الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجواري
كل ما وراء العدو من نفس ومال فهو في الله أفاءه على المسلمين وولىّ أمرهَ إمامهم، فإن شاء تجاوز عنه ومنّ به، وإن شاء بسط عليه يده وعاد به على ذوي الحق فيه.
وبحكم ذلك كانت بنات العدوّ ونسوته من مغانم الحرب في كل بلد كان السيف حكم فتحه وامتلاكه.
وقد خَلَصَ للمسلمين من وراء ذلك عدد لا يحده الإدراك من النساء على اختلاف
أسنانهن وأجناسهن وأخطارهن، ومنهن الفارسيات والتركيات والأرمنيات والجرجيات والشركسيات والروميات والبربريات والحبشيات، وفيهنّ بنات الأكاسرة والقياصرة والأساور والبطارقة من كل قاصرة الطرف ناعمة الكف لم تبتذلها المهن ولم تمتهنها المحن.
لم تَلْقَ بُؤساً ولم يضررُ بها عوز
…
ولم تُرَجَّفْ مع الصالي إلى النار
وكان قواد الدولة وولاة الأمصار يجمعون من أولئك أنضرهن وأنداهن صوتاً وأمثلهن أدباً ويرسلونهن إلى الخليفة وهو يصطفي منهن من يشاء ويثيب وزراءه وندماءه وخلصاءه بمن يشاء.
ولقد ينبئك بما تجمع للخلفاء من الجواري ما روى ابن الأثير أن المتوكل أُهدي إليه في يوم واحد عشرون ألف جارية ولَهُن ولأشباههنّ بني قصر الجعفري حين ضاقت بهنّ مقاصير الخلافة في بغداد.
وممن حديث تلك الكثرة أن الرشيد أهديت إليه جارية رائعة الجمال فاحتفل بها احتفالا أخرج فيه من جواريه المغنيات وساقيات الشراب زهاء ألفي جارية في أحسن زي وأتم حلية، واتصل الخبر بزوجه زبيدة فالتهب صدرها غيظاً وغيرة، وفزعت إلى عُلَيّة بنت المهدي فصنعت لحناً بديعاً وخرجت هي وزبيدة في زهاء
ألفي جارية عليهن غرائب الثياب وكلهن بنشدن بصوت واحد ولحن واحد:
منفصلٌ عنَي وما
…
قلبَيِ عنه منفصلْ
يا قاطعي اليوم لمِنْ
…
نَوَيْتَ بعدي أنْ تصل
فطرب الرشيد وقام حتى استقبل زبيدة وعُليَّةَ وقال لم أر كاليوم قَطّ! يا مَسرور! لا تبقين من بيت المال درهما إلا نثرته، فكان مبلغ ما نثره يومئذ آلاف ألف.
وعلى هذا السنن من الكثرة سار الخلفاء ومن دونهم من ذوي النعمة والثراء. وربما وقعت الفتاة الرود في سَهْم الزاهد الراغب في المال عنها فيبيعها من المقَيَّن
وهو يذهب بها إلى جواريه فَيجْلُونها أحسن ويُزَيَّنها أنفس زينة ثم يعرضها للراغبين في معرضه من سوق الجواري أو يستبقيها في بيته ليُروَيها الشعر ويخرجها في الغناء، وبها وبمثلها تصبح داره مثابة القاصدين من الحلفاء ومن دونهم ليستروحوا منهن بحسن الحديث وطيب السماع، وربما رغب العظيم في اقتناء إحداهن فبذل لصاحبها غاية ما يتمناه.
وكان الجواري أنفسهن ما يتهادى به ذوو الأخطار! وأفضل ما يثاب به الأدباء والشعراء والسُّمار، وبذلك انبثتن في كل موطن وحللن في كل دار. وإذا آملك أن يَسبي العرب هذا العدد العديد من النساء فاعلم أنهن اللواتي سبين العرب وملكن أزمتهم ووطئن أكتافهم، واقتعدن ظهورهم، وضربن بينهم وبين نسائهم بسور له باب ظاهره الحسن والدلال، وباطنه الذل والوبال. ذلك أنهن أصبحن عقدة تلك الحياة التي لم يعصمها دين ولم يحط بها رفق ولم يخالطها وقار، حياة الشرف والترف والشهوات واللذات. وكان لهنّ من وسائل امتلاك قلوب العرب ما يروض كل عصى، ويستقيد كل أبي، ويستميل كل نافر، ويستذل كل جامح.