالْجَوَابُ أَنَّك إذَا نَظَرْت إلَى تَمَامِ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] بَانَ لَك أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيهِ التَّنْبِيهُ لِلْمُتَسَبِّبِينَ عَلَى التَّحَفُّظِ فِي مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا، إذْ أَنَّ يَوْمَ النُّشُورِ فِيهِ الْحِسَابُ فَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْوَرَعِ فِي السَّبَبِ خِيفَةً مِنْ الْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ يَوْمَ النُّشُورِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ» انْتَهَى.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» انْتَهَى.

فَأَرْشَدَنَا صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ هَذَا إلَى تَرْكِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ ثِقَةً بِاَللَّهِ تَعَالَى

ص: 125

وَبِكِفَايَتِهِ، فَإِنَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْكَرِيمُ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّغَفُ بِالْأَسْبَابِ فَقَالَ: طَيَرَانُ الطَّائِرِ سَبَبٌ فِي رِزْقِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ طَيَرَانَ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ لَا يُمَاثِلُ التَّسَبُّبَ فِي الرِّزْقِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ فِيهِ حَبٌّ يُلْتَقَطُ، وَلَا جِهَةٌ تُقْصَدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَا عَقْلَ لَهُ يُدْرِكُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَيَرَانَهُ فِي الْهَوَاءِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ الرِّزْقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَرَكَةِ يَدِ الْمُرْتَعِشِ لَا حُكْمَ لَهَا، فَيَتَرَدَّدُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى يُؤْتَى بِرِزْقِهِ إلَيْهِ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ إلَى رِزْقِهِ، وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ حَمْلُ طَيَرَانِ الطَّائِرِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الرِّزْقِ، وَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ مُتَوَكِّلًا مَعَ طَيَرَانِهِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِهِ، وَالْعَاقِلُ الْمُكَلَّفُ أَوْلَى بِالتَّوَكُّلِ مِنْهُ سِيَّمَا مَنْ دَخَلَ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الْعَاجِزُ عَنْ التَّوَكُّلِ لِعَدَمِ قُوَّةِ الْيَقِينِ عِنْدَهُ فَالْأَسْبَابُ عَلَيْهِ مُتَّسِعَةٌ فَيَتَسَبَّبُ فِي شَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ، بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ أَوْسَاخَ النَّاسِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ، وَيَكْفِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ، وَقَدْ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ فَيَصِيرُ كَثِيرًا.

وَعَلَى هَذَا كَانَ حَالُ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعْلُومٌ عَلَى سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْأَرْزَاقُ عَلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْهُ دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ تَعَاطَى أَسْبَابَ الْآخِرَةِ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: رحمه الله كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْدَادُ بِعِلْمِهِ بُغْضًا لِلدُّنْيَا، وَتَرْكًا لَهَا، فَالْيَوْمَ يَزْدَادُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ لِلدُّنْيَا حُبًّا، وَلَهَا طَلَبًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْيَوْمَ يَكْتَسِبُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ مَالًا، وَكَانَ يُرَى عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ زِيَادَةُ إصْلَاحٍ فِي بَاطِنِهِ، وَظَاهِرِهِ، فَالْيَوْمَ تَرَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَسَادَ الْبَاطِنِ، وَالظَّاهِرِ انْتَهَى.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ

ص: 126

إنَّهُ لَا يُمْكِنُ طَالِبَ الْعِلْمِ التَّسَبُّبُ فِي الصَّنَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ سَمْتِهِ، وَوَقَارِهِ، وَزِيِّهِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ فِي الزِّيِّ، وَلَا الْمَلْبَسِ لِفَقِيهٍ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى أَئِمَّةِ الْهُدَى أَنْ يَكُونُوا فِي مِثْلِ أَدْنَى أَحْوَالِ النَّاسِ لِيَقْتَدِيَ بِهِمْ الْغَنِيُّ، وَلَا يَزْرِي بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ، وَعُوتِبَ رضي الله عنه فِي لِبَاسِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ مِنْ الْكَرَابِيسِ قِيمَةُ قَمِيصِهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ إلَى خَمْسَةٍ، وَيَقْطَعُ مَا فَضَلَ عَنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَقَالَ: هَذَا أَدْنَى إلَى التَّوَاضُعِ، وَأَجْدَرُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ.

وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّنَعُّمِ، وَقَالَ:«أَلَا إنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم «إنَّ مِنْ شِرَارِ أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ» انْتَهَى.

أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي ثَوْبِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إحْدَى عَشْرَةَ رُقْعَةً إحْدَاهَا مِنْ أَدِيمٍ، هَذَا وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ لَائِقٍ بِهِمْ، وَهَذَا زَمَانٌ لَا يَلِيقُ بِهِ مَا ذَكَرْتُمْ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَانَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ سَوَاءٌ إذْ أَنَّ الْكُلَّ عَمَّهُمْ الْخِطَابُ، وَتَنَاوَلَتْهُمْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ شَرْعًا، أَوْ بِجُلِّهَا، وَقَدْ مَضَتْ حِكَايَةُ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله فِي تَوَاضُعِهِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَكَذَلِكَ حِكَايَةُ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ الْمَعْرُوفِ بِالزَّيَّاتِ رحمه الله، وَمَا جَرَى لَهُ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ الصُّلَحَاءِ فِي وَقْتِهِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا جَلَسَ إلَى الدَّرْسِ يَجْتَمِعُ لَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ، أَوْ سِتِّمِائَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَحْضُرُونَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَامَ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَأَخْرَجَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى

ص: 127

رَأْسِهِ، أَوْ فِي يَدِهِ مِنْ قَمْحٍ يَطْحَنُهُ، أَوْ عَجِينٍ يَخْبِزُهُ، أَوْ شِرَاءِ خُضْرَةٍ، أَوْ حَاجَةٍ مِنْ السُّوقِ، أَوْ حَصَادٍ لِزَرْعِهِ بِيَدِهِ، أَوْ غَسْلِ ثِيَابٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَائِجِ، وَلَهُ مِنْ الْهَيْبَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْ الطَّلَبَةِ، أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ فَالْخَيْرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَاقٍ لِمَنْ أَرَادَهُ، وَتَحْصِيلُهُ مُمْكِنٌ، وَإِنَّمَا بَقِيَ التَّوْفِيقُ فَمَنْ وُفِّقَ، وَتَرَكَ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ، وَالطَّبَائِعَ النَّفْسَانِيَّةَ، فَقَدْ أَرْشَدَ، وَجَاءَهُ الْعَوْنُ قَالَ: عليه الصلاة والسلام «لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى طَائِفَةٌ بِالْمَغْرِبِ انْتَهَى.

مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «أُمَّتِي كَالْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَيُّهُ أَنْفَعُ أَوَّلُهُ، أَوْ آخِرُهُ» ، أَوْ كَمَا قَالَ: عليه الصلاة والسلام فَلَا يَقْطَعُ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْإِيَاسَ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَرَمِهِ، وَقَدْ رَأَيْت وَبَاشَرْت بَعْضَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِالْمَغْرِبِ يَأْخُذُونَ الْمِسْحَاةَ، وَيَأْتُونَ إلَى مَوَاقِفِ الْبَنَّائِينَ، فَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ سَبَبٌ مَشَوْا فِيهِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، وَإِلَّا رَجَعُوا إلَى الدَّرْسِ، وَالِاشْتِغَالِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَطُولُ ذِكْرُهُ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنْ يَدْخُلَ الْمُتَعَلِّمُ إلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ بِجِدٍّ، وَاجْتِهَادٍ، وَحُسْنِ نِيَّةٍ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْعَوَارِضِ، وَالْأَسْبَابِ، وَالْعَوَائِدِ الَّتِي اُنْتُحِلَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ يُقْدِمُ عَلَيْهَا، أَوْ يَتْرُكُهَا ثِقَةً بِهِ عز وجل كَمَا سَبَقَ

، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ التَّوَاضُعَ لِمَنْ يُعَلِّمُهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي الْعَالِمِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي الْمُتَعَلِّمِ الْمُحْتَاجِ إلَى التَّعْلِيمِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوَاضُعُهُ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ صَارَ أَرْضًا تُوطَأُ كَانَ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ يَطْلُبُهُ؛ وَلِأَنَّ التَّوَاضُعَ يُقْبَلُ بِالْقُلُوبِ عَلَيْهِ، وَيُنَشِّطُ مَنْ يُعَلِّمُهُ لِتَعْلِيمِهِ، وَإِرْشَادِهِ، وَالتَّوَاضُعُ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ، وَبَرَكَةُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا اتَّصَفَ الْمُتَعَلِّمُ بِمَا ذُكِرَ انْتَفَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْوَقْتِ مِنْ نَظَرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْمَعْلُومِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: كَيْفَ يَأْخُذُ فُلَانٌ كَذَا، وَكَذَا، وَأَنَا أَكْثَرُ مِنْهُ بَحْثًا، وَقَدْ حَفِظْت الْكِتَابَ

ص: 128

الْفُلَانِيَّ، وَالْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ، وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ شَنَآنٌ، وَاتِّصَافٌ بِالْحَسَدِ، وَمَا شَاكَلَهُ.

