الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَحَدٌ الْيَوْمَ لَوَجَدُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: تَرَكَ السُّنَّةَ فَظَهَرَ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عليه الصلاة والسلام حَيْثُ قَالَ: «كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا: تَرَكَ سُنَّةً» فَيَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِرِ جَهْدَهُ إذْ أَنَّهُ عَلَمٌ لِلْعَامَّةِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الْغَالِبِ
[فَصْلٌ فِي الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرِ بِتَغْيِيرِهَا]
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرِ بِتَغْيِيرِهَا قَالَ الرَّسُولُ: عليه الصلاة والسلام «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ رَعِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّنْ لَهُ التَّصَرُّفُ. أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام حِينَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ وَرُئِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ أَوْ رُئِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَشِدَّتُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلَا يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا» فَنَظَرُهُ عليه الصلاة والسلام لِذَلِكَ مِنْ بَعْضِ فَوَائِدَ، إذْ أَنَّ الْمَسْجِدَ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَسْجِدِهِ عليه الصلاة والسلام الَّذِي هُوَ مَفْرُوشٌ بِالرَّمْلِ، أَمَّا غَيْرُهُ مِمَّا هُوَ مَفْرُوشٌ بِالْحُصُرِ أَوْ بِالرُّخَامِ أَوْ بِالْبَلَاطِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الثَّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ: أَنْ يَبْزُقَ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ وَيَحُكَّهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَبْصُقُ تَحْتَ طَرَفِ الْحَصِيرِ وَيَرُدُّ الْحَصِيرَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الدَّفْنِ لَهَا كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ كَثْرَةِ تَعْظِيمِهِمْ لِلْمَسَاجِدِ وَاحْتِرَامِهَا، وَأَنَّ مَسَاجِدَهُمْ كَانَتْ يُمْكِنُ الدَّفْنُ فِيهَا غَالِبًا وَقَلَّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ لِشِدَّةِ التَّعْظِيمِ، بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ فَتَعَاطِي الْقَلِيلَ
مِنْهُ يُؤَدِّي إلَى الْكَثِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ اسْتِقْذَارًا لِلْمَسْجِدِ.
الثَّانِي: أَنَّ الذُّبَابَ يَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَيُشَوِّشُ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ فَيُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُشَاشَ يَكْثُرُ بِسَبَبِهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَغَذَّى بِهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا يُسَمَّى تَغْطِيَةً وَلَا يُسَمَّى دَفْنًا.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى.
السَّادِسُ: أَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحَصِيرَ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ تَحْتَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى آلَ إلَى تَقْطِيعِهِ.
السَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْوَقْفِ فِي غَيْرِ مَا جُعِلَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا.
الثَّامِنُ: أَنَّ ذَلِكَ يُكْسِبُ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَطْيِيبِهِ وَهَذَا ضِدُّهُ.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الْبُصَاقِ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ وَهُوَ نَجِسٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ مِمَّنْ بِهِ مَرَضٌ. وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ مَا أَكَلَ إذْ أَنَّهُ إذَا عَالَجَهُ وَأَزَالَهُ فَلَا يَبْتَلِعُهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مُخَالَطَتُهُ لِشَيْءٍ مِنْ دَمِ اللِّثَاتِ، وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ لَا يَسْتَاكُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهُ مِنْ الْمَرَّةِ الْأُولَى لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا سَلِمَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَفِعْلُهُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّ بُصَاقَهُ إلَى فِيهِ، وَذَلِكَ مُسْتَقْذَرٌ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لِأَجْلِ النَّظَافَةِ، وَهَذَا ضِدُّهُ.
هَذَا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ حَصِيرٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ رُخَامٌ أَوْ بَلَاطٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الدَّفْنُ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيُمْنَعُ الْبُصَاقُ فِيهِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» وَدَفْنُهَا لَا يُمْكِنُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ خَطِيئَةً.
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَسْجِدَ مِنْ رَعِيَّةِ الْإِمَامِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ، فَمَا كَانَ فِيهِ عَلَى مِنْهَاجِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَبْقَاهُ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ أَزَالَهُ بِرِفْقٍ وَتَلَطُّفٍ، إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام -
حِينَ اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ اتَّخَذَ حُجْرَةً مِنْ حَصِيرٍ، وَالْحَصِيرُ مِمَّا لَا يَتَأَبَّدُ. وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ الصُّغْرَى لَهُ قَالَ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَصِيرٌ وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ» الْحَدِيثَ.
هَذَا وَهُوَ لِضَرُورَةِ الِاعْتِكَافِ فَمَا بَالُكَ بِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ. فَعَلَى هَذَا فَفِعْلُ الْمَقَاصِيرِ وَالدَّرَابْزِينِ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ، وَقَدْ تَرَتَّبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ جُمْلَةُ مَفَاسِدَ.
أَوَّلُهَا: أَنَّ الْمَوْضِعَ وُقِفَ لِلصَّلَاةِ وَمَا فُعِلَ فِيهِ لِغَيْرِهَا فَهُوَ غَصْبٌ لِمَوَاضِعِ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ.
الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ تَقْطِيعَ الصُّفُوفِ وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْبَالُ الْخَطِيبِ فِي حَالِ خُطْبَتِهِ وَلَا رُؤْيَتُهُ بِسَبَبِهَا، إذْ أَنَّهَا تَحُولُ بَيْنَ الْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ. وَقَدْ وَرَدَ «إذَا قَامَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبِلُوهُ بِوُجُوهِكُمْ وَارْمُقُوهُ بِأَعْيُنِكُمْ» مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَقَاصِيرِ وَالدَّرَابْزِينِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَكَانَتْ سَبَبًا لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَى إلَى أَمْرٍ مُسْتَهْجَنٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الْوُصُولِ إلَى أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ بِارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ لِكَوْنِهِ يَتَوَارَى فِيهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ يَنَامُ فِيهَا بَعْضُ الْغُرَبَاءِ لِلضَّرُورَةِ، فَيَجِدُ اللِّصُّ السَّبِيلَ إلَى أَخْذِ مَتَاعِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِسَبَبِهَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ كَثِيرًا.
السَّادِسُ: أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَعْضُ النَّاسِ السَّبِيلَ إلَى أَنْ يَبُولَ فِي الْمَسْجِدِ بِسَبَبِهَا، إذْ أَنَّهُ يَسْتَتِرُ بِهَا فَلَا يُرَدُّ إذْ ذَاكَ سِيَّمَا الصِّبْيَانُ الصِّغَارَ الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ حَالُهُمْ فِي الْغَالِبِ.
السَّابِعُ: مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ.
التَّاسِعُ: قَدْ يَجِيءُ أَعْمَى لَا يَهْتَدِي بِتِلْكَ الْأَبْوَابِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي فِي الدَّرَابْزِينِ فَكَانَتْ سَبَبًا لِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ.
وَكَانَ سَبَبُ اتِّخَاذِهَا أَنَّ الْخِلَافَةَ لَمَّا رَجَعَتْ مُلْكًا وَتَخَوَّفَ الْمُلُوكُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْقَتْلِ عَمِلُوا هَذِهِ الْمَقَاصِيرَ لِيَتَحَصَّنُوا بِهَا مِمَّنْ يَثِبُ إلَى