الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا خرجت قنعت سائر وجهها فلا يظهر منه شيء، ولكن الحال أخذت تتبدل رويداً في هذا الجيل، وبدأ نسوة هذا العصر يتحسرن عن هذا الضرب من الحجاب فهن يخرجن الآن في وضع النهار، ويتركن ما كثف من الحجاب إلى ما شفّ منه، ويأخذن مأخذ المشرق الأدنى من الثورة ما كان عليه أمهاتهن من عزلة واحتجار على أن ذلك لم يجاوز أهل المدن، أما نسوة البادية فقد بقي لهن أكثر ما كان لأمهاتهن من فطرة وطبع وأخلاق.
حالتها الفكرية
لم تكن المرأة المغربية بنجوة عما كان عليه الرجل من علم محدود، فقد جاذبته أسباب ذلك العلم وظهرت في بعض نواحيه، ويتحدث أهل المغرب عن كثير من النساء تناولن الشعر والنثر وإن لم يكن فيما تناولنه شيء يستحق التدوين.
وأكثرنا عرف به الممتازات من نساء المغرب الأقصى حفظ القرآن الكريم بقراءاته جميعاً ورواية الحديث ودروس الفقه والأصول وما إلى هذه من علوم
الدين ويذكر أهل ذلك الإقليم ثمانين امرأة من نساء المغرب جمعن إلى النفاذ في ذلك كله حفظ مدونة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وهي أكبر المطوّلات الجامعة في الحديث والفقه.
وفي إقليم شنقيط حيث البداوة التي لا تشوبها كلفة العيش ولا رفاهة الحياة يسير النساء في مساق الرجال من دروس علوم الدين وقراءات القرآن الكريم. وهنالك تعقد المحافل لامتحان الحفاظ الذين حفظوا الكتاب الكريم بمختلف قراءاته فيجلس أشياخ القراء صفا ممدوداً ويجلس الحافظ أمامهم وظهرُهُ إليهم ويتلو ما يطلبون تلاوته منه مرويا بما يقترحون عليه من الروايات. ولا بأس أن يكون في هذا المحفل طائفة من النساء.
واليوم يقف التعليم الفرنسي في بلاد المغرب الأقصى قبالة التعليم الديني، ولكل من التعليمين خصوم وأشياع. وقد بث الفرنسيون مدارسهم في عامة مدن المغرب الأقصى فأقبل عليها المحدثون إقبالا عظيما وصارعت اللغتان الفرنسية والأسبانية اللغة العربية في المدن الساحلية حتى إنك تطوف بأرجاء طنجة فلا تكاد تسمع كلمة عربية خالصة من رجل أو امرأة:
واليوم تجد في تلك البلاد طائفة ظاهرة من النسوة اللاتي تخرجن في العلوم الدينية وأخرى من اللواتي تخرجن في المدارس الفرنسية.
ومن الطائفة الأولى:
السيدة الشريفة فاطمة الزهراء ابنة السيد محمد بن أحمد الإدريسي.
تحفظ القرآن بقراءاته، وتحفظ كثير من كتب الفقه والحديث، ولها فوق ذلك صلة بالعلوم العصرية، ولم تبارح دار أبيها قط، وتخرجت على أبيها وجدّها.
السيدة عائشة الشنقيطية:
تخرجت في شنقيط، وانتقلت إلى مراكش، ولها بها منزلة طيبة ومقام محمود وقد
برعت في العلوم الدينية والعربية وحفظت سبعمائة حديث وأخرجت بعض الكتب والرسائل.
ومن الطائفة الثانية:
السيدة زينب الغرنيطية:
من سلالة أندلسية، تخرجت في المدرسة الفرنسية بفاس، وعنيت بدراسة
الأدب العربي، وتكتب إلى جريدة الشهاب بالجزائر مقالات طيبة في الأخلاق، والاجتماع.
السيدة خديجة المرينية:
من أهل الرباط، تخرجت في مدرستها الحكومية وأقبلت على دراسة الأدب العربي حتى تسامت فيه، ولها كتاب في التدبير المنزلي ولعل لها غيره من المؤلفات.