وَخَرَجَ ذَلِكَ إلَى بَابِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَوَقَعُوا بِسَبَبِهِ فِي الْوَعِيدِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ: عليه الصلاة والسلام «مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ» إلَخْ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ لَا يَتَّصِفُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ إلَّا أَنْ يَبْنِيَ أَمْرَهُ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ إذْ أَنَّ الْبِنَاءَ إذَا طَلَعَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَسَاسٍ صَحِيحٍ جَيِّدٍ يُعْمَلُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُبْنَى عَلَيْهِ.

وَالْأَسَاسُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُبْتَدِي فِي هَذَا الْفَنِّ اتِّبَاعُ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ، وَكَانَتْ أَحْوَالُهُمْ رضي الله عنهم الْهَرَبَ مِنْ الدُّنْيَا، وَأَسْبَابِهَا، فَإِنْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا قَالُوا: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ ضِيقٌ سُرُّوا بِذَلِكَ، وَفَرِحُوا بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَتَهُمْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُرْجَعُ إلَى أَقْوَالِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عليه الصلاة والسلام مَا مَعْنَاهُ يَا مُوسَى إذَا رَأَيْت الدُّنْيَا أَقْبَلَتْ فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ، وَإِذَا رَأَيْتهَا أَدْبَرَتْ فَقُلْ: أَهْلًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ دَعَا مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وَطَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا مُوسَى أَمَا تُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَ بِغَدَائِك رَقَبَةً مِنْ النَّارِ، وَبِعَشَائِك رَقَبَةً مِنْ النَّارِ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ قَالَ: هُوَ كَذَلِكَ، أَوْ كَمَا قَالَ فَكَانَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام يَتَغَدَّى عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَيَتَعَشَّى عِنْدَ آخَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ رِفْعَةً فِي حَقِّهِ لِتَعَدِّي النَّفْعِ إلَى عِتْقِ مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعِتْقِ رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَكَابِرُ لَهُمْ أَمْوَالٌ، وَأَسْبَابٌ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اتِّخَاذَهُمْ الْأَمْوَالَ، وَالْعَمَلَ عَلَى الْأَسْبَابِ لَا يُمْنَعُ إذَا دَخَلَ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رضي الله عنهم فِي عَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا، إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا سَوَاءٌ أَقْبَلَتْ، أَوْ أَدْبَرَتْ، فَإِنْ أَقْبَلَتْ قَابَلُوهَا بِالْإِيثَارِ، وَالْبَذْلِ لِلَّهِ، وَإِنْ أَدْبَرَتْ قَابَلُوهَا بِالصَّبْرِ، وَالرِّضَا، وَالتَّسْلِيمِ لِمَنْ الْأَمْرُ بِيَدِهِ، وَهِمَّتُهُمْ، وَبُغْيَتُهُمْ إنَّمَا

ص: 129

كَانَ تَحْصِيلَ زَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ فِي الْفَقْرِ، وَالْغِنَى، وَالْحَرَكَةِ، وَالسُّكُونِ.

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُرْجَانِيُّ رحمه الله يَقُولُ: هَذِهِ الْحَالَةُ اُخْتُصَّ بِهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ عَجَزَ غَيْرُهُمْ عَنْهَا انْتَهَى.

يَعْنِي فِي الْغَالِبِ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ اشْتَغَلَ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ إلَّا أَضَرَّ بِالْآخَرِ، يَعْنِي مَنْ اشْتَغَلَ بِالدُّنْيَا أَضَرَّ بِالْآخِرَةِ، وَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْآخِرَةِ أَضَرَّ بِالدُّنْيَا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَجَمْعُك بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ عَجِيبٌ فَإِذَا اتَّصَفَ الطَّالِبُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ التَّفَاوُتُ لِمَنْ زِيدَ لَهُمْ فِي الْمَعْلُومِ، أَوْ نُقِصَ، وَكَذَلِكَ يَتَسَاوَى عِنْدَهُ مَوَاضِعُ الْجُلُوسِ فِي الِارْتِفَاعِ، وَالِانْخِفَاضِ، كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فَحَيْثُ أَجْلَسَهُ اللَّهُ جَلَسَ، وَمَا سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ رَضِيَهُ، وَشَكَرَهُ، وَمَا مَنَعَهُ مِنْهُ حَمِدَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَآهُ مِنْ رَبِّهِ عز وجل عَطَاءً، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ حَالِهِ انْتَفَتْ عَنْهُ الشَّوَائِبُ الْمَذْمُومَةُ، وَبَقِيَ الْعِلْمُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا صَارَ الْعِلْمُ كَذَلِكَ، وَصَحِبَهُ الْعَمَلُ بِهِ جَاءَ مِيرَاثُهُ الْعَاجِلُ، وَهُوَ الْخَشْيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، وَإِذَا حَصَلَتْ الْخَشْيَةُ قَوِيَ الرَّجَاءُ فِي الْقَوْلِ، وَأَنَّهُ مَاشٍ عَلَى مِنْهَاجِ السَّلَامَةِ، وَالْغَنِيمَةِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ، وَعَكْسُ هَذَا الْحَالِ فِي النَّقِيضِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَنْسِجْ عَلَى مِنْوَالِ مَنْ مَضَى، فَالْخَيْرُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَبِأَحْوَالِهِمْ فِي الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمُحَمَّدٍ، وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِمْ، وَسَلَّمَ.

وَأَصْلُ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمِهِ، وَهُوَ آكَدُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فَإِذَا اتَّصَفَ الْمُتَعَلِّمُ بِالتَّقْوَى كَانَ اللَّهُ عز وجل مُعَلِّمَهُ، وَهَادِيَهُ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُعَلِّمَهُ، وَهَادِيَهُ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ فَقَدْ يَحْصُلُ لِلْمُتَعَلِّمِ نَفَائِسُ مِنْ الْمَسَائِلِ لَا تُؤْخَذُ بِالدَّرْسِ، وَلَا بِالشُّيُوخِ لِأَجْلِ مَا حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ

ص: 130

وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ، وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ فِي التَّقْوَى اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ لِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ» ، وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا» فَإِذَا اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعَمَلِ

وَمِنْ آكَدِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ تَخْلِيصُ ذِمَّتِهِ مِنْ إخْوَانِهِ، وَجُلَسَائِهِ، وَمَعَارِفِهِ، وَغَيْرِهِمْ إذْ تَخْلِيصُ الذِّمَّةِ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْخَطِرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ عَمَّتْ بِهِمَا الْبَلْوَى لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِمَا عَلَى الْأَلْسُنِ، وَهُمَا الْغِيبَةُ، وَالنَّمِيمَةُ فَالنَّمِيمَةُ: أَنْ تَنْقُلَ حَدِيثَ قَوْمٍ إلَى آخَرِينَ، وَالْغِيبَةُ: أَنْ تَقُولَ فِي غَيْبَةِ الشَّخْصِ مَا يَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا، وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بَاطِلًا فَهُوَ الْبُهْتَانُ بِعَيْنِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، وَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ إلَى أَنْ قَالَ: أَلَا هَلْ بَلَّغْت أَلَا هَلْ بَلَّغْت مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا» فَأَكَّدَ الْأَمْرَ فِي الثَّلَاثِ كَمَا تَرَى، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ مُنْقَسِمُونَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لَا خَامِسَ لَهَا:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: السَّالِمُ مِنْ الْجَمِيعِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11]{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] .

الْقِسْمُ الثَّانِي: عَكْسُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَنْ كَانَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ، وَالْجِدَّةُ، وَوَاقَعَ الْجَمِيعَ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ عَجَزَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَكَانَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَالْوَقِيعَةِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَوَاقَعَهُمَا مَعًا، فَقَدْ لَحِقَهُ الْإِثْمُ فِي فِعْلِهِ، وَالْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ بِنِيَّتِهِ إذْ لَوْلَا عَجْزُهُ عَنْهُ لَفَعَلَهُ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَنْ عَجَزَ عَنْ الدِّمَاءِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَوَقَعَ فِي الْأَعْرَاضِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ آثِمًا فِي الثَّالِثِ لِفِعْلِهِ لَهُ مُلْحَقًا بِأَصْحَابِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بِنِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ، وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا

ص: 131