الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
برزن نحوك للتسليم خاشعة
…
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
…
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
لا خَدَّّ إلا ويشكو الجدب ظاهره
…
وليس إلا مع الأنفاس مطمورا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً
…
فردّك الدهر مَنْهِيّاً ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به
…
فإنما بات بالأحلام مغرورا
ومن قوله يخاطب حين بلغ به العظم:
قيدي أما تعلمني مسلما
…
أبَيْت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللحم قد
…
أكلتهُ لا تَهشِم الأعظما
ارحم طفيلا طائشاً لبه
…
لم يَخْشِ أن يأتيك مسترحما
وارحم أخيات له مثله
…
جرعتَهن السم والعلقما
منهن مَن يفهم شيئاً فقد
…
خفنا عليه للبكاء والعمى
والغير لا يفهم شيئاً فما
…
يفتح إلا لرضاع فما
الجواري المدنيات في الأندلس
وتلك طائفة أخرى من الجواري المجلوبات إلى الأندلس تصلها بغيرها صلة الاسم وتبعدها عنهن فوارق المبدأ والغاية والأثر.
ولقد عُرفت المدينة منذ استوطنها اليمانيون من الأوس والخزرج بالرقة والظرف وإتقان الغناء والعزف، ودرجت على ذلك في الإسلام ولم تنحرف عن شهرتها في ذلك كله حتى في عهد النبوة والخلافة.
واتصل الأندلسيون بأهل المدينة في مواسم الحج واستمعوا غناء جواريهم، فذهبن بهم كل مذهب من الطرب والإعجاب، وسارت الأنباء بذلك إلى الأمير
عبد الرحمن ابن الحكم صاحب الأندلس، فاستقدم منهنّ جماعة عرفن بالأدب الغض والشعر الرائع والغناء البديع، وابتنى لهن دار الدنيات بقرطبة وأجرى عليهن
المثوبة واللطاف وأوسعهن بالبر والإكرام، ومن هؤلاء: فضل وعلم وقلم. وقد عرف هؤلاء جميعاً بشرف النفس ونبل الخلق وكمال الخلال. ولم يكن فيهن ما في بنات الروم والصقالبة والجلالقة من خلابة ودعابة فهنّ لا يصلحن لذلك وفيهن السوداء والحمشاء والعجفاء، ولكنهنّ مع ذلك كنّ مشرقاً من مشارق الجمال الفني في تلك البلاد. ولقد يجمل بنا أن نسوق حديثا عن إحدى هؤلاء الوافدات وتسمى بالجارية العجفاء لتعلم إلى أي حد بلغ أولئك الجواري في التأثير على نفوس أهل الأندلس.
قال الأرقمي: قال لي أبو السائب - وكان من أهل الفضل والنسك - هل لك في أحسن الناس غناء؟ فجئنا إلى دار مسلم بن يحيى مولى ابن زهرة، فأذن لنا فدخلنا بيتا عرضه عشر ذراعا في مثلها، وطوله في السماء ستة عشر ذراعا، وفي البيت نُمْرُقتان قد ذهبت عنهما اللحمة وبقي السَّدى وقد حشيتا بالليف، وكرسيان قد تفككا ممن قدمهما، ثم أُطلقتْ علينا عجفاء كلفاء عليها هَرَوى أصفر غسيل وكأن وَرِكها في خيط من وسخهما، فقلت لأبي السائب: بأبي أنت ما هذه؟ فقال اسكت! فتناولت عوداً فغنت:
بِيَدي الذي شغف الفؤاد بكم
…
تفريج ما ألقى من الهم
فاستيقني أنْ قد كلفت بكم
…
ثم افعلي ما شئت عن علم
قد كان صرم في الممات لنا
…
فعجلت قبل اليوم بالصرم
قال فحسنت في عيني، وبدا ما أذهب الكلف عنها، وزحف أبو السائب وزحفت معه. ثم تغنت:
بَرِح الخفاء فأيّ تكتم
…
ولسوف يظهر ما تسر فيعلم
مما تضَّمن من غريرٍ قَلْبُه
…
يا قلب إنك بالحسان لمغرم
يا ليت أنك يا حسام بأرضنا
…
تلقى المراسِيَ طائعاً وتخيم
فتذوق لذة عيشنا ونعيمه
…
ونكون إخواناً فماذا تنقم
فزحفت مع السائب حتى فارقنا النُّمْرقتين، وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق بماء مزنة. ثم غنت:
يا طول ليلي أعالج السقما
…
إذ حل كل الأحبة الحرما
ما كنت أخشى فراقكم أبداً
…
فاليوم أمسي فراقكم عُزِما
فألقيت طيلساني، وأخذت شادكونة وصحت كما يصاح على اللوبيا بالمدينة، وقام أبو السائب فتناول رقعة في البيت فيها قوارير ودهن، فوضعها على رأسه، وصاح صاحب البيت - وكان أحنف - قوانيني!! قواريري قواريري وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره.
ومن هذا ونحوه تعلم أن هؤلاء الجواري لم يجتلبن لما اجتلب له غيرهن، وقد حُرّر هؤلاء وتزوجن وانبثثن في أسر الأندلس يُعلمن نسوتها الأدب، ويُرَوّينهن الشعر ويُلقَيَّننّ الغناء في حشمة ووقار.
وقد ظهر في هؤلاء الوافدين من تجاوزت الأدب والغناء إلى الفقه والحديث كعابدة المدنية، فقد روت عن مالك بن أنس وغيره من أئمة المدينة، قدم بها الأندلس محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وكان كثير الإعجاب بعلمها وفهمها، وتزوجها بشر بن حبيب الأندلسي فمنه سائرُ ولده.