ولا نحاول هنا أن نستقصي الطبقة الظاهرة من متعلمات المغرب، فحسبنا أن ندل عليها بهؤلاء. على أننا نقول: إن الفصل الحاسم بين العلوم الدينية والمدنية وفصم الأواصر بينهما ليس من شأنه أن يخرج المرأة الصالحة للحياة. فكل ما رُكب في المرأة من عاصفة متوثبة ووجدان متأثر وحس دقيق إنما ينزع إلى الدين ويسعى إليه ويستنير به، الدين وحده عصمة المرأة ومنار وجدانها، ومثار الحنان والرحمة والبر في نفسها، ومعقد الشرف والأمانة من خلقها. فإذا فصمت ما بينها وبينه من عروة وسددت ما بينهما من طريق، فقد سلبت منها الجُنَّةَ الواقية وأوردتها المورد الوبيء، وقد عرف ذلك الإفرنج فطبعوا البنت منذ حداثتها الأولى على غرار الدين وجعلوه مستقى خلقها ومصدر قوتها ومشكاة حياتها سواء في ذلك أغنياؤهم وفقراؤهم وأشرفهم ودهماؤهم. وأي حصانة للمرأة أقوى من أن تراقب الله وتستمع قوله وتتلو آيته، وتمثل في الصلاة بين يديه، وتمتلئ مشاعرها بذكر جلاله وعزته، وناره وجنته، وما يظفر البررة الأخبارية من قربه ومحبته.
وإن من أوهن الرأي أن نحاول إصلاح البنت بقطع ما بينها وبين أمهاتها السالفات من سُنن وعادات، وندخلها في غمار فئات من النساء ليس لها ما لهنّ من طبع وتكوين، فإنك بذلك تخرج المرأة الحائرة الثائرة المتمردة التي تزدري الماضي ويزدريها المستقبل، فهي هابطة بين القريتين، لا شرقية ولا غربية، وليس
لها سمة ولا شخصية. تحاول أن تحاكي المرأة الأوربية فيأبى عليها بعد ما بين الفطرتين فتقنع من المحاكاة بظواهر ملهية، كل ما فيها من الأثر أنها تغرها من نفسها وتحرفها عن دينها وتفتنها عن الطريق القويم. وليس من الخير في شيء أن تحمل المرأة الشرقية على نسيان ماضيها، ولكن الخير كل الخير في إصلاح ذلك الماضي وتهذيبه وإحكام الاعتصام به.
تلك كلمة لا نخص هذا الإقليم من العالم الإسلامي، ولكننا نعم بها المسلمين في أقطار الأرض، فهم الآن على سَنن واحد من الحيرة في تعليم البنت وفصم ما بينها وبين الدين من صلة وأسباب، ولو أنهم اختطوا لها النهج الواضح من تاريخ المرأة العظيمة في الإسلام أيام كانت مناط الرحمة والودّ للأسرة ومغرس النبل والسموّ للولد ومعقد الحمية والعصبية للعشيرة مع تزويدها بما تقتضيه حاجة العمران من مبادئ العلوم والفنون التي تدعم كيان المنزل وتقيم نظام الحياة لو أنهم نهجو لها هذا الطريق لأوجدوا منها المرأة التي تؤلف الأسرة السعيدة والأمة المجيدة والوطن العظيم.
لقد خلقت المرأة لتكون قوة من قوى الوحي والإلهام في نفس الرجل، فهي كالروح السارية تحرك الأحياء تملأ ولا ترى، وكالعقل المنير يضيء الشعاب ولا يَحَس وكالكهرباء الدافعة تملأ الوجود ولا تدرك، هي خَلق قوام حياته الجود بالنفس والفناء في سعادة الجماعة، واحتمال الآلام المضنية والأهوال المُروعة في راحة الزوج والولد، وهي كعود الثقاب ينشر الضوء في كل شيء ثم يحترق. تلك هي
المرأة التي جعل الله السعادة بين شفتيها، وجعل الجنة تحت قدميها، وفرض لها من الطاعة في رقاب الأبناء أضعاف ما فرض للآباء. هي سر عظمة ومبعث قوتها ومشرق صفوها وسعادتها. فإذا تنكبت تلك المحجة وانحرفت عن هذا السبيل فثارت على البيت والولد وانكشفت في المجامع والأندية، وانغمرت في الملاعب والملاهي، وراحت
تعلن عن نفسها بشقاشق القول وفضول اللسان، فهنالك الويل والوبال، وهنالك الفناء والدمار.! ولا تقل إن مثل ذلك كائن في بلاد المدينة الحديثة. ففي تلك البلاد خير وشر، ومن شأن الجسم القوي أن تقاوم قوّته ما قد يُلم به من ضعف وفساد، فهنالك الخير يطوي الشر ويحمله، وهنالك نار الجدّ تنفي زيف اللهو وتحيله. على أنّ كثيراً من كتاب تلك البلاد ينظرون إلى ما أصاب المرأة من شطط واندفاع فيقولون إن هذا انتحار للأمة سريع الأجل! فما بالك بمن يأخذ بذَنَب الشر ويترك ناصية الخير، فالحياة عنده لهو ولغو وضجة وإعلان.
ألا فليعلم القوم أن المرأة قطب الحياة، فإذا استقام استقامت، وإذا تمايل اندكت، وما قوامه إلا الدين، فهو الأساس الثابت والبناء المتين.