الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا توهنه بقيد أو غل، ولا تمنع عنه جارية أو خادماً، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه إذا ركب، وإذا شتمك فاحتمل منه.
قال الأصمعي: دفعت في بعض تطوافي إلى امرأة من ولد ابن هرمة فسألتها القرى، فقالت: إني والله مرملة مسنتة ما عندي شيء فقلت: أما عندك جزور؟ فقالت والله ولا شاة، ولا دجاجة، ولا بيضة، فقلت أما ابن هرمة أبوك؟ فقالت: بلى والله، إني لمن صميمهم، قلت: قاتل الله أباك ما كان أكذبه حيث يقول:
لا أُمْتِعُ العوذ بالفصال ولا
…
أبتاع إلا قرية الأجل
إني إذا ما البخيل آمنها
…
باتت ضموراً مني على وَجَل
ووليت فنادت: أربع أيها الراكب، فعله والله ذلك أقله عندنا، فقلت: إلا تكوني أوسعتنا جواباً.
حديث غربان النوى
حدث ابن السراج قال: أخبرني بعض الإخوان أن بعض البصريين أخبره قال: كنا لمة نجتمع ولا يفارق بعضنا بعضاً، فضجرنا من المقام في المنازل. فقال بعضنا: لو عزمتم فخرجنا إلى بعض البساتين فخرجنا إلى بستان قريب منا، فبينا نحن فيه
إذ سمعت ضجة راعتنا، فقلت للبستاني: ما هذا؟ فقال هؤلاء نسوة لهن قصة، فقلت له أنا دون أصحابي: وما هي؟ قال العيان أكبر من الخبر، فقم حتى أريك وحدك، فقلت لصحابي أقسمت ألا يبرح أحد منكم حتى أعود، فنهضت وحدي
فصعدت إلى موضع أشرف عليهن وأراهن ولا يريني، فرأيت نسوة أربعا كأحسن ما يكون من النساء وأشكلهن، ومعهن خدم لهن وأشياء قد أصلحت من طعام وشراب وآلة، فلما اطمأن المجلس بهن جاء خادم لهن ومعه خمسة أجزاء من القرآن فدفع إلى كل واحدة منهم جزءا ووضع الجزء الخامس بينهن فقرأن أحسن قراءة، ثم أخذن الجزء الخامس فقرأت كل واحدة منهن ربع الجزء ثم أخرجن صورة معهن في ثوب ديبقي فبسطنها بينهن فبكين عليها ودعون لها ثم أخذن في النوح فقالت الأولى:
خلس الزمان أعز مختلَس
…
ويد الزمان كثيرة الخلس
للهِ هالكه فجعت بها
…
ما كان أبعدها من الدنس
أتت البشارة والنعي بها
…
يا قرب مأتمها من العُرْس
ثم قالت الثانية:
ذهب الزمان بأنس نفسي عَنوةً
…
وبقيت فرداً ليس لي من مؤنس
أودى بملك ولو تُفَادَي نفسها
…
لفديتها مِمَّن أُعِزُّ بأنفس
ظلت تكلمني كلاماً مطمعاً
…
لم أسترب فيه بشيء مؤيسِ
حتى إذا فتر اللسان وأصبحت
…
للموت قد ذبلت ذبول النرجس
وتسهلت منها محاسن وجهها
…
وعلا الأنين تَحثُّه بتنفُّس
جعل الرجاء مطامعي يأساً كما
…
قطع الرجاَء صحيفَةُ الملتمس
ثم قالت الثالثة:
جرت على عهدها الليالي
…
وأُحِدثَت بعدها أمورُ
فاعتضت باليأس منك صبراً
…
فاعتدل اليأس والسرور
فلست أرجو ولست أخشى
…
ما أحدثَتْ بعدك الدهور
فلُيبلغ الدهر في مساتي
…
فما عسى جهده يضير
ثم قالت الرابعة:
خدنٌ نفيس من الدنيا فجعت به
…
أفضى إليه الردى في حومة القدر
ويْح المنايا أما تنفك أسهمها
…
معلقات بصدر القوس والوتر
يبلي الجديدان والأيام
…
والدهر يُبْلِى وتَبلى جدّة الحجر
ثم قمن فقلن بصوت واحد:
كنا من المساعده
…
نحيا بنفس واحدة
فمات نصف نفسي
…
حين ثوى في الرمس
فما بقائي بعدَهُ
…
وشطر نفسي عنده
فهل سمعتم قبلي
…
فيمن مضى بمثلي
عاش بنصف
…
في بدن صحيح
ثم تنَّحين وقلن لبعض الخدم كم عندك؟ قال أربعة، قلن ائت بهن، فلم ألبث إلا قليلا حتى طلع بقفص فيه أربعة غربان مكتفان فوضع القفص بين أيديهن فدعون بعيدان فأخذت كل واحدة منهن عوداً فغنت:
لعمري قد صاح الغراب بينهم
…
فأوجع قلبي بالحديث الذي يبدي
فقلت له أفصحت بعدها
…
بريش فهل للقلب ويحك من ردّ
ثم أخذن واحداً من الغربان فنتفن ريشه حتى تركنه كأن لم يكن عليه ريش قط، ثم ضربنه بقضبان معهن لا أدري ما هي حتى قتلنه، ثم غنت:
أشاقك والليل مُلْقى الجران
…
غراب ينوح على غصن بان
أحَص الجناح شديد الصياح
…
يبكي بعينين ما تهملان
وفي نَعبَات الغراب اغتراب
…
وفي البان بينٌ بعيد التداني
ثم أخذ الثاني فشددن في رجليه خيطين وباعدن بينهما وجعلن يقلن له:
أتبكي بلا دمع وتفرق بين لآلاف! فمن أحق بالقتل منك؟ ثم فعلن به ما فعلن بصاحبه، ثم غنت الثالثة.
ألا يا غراب البين لونك شاحب
…
وأنت بِلَوعات الفراق جدير
فبيّن لنا ما قلت إذ أنت واقع
…
وبين لنا ما قلت حين تطير
فإن يك حقّاً ما تقول فأصبحت
…
همومك شتى والجناح كسير
ولا زلت مكسوراً عديماً لناصر
…
كما ليس لي من ظاِلِميَّ نصير
ثم قالت له: أما الدعوة فقد استجيبت، ثم كسرت جناحيه، وأمرت فَفُعِل به ذلك، ثم غنت الرابعة:
عشيةَ ما لي حيلة غير أنني
…
بلقط الحصى والخط في الدار مولع
أخط وأمحو كل ما قد خططته
…
بدمعيَ والغربانُ في الدار وقع
ثم قالت لأخواتها: أي قتلة أقتله، فقلن لها علقيه برجليه وشدي في رأسه شيئاً ثقيلاً حتى يموت، ففعلت به ذلك، ثم وضعن عيدانهن ودعون بالغذاء فأكلن، ودعون بالشراب فشربن، وجعلن كلما شربن قدحاً شربن للصورة مثله وأخذن عيدانهن فغنين، فغنت الأولى:
ابكي فراقكُم عينِي فأرَّقها
…
إن المحب على الأحباب بكاءُ
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم
…
حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء
ثم غنت الثانية:
أما والذي أبكى وأضحك والذي
…
أمات وأحيا والذي أمرُهُ الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى
…
أليفين منها لا يَروعهما الذعر
ثم غنت الثالثة:
سأبكي على ما فات منك صبابة
…
وأندب أيام الأماني الذواهب
أحين من كنت أرجو دنوّه
…
رمتني عيون الناس من كل جانب؟
فأصبحت مرحوماً وكنت مُحسّداً
…
فصبراً على مكروه مُر العواقب
ثم غنت الرابعة:
سأُفني بك الأيام حتى يسرني
…
بك الدهر أو تفنى حياتي مع الدهر
عزاء وصبراً أسعَدني على الهوى
…
وأحمد ما جربت عاقبة الصبر
ثم أخذت الصورة فعانقتها وبكت وبكين ثم شكون إليها ما كن فيه، ثم أمرن بالصورة فطريت، ففرِقْت أن يتفرقن قبل أن أكلمهن، فرفعت رأسي إليهن، فقلت لقد ظلمتن الغربان، فقلن لو قضيت حق السلام وجعلته سبباً للكلام لأخبرناك بقصة الغربان، قال فقلت إنما أخبرتكن بالحق، قلن وما الحق في هذا؟ وكيف ظلمناهن؟ قلت إن الشاعر يقول:
نعب الغراب برؤية الأحباب
…
فلذاك صرت أحِب كل غراب
قالت إحداهن صحفت وأحلت المعنى إِنما قال: بفرقة الأحباب فلذاك صرت عدو كل غراب. فقلت لهن: فبالذي خصكن بهذا المجلس وبحق صاحبة الصورة لَمَا خَّبرتُنَّني بخبركن! قلن لولا أنك أقسمت علينا بحق من يجب علينا حقه ما أخبرناك! كنا صواحب مجتمعات على الألفة، لا تشرب منا واحدة البارد دون صاحبتها فاخترمت صاحبة الصورة من بيننا، فنحن نصنع في كل موضع نجتمع فيه مثل الذي رأيت، وأقسمنا أن نقتل في كل يوم نجتمع فيه ما وجدنا من الغربان لعلة كانت؛ قلت وما تلك العلة؟ قلن فرق بينها وبين أنس كان لها ففارقت الحياة فكانت تذمهن عندنا وتأمر بقتلهن، فأقل ما لها عندنا أن نمتثل ما أمرت به، ولو كان فيك شيء من السواد لفعلنا بك فعلنا بالغربان، ثم نهض فمضين ورجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بما رأيت، ثم طلبتهن بعد ذلك فما وقعت لهن على خبر ولا
رأيت لهن أثراً